فِي صَبيحةِ الثَّامِنِ مِنْ تَمُّوزَ، كَانَتِ الأُمَّةُ عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ وَقْفَةٍ بُطُولِيَّةٍ خَالِدَةٍ، بَيْنَ مَحْكَمَةٍ صُورِيَّةٍ وَطَلَقَاتِ غَدْرٍ... فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ الْمَشْؤُومَةِ، اسْتُدْرِجَتِ الأُمَّةُ الْمَنْكُوبَةُ إِلَى مُوَاجَهَةِ حَقِيقَتِهَا، إِلَى مِحَكِّ الرُّجُولَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقِيدَةِ... إِلَى مُنَازَلَةٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَكَانَتْ وَقْفَةَ الْعِزِّ حَيْثُ سَالَتْ دِمَاءُ الْفَادِي وَرَوَتْ عَطَشَ الأُمَّةِ لِلْحَيَاةِ.
كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْنَا هَذَا التَّارِيخُ، كُلَّمَا ازْدَادَ حُضُورُ هٰذَا الرَّجُلِ فِينَا رُسُوخًا وَوُضُوحًا. لَيْسَ لِأَنَّنَا نَهْوَى الْبُكَاءَ وَالنَّدْبَ، بَلْ لِأَنَّ هٰذَا الرَّجُلَ لَمْ يَتْرُكْ لَنَا لَحْظَةً وَاحِدَةً نَرْتَاحُ فِيهَا إِلَى الْخُنُوعِ أَوْ نَطْمَئِنَّ إِلَى الِانْهزامِ. إِنَّهُ يُوقِظُنَا مِنْ سُبَاتِنَا، وَيُزْعِجُ صَمْتَنَا، وَيُذَكِّرُنَا بِأَنَّنَا خُلِقْنَا لِأَمْرٍ خَطِيرٍ، أَعْظَمَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْعَيْشِ الذَّلِيلِ.
لِمَاذَا اغْتَالُوا أَنْطُونَ سَعَادَه؟ هَلْ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً؟
اغْتَالُوهُ لِأَنَّهُ هَاجَمَ الْحُكَّامَ الرَّجْعِيِّينَ، الْإِقْطَاعِيِّينَ، وَالْوُصُولِيِّينَ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الشَّعْبِ، الْمُنْفَصِلِينَ عَنْ هُمُومِهِ، الْمُسَاهِمِينَ فِي اسْتِمْرَارِ الْأَوْضَاعِ الْفَاسِدَةِ. فَهُوَ فَضَحَ جَرَائِمَهُمْ وَفَسَادَهُمْ وَعَمَالَتَهُمْ وَسِيَاسَاتِهِمُ الْخُصُوصِيَّةَ الْمَحْدُودَةَ...
اغْتَالُوهُ لِأَنَّهُ كَشَفَ عَفَنَ النِّظَامِ الطَّائِفِيِّ وَمُؤَسَّسَاتِهِ الْفَاسِدَةِ، وَعَرَّى الْقَوْمِيَّاتِ الْمُصْطَنَعَةَ وَحَزَبِيَّاتِهَا الدِّينِيَّةَ وَقَضَايَاهَا الرَّجْعِيَّةَ، وَهَدَّدَ أَرْكَانَ الطَّائِفِيَّةِ وَالْإِقْطَاعِيَّةِ وَالْعَمَالَةِ وَالتَّجْزِئَةِ، وَهَاجَمَ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُتَأَخِّرَةَ، الْمُسْتَكِينَةَ، الْمُتَمَرِّدَةَ عَلَى الِارْتِقَاءِ وَالْإِصْلَاحِ...
اغْتَالُوهُ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الْحُلَفَاءَ وَقُوَى الِانْتِدَابِ الِاسْتِعْمَارِيَّةَ الْمُتَحَالِفَةَ مَعَ الصَّهْيُونِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ بِالتَّآمُرِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَبِتَمْزِيقِ وَحْدَةِ وَطَنِهِ، وَطَعَنَ فِي قُدْسِيَّةِ الْكِيَانَاتِ الْمُصْطَنَعَةِ الْهَزِيلَةِ، وَاعْتَبَرَهَا حُبُوسًا لِلْأُمَّةِ...
اغْتَالُوهُ لِأَنَّهُ دَافَعَ بِشَرَاسَةٍ عَنْ فِلَسْطِينَ الْمُغْتَصَبَةِ، وَعَنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَسِيَادَتِهَا، وَرَفَضَ الْمَشْرُوعَ الصَّهْيُونِيَّ، وَقِيَامَ دَوْلَتِهِ الْعُنْصُرِيَّةِ الْإِلْغَائِيَّةِ فِي جَنُوبِ سُورِيَةَ، مُعْتَبِرًا أَنَّ خَطَرَهَا لَيْسَ عَلَى فِلَسْطِينَ فَقَطْ، بَلْ عَلَى جَمِيعِ كِيَانَاتِ الْأُمَّةِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ مَحْقَ هٰذِهِ الدَّوْلَةِ الْمُصْطَنَعَةِ هُوَ "عَمَلِيَّةُ صِرَاعٍ طَوِيلٍ شَاقٍّ عَنِيفٍ، يَتَطَلَّبُ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ قُوَانَا"، لِأَنَّ وَرَاءَهَا "مَطَامِعَ دُوَلٍ أَجْنَبِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، تَعْمَلُ وَتُسَاعِدُ وَتَبْذُلُ الْمَالَ، وَتَمُدُّ الدَّوْلَةَ الْجَدِيدَةَ بِالْأُسُطُولِ وَالْأَسْلِحَةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودِهَا."
بِاخْتِصَارٍ، اغْتَالُوهُ لِأَنَّهُ قَالَ بِوَحْدَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَبِمَبْدَإِ الْإِخَاءِ الْقَوْمِيِّ الصَّحِيحِ، وَأَرَادَ قِيَامَ الدَّوْلَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَبِنَاءَ الْحَيَاةِ الرَّاقِيَةِ، الْحُرَّةِ، الَّتِي تَلِيقُ بِنَا كَأُمَّةٍ حَضَارِيَّةٍ، عَرِيقَةٍ فِي التَّارِيخِ.
فِي زَمَانِهِ، لَمْ تَكُنْ فِلَسْطِينُ قَدْ نُكِبَتْ بَعْدُ، وَلَا الِاغْتِصَابُ الصَّهْيُونِيُّ قَدِ اكْتَمَلَ، وَلَا شِمَالُ الشَّامِ مُهَدَّدًا بِزَحْفٍ تُرْكِيٍّ مُعْلَنٍ. وَمَعَ ذٰلِكَ، أَدْرَكَ سَعَادَهُ بَاكِرًا أَنَّ الْأُمَّةَ تُوَاجِهُ خَطَرَيْنِ مُدَاهِمَيْنِ، هُمَا: الْخَطَرُ الصَّهْيُونِيُّ فِي الْجَنُوبِ – وَهُوَ خَطَرٌ عَلَى سُورِيَةَ كُلِّهَا – وَالْخَطَرُ التُّرْكِيُّ فِي الشِّمَالِ وَأَطْمَاعُهُ فِي سُورِيَةَ الْمُجَزَّأَةِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي لَا تَنْهَضُ لِوَحْدَتِهَا، سَتُسْتَبَاحُ حُدُودُهَا، وَتُمَزَّقُ أَوْصَالُهَا، وَتُسْتَعْبَدُ اسْتِعْبَادًا شَدِيدًا لَا رَحْمَةَ فِيهِ.
لَوْ أَنَّ الْأُمَّةَ أَصْغَتْ لِصَوْتِ سَعَادَه، لَمَا سُرِقَتْ فِلَسْطِينُ، وَلَا تُرِكَ الْجَنُوبُ اللُّبْنَانِيُّ يَتَلَقَّى النِّيرَانَ وَحْدَهُ، وَلَا وَقَعَ الشِّمَالُ السُّورِيُّ رَهِينَةَ التَّدَخُّلَاتِ وَالِاحْتِلَالَاتِ. لَوِ اسْتَجَابَتْ لِتَحْذِيرَاتِهِ، لَكَانَ لَدَيْنَا الْيَوْمَ وَطَنٌ مُوَحَّدٌ، حُرٌّ، قَوِيٌّ، لَا يُسَاوِمُ، وَلَا يُبْتَزُّ.
بِاغْتِيَالِ سَعَادَه، أُسْكِتَ الصَّوْتُ الَّذِي سَبَقَ الْجَمِيعَ إِلَى اسْتِشْرَافِ الْخَطَرِ، وَضَاعَتِ الْبُوصَلَةُ الَّتِي أَرَادَتْ أَنْ تُنْقِذَ أُمَّةً قَبْلَ سُقُوطِهَا. وَكَانَ مَا كَانَ.
وَالْيَوْمَ، بَعْدَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، نَرَى كُلَّ مَا حَذَّرَ مِنْهُ سَعَادَه وَاقِعًا يُطَوِّقُنَا:
فِلَسْطِينُ تَحْتَ الِاحْتِلَالِ، وَغَزَّةُ مَنْكُوبَةٌ وَمُدَمَّرَةٌ، وَتُعَانِي مِنَ الْإِبَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى مَرْأًى مِنَ الْعَالَمِ.
الشَّامُ مُقَسَّمَةٌ وَمَجْرُوحَةٌ، وَالْإِرْهَابُ التَّكْفِيرِيُّ يَفْتِكُ بِأَهْلِهَا قَتْلًا وَذَبْحًا وَسَبْيًا وَمَجَازِرَ وَتَهْجِيرًا، وَالْعَدُوُّ الصَّهْيُونِيُّ يَحْتَلُّ جَوْلَانَهَا وَسُفُوحَهَا وَيَقْتَرِبُ مِنْ عَاصِمَتِهَا.
الشِّمَالُ مُسْتَبَاحٌ وَثَرَوَاتُهُ تُنْهَبُ، وَالْجَنُوبُ اللُّبْنَانِيُّ مُدَمَّرٌ، وَالْعَدُوُّ مَا زَالَ يَحْتَلُّ أَجْزَاءً مِنْهُ، وَيَسْتَبِيحُ أَجْوَاءَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَمْنَعُ الْأَهَالِيَ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى قُرَاهُمْ.
لُبْنَانُ غَارِقٌ فِي الطَّائِفِيَّةِ وَالْفَسَادِ، وَالِاقْتِصَادُ مُمَزَّقٌ، وَالنَّاسُ يُعَانُونَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْيَأْسِ وَالْإِذْلَالِ. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ ذٰلِكَ الْفِكْرِ الَّذِي صَاغَ مَشْرُوعًا لِلْخَلَاصِ، مَشْرُوعًا لِلدَّوْلَةِ الْقَوْمِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، اللَّا طَائِفِيَّةِ، الْعَادِلَةِ، الْحُرَّةِ؟
إِنَّ الْوَفَاءَ الْحَقِيقِيَّ لِسَعَادَه، لَا يَكُونُ فِي إِقَامَةِ الْاحْتِفَالَاتِ، بَلْ فِي حَمْلِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أُسْتُشْهِدَ، وَفِي التَّخْطِيطِ لِتَحْقِيقِ الْغَايَةِ السَّامِيَةِ، وَبِنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَصْرِيَّةِ كَمَا أَرَادَهَا: دَوْلَةُ الْمُجْتَمَعِ، لَا مَزْرَعَةَ الطَّوَائِفِ وَالْمَحْسُوبِيَّاتِ وَالشَّرِكَاتِ السِّيَاسِيَّةِ.
فِي زَمَنِ الْخُنُوعِ وَالصَّفَقَاتِ وَالتَّآمُرِ، وَقَفَ هُوَ، ثَابِتًا، عَلَى رِمَالِ بَيْرُوتَ، يُوَاجِهُ الرَّصَاصَ بِجَبِينٍ مَكْشُوفٍ، قَائِلًا: "أَنَا لَا يُهِمُّنِي كَيْفَ أَمُوتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَاذَا أَمُوتُ... كُلُّنَا نَمُوتُ، وَلَكِنْ قَلِيلِينَ مِنَّا يَظْفَرُونَ بِشَرَفِ الْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ عَقِيدَةٍ."
أَيُّ مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فَوْقَ هٰذَا الْمَقَامِ؟ وَأَيُّ بُطُولَةٍ تَتَفَوَّقُ عَلَى هٰذَا الِالْتِزَامِ الصَّادِقِ بِالْقَضِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ؟
لَكِنَّ الثَّامِنَ مِنْ تَمُّوزَ لَيْسَ فَقَطْ وَقْفَةَ فِدَاءٍ، بَلْ هُوَ تَارِيخٌ يَتَحَدَّانَا: هَلْ لَا نَزَالُ أُمَنَاءَ لِمَا سَالَ مِنْ دَمٍ؟ لِمَا نُذِرَ مِنْ حَيَاةٍ؟ لِمَا صِيغَ مِنْ فِكْرٍ رَفِيعٍ، وَنِظَامٍ بَدِيعٍ، وَمَبَادِئَ سَامِيَةٍ؟
حَرِيٌّ بِنَا أَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا. هَلْ نَحْنُ حَقًّا مِنَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ إِرْثَ سَعَادَه؟ هَلْ مَا زِلْنَا نَحْمِلُ تِلْكَ الرُّوحَ الَّتِي تَسْتَخِفُّ بِالْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الْوَاجِبِ الْقَوْمِيِّ؟ لَقَدْ أَرَادَ سَعَادَه أَنْ نَكُونَ أُمَّةً – لَا رَعَايَا، لَا طَوَائِفَ، لَا جُمُوعًا سَائِبَةً وَقُطْعَانًا بَشَرِيَّةً – أُمَّةً تَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا، وَتُدْرِكُ مَقَاصِدَهَا، وَتَبْنِي وَحْدَتَهَا عَلَى الْعَقْلِ، وَوَحْدَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَصِيرِ. وَمَا أَكْبَرَ الْمَسَافَةَ بَيْنَ مَا أَرَادَهُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ!
فِي زَمَنِ انْحِسَارِ الرُّجُولَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، يَبْقَى شَهِيدُ الثَّامِنِ مِنْ تَمُّوزَ الرَّجُلَ – الْقُدْوَةَ الَّذِي نَعُودُ إِلَيْهِ لِنَتَعَرَّفَ عَلَى مَعْنَى الرُّجُولَةِ وَالْفِدَاءِ وَالْحُرِّيَّةِ. هٰذَا الرَّجُلُ – الْقَائِدُ الشُّجَاعُ – عَاشَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا وَهُوَ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْبُطُولَةَ لَيْسَتْ مَوْقِفًا عَابِرًا فِي سَاحَةِ مَعْرَكَةٍ، بَلْ سِيرَةُ حَيَاةٍ.
عَلَّمَنَا أَنَّ الْبُطُولَةَ لَيْسَتْ هَيَجَانًا عَاطِفِيًّا، وَلَا حَمَاسَةً وَقْتِيَّةً، بَلْ هِيَ انْضِبَاطٌ عَقْلِيٌّ وَوِجْدَانِيٌّ، وَاسْتِعْدَادٌ دَائِمٌ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ قَضِيَّةٍ سَامِيَةٍ تُسَاوِي وُجُودَنَا. قَالَ: "الْحَيَاةُ كُلُّهَا وَقْفَةُ عِزٍّ فَقَطْ"، عِبَارَةٌ هِيَ خُلَاصَةُ حَيَاةٍ، وَجَوْهَرُ رِسَالَةٍ، وَتَجْسِيدٌ لِفِكْرٍ جَدِيدٍ. أَفَلَا نَقْتَدِي بِمَسِيرَةِ هٰذَا الرَّجُلِ الَّذِي جَاهَدَ وَكَافَحَ فِي سَبِيلِ شَعْبِهِ، مُتَخَلِّيًا عَنِ الْعَظَمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَمُتَحَمِّلًا آلَامَ الْمَرَضِ، وَعَذَابَ السُّجُونِ مِرَارًا عَدِيدَةً، حُبًّا بِأُمَّتِهِ؟
فِي الْمَحْكَمَةِ الَّتِي شَهِدَتْ مُحَاكَمَةَ الْفِكْرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ القومي، لَمْ يُدَافِعْ سَعَادَه عَنْ نَفْسِهِ كَشَخْصٍ، بَلْ عَنْ أُمَّتِهِ وَحُقُوقِهَا. وَفِي وَقْفَةِ الْعِزِّ الَّتِي خَتَمَ بِهَا حَيَاتَهُ، لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدُ فَرْدًا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، بَلْ كَانَتْ مَعَهُ أُمَّةٌ تُنَازِلُ مِصِيرَهَا.
مَا مِنْ لَحْظَةٍ أَشَدَّ وُضُوحًا فِي تَارِيخِنَا الْحَدِيثِ، مِنْ تِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي وَاجَهَ فِيهَا سَعَادَه قَدَرَهُ. لَمْ يَرْتَبِكْ، لَمْ يُسَاوِمْ، لَمْ يَطْلُبِ الصَّفْحَ، لَمْ يَتَذَرَّعْ بِضَعْفٍ أَوِ الْتِبَاسٍ. بَلْ قَالَ مَا لَا يُقَالُ فِي حَضْرَةِ الْجَلَّادِ: "هٰذِهِ اللَّيْلَةَ سَيُعْدِمُونَنِي، أَمَّا أَبْنَاءُ عَقِيدَتِي فَسَيَنْتَصِرُونَ."
لَكِنَّ السُّؤَالَ الَّذِي عَلَيْنَا أَنْ نَطْرَحَهُ، لَيْسَ عَنْ بُطُولَتِهِ هُوَ، بَلْ عَنْ فِعْلِنَا نَحْنُ. مَاذَا فَعَلْنَا بَعْدَ الثَّامِنِ مِنْ تَمُّوزَ؟ مَاذَا فَعَلْنَا بِتَعَالِيمِهِ؟ كَمْ مَرَّةً صَمَتْنَا حَيْثُ كَانَ يَجِبُ أَنْ نَصْرُخَ؟ كَمْ مَرَّةً تَلَكَّأْنَا حَيْثُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُوَاجِهَ؟ كَمْ مَرَّةً أَهْمَلْنَا وَاجِبَاتِنَا، وَقَدَّمْنَا الْمَصْلَحَةَ الذَّاتِيَّةَ عَلَى الْقَسَمِ وَالْمَبَادِئِ؟
لَا نَحْتَاجُ الْيَوْمَ إِلَى الْمَزِيدِ مِنَ الْخِطَابَاتِ وَالْمَدِيحِ فِي ذِكْرَى اسْتِشْهَادِهِ. نَحْتَاجُ إِلَى مُحَاسَبَةِ ذَوَاتِنَا، إِلَى وَقْفَةِ نَقْدٍ، إِلَى مُرَاجَعَةٍ شَامِلَةٍ: هَلْ نَحْنُ أَهْلٌ لِهٰذِهِ الدِّمَاءِ؟ وَهَلْ نَحْنُ حَمَلَةٌ جَدِيرُونَ بِهٰذَا الْإِيمَانِ؟
إِنَّ أَخْطَرَ مَا قَدْ يُصِيبُ أُمَّةً، أَنْ تَسْتَأْنِسَ مَوْتَ أَبْطَالِهَا، أَنْ تَتَعَوَّدَ عَلَى ذِكْرَاهُمْ، أَنْ تُحَوِّلَهُمْ إِلَى رُمُوزٍ سَاكِنَةٍ، بَيْنَمَا فِكْرُهُمْ نَارٌ، وَرُوحُهُمْ عَاصِفَةٌ، وَمَوَاقِفُهُمْ دِينَامِيتٌ يَهْدِمُ الزَّيْفَ وَيُحَرِّرُ الْحَقِيقَةَ.
إِنَّ أَنْطُونَ سَعَادَه لَيْسَ مُجَرَّدَ مُؤَسِّسٍ، بَلْ صَانِعَ مَسَارٍ، بَاعِثَ نَهْضَةٍ، صَاحِبَ فَلْسَفَةٍ مُتَكَامِلَةٍ فِي الْإِنْسَانِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالتَّارِيخِ. لَمْ يَتْرُكْ لَنَا رَفَاهِيَةَ الِالْتِبَاسِ، بَلْ حَسَمَ الْأَمْرَ: إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَحْرَارًا مِنْ أُمَّةٍ حُرَّةٍ، أَوْ عَبِيدًا أَذِلَّاءَ، سَاقِطُونَ فِي عُبُودِيَّةٍ شَدِيدَةٍ طَوِيلَةٍ. إِمَّا أَنْ نَحْمِلَ فِكْرَهُ وَنَنْهَضَ، أَوْ نَنْسَاهُ وَنَذْوِيَ فِي مَهَانَةِ الْعَالَمِ.
أَيُّهَا الْقَوْمِيُّونَ الِاجْتِمَاعِيُّونَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِرِسَالَةِ سَعَادَه:
فِي هٰذَا الزَّمَنِ الْمُبَوَّءِ بِالتَّفَاهَةِ وَالْقَضَايَا الْفَارِغَةِ وَالْخُنُوعِ وَاللَّا مُبَالَاةِ، حَيْثُ تُغْتَصَبُ الْعُقُولُ وَتُبَاعُ الْأَوْطَانُ فِي الْمَزَادِ، وَتُسْرَقُ الْحَقِيقَةُ بِاسْمِ الْوَاقِعِيَّةِ، وَتُغْتَالُ الْقِيَمُ بِاسْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَتُرْتَكَبُ الْمَجَازِرُ وَالْجَرَائِمُ بِحَقِّ شَعْبِنَا... نَحْنُ مَدْعُوُّونَ إِلَى الْيَقَظَةِ.
لَا الْيَقَظَةِ مِنْ نَوْمٍ جَسَدِيٍّ، بَلْ مِنْ سُبَاتٍ فِكْرِيٍّ وَأَخْلَاقِيٍّ. مَدْعُوُّونَ أَنْ نَحْيَا بِوَعْيِ سَعَادَه، أَنْ نَحِسَّ كَمَا أَحَسَّ، أَنْ نُفَكِّرَ كَمَا فَكَّرَ، وَأَنْ نَقُولَ كَمَا قَالَ "إِنَّ أَزْمِنَةً مَلِيئَةً بِالصِّعَابِ وَالْمِحَنِ تَأْتِي عَلَى الْأُمَمِ الْحَيَّةِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا إِنْقَاذٌ مِنْهَا إِلَّا بِالْبُطُولَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ. فَإِذَا تَرَكَتْ أُمَّةٌ مَا اعْتِمَادَ الْبُطُولَةِ فِي الْفَصْلِ فِي مَصِيرِهَا، قَرَّرَتْهُ الْحَوَادِثُ الْجَارِيَةُ وَالْإِرَادَاتُ الْغَرِيبَةُ."
لِنَكُنْ صَرِيحِينَ مَعَ أَنْفُسِنَا: إِنَّ الْوَفَاءَ الْحَقِيقِيَّ لِسَعَادَه لَا يَكُونُ فِي إِقَامَةِ احْتِفَالَاتٍ وَمَهْرَجَانَاتٍ خِطَابِيَّةٍ، بَلْ فِي أَنْ نُعِيدَ صِيَاغَةَ حَيَاتِنَا، فِي أَنْ نَقْتُلَ الْعَيْشَ لِنُقِيمَ الْحَيَاةَ، فِي أَنْ نَسْحَقَ الْمَثَالِبَ وَنُحْيِيَ الْمَنَاقِبَ الْجَمِيلَةَ فِي حَيَاتِنَا، فِي أَنْ نَنْهَضَ كُلَّ يَوْمٍ بِفِكْرَةٍ جَدِيدَةٍ، بِمَوْقِفٍ، بِفِعْلٍ جِدِّيٍّ، نَرْسُمُ بِهِ وَجْهَ أُمَّةٍ جَدِيدَةٍ.
سَعَادَهُ، الَّذِي سَأَلَ نَفْسَهُ عِنْدَمَا كَانَ حَدَثًا: "مَا الَّذِي جَلَبَ عَلَى شَعْبِي هٰذَا الْوَيْلَ؟"، لَمْ يَقِفْ عِنْدَ السُّؤَالِ، بَلْ شَرَعَ يُنَقِّبُ وَيُحَلِّلُ وَيَسْتَقْرِئُ، حَتَّى أَسَّسَ لَنَا طَرِيقًا لَا عُذْرَ بَعْدَهُ. فَهَلْ لَا نَزَالُ نَطْرَحُ السُّؤَالَ ذَاتَهُ وَنَسْكُتُ؟
أَيُّهَا الرُّفَقَاءُ، يَا أَبْنَاءَ الْعَقِيدَةِ الْجَلِيَّةِ،
لِيَكُنِ الثَّامِنُ مِنْ تَمُّوزَ مَوْعِدًا لِلِانْبِعَاثِ وَالثَّوْرَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ: ثَوْرَةِ الْعَقْلِ عَلَى الْجَهْلِ، وَثَوْرَةِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكَسَلِ، وَثَوْرَةِ النِّظَامِ عَلَى الْفَوْضَى، وَثَوْرَةِ الْحُبِّ الْقَوْمِيِّ عَلَى الْفَرْدِيَّةِ الْأَنَانِيَّةِ.
نَحْنُ لَا نُحْيِي الذِّكْرَى فَقَطْ، نَحْنُ نُجَدِّدُ الْعَهْدَ. نُعِيدُ تَأْكِيدَ انْتِمَائِنَا لِقَضِيَّةٍ كُتِبَتْ بِالْحِبْرِ وَالْآلَامِ وَالتَّضْحِيَاتِ وَالدِّمَاءِ الطَّاهِرَةِ. إِنَّ دِمَاءَ أَنْطُونَ سَعَادَه مَا زَالَتْ تَنْبِضُ فِي عُرُوقِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّ الْحَيَاةَ عِزٌّ وَشَرَفٌ وَجِهَادٌ، وَأَنَّ الْوَطَنَ لَا يُبْنَى بِالْخُنُوعِ، بَلْ بِالْعَمَلِ، وَوَقْفَاتِ الْعِزِّ، كَتِلْكَ الَّتِي سَطَّرَهَا هُوَ، لِيَكُونَ مِثَالًا، وَقُدْوَةً، وَمُعَلِّمًا لِلْأَجْيَالِ.
فِي هٰذِهِ الذِّكْرَى، يُطِلُّ عَلَيْنَا الزَّعِيمُ مِنْ عَلْيَائِهِ، لِيَسْأَلَنَا: "أَيْنَ أَنْتُمْ مِنِّي؟ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنَ الْوَاجِبِ؟ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنَ النَّهْضَةِ؟ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنَ الْبُطُولَةِ الْمُؤْمِنَةِ؟"
فَلْنُجِبْ بِأَفْعَالِنَا لَا بِأَقْوَالِنَا. بِخُطَطِ الْبِنَاءِ وَالنُّهُوضِ، لَا بِخُطَبِ الرِّثَاءِ وَالتَّأْبِينِ. بِعَزِيمَتِنَا، لَا بِعَوَاطِفِنَا. وَبِوَحْدَتِنَا الرُّوحِيَّةِ، لَا بِانْقِسَامَاتِنَا وَتَشَرْذُمِنَا. وَلْتَكُنْ كَلِمَاتُ سَعَادَه فَاعِلَةً فِي نُفُوسِنَا دَائِمًا: "إِنَّ فِيكُمْ قُوَّةً، لَوْ فَعَلَتْ، لَغَيَّرَتْ وَجْهَ التَّارِيخِ."