مقدمة: التربية بوصفها معركة وعي ونهضة
في زمن التحوّلات العظمى، تُطرح على المجتمعات أسئلة وجودية كبرى: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وكيف نعدّ أجيالنا القادمة لمواجهة هذا العالم المتقلّب؟ في هذا السياق، لم يكن أنطون سعاده يعتبر التربية مجرد عملية تعليمية، بل قضية مصيرية تمسّ مصير الأمة كلها. فالتربية في نظره هي الميدان الأول للصراع من أجل النهضة، وهي أساس تكوين الإنسان الجديد، الحرّ، الذي يعي ذاته، ويعرف مسؤوليته في الحياة.
سعاده لم يقدّم نظريّة في التربية بمصطلحات أكاديمية باردة، بل كان يرى فيها معركة لتقويم النفس، وتحرير الإرادة، وتأسيس أخلاق قومية جديدة. وكان يخاطب الطلبة كما يخاطب الجنود في ساحة الحرب، لأن معركة المصير تبدأ من المدرسة، ولا تُكسب إلا بالوعي والفكر والمناقب.
أولًا: مفهوم التربية في فكر سعاده – من التلقين إلى التكوين
يرى سعاده أن التربية ليست حشواً للمعلومات ولا تدريبًا على الامتثال، بل تقويم للاعوجاج وتنمية للمواهب وخدمة للمجتمع وترقيته وترسيخاً لقيمه. يقول في مقاله "ضعف الإدراك من نقص العقل": "وقصد الثقافة أو التربية هو دائمًا تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل".[1]
التربية، بهذا المعنى، ليست تجميعًا للمعرفة، بل تحريرٌ للعقل من الخمول، وتحريرٌ للشخصية من الازدواجية والضياع الهوياتي الناتجَين عن تربية مشوّشة أو مستلبة. فهي المدرسة التي تُخرّج المواطن الصالح: الذي يُفكّر، ويعمل، ويعرف لماذا يعمل. وعليها تقوم نهضة الأمة وسلامة المجتمع. إنها، كما أرادها سعاده، مشروع حياة قومية يبدأ من بناء الإنسان. وقد عبّر عن ذلك في كلمته إلى الطلبة قائلاً:
"أنتم تتعلمون القراءة والكتابة توصلاً لشيء وراء ذلك — إلى معرفة الحياة الجميلة من الحياة القبيحة، حتى تعرفوا أنّ الحياة الجميلة تتميز بقوّتها، والقوة بالبطولة، بالشهامة، بالسيرة الحسنة والأخلاق الطيبة."[2]
ثانيًا: التربية كأداة نهضة أخلاقية – الأخلاق القومية الجديدة
سعاده لم يفصل بين التربية والأخلاق، بل جعل القيم المناقبية في صلب العملية التربوية، منطلِقًا من مبدأ أن المعرفة بلا أخلاق هي سلاح هدم لا بناء.
في محاضرته العاشرة في الندوة الثقافية، قال:
"كل خطة سياسية وكل خطة حربية مهما كانت بديعة ومهما كانت كاملة لا يمكن تحقيقها إلا بأخلاق قادرة على حمل تلك الخطة، بأخلاق متينة، فيها صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة واعتبار المبادئ أهم من الحياة نفسها."[3]
وهذا ينسجم مع ما أكّده في كثير من كتاباته حين قال إنّ النهضة لا تقوم على العلم فقط، بل على "الأخلاق الجديدة"، التي تقضي على المثالب المتوارثة كالكذب والنفاق والانتهازية والأنانية.
سعاده أراد غرس الصدق محل الرياء، والمسؤولية محل الاتكال، والانتماء الواعي بدلًا من النزعة الفردية والتبعية، ومن الطائفية التي تزرع العداوة، والتفكك الاجتماعي الذي ينهك وحدة الأمة ويضعف تماسكها الداخلي.
ثالثًا: المعلّم رسول النهضة لا ناقل معرفة
سعاده حمّل المعلّم مسؤولية عظيمة، لا بوصفه موظفًا في مؤسسة، بل قائدًا ثقافيًا وروحيًا. ففي كلمته إلى "مؤتمر المدرّسين" قال:
"إنّ المعلم هو جندي خط الهجوم الأول، عليه أن يدخل صلب المعركة ويحارب لإنقاذ نفوس الأحداث من العقائد الغريبة أو المتأخرة، وإدخال العقيدة القومية الاجتماعية المحررة البانية إليها."[4]
المعلّم في فكر سعاده هو من يصوغ الروح القومية، ويزرع في الطالب احترام الذات والثقة بالنفس والمعرفة الناقدة. إنه صاحب رسالة لا مهنة، والمجتمع لا ينهض إلا على يده.
وهنا نرى تقاطعًا مع ما قاله جان جاك روسو عن التربية في كتابه "إميل": "إننا نولد ضعفاء، ونحتاج إلى القوة؛ ونولد أغبياء، فنحتاج إلى العقل؛ ونولد بدون كل شيء، ونحتاج إلى كل شيء… وكل ما ليس لدينا عند الولادة والذي نحتاج إليه حينما نكبر تمنحنا إياه التربية.[5]" او مع ما ينسب للفيلسوف ألبير كامو (1913 – 1960):
"المعلم هو صانع حضارة في الخفاء."
لكن سعاده لم يرد له أن يعمل في الخفاء، بل في المواجهة، في الصفوف الأمامية لصراع المصير.
رابعًا: التلميذ مشروع نهضة لا مجرد متلقٍّ
من أعذب ما قاله سعاده للتلاميذ في مدرسة الفريكة: "لستم تلامذة يتعلمون القراءة والكتابة، أنتم تتعلمون لتعرفوا أنّ الحياة الجميلة تتميز بقوّتها، والقوة بالبطولة، بالشجاعة، بالسيرة الحسنة."[6]
وفي أول اجتماع مخصص للطلبة القوميين الاجتماعيين في الجامعة الأميركية، نبّه من الانتشار السطحي للحزب بين الطلبة، وقال:
"لا يجوز أن يبقى الطلبة القوميون الاجتماعيون في حالة انتشار أفقي بلا تعمّق روحي وفكري... إن التثقيف الفكري العقائدي هو الضمانة الوحيدة لاستمرار النهضة ولتطويرها."[7]
من هنا، فالعطاء القومي لا يُلقَّن، بل يُربّى. وهو ليس فعل مكرمة، بل واجب أخلاقي. الطالب القومي لا يقيس وطنيته بما يناله، بل بما يعطيه. إنه عنصر مقاومة لا مفعول به.
خامسًا: المؤسسة التربوية – الحاضن الأول لمشروع المقاومة الثقافية
حين زار سعاده بيت الأطفال في المقاصد الإسلامية، أثنى على النظام والرعاية، ووقف على "طريقة التدريس" وسُرَّ بالنتائج. لكنه شدّد على أن التربية لا تكون بالتنظيم فقط، بل بالوعي والتوجيه القومي السليم.
هذا الموقف يختصر رؤيته للتربية: النظام ليس بديلاً عن الرسالة، ولا الثقافة عن الروحية، ولا المناهج عن المعاني. فالمؤسسة التربوية، بنظره، ليست حيادية، بل إما أن تنتج "نفوسًا قومية اجتماعية" أو تُفرغ الإنسان من قوميته وكرامته.
سادسًا: التربية في مواجهة التحولات العظمى – نحو جبهة وعي ومقاومة
إن ما يشهده العالم العربي من تفكك في المناهج، واندفاع غير ناقد نحو البرامج الأجنبية، يجعل من التربية القومية ضرورة وجودية. فلا يجوز أن تستسلم المدرسة لمنطق السوق، أو أن تتحوّل المناهج إلى أدوات استلاب فكري وتطبيع ثقافي.
إنّ التربية، كما أرادها سعاده، ليست دفاعًا عن الماضي، بل خلقًا لمستقبل:
- تربية تزرع في عقل الطالب التفكير النقدي لا التلقين، وفي قلبه الإرادة لا الخضوع.
- تربية تُعلّمه أن يُحبّ أمّته، لا على أساس كراهية الآخر، بل على أساس معرفته لذاته وانتمائه إلى قضيّته. وأن يكون عنصرًا فاعلًا، لا ريشة في مهبّ الأزمات.
- تربية تُخرّج مواطنين لا حفظة شعارات.
- تربية تُحصّن الوجدان من الانقسام، والعقل من الانسياق، والنفس من الذوبان.
خاتمة: الإنسان الجديد مشروع تربية قومية شاملة
لا يُبنى الإنسان الجديد إلا بتربية جديدة، تُعِدّه ليكون فكرًا وشعورًا وعملًا، لا مظهرًا بلا جوهر. ولا تكون التربية قومية اجتماعية إلا إذا تحققت فيها الغاية، والوسيلة، والرسالة.
وكما قال سعاده: "غاية العالم هو جعل الحياة جميلة مجيدة حلوة".[8] وهذه الغاية لا تتحقق إلا حين تصبح المدرسة حاضنة للعقول، والمعلّم حاملًا لرسالة، والطالب طليعة وعي ومقاومة، والعائلة شريكًا في البناء الروحي والثقافي.
فبالتربية القومية، نصوغ الغد ونحمي الأمة، ونُنجز الإنسان الذي يبني الحياة، لا الذي يُستهلك فيها.
[1] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، 15/02/1948.
[3] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 177.
[4] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.
[5] جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد" (ترجمة د. نظمي لوقا)، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1958، ص 26..
[6] [6] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، 15/02/1948
[7] [7]أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 13.
[8] أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، 15/02/1948.