مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
وحدها المدرحية تنقذ علم التنظيم من تخبطه
 
الشيتي، حنا الياس
 

 

منذ بداية القرن الماضي والعالم الغربي يولي اهتماماً كبيراً بعِلم التنظيم (Organization theory) لسبر أغواره واستخراج نواميسه وقواعده. وكان من جراء ذلك إنتاج ضخم من الكتب والدراسات والأبحاث والتجارب، وعدد لا يحصى من الأسماء لمشاهير من المؤسسات والأفراد الباحثين فيه. رغم هذا كله، فقد وصل عِلم التنظيم الآن مع هذه الأبحاث والنظريات إلى طريق مسدود. لكن الفلسفة المدرحية تتابع عملها، وإن منفردة، متصدية للمعضلات التي يواجهها هذا العِلم في معركته الإنسانية.  وفي ما يلي عرضٌ للحالة التي يقف عندها والطريق المسدود التي وصل إليها، مع تبيان الخطوط الأساسية التي تطرحها النظرة المدرحية كمخرج له من مأزقه.

 

 

رغم التقدم الهائل الذي شهده هذا العِلم خلال القرن الماضي، يبقى من الصعوبة بمكان أن يتعرف المرء على مجموعة من المبادىء التنظيمية التي تحظى بقبول كلِّي، حتى أن شافريتز و أوط (Shafritz & Ott) يعتبران أنه "لا يوجد هناك عِلم للتنظيم"، وأنه من غير المتوقع أن تحظى المبادىء التنظيمية بالقبول الكلي في المستقبل القريب"[1]. ما يوجد حقيقة، بحسب هذين المؤلفَين، هو كمٌ من النظريات المتنافسة والمتناقضة، حيث أن منظِّري مدرسة ما من المدارس يتجاهلون وجود المنظرين في المدارس الأخرى، ولا يلحظونهم إلا عندما يريدون انتقادهم[2]. وإزاء هذا التناقض الحاد والمربك، ينصحان طلاب هذا العِلم باعتماد مدرسة ما من المدارس وتجاهل كل المدارس الأخرى[3]!

 

 

ويتخذ بيرو (Perrow) أيضاً موقفاً مشابهاً، إذ يصنِّف مدارس هذا العِلم الفكرية إلى قطبين متناقضين، داعياً أحدهما بقوى الظلام ويعني به المدرسة الميكانيكية (Mechanical School) في عِلم التنظيم، وهي المدرسة التي تشدد في نظرتها على نظام الشكل أو المكتبية (bureaucracy)، مثل التسلسل الإداري، وصفوف السلطة الواضحة، وتقسيم العمل والتخصص وما شاكل. أما الثانية فيدعوها بقوى النور، ويعني بها مدرسة العلاقات الإنسانية (Human Relations School)، والتي تركز على العامل الإنساني في المنظمات، كاستقلالية عمل الأعضاء والثقة المتبادلة والانفتاح، وسواها من العلاقات الإنسانية[4]. ولأنه، كما يقول سعاده "لا مكان لإبن النور في الظلمة"، فبدهي أن ما يرمي إليه بيرو من هذا التصنيف هو أنه لا مجال للتوفيق بين هاتين المدرستين حيث يبقى الصراع بينهما – برأيه -  محتدماً دون أن يقهر أحدهما الآخر.

 

 

إلا أن بيرو يغفل عن ذكر عصابة أخرى من القوى، والتي تدخل مشاركةً في هذا الصراع الدائر إلى جانب قوى الظلام ضد قوى النور. هذه العصابة هي مجموعة المدارس الفكرية المسماة بالحتمية (Deterministic schools)، وهي المدارس الفكرية التي تعتبر أن المحيط (environment) هو ما يكيّف المنظمات ويقرر مصيرها، مثل نظرية المصادفة (contingency theory)، وتبعية الموارد (resource dependence theory)، ونظرية المؤسساتية (institutional theory)، وسواها من النظريات[5]. وبإضافة هذه القوى إلى قوى الظلام عند بيرو، نجد أن الصراع الدائر هو عملياً بين نظرتين فلسفتين أساسيتين إحداهما مادية والأخرى روحية!

 

 

وقد ولّد احتدام هذا الصراع الجدلي العقيم المزمن، في أدبيات عِلم التنظيم، عصراً مليئاً بالريبة وانعدام الثقة ليس فقط في كل اكتشافات وحقائق هذا العِلم، بل أيضاً في مقدرة الإنسان على التعلم في هذا الميدان! كراينر (Kreiner) يعتبر أن هذا العِلم لن يتمكن مطلقاً من معرفة الحقيقة، ولن يمكِّنه أن يَعِد المنظمات بمستقبل أفضل، وأن حلم العلماء بأن يساهم هذا العِلم في تقليل جهلهم، يبقى حلماً[6]! ويُطلَق على هذا العصر، وهو عصرنا الحالي، اسم "مدرسة ما بعد الحداثة" (postmodernism school). والحقيقة أن أدبيات هذه المرحلة هي أبعد ما تكون عن المدرسة أو الخط الفكري الواضح. إنها مجموعة متنابذة من الأفكار الملطوشة من هنا ومن هناك، والتي يناقض بعضها بعضاً وكل ما كتب ويكتب! ماري جو هاتش (Hatch)، وهي إحدى محبذي هذه "المدرسة"، تعتبر أنه من الصعب جداً تعيين نظرية أساسية لهذه المدرسة، وتصفها بأنها النظرة التي تقبل بكل شيء[7]! أما رأيي أنا، فإن هذه المرحلة ما هي إلا حالة من الفوضى، سبَّبها تمردٌ يائسٌ في زمنٍ يعاني من الإفلاس الثقافي!

 

 

لكن الفلسفة المدرحية لا تأبه بكل هذا الجدل العقيم القائم، بل تتقدم بثقة لتعلن أنه لما كانت المنظمات ليست إلا مظهراً من مظاهر الاجتماع الإنساني، فإن تطورها ومصيرها هما حاصل تفاعل العوامل المادية والعوامل الروحية وليس وقفاً على أحدهما. فما يسميه بيرو بقوى الظلام، أي نظام الشكل وعوامل المحيط وسواها من العوامل المادية، هي شرط أساسي وضروري لوجود وتقدم المنظمات. بل إن هذه فاعلة تحت كل مظهر من مظاهر نشاطها، وهي التي تعين مدى نموها ورخائها، خصوصاً إذا ما أخذنا بالإعتبار عامل الدولة في المحيط والتي تقدم النظام الذي تعمل وِفقه المنظمات. ومع ذلك، فإن هذه العوامل كلها، نادراً ما تحتم على المنظمات الفعل، ولا يمكن لها بالتالي أن تكون هي العامل الفاصل في تاريخ المنظمات ومصيرها. لكن إدارات وأعضاء هذه المنظمات، أي العوامل الفردية والنفسية والتي يسميها بيرو بقوى النور، هي التي تقوم بهذا الدور الفاصل، إذ أنها إما تستفيد من الممكنات والقواعد التي تقدمها العوامل المادية والمحيط، أو تهملها على حسب استعدادها وإرادتها. وواضح، أن هذا القول ليس إلا تطبيق مباشر لمبدأ سعاده في فلسفة التاريخ [8].

 

 

والحقيقة أن سعاده لا يعتبر المنظمات مجرد مظهر من مظاهر الإجتماع الإنساني وحسب، بل كائنات حية بكل ما في الكلمة من معنى. فها هو في خطاب أول آذار لعام 1938،  يعلن أن حزبه قد أصبح كائناً حياً مستوفياً لشروط كيانه. وعلى هذا المقياس، فبدهي أنه يعتبر كل المنظمات الأخرى، هي أيضاً كائنات حية، إن استوفت الشروط الضرورية.  وهذا يعني أن علاقة المنظمات بالمحيط ليست علاقة مفردة تقبل بكل ما يفرضه هذا عليها من الخارج.  بل على العكس تماما، هي علاقة مزدوجة، ككل العلاقات الإنسانية، وهي بالتالي ترد الفعل إلى المحيط وتكيفه.  وهذه نظرة تبقى دونها كل أدبيات عِلم التنظيم ونظرياته في الغرب.

 

 

وهكذا نجد أن الفلسفة المدرحية تمكننا من نظرة أقوى إلى الوضع، حيث الرؤية أشمل والمدى أبعد! وهذا بدوره يدعونا إلى إعادة النظر في ما رآه علماء الغرب عند تأسيسهم وبنائهم لعِلم التنظيم، لكي نعيد التأسيس والبناء على ضوء نظرتنا الفلسفية نحن!

 

واعتقادي أن أي مدخل لدرس وتأسيس هذا العِلم لا بد وأن يطرق الأبواب التالية:

 

• توضيح تعاريف سعاده للجمعيات والمنظمات، واستخراج تعريفه  للمؤسسات.  نعم، سعاده يعرِّف الجمعية بأنها هيئة تجمع بين المصلحة والإرادة[9]؛ وكذلك يعرِّف المنظمة بأنها جمعية أنشأت المكتبية وسجلَّت حقوق أعضائها[10]؛ وبإمكاننا الاستنتاج أن المؤسسة جمعية أو منظمة أو دائرة من دوائرهما ثُبِّتت أهدافُها. مع ذلك لا بد لنا من التوسع أكثر لمعرفة ماهيَّة هذه الهئيات وخصائصها.

 

• إثبات أن الجمعيات والمنظمات والمؤسسات هي كلها مظاهر حياة حقيقية لها مصالح حقيقية، وأن الخاصة الأساسية التي تميّز هذه عن الألة أو الأجهزة المادية، والتي حارت البرية في الغرب لتحديدها دون أن تتمكن حتى الآن، هي في قدرة الجمعيات على اختلاف أنواعها، على "الفعل الداخلي" أو الذاتي، أي وجود الروح فيها!

 

• إظهار أنه لما كانت هذه مركباً مادياً - روحياً، فلا بد أن نجد في كل منها نظامين أحدهما مادي ويعنى بتركيب العناصر المادية ويسميه سعاده نظام الشكل أو المكتبية. والثاني روحي (أو نفسي) وهو نظام الحركة الذاتية في هذه الهيئات، ويسميه سعاده  "نظام الفكر والنهج"، حيث ان نحت التسمية مشتق من أن هذا النظام هو حاصل تفاعل الفكر والغاية وعوامل المحيط، أي ما يقدمه هذا من إمكانات أو تهديدات. ونظام الفكر والنهج مسؤولٌ عن تحديد اتجاه الحركة وزخمها.

• بحث أدوار كل من هذين النظامين.

 

• إظهار أن أفعال الجمعيات هذه تصدر عن تفاعل العلاقة التي وضعها سعاده، أي العلاقة التفاعلية البيولوجية المثلثة الأضلاع الجسم – الإدارة – المحيط، وليس كما  يزال الغرب يعتقد بأنها علاقة "جسم – محيط".

 

• إظهار أنه لما كانت الجمعيات هذه مظهراً من مظاهر الحياة الإنسانية، فإن علاقة الجمعيات بمحيطها هي علاقة تفاعلية لا مفردة، وهي بالتالي قادرة على تكييف المحيط وليس فقط التكيّف به كما يعتقد الغرب.

 

• مقارنة القواعد التي نستخرجها على ضوء نظرتنا، بالنظريات الرئيسية، لإظهار مواضع صحة هذه الأخيرة أو فسادها.

 

 

وبدهي أن درساً كهذا هو عملٌ علميٌ بحت، أو حتى أكاديميٌ بحت يهم المختصين في العلوم التنظيمية بالدرجة الأولى. مع ذلك فإنا نعتقد أنه موضوع يهم كل سوري قومي اجتماعي، لأن أي بحث في مشكلة الحزب وفي تعيين موضع أو مواضع الخلل وفي اجتراح الحلول لها، لا بد وأن يمر عبر درس هذا العِلم تحديداً. كل ما هو دون ذلك مجرد حدس وتخمين.

 

 

ما علينا إدراكه هو أننا عندما نقول بأننا نقدم مفهوماً جديداً في الديمقراطية نسميه الديقراطية التعبيرية، فما نعنينه ليس مجموعة من القوانين والدساتير التي والفناها وألَّفناها ثم قلنا إنها ستعبِّر عن مصلحة الأمة؛ لا ليست الديمقراطية التعبيرية شرعاً جامداً سرعان ما يتحايل عليه أصحاب المصالح الخصوصية، بل هي كيانٌ حيٌ فاعل لا يموت. الديمقراطية التي نقدمها هي مؤسسة تم تنظيمها على أساسٍ يكون في عقيدتها أن مصلحة سورية فوق كل مصلحة، وتكون هذه المصلحة هي غرضها الأولي.  ومن يظن أن سعاده لم يدرس ويكشف ويبدع القواعد العلمية قبل أن يباشر إلى هندسة وإبداع تركيب هذه المؤسسة التي إسمها الحزب، والتي سيحمِّلها هذه المهمة ويقول عنها إنها أعظم أعماله بعد تأسيس العقيدة، فهو واهم! علينا أن نكتشف وندرس هذه القواعد أولاً ثم ننظر في الحل... لأنه بعد الإطلاع يمكن تكوين رأي! بعد الإطلاع! بعد الإطلاع!

 

 

 

[1] Shafritz, Jay M. & Ott, J. Steven, Classics of Organization Theory, Fifth Edition, 2001, Wadthworth, 3& 4.

[2] Shafritz, Jay M. & Ott, J. Steven, Classics of Organization Theory, Fifth Edition, 2001, Wadthworth, 4.

[3] المرجع نفسه.

[4] Perrow, C., “The Short and Glorious History of Organizational Theory”, cited by: Buchanan, D. & Huczynski, A., Organizational Behaviour an introductory text - Integrated readings, First Edition, 1997, PP 5.

[5] William P. Barnett and Glenn R. Carroll, "Modeling Internal Organizational Change," Annual Review of Sociology , Questia, 19 Feb. 2005 />.

[6] Kreiner, Kristian. "The Postmodern Epoch of Organization Theory." International Studies of Management & Organization 22.2 (1992): 37+.

[7] Hatch, Mary J., Organization Theory, Modern, Symbolic and Postmodern Perspectives, First Edition, 1997, Oxford University, PP 43.

[8] نشوء الأمم، الفصل الثالث، الأرض وجغرافيتها، ص 48

[9]   نشوء الأمم، الفصل السابع، الإثم الكنعاني، ص 141.

[10] نشوء الأمم، الفصل السادس، نشوء الدولة ، ص 103.

 
التاريخ: 2021-05-30
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro