مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الرجل الذي رأى: سعادة والريادة المبكّرة في فهم الصهيونية وإدراك مخاطرها
 
أبو فخر، صقر
 

 

 

كثيراً ما تساءلتُ عن الدوافع الحقيقية لاغتيال أنطون سعادة، وعن الأسباب التي جعلت السلطة اللبنانية، ومعها حسني الزعيم في دمشق، ينقضّون كلّهم، بروح ذئبية وفجور استبدادي، على سعادة، ويعدمونه في الثامن من تموز/ يوليو 1949. وكان الكلام الجاري والمتهافت عن أن سعادة أُعدم جراء تنظيمه حركة مسلحة ضد الدولة اللبنانية غير مقنع حتى لفتى غرّ من أمثالي. وبالتدريج رحتُ أكتشف أن السلطة في لبنان آنذاك كانت مذعورة وراجفة من سعادة. ويلوح لي، بنظرة استرجاعية إلى تلك الفترة، أن سعادة كان يمثّل، بالفعل، الخطر الأكثر جديّة على النظام السياسي في لبنان، لأن ذلك النظام الخارج للتوّ من تحت عباءة الاستعمار، كان مطابقاً للبنية الراكدة الحاكمة في بلاد الشام التي وقفت ضد أي تغيير أو تقدّم أو نهوض. فالأعيان التقليديون في دمشق، أي مُلّاك الأرض والتجار ومشايخ الدين، وزعماء الطوائف المتعصّبون في لبنان، كانوا سادة الحكم في البلدين وقادة السياسة في الوقت نفسه، فضلاً عن آغوات الأحياء في المدن التابعين لزعماء الطوائف تبعية القطيع للتيس. ولا ننسى بالطبع، أبناء الزعماء الذين احتكروا المناصب العليا في الدولة الجديدة. فلا غرابة في هذه الحال أن ترتعد تلك الفئات الرجعية حيال صعود تيار سياسي وفكري جديد عابر للطوائف والمذاهب والكيانات التي رسم حدودها الاستعماران الفرنسي والإنكليزي.


 

إنّ فكرة الوحدة السورية والوعي المبكّر بأخطار الحركة الصهيونية ورفع راية العَلمانية كانت الأقانيم الثلاثة التي دشّنت وعياً تاريخياً جديداً متصادماً بشدة مع الوعي المشيخي التقليدي في شأن الأمة والنهضة وبناء الدولة. لذلك لم يكن مستغرباً أن يجتمع الطائفيون والانفصاليون والرجعيون وانتهازيو القومية العربية وعملاء إسرائيل على أنطون سعادة، وأن يتمكنوا منه في ذلك الصيف اللئيم من عام 1949. والأكيد أن هؤلاء جميعاً اكتشفوا الخطر الداهم الذي يمثله سعادة وأفكاره على مصالحهم ومنافع طوائفهم، وعلى رقادهم في نواويسهم الحجرية القديمة المتهالكة، فبادروا إليه بسرعة قبل أن تنقف رياحينه، وتتفتّح أزاهيره. وأخال أن الخطر الذي جسّده سعادة وأفكاره يكمن هنا بالتحديد، أي في تهديده الجدّي والمباشر للتعصب والتخلف والطائفية، وفي الدعوة إلى مقارعة الصهيونية وإسرائيل. لقد رجّفت آراء سعادة في القومية والعَلمانية ومكافحة الصهيونية أوصالَ الفئات المتنفّذة، وأورثتها خوفاً عميقاً، وغمرتها بالهلع خصوصاً بعد الاستقبال المشهود في مطار بئر حسن الذي حظي به سعادة عند عودته من مغتربه القسري في سنة 1947. إنّ ذلك الاستقبال الذي قلّ نظيره أضاء الأزرار الحمر في الغرف السود للسلطات اللبنانية التي خشيت من التفاعلات السياسية المتسلسلة التي يمكن أن يطلقها سعادة، والتي من المحال التحكّم بنتائجها.

 



إسرائيل والمسألة اليهودية


انتهج سعادة في فهمه للصهيونية وإسرائيل منهجاً علمياً مادياً تاريخياً، ولا سيما في تفسيره المسألة اليهودية في أوروبا، وتجلياتها الاستعمارية في فلسطين، وقدّم، منذ نحو مئة سنة، فهماً ثاقباً للحركة الصهيونية التي عملت على تحويل الدين إلى قومية، وتحويل اليهود من جماعة مؤمنين إلى أمّة. وفي هذا الميدان المعرفي، لم يحترم سعادة الخرافات الرائجة عن اليهود و«عبقرياتهم»، وعن «القوة الخفية» و«المؤامرة العالمية» و«بروتوكولات حكماء صهيون»، بل انصرف إلى تحليل الصهيونية واكتشاف مراميها انطلاقاً من تاريخ المسألة اليهودية في أوروبا والوقائع الجارية والمصالح الاستعمارية الناشبة في بلادنا، وقلّما ذكر سعادة في مصادره التوراة أو التلمود إلا لماماً، أو حين يكون ذلك ضرورياً لأغراض البحث العلمي.


إنّ فهم سعادة للصهيونية وغاياتها، حتى وهو في المهجر الأميركي، كان أفضل بما لا يُقاس، من فهم رجال السياسة في المشرق العربي بمن فيهم قادة الحركة الوطنية الفلسطينية. فقد دعا مبكراً إلى منازلة الصهيونية، والتصدّي للهجرة اليهودية، لا كتعصّب ديني أو كراهية عرقية، بل كردّ قومي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين ودرء المخاطر عن سوريا. يقول سعادة وكان في السابعة عشرة: «إن إحدى الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية هي الصهيونية (...). ولو كان الصهيونيون وحدهم القائمين بهذا المشروع الخطير لهان الأمر، لكنْ تعْضدهم في مشروعهم هذا أعظم دولة بحرية وُجدت على وجه البسيطة» [يقصد بريطانيا] (راجع: أنطون سعادة، السوريون والاستقلال، جريدة «الجريدة»، سان باولو- البرازيل، العدد 47، 1/10/1921). وبعد ثمانية وعشرين عاماً بالتمام، كان سعادة لا يزال يشدد على أن «محق الدولة الجديدة المصطنعة (إسرائيل) هو عملية نعرف جيداً مداها. إنها عملية صراع طويل وشاق وعنيف يتطلب كل ذرة من ذرات قوانا، لأن وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمدّ الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتُثبّت وجودها. فالأمر ليس فقط مع تلك الدولة اليهودية الجديدة المصطنعة، إنه مع الدولة الجديدة، ومع دول عظمى وراء الدولة الجديدة» (خطاب سعادة في برج البراجنة – لبنان، 1/6/1949). وهذه الرؤية صحيحة تماماً، فالصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات في العالم، فهو لا يشبه الصراع الهندي – الباكستاني مثلاً، أو العراقي – الإيراني، أو الروسي – الأوكراني، أي الصراع بين أمّتين متجاورتين. كما أنه لا يشبه مسارات حركات التحرر الوطني كالجزائر وفيتنام. ففي حالة حركات التحرر الوطني تنتصر الثورة حين يصبح الاحتلال مُكلفاً للمحتل وغير مُجدٍ. وفي حالة الصراعات الإقليمية، ينتهي الصراع إما بانتصار أحد الطرفين أو بالتوصّل إلى اتفاق سلام. أما في بلادنا فإن لقضية فلسطين فرادة خاصة هي أن الصراع فيها ليس صراعاً تقليدياً بين دولتين، أي أن في الإمكان حلّه بمقادير من التفاوض أو الحروب، بل هو صراع بشري وجغرافي وتاريخي وحضاري وقومي وسياسي؛ فنحن لا نواجه جيشاً محتلاً كالجيش الفرنسي في الجزائر وسورية، أو الجيش الأميركي في فيتنام، بل نواجه جيشاً ومجتمعاً ودولة وعمقاً دولياً. إنه صراع ممتدّ في الزمن، ويدور على الأرض الفلسطينية كلها. وإسرائيل، بهذا المعنى، ليست دولة استعمار تقليدي ونقطة على السطر، وليست دولة احتلال وكفى، إنما هي الدولة التي جسّدت خلاص أوروبا من المسألة اليهودية التي كانت تقضّ مضاجعها. وقد أتقنت إسرائيل وظيفتها أيما إتقان، أي حراسة المصالح الغربية الكبرى في المشرق العربي. ولم يكن قيام إسرائيل، في الأساس، مجرد نتيجة فورية لحرب خاسرة في سنة 1948، بل ذروة الصراع الذي امتد نحو مئة وخمسين سنة بين أوروبا الصاعدة وتركيا المتقهقرة؛ بين عصر النهوض الأوروبي وعصر الانحطاط التركي.

 

يقول سعادة: «إن الباعث على الحركة الصهيونية في الدرجة الأولى أفكار جماعة تريد أن تُوجِد من يهود العالم المختلفي النزعات والمشارب، والمتبايني الأخلاق والعادات، أمة إسرائيلية. ومع أن هذه العملية غير طبيعية فإن انتشارها بين اليهود المضطهدين جعل لها صفة إمكانية الحدوث» (محاضرة لسعادة في سان باولو- البرازيل، 1925، نشرتها مجلة «المجلة»، شباط/ فبراير، 1925). إذاً توقّع سعادة منذ سنة 1925 أن تنجح الصهيونية في مسعاها لتأسيس دولة يهودية. ومع قيام إسرائيل رأى سعادة أن «الدولة اليهودية لم تنشأ بفعل المهارة اليهودية، ولا بشيء من الخَلق والعقل اليهوديّين (...) بل بفضل التفسّخ الروحي الذي اجتاح الأمة السورية ومزّق قواها، وبعثر حماسها، وضربها بعضها ببعض، وأوجدها في حالة عجز تجاه الأخطار والمطامع الأجنبية» (انظر: خطبة سعادة في برج البراجنة في 1/6/1949، كتاب مراحل المسألة الفلسطينية 1921-1949، بيروت: عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، سلسلة النظام الجديد رقم 4، 1977). وهذا بالضبط ما قاله دافيد بن غوريون بعد توقيع آخر اتفاق للهدنة بين العرب وإسرائيل، أي اتفاق الهدنة السورية – الإسرائيلية في 20/7/1949، حين خاطب ضباط الهاغاناه بقوله: «إن ما تحقّق هو نصر تاريخي عظيم للشعب اليهودي كله. كان هذا النصر أكبر مما تصوّرناه وتوقّعناه. ولكن، إذا كنتم تعتقدون أن هذا النصر قد تحقق بفضل عبقريتكم وذكائكم فإنكم على خطأ كبير. إنّي أحذركم من مخادعة أنفسكم. لقد تم لنا ذلك لأن أعداءنا يعيشون حالة مزرية من التفسّخ والفساد والانحلال» (راجع، ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص 61).



الصهيونية وقومية الشتات

لم يكن سعادة في كتاباته وآرائه، خصوصاً في نصوصه عن الصهيونية واليهودية وإعلان بلفور وقرار التقسيم وحرب 1948 وتأسيس دولة إسرائيل، مجرد رجل سياسي ربما تقوده أهواؤه إلى اضطرابِ مواقفه، بل كان رجلاً رؤيوياً سعى، بلا هوادة، إلى إحداث ثورة، لا في السياسة فحسب، بل في الفكر والثقافة أيضاً، وجهد في محاولة تأسيس مستقبل لهذه الأمة. وكلّما توغّلنا في قراءة نصوص سعادة نكتشف فهمه العميق والمبكر للصهيونية، وريادته في التحذير منها وتبيان مخاطرها، والدعوة إلى مكافحتها والتصدي لها. وقد أراد سعادة من تحفيزه الأمة على تنظيم خطة معاكسة لمواجهة الصهيونية أن تكون تلك الخطة باعثاً لا على رد خطر الصهيونية عن بلادنا فحسب، بل حافزاً للنهضة الشاملة التي ستُطلق، في حال تحققها، جميع عناصر القوة الكامنة في هذا الأمة. واللافت أن نصوص سعادة عن الصهيونية ما برحت نضرة جداً حتى بعد مرور هذه السنين الطويلة. ونكتشف، من خلال إعادة قراءتنا لكتاباته أنه لم يكن عنصرياً ضد اليهود كما حاول كثيرون ترويج هذه الفرية عنه، بل كان معادياً للصهيونية اليهودية التي تمكّنت من السيطرة على عقول كثير من يهود العالم، وجذبتهم إلى مشروعها الاستعماري الإحلالي. يقول سعادة: «يوجد فريق من اليهود الراقين يفهم العلل وأسبابها، ويفهم عقم دعوة الصهيونيين ويحاربها من أجل اليهود كما من أجل الإنسانية جمعاء. وقد اشتُهر من هذا الفريق هنري مورغنثاو سفير الولايات المتحدة الأميركية السابق في تركيا، وله في هذا المجال حملات صادقة أثبت فيها فساد الحركة الصهيونية» (سعادة، مجلة «المجلة»، شباط/فبراير 1925).


نعم. هنري مورغنثاو واحد من أعداء الصهيونية، وهو الذي وقّع مع واحد وثلاثين يهودياً عريضة معادية للصهيونية في اللحظة التي كانت الحركة الصهيونية تتقدم بمطالبها إلى مؤتمر الصلح في باريس في آذار/مارس 1919. ومورغنثاو اليهودي الذي قال إن الصهيونية هي «أعظم تضليل ظهر في التاريخ» لم يكن وحده في هذا الموقف الأخلاقي والسياسي والتاريخي العظيم، بل كان معه وإلى جانبه وبعده كثير من اليهود النبلاء أمثال الحاخام ألمر بيرغر وألفرد ليلنتال، فضلاً عن المنشقّين الجدد عن الصهيونية أمثال شلومو ساند وأبراهام بورغ وآفي شلايم وإيلان بابه ويسرائيل شامير وجدعون ليفي ومردخاي فعنونو وميخائيل فارشافسكي، وقبلهم موشي ماخوفر وأوري أور وأودي أديف وأوري دايفيس.

 


الصهيونية بالتعريف هي قومية الشتات اليهودي، وقد رفع تيودور هيرتسل عمارتها الفكرية على مبدأ نفي الشتات، وتجميع اليهود في وطن قومي يشكل «بوتقة الصهر» Melting Point لهم كي يتحولوا إلى أمّة. أمّا اليهودية، من مبتدئها إلى منتهاها، فتقوم على تقديس الشتات لأن الشتات هو إرادة الله، وهو المطهّر الضروري قبل مجيء الماشيَّح. ففي الشتات، بحسب اليهودية، اكتشف النبي إبراهيم الله، وأنجب يعقوب أبناءه الذين صاروا رؤوس الأسباط، وتحوّل الأسباط إلى شعب في مصر، ومنح الله التوراة لهذا الشعب في أثناء التيه في سيناء. ولهذا وقف معظم المتدينين اليهود ضد الصهيونية في البداية، ثم تشقّقوا لاحقاً. وكان من بين مَن عارض الصهيونية الحسيديون والورعاء الحريديم واليهودية الإصلاحية. فجماعة اللوبافيتش الحسيدية (حَبَد) وهي اختصار لثلاث كلمات: حوخماه (الحكمة) وبيناه (الرشد) وداعات (المعرفة)، كان زعيمها الحاخام ميناحم مندل شنيرسون يردد باستمرار أن الصهيونية هي العدو الأكبر والخطيئة الكبرى التي ابتُلي بها شعب إسرائيل. وعلى منواله وغراره نسجت جماعة ساتمار الحسيدية مواقفها، وكذلك ناطوري كارتا (حراس المدينة) التي تنتمي إلى الحريديم المعادين للصهيونية الذين يعتقدون أن خلاص اليهود يأتي من الله وليس من دافيد بن غوريون. أمّا اليهودية الإصلاحية التي أسّسها موشي مندلسون فقد رفضت القومية اليهودية، ورفضت الوطن القومي اليهودي، ودعت اليهود إلى الاندماج في البلدان التي يقيمون فيها، وتخلّت عن فكرة مجيء الماشيَّح، وأحلت في محلها فكرة العصر الماشيحاني، أي عصر العدالة والمساواة للجميع من خلال التقدم العلمي والحضاري والسلام الإنساني. وفي أي حال، فإنّ المتدينين اليهود أمثال أغودات يسرائيل (جمعية إسرائيل) التي عارضت البرنامج الصهيوني الذي صدر عن المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سنة 1897، ورفضت هجرة اليهود إلى فلسطين ثم تراجعت عن ذلك في سنة 1937، رفضوا الصهيونية لسبب جوهري هو أنها أرادت علمنة الدين اليهودي بتحويله إلى قومية، فيما أراد هؤلاء المتدينون الإبقاء على اليهودية كامتياز روحي باعتبار اليهود «شعب الله المختار» أو «شعب السبت» الذي ينتظر الماشيّح المخلص. وهذا هو التناقض في قلب الصهيونية نفسها؛ فالصهيونية نفي للعلمانية لأن العلمانية والعلمنة تؤديان باليهود إلى الاندماج في مجتمعاتهم وأوطانهم. وهما، في الوقت نفسه، نفي للتدين، لأن التدين يعيق تحويل اليهود إلى قومية. وأخال سعادة فهم ذلك التناقض فهماً تاريخياً.



سعادة والفدائيون الأوائل


تأثّر سعادة في مسلكه الثوري بأبطال النضال الوطني في أميركا اللاتينية ضد المستعمرين الإسبان والبرتغاليين أمثال سيمون بوليفار (فنزويلا) وسان مارتن (تشيلي) والكاهن العلماني الكاثوليكي خوسيه ماريا موريلوس (المكسيك) وفيسنتي غيريرو (المكسيك) وإيميليانو زاباتا (المكسيك) وفرنسيسكو ماديرو (المكسيك). وفي هذا الميدان دعا مبكراً إلى تنظيم عمليات فدائية، وتمنى لو أن فدائياً من سورية ضحّى بنفسه في سبيل وطنه، وقتل بلفور في أثناء مروره بدمشق في سنة 1925. ولو قُتل بلفور آنذاك لكانت القضية السورية تغيرت تغيراً مدهشاً (سعادة، سوريا تجاه بلفور، مجلة «المجلة»، سان باولو، أيار/مايو 1925). لكن بلفور، كما هو معروف، كان معادياً بشدة لليهود، وهو مَن صاغ «قانون الغرباء» الذي منعهم من دخول بريطانيا، ثم أرسلهم إلى فلسطين. ولذلك وصف سعادة إعلان بلفور بأنه «أسوأ العهود الدنيئة في تاريخ الدول (...)؛ غدر صادر عن أسمى مقام سياسي في أوروبا» (المصدر السابق نفسه). وفي رسالة إلى السوريين القوميين وإلى الأمة السورية مؤرّخة في 1/12/1947، أي بعد صدور قرار التقسيم الرقم 181، أعلن سعادة أن «القوميين هم اليوم في حالة حرب من أجل فلسطين (...)، وأن يوم الثلاثين من تشرين الثاني هو يوم حداد للقوميين الاجتماعيين وعبرة للأمة السورية».


من مآسي تاريخنا الفلسطيني المعاصر أن سعادة قدّم إلى المفتي أمين الحسيني عرضاً يتضمن إرسال عشرة آلاف قومي مدربين على السلاح إلى فلسطين، لكن هؤلاء كان ينقصهم السلاح ويفتقدون إلى الذخيرة، وهو ما يجب تأمينه. فجاء رد المفتي كما نقله رياض الصلح: لا سلاح للقوميين الاجتماعيين حتى لو كان تحرير فلسطين متوقفاً على مشاركتهم في الحرب (مصطفى سليمان، أنطون سعادة كما عرفته، بيروت: دار ومكتبة التراث الأدبي، 2017، ص 33). ويلوح لي أن ما نقله رياض الصلح على لسان المفتي مشكوك فيه جداً، لأن المفتي أذكى من أن يجيب بمثل هذا الجواب. ومع ذلك، بل رغم ذلك، تشكّلت منظمة «الزوبعة الحمراء» في سنة 1948، وتولى قيادتها مصطفى سليمان من بيت نبالا، وقاتلت في غير موقع من فلسطين بإمكاناتها الفقيرة، وسقط من بين مقاتليها فواز خفاجة من بلدة جباع في الشوف، ومحمد ديب عنيوس من اللاذقية، ومحمد زغيب من بلدة يونين البقاعية.
 


بناء الدولة ومشروع النهضة


عِلاوة على تأثّر سعادة بأبطال الحرية في أميركا اللاتينية، كان لحركات الاستقلال في أميركا اللاتينية أثرها الواضح في فكره، ولا سيما أنها استلهمت رؤاها ومفاهيمها في السياسة والتحرر الوطني من أفكار عصر التنوير الأوروبي. وهنا، في هذا الحقل المعرفي والتاريخي، لا بد من التأكيد على أن المشروع الأساسي لأنطون سعادة هو بعث نهضة شاملة في أرجاء الوطن السوري؛ نهضة سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية وتنظيمية. وقد شدّد سعادة على أن مغادرة كهوف الطائفية ومغاور المذهبية شرط لا بد منه للشروع في هذه النهضة، ولا بد لبناء الدولة الحديثة من العلمانية القائمة على أساس المواطنة. ولا ريب أن فكرة بناء الدولة كانت تشغل فكر سعادة جديًا، فالدولة هي صورة الأمة، تماماً كما هي لدى هيغل، أي حضور العقل في المجتمع. وفي هذا النطاق لا بد من التشديد على ما هو معروف وثابت؛ فلا علاقة لأنطون سعادة بالفكرة النازية عن أصل الأمة إطلاقاً كما يحلو للبعض أن يزبد ويجتر. فالنازية تبني مفهومها للأمة على العنصر، فيما أقام سعادة مفهومه للأمة على المزيج السلالي الذي يتكون ويختمر بالتراكم الزمني في ثنايا الجغرافيا، وعبر مراحل التاريخ المتعاقبة. ويشرح سعادة هذا الأمر بقوله: «إننا أمة ليس لأننا نتحدّر من أصل واحد، بل لأننا نشترك في حياة واحدة وفي وطن واحد يحتم علينا أن نكون إخواناً قوميين متّحدين في هذه الجامعة الوطنية» (سعادة في افتتاح نادي الطلبة الفلسطينيين في الجامعة الأميركية في بيروت، 1933).


والدولة، بحسب تصورات سعادة، هي دولة حامية ذات جيش قوي، وراعية ذات مؤسسات فاعلة، وهي من بابها إلى محرابها عَلمانية وعادلة. وهذه الدولة الحامية والراعية، والعَلمانية والعادلة، تحتاج إلى دعائم قوية جداً تستند إليها، وإلى مِلاط قومي تُلحم به التشققات الاجتماعية، الأمر الذي يساهم في عملية الاندماج الوطني. وتحتاج تلك الدولة، فضلاً عن ذلك، إلى صوغ رؤية مشتركة تتيح تجاوز الولاءات الوشائجية والعلائق التراحمية والهويات الإثنية والطائفية إلى الولاء للوطن قبل أي ولاء آخر. ومن البدهي أن من المحال تحقيق الاندماج الوطني من دون دولة حديثة. لذلك لا بد من الاجتهاد اليوم في سبيل إنتاج رؤية للدولة تقوم على فكرة الدولة والمواطن في سياق النهضة والتقدم والاندماج الاجتماعي والوطني. فالدولة الحديثة، من خلال مؤسساتها كجهاز التعليم والثقافة والجيش، علاوة على مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والصحافة، هي التي تستطيع تحقيق التدامج الوطني للانتقال من الروابط القرابية كالقبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة، إلى الروابط الترابية، أي إلى الدولة والوطن والمواطن الحر.

 

 
التاريخ: 2023-09-24
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 23 أيلول 2023
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro