مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
الفكر المدني وأنطون سعاده
 
مؤتمر "فكر أنطون سعاده بين الماضي والحاضر"
قربان عقل، ليليان
 

 

 

 

تُحَتّمُ مسؤوليةُ الإنتداءِ حول الفكر المدني وأنطون سعاده أن نقفَ تهيّباً أمام قامةٍ فكريّةٍ، قيل فيها الكثير وكُتِبَت حولها دراسات ومقالات غنيّة المضامين متشعّبة المواضيع وعديدة التناولات! وإنّي من هذا المقام الفكري الشديد الوفاء لأنطون سعاده، عقيدةً وفكراً وانتصاراً لمبادئ، أراني منحازة للقول إنّ هذا المؤتمر بمحاوِره الثلاثة والمداخلات السبعة التي تنتظمُ أعمالَهُ، يشكّلُ إطلالةً جديدةً تستنزفُ فكر سعاده وطروحاتِه، وتحاولُ مقاربةَ فلسفتِه العقيدية، وتفسيراتِها وتحدّيات تطبيقها على واقعِنا المَعيش، بل الذي تقاسيه مجتمعاتُنا بتعدّديّتِها المجتمعيّة وتوزّعاتِها الطائفيّة والمذهبيّة، القاتلة للتقدّمِ والمانعةِ للعصرنة والتي تحولُ دون أي تحديثٍ أو تطويرٍ مأمول.


 

يفرضُ موضوعُ مداخلتي، التمييز بين فكر أنطون سعاده في تقديمِه لمعنى (الحياة المدنية)، وإمكانيّة فهمه وتطبيقه في مجتمعٍ كَثُرت فيه الانتماءات وتعدّدت الالتزامات وقلّت فيه المواطنة وندر فيه الحسُّ المجتمعي وخفّ الشعورُ القومي.


 

وإذا كانت أكثر التحدّيات بروزاً في تقديمِ وشرح مفهومي (الفكر المدني) و(الدولة المدنيّة) هيَ إشكاليّة الإجماع حول هذين المفهومين في مجتمعٍ قلقٍ ودائم التشظّي، فإنّ مسؤولية هذا اللقاء المشكورة عليه اللجنة التنظيميّة، هي أن نحرّكَ البحثَ من جديد حول المصطلحات المفهوميّة لفكر سعاده ونعمل على شرحِها وتفسيرِها والتعريفِ بدلالاتِها، منعاً لأيّ تأويل أو إساءة تفسير. فنكون بذلك اعتمدنا قاعدة ثلاثيّة أركانها أن نستفهم لنَفهم ونُفهم...!


 

لعلّ ما تُفضي إليه هذه المطارحات، يؤكّد على ثابتةٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ هي أن سعاده لم يُدرس كفاية بعد، ولم يَتِمّ تناولُ فكرِه من كلّ جوانِبِه من قبل باحثين ملتزمين ولا غير حزبيين.


 

فَضْلُ هذا المؤتمر أنّه سيعيدُ ضبطَ إبرة البوصلة الفكريّة نحو طروحات سعاده وبحث أطر شرحها وإمكانيّة اعتمادِها وتطبيقِها في مجتمعاتٍ لا تزال تترجّح بين تبعيّة التراث الديني والتوفيق مع الحداثة والعصرنة وصعوبات التحوّل من مجتمعاتٍ انغلاقيّة إلى مجتمعٍ انفتاحي، بحيث لا نكون أمّةً بأوطانٍ كثيرة وبشعوبٍ متنوّعة...!


 

المعضلة الأكثر اعتراضاً على طروحاتِ الفكر المدني، تركّز أساساً على وجودِ جدلٍ دائمٍ بين المرجعيّات الدينيّة والمجتمع المدني العلماني، على مستوى افتعالٍ موسِمي للمناظرات والجدالات من دون التوصّل إلى مفاهيمَ محدّدةٍ حول أهداف (الفكر المدني)، الذي تعثّر المجتمعُ المثقّف في إطلاق مبادرات جادّة تكون قادرة على تجاوزِ العصبيّات الدينيّة وتسعى إلى بناءِ جسورِ تعاونٍ وتفاهمٍ بين السلطةِ المستقويةِ بواقعِها التمثيلي للطوائف وأصحابِ الفكرِ والرأي الحرّ الرافض للتبعيّة والساعي إلى العصرنة الفكريّة من دون الانسلاخ عن الواقع السّياسي اللّبناني، بحيث لا يكون (تكفير) ولا يقابله اتهامات بالتعصّبِ ولا نقاشات سلبيّة بين جماعاتٍ لا تتحاور أصلاً ولا قابليّة لها للتفسير والتواصل.


 

إنّ الحديثَ عن الفكر المدني كأساس لنشوء المجتمع المدني بسياقهِ النظري الذي يمهّدُ للممارسةِ الديموقراطيةِ، لا يزال القضية المحوريّة في حياتِنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة العصرية.


 

لقد ساهمت مدارسُ فكريّةٌ غربية عديدة في صياغةِ مفهومِ المجتمع المدني، ومن أهمِّها مدرسةُ العقد الاجتماعي وهيغل والمدرسة الماركسيّة وخصوصاً المفكّر الإيطالي غرامشي. وربّما كان من  الصعب الإحاطة بمساهماتِ كلّ المدارس في إطار بحث واحد، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك مساهمات عدة في تحديد هذا المفهوم وليس فقط كونه سلاحاً في يد الحركات الليبراليّة الهادفة إلى الحدِّ من السلطة الإقطاعيّة والتأكيد على أهميّة الدّولة في تحقيق العدالة داخلَ المجتمع.


 

علماً أن أنطون سعاده يتجاوز ويتميّز عن الليبرالية في تأكيدِه على مفهوم العدل الاجتماعي والاقتصادي والقضائي والحياة الكريمة لكلّ المواطنين.


 

لقد أتْقَنَ أنطون سعاده الوضوحَ والبرهانَ فكان فكرهُ شهادةً على عقلٍ يقرأ الواقعَ ويصف له الدواء في مواجهةِ التحدّيات، وذلك ضمن مشروعٍ نهضوي متكامل يرتقي بالإنسان في سبيلِ تقدّم المجتمعِ، فجعل القضية السورية قضيّة قوميّة قائمة بذاتها، نظام هذه الأمّة، الأمّة السّوريّة، يقوم على فصل الدين عن الدولة، منع رجال الدين من التدخّل في الشؤون السياسيّة والقضاء وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب. 


 

ما هو مفهوم أنطون سعاده للدولة القوميّة الاجتماعيّة وكيف شرح أهميّةَ الوصولِ إلى حقوق المواطنة العادلة عندما دعا إلى دينٍ اجتماعي مدني مبنيّ على مسألةِ الأخلاق التي ينبغي أن تكونَ في صميمِ كلّ نظامٍ اجتماعي، حيث لكلّ فرد حريّة الإيمان بما يشاء دون أن يكون لذلك علاقة بالعقائد الدينيّة الماورائيّة.


 

من هذا المنطق نوزّع بحثَنا في الفكر المدني وأنطون سعاده إلى محاورَ ثلاثة:

1. أنطون سعاده والدولة القوميّة

2. أنطون سعاده ومفهوم المواطنة العادلة

3. نظرة أنطون سعاده إلى الدينِ في الدولة.


 

في المحور الأول، نتناول مفهوم سعاده للدولة القوميّة الاجتماعيّة التي دعا إليها، ألا وهي دولة الأمّة، لا دولة دينية ولا دولة طائفيّة. إذ يعيد أنطون سعاده إلى استغلال الغرب الاستعماري بمختلف أنظمته للنعراتِ الدينيّة في العالم العربي والإسلامي، في دعوات هي دليل إلى احتقار الدول الاستعماريّة الكبرى مدارك الشعوب التي لا تزال تجهل ما هو الفرق بين القومي والديني وبين الأمّة والجماعة الدينيّة وبين السياسة والعقائد الدينيّة. (سعاده، الأعمال الكاملة، المجلّد السادس 1942 – 1943، 2001، الصفحات 40 – 47)


 


 


 

يقول سعاده في دراسته لنشوء الأمم:

ما يبرّر وجود القوميّة هو إقرار أن السيادة مستمدّة من الشعب، هذا هو المبدأ الديموقراطي الذي تقوم عليه القوميّة، فالدّولة الديموقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة ناتجة من الشعور بالاشتراك في حياة واحدة (د. يوسف كفروني، دراسة بعنوان معوّقات النهوض وبناء الدولة القوميّة الديموقراطيّة)

 

فيشترط سعاده أن تكونَ كلّ عَلاقة لأيّ دولةٍ أجنبيةٍ معنا قائمة على أساسِ الاعتراف بسيادتِنا القوميّة.


 

والدولة القوميّة هي الدولةُ المدنيّةُ التي تحدّد شروطَ ومؤهّلاتِ من يَحُقُّ لهم الترشّح للمواقع السياسيّة والقضائيّة فيها.


 

في المحورِ الثاني، أنطون سعاده ومفهوم المواطنة العادلة، نشير إلى الربطِ بين المواطنة والدولة القوميّة الديموقراطية بمفهومِها حماية الحقوق الأصليّة الطبيعيّة، فلكلّ فردٍ الحقّ بالحياة والحريّة والاختيار والتعبير...


 

إذ يؤكّد سعاده في مقدّمِة كتابه نشوء الأمم على ظاهرة الوجدان القومي الذي يشكّل الأساس في ثقافة المواطنة، ويشدّد على محاربةِ النزعة الفردية التي تمثّل التهديدَ الأخطرَ لوحدة المجتمع، ويشدّدُ على أهميّة تغليب المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة.


 

يقول "لا حل لمشاكل سوريّة الدينيّة والاجتماعيّة غير حل القوميّة الاجتماعيّة التي تفرض إنشاء كَيان يكون فيه جميع أبناء الأمّة أحراراً في الحقوق والواجبات" (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، ص 167).


 

إنّ طرحَ أنطون سعاده للدولة القوميّة، دولة الأمّة السوريّة، هي النظام السّياسي والحقوقي الأفضل الذي يرسّخ الفكر المدني على أسسٍ عادلةٍ يعبّرُ عن إرادةِ المواطنين ولا يميّز بينهم على أساس الانتماء الديني أو الطائفي أو الجندري، فهو أول من أعطى المساواة بين المرأة والرجل.


 

"إنّ المواطنية تحدّدُ علاقات الفرد بالدولة بشكلٍ رئيسي والهوية المدنيّة مُصانة بالحقوق التي تسبغها الدولة وبالواجبات التي يؤدّيها المواطنون. إنّ أفكار الاستقلاليّة والمساواة والمشاركة المدنيّة في شؤون الدولة، تصنع المواطنيّة نظرياً، بمعزل عن الأشكال الإقطاعيّة والاستبداديّة للهوية الاجتماعيّة – الهوية التي أصبحت مرتبطة بشكلٍ وثيقٍ بالمواطنيّة هي الهويّة القوميّة" (منيش، 2010، ص 14)


 

وقد شغَلَ موضوعُ الدين حيّزاً كبيراً في أعمالِ سعاده نختصره في المحورِ الثالث لهذا البحث، بـ نظرة سعاده إلى الدين في الدولة.


 

في نظرةِ سعاده إلى العَلاقة بين الدين والدولة يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، مشيراً إلى أن التعصّب الديني هو الذي جَلَب الويلات إلى الأمّة السوريّة ووقف عائقاً دون نهضتها، وإن كان في هذا الإطار من فصل بين البعد الروحي للأديان التي ترقى بالإنسانِ قيماً وأخلاقاً وإدارة الدولة فمنع رجالَ الدين من التدخّلِ في شؤون الحكم وإدارته، فيقول "لا دين في الوطنية، إن الأديان في المعابد والعبادة بين الإنسان وربّه أمّا الوطن فهو للجميع" (سعاده، الأعمال الكاملة 3، 2001، ص 316).


 

إنّ فكرة الأمّة هي الفكرةُ المركزيةُ عند سعاده، ومبادِؤها الإصلاحيّة هي في إقامة دولتها العلمانية العلمية ذات النظام الواحد الذي يتساوى فيه المواطنون والمواطِنات بالحقوق والواجبات.


 

كل ذلك يختصرُ نظرةَ سعاده للدولة الحديثة ذات أساسٍ اجتماعيٍ اسمُه المجتمع المدني.

وإن كان أنطون سعاده لم يستخدم مصطلح "المجتمع المدني" في كتاباتِه، لكن في استخلاصِنا من أفكار سعاده الأساسيّة وجدنا ما يجعلها قريبة منه، فتصوّر سعاده للمجتمع القومي الأساسي هو المجتمع الجديد، أي الأمّة الواعية التي تهاجمُ المفاسدَ الاجتماعيّة والدينيّة والإثنيّة والعشائريّة والسياسيّة والنزاعات الفرديّة، والإقطاع والعقليّات المتحجّرة.

 

وما أحوجَنا اليوم بالذات إلى تطبيقِ هذا الفكر العظيم في مجتمعاتِنا التي تعيشُ أزماتٍ جمّة تتفاقَمُ يومياً وتكاد تقضي على ما تبقّى من "الأمّة السوريّة"، فهل يمكننا اليوم الانطلاق من فكر أنطون سعاده كإطار فكري عام لتنظيمِ المواطنة على الأرض الواحدة لأعضاءٍ يشتركون في الحياة فيها، ليكونوا مواطنين بالفعل وأعضاء من المجتمع المدني والدولة المدنيّة القائمة على حماية حقوق المواطنين بالعيش بكرامة وحريّة، وذلك بنشر الوعي الاجتماعي والقومي للخروج من الولاءات والعصبيّات الجُزئيّة إلى الانتماء العام الجامع ضمن خطّة ثقافيّة اجتماعيّة تصبُّ في الحياة السياسيّة العامّة على مختلفِ المستوياتِ، والتي أضحت شرطاً وجودياً أساسياً اليوم لبقائنا كما أشار الأستاذ يوسف الأشقر.


 

إنّ التحدّي الكبير الذي نعيشُه اليوم هو في أن ننقلَ هذا الفكر في حركتِه العظيمة بمكوّناتِها الوجوديّة إلى الممارسة المنتظمة التي تتناسبُ مع حاجةِ مجتمعاتِنا اليوم، انطلاقاً من وعي أفرادها لضرورة الخروج من هذا الدرك الثقافي والحضاري بالاستفادةِ من خلاصةِ هذا الفكر العظيم الذي خاطبَ أجيالاً كانت لم تولد بعد، هي أجيالنا اليوم التي تتخبّطُ بأزماتٍ اقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ، وهي بحاجة لأن تعيشَ مفهومَ المواطنة التي تضمن لها قيمَ الحقّ والخير والجمال...

 

* دكتوراه في علوم الإعلام والاتصال

 

(كلمة ألقيت في مؤتمر فكر أنطون سعاده بين الماضي والحاضر)

 

 

اضغط هنا للإستماع إلى الكلمة

 

 


 

 

 

 
التاريخ: 2023-06-22
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: النهار العربي، 17/06/2023
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro