مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
السياسة والثقافة و"البوصلة المجنونة»!
 
أصفهاني، أحمد
 

 

 

 

هل تذكرون كيف تعمل البوصلة؟

 

 قد يستغرب بعضكم هذا السؤال، لكن يبدو أننا وصلنا إلى مرحلة بتنا فيها مضطرين بإلحاح للتذكير بالبداهات الكثيرة التي غطاها تراب حفاري القبور من كتبة الصحف وشاغلي وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام.

 

وللتذكير نقول: البوصلة تعمل وفق انجذاب الإبرة إلى الحقل المغناطيسي في القطب الشمالي. ومهما تغير موقع حامل البوصلة، فإن الإبرة تؤشر دائماً إلى الشمال... إلا في حالة استثنائية واحدة: عندما تحيط بالبوصلة حقول مغناطيسية اصطناعية أخرى، وقتها «تجن» الإبرة فلا يهدأ لها قرار في أي اتجاه كان.

 

ما علاقة هذا الأمر بالموضوع الذي اخترناه: «الثقافة والسياسة»؟

 

العلاقة بسيطة وواضحة أيضاً. فالكاتب الذي لا بوصلة لأفكاره ومواقفه ولا ينجذب طبيعياً الى حقله المغناطيسي، سيكون عرضة للانجذاب إلى حقول أخرى اصطناعية، فلا تقر «إبرته» في اتجاه واضح وبَيِّن بل «تجن» في كل الاتجاهات ولا يهدأ لها قرار أبداً.

 

ولندخل في موضوعنا بطرح السؤال الآتي: هل صحيح أن السياسة في مفهومها الحضاري القومي منفصلة عن الثقافة ومنعزلة عنها؟ بكلام أخر: هل أن ارتباط المثقف بذلك النوع من السياسة يعد انتقاصاً من قيمة الثقافة ودورها؟

 

هذا يدفعنا إلى التحديد أكثر، لأن التعيين شرط الوضوح. السياسة التي نتحدث عنها هنا - وغير هنا أيضاً - هي سياسة القضايا المصيرية وليست سياسة المماحكات الحزبية الضيقة. عندما يكتب شاعر أو أديب أميركي أو بريطاني عن سياسة هذا الحزب أو ذاك، فانه لا يقدّم ثقافة على الإطلاق. أما عندما يكتب، هو نفسه، معارضاً حرب فيتنام مثلاً، أو فاضحاً الزيف الاجتماعي المختبئ خلفه حزام الفقر في بريطانيا، فإنه يكون قد تناول إحدى القضايا المجتمعية، وهنا تكون الثقافة في صلب السياسة ومحركتها كذلك.

 

عندما كتب همنغواي رواياته، ولوركا أناشيده، وأراغون قصائده، وأورويل قصصه... كانوا يكتبون في السياسة، وكانوا يقدمون روائع خلدتها الأجيال. وعندما قدّم نجيب محفوظ رواياته، وسعيد تقي الدين مقالاته، وبدر شاكر السياب أغانيه، وعبد الرحمن منيف قصصه، وتوفيق الحكيم مسرحياته، كانوا بذلك ينضمون إلى سلسلة طويلة من عباقرة الكلمة منذ أن تحول الحرف جزءاً من عملية التغيير الاجتماعية، المستهدفة قضايا مصيرية لا غنى للثقافة عن تناولها والتعبير عنها. بل إن السورياليين والعدميين الذين صاغوا نظرية «الفن للفن والثقافة للثقافة»، إنما كانوا يعبرون عن «سياسة» الهرب من قضايا المجتمع ومشاكله!

 

وتصبح المسألة أكثر إلحاحاً عندما تتعلق بدول ما زالت تتلمس هويتها القومية والحضارية. ومن الخطأ هنا (وهذا خطأ مسؤول عنه ذوو «البوصلة المجنونة») إجراء مقارنة بين حال الثقافة في الغرب وكيف يتلقاها المواطن العادي هناك وبين حالها في أمتنا وعالمنا العربي وكيف يتلقاها المواطن هنا. بل إن مثل هذه المقارنة تحمل في طياتها - إضافة إلى الخلل المنطقي الواضح - محاولة خبيثة للانتقاص من قيمة ثقافات العالم العربي لصالح النموذج الغربي المتفوق... دائماً.

 

إذا ركز الغربي تساؤلاته الثقافية حول الأساليب والنماذج والوسائل فإنه إنما يعبّر عن المرحلة التي وصلت إليها المجتمعات الغربية في تطورها المجتمعي. البريطاني لا يتردد في الإجابة على سؤال «من نحن» بالقول إنه بريطاني وثقافته إنكليزية (الاستثناء هو إيرلندا الشمالية ذات الوضع الخاص). لم نسمع أي بريطاني يجيب بالقول إنه بروتستانتي أو كاثوليكي أو يهودي أو حتى مسلم! هو بريطاني اولاً، وهي مسألة محسومة بالنسبة إليه منذ قرون. والشيء نفسه ينطبق على الفرنسي والألماني والإسباني والإيطالي والأميركي (مع استثناءات طبعاً).

 

لكن ماذا عن الأمة السورية وعالمها العربي؟ هل نفتح الملفات لنكتشف عمق أزمة الهوية القومية في كل الديار العربية من المحيط إلى الخليج، أم نكتفي بلبنان مثالاً والعراق نموذجاً؟

 

وأي ثقافة نتوقع من مجتمعات ما زالت تبحث عن نفسها بين أطلال التاريخ والجغرافيا؟

 

ليس من المستغرب أن يركز مواطننا، في تناوله مسألة الثقافة، على الجوانب السياسية (كما عرّفناها أعلاه)، فهو ما زال يبحث عن هويته القومية والحضارية ويأمل في أن يساعده حَمَلَة الأقلام بعملية الاكتشاف القيصرية تلك. خصوصاً إذا كانت السياسة - كما الثقافة - هي فن خدمة أغراض الأمة، لا مصالح الأفراد أو الجماعات المتناحرة كما هو حاصل اليوم.

 

لكن مسكين هذا المواطن، ذلك أن بعض حَمَلَة الأقلام - المفترض فيهم أن يكونوا طليعة مكتشفي الذات - صار كالبوصلة المجنونة بعد أن ضاع منه الحقل المغناطيسي الطبيعي، فشرد وراء سراب الأوهام الاصطناعية!

 

 

 
التاريخ: 2022-11-16
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: الندوة - نشرة الكترونية للندوة الثقافية المركزية، الثاني - 16 تشرين الثاني 2022
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro