مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
المسيحية المشرقية: تحدّيات المعنى والدور
 
أبو زيد، سركيس
 


أخيراً، تعدّدت الأصوات والمنابر التي تُعلن عن اهتمامها بالوجود المسيحي في العالم العربي. آخرها مؤتمر «مستقبل الحضور المسيحي في المشرق» الذي عقد مطلع الشهر الجاري في مقر بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس. كُتب الكثير عن تزايد الهجرة، وبرزت مخاوف من اضمحلال الحضور المسيحي. تأسست جمعيات ومراكز أبحاث تُعنى بهذه المسألة. خصّص الفاتيكان سينودوساً عن الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، وعُقدت محاضرات وندوات وخلوات لدرس هذه القضية. وتعدّدت وجهات النظر التحليلية لمقاربة الأسباب والآفاق.




ارتباك مسيحي بين الغرب والشرق


إن ارتباك المواقف السياسية المسيحية، اليوم، ناتج تاريخياً من أن المسيحيين بشكلٍ عام يتجاذبهم تياران أساسيان:


1- تيار أول مشدود باتجاه الغرب وثقافته ومشاريعه. وبفضل الدعم القوي الذي توفر لهذا التيار، تمكّن من إرباك الجمهور المسيحي على نطاقٍ واسعٍ.


2- تيار ثانٍ متمسك بجذوره المشرقية الأنطاكية العروبية. وقد ظل هذا التيار محصوراً في إطار بعض النخب والأوساط المسيحية.


لكن مع دينامية الطوائف الإسلامية لجهة تزايد العدد وانتشار العلم وازدياد الثروة والنفوذ، ومع تطورات الأوضاع العربية وتأثيرها في لبنان، ازداد الخوف والقلق والتحدّي عند المسيحيين، فنجم عنه ظواهر عدة، منها:


الخوف على الكيان: وقد برز ذلك خاصةً مع الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير 1920-2020: حيث تمحورت الآراء في هذه المناسبة حول موت لبنان أو تجديد دوره ومعناه؟


القلق من الجوار الجغرافي: الكيان الإسرائيلي، فلسطين، سوريا وسائر المشرق، ما أسهم في ازدياد ضياع المسيحيين، وخاصةً مع تراجع سلطتهم وانهيار الدولة وتفكك المجتمع.


الرعب من إرهاب تكفيري إلغائي يبرّر تصعيده من فائض قوة المقاومة، ما يزيد من حيرة المسيحيين وضياعهم في ظل غياب الضمانات والحلول الآمنة والمستمرة...


يجد المسيحيون واقعهم في لبنان بين نزعتَين: انعزالية ومشرقية. وقد تغيّرت نظرتهم إلى الكيان من لبنان الملجأ الضامن تاريخياً لهم، إلى لبنان المرفق للهجرة وساحة حروب أهلية تُهدّد وجودهم.



وجود المسيحية المشرقية نقيض «صراع الحضارات»


لمواجهة كل هذه التحديات، يتعمق السؤال عن الوجود المسيحي في لبنان ومصيره: المعنى والدور بين خيارات المستقبل والنهضة الجديدة.


فهل المسيحية فعلاً في خطر يُواجهها في مهدها؟ وهل يستطيع المسيحيون الشرقيون إعطاء معنى ودور ورسالة لوجودهم في شرقٍ طابعه الغالب إسلامي؟


تحدٍّ وأسئلة تُفتش عن استجابة وأجوبة، وخاصةً بعدما بات الوجود المسيحي في العالم العربي جزءاً أساسياً من أزمة العروبة والعولمة والتحديات الأممية والوطنية.


التحدي الأول والأساسي الذي يُواجه الوجود المسيحي، في العالم العربي عموماً ولبنان خصوصاً، هو تداعيات مقولة صراع الحضارات، كنظرية أحادية لفهم تاريخ البشرية وتفسيره. وتختصر هذه المدرسة الصراع في منطقتنا بأنه بين الحضارة الإسلامية من جهة، والحضارة المسيحية - اليهودية من جهة أخرى. وتشجع الصهيونية والمسيحيون الجدد في الولايات المتحدة هذه النظرية، وتختبئ في ظلّها إسرائيل للاستقواء بالغرب المسيحي عموماً، بغية تحريض المسيحيين على الإسلام.


ولغرض ضبط إيقاع هذه النظرية وإظهار صوابيتها، تعمل القوى المؤيدة لها على إلغاء المسيحيين الشرقيين من العالم العربي والإسلامي. لذلك حيث هناك احتلال إسرائيلي وأميركي نشهد عمليات تهجير للمسيحيين، من خلال التضييق عليهم وتشجيع سفرهم إلى دول أوروبية وأميركية. وهذا ما يحصل فعلياً في فلسطين والعراق خصوصاً، بالإضافة إلى نتائج الصراع على سوريا ولبنان ومصر عموماً، لأن المسيحية الشرقية هي شاهدٌ فعلي على التعددية والتعايش والحياة المشتركة في المشرق العربي. انطلاقاً من ذلك، بات الوجود المسيحي في النطاق الأنطاكي النقيض الوجودي لنظرية صراع الحضارات التي هي مظهر للصراع بين الأديان. والتجربة اللبنانية هي النموذج التعددي والديموقراطي المناقض للدولة اليهودية في فلسطين المحتلة.



دمج الاستعمار الغربي بالعقيدة المسيحية


التحدي الثاني هو تنامي الحركات التكفيرية الإسلامية، التي تسعى إلى إلغاء الآخر المسيحي والإٍسلامي الذي لا يشاركها الرأي والتفسير، وتعمل على طرده من دار الإسلام، بالإرهاب والقتل.


تنطلق هذه الحركات من دمج الاستعمار الغربي بالعقيدة المسيحية، وتُكفّر كل من لا يُوافقها النظرة، إن كان مسيحياً أو مسلماً. هذا التحدي لا يواجه المسيحيين الشرقيين فقط، بل هو تحدٍّ مصيري للإسلام المعتدل أو الليبرالي، كما هو تحدٍّ للعروبة نفسها التي تواجه مأزقاً بين مدارسها، حيث يربط بعضها العروبة بالإسلام. بينما مدارس أخرى تحاول التمييز بين العروبة والإسلام، وتطرح مفهوماً جديداً للعروبة الحضارية التي تعتبر المسيحية والإسلام جزءاً من حضارتها، وتعمل على قيام دولة عربية مدنية ديموقراطية.


يتمثّل التحدي الثالث في انزلاق بعض الفئات المسيحية في لبنان أساساً ولها أصداء في سوريا والعراق ومصر والسودان إلى منطق انعزالي يرتكز على وهْم قيام دولة أو كانتون للمسيحيين، كمخرج وحيد لحمايتهم من البحر الإسلامي، ما يؤدي إلى تحالف بين هذه الجماعات والمخططات الغربية عموماً، وهي الرامية إلى تفكيك المنطقة ضمن مشروع أميركي - صهيوني للشرق الأوسط الجديد، قائم على أساس دويلات طائفية، الغرض منها استغلال خوف المسيحيين من جهة، وتبرير قيام إسرائيل كدولة يهودية من جهة أخرى، ما يحفظ أمنها على حساب الآخرين. أدى هذا المنطق إلى انقسام المسيحيين في ما بينهم وإلى تشرذمهم، وتفتيت وجودهم وتعرّضهم لحملة من المضايقات، وصولاً إلى إحباطهم وتسهيل هجرتهم لأسباب اقتصادية أو لظروف التمييز والقهر. وهكذا أضحى المسيحيون في المشرق بيتاً بغرف كثيرة.



عقدة حروب الفرنج وحلف الأقليات، كيف تستجيب المسيحية المشرقية؟


بداية، لا بد من قراءة تاريخية نقدية لفهم وتجاوز مسألتين أساسيتين:


الأولى: عقدة حروب الفرنجة التي سُمّيت غربياً الحروب الصليبية. وهي في الواقع حملات أوروبية لخدمة المصالح القومية الأجنبية، اتخذت من الدين غطاءً ومبرراً. واضطهدت فعلياً وعملياً المسيحية الشرقية، وحاولت إلغاء خصوصيتها وهويتها من أجل المسكونية. وهي اسم آخر للغربنة، علماً أن المسيحية أساساً هي بنت الشرق. من هنا أصلها وجذورها.


الثانية: عقدة حلف الأقليات، وهي نشأت مع المسألة الشرقية التي اخترعها الاستعمار الأوروبي، من أجل تبرير التدخل في شؤون الرجل المريض أي السلطنة العثمانية وتفكيكها. ورثت إسرائيل هذا النهج وعملت على قيام حلف الأقليات من خلال الاتصال بالقيادات وإيهامها بجدوى هذا الحلف. وسرعان ما تبين أن إسرائيل تسعى إلى المصالحة، وعقد اتفاقيات مع الأكثرية على حساب الأقليات التي استعملتها للضغط عبر التغرير بمشاعرها. ولعل مصير جيش لحد هو أبرزها، إذ عبّر عنه أنطوان لحد بقوله «خدمنا إسرائيل 25 سنة فتخلّت عنا خلال 25 ساعة».



سؤال آخر: ما هو خيار المسيحيين الشرقيين؟


في العودة إلى التاريخ، يتبيّن لنا أنه عندما اختارت نخبة مسيحية أن تكون رائدة في النهضة والحداثة والعلم والعقلانية، حجزت موقعاً متقدماً. وكان لها حضور حضاري متميز. وعندما اختارت الحل العسكري تحولت إلى ميليشيات ألغى بعضها بعضاً، فكانت نكبة على المسيحيين وعلى المجتمع اللبناني المشرقي ككل.


في الخلاصة، على المسيحيين أن يتمسكوا بهويتهم الأنطاكية المشرقية وأن يكونوا شهوداً للحق، كما عبّر أخيراً مسيحيو فلسطين في وثيقة «وقفة حق»، تعبيراً عن لاهوت التحرر والمقاومة ضد الظلم والاستبداد الإسرائيلي.


لقد سبق أن دعا السينودس من أجل لبنان المسيحيين إلى التضامن مع القضايا العربية المحقة، لأنهم جزء أساسي من حضارة العالم العربي ومصيره. لكن الترجمة العملية لهذه الدعوة لا تزال متعثرة. وعلى المسيحيين التمسك بهويتهم المشرقية، والتزام بناء دولة المواطنة والعدالة والمساواة والديموقراطية، لأنها الضامن الوحيد لوجودهم.


نموذج جديد للحضارة الإنسانية


وبهذا المعنى، للمسيحية المشرقية دور ورسالة مسكونية، شرط أن يعي المسيحيون تاريخهم وجوهر وجودهم في هذا المشرق، لأنهم الأقرب إلى المسيح وهم حملة رسالة المحبة والتسامح والخلاص. وهم الأقدر على تقديم نموذج الحياة المشتركة لخلاص البشرية من التصادم والتناقض والحروب والدمار، بعدما أخفقت الحضارة الغربية في إعطاء قيمة للإنسان وللقيم الروحية.


المسيحيون الشرقيون مدعوون إلى تقديم نموذج جديد للحضارة الإنسانية، وخصوصاً بعدما تشيّأت الحضارة الغربية التي تدّعي المسيحية وقضت على البعد الروحي للإنسان.
هم مدعوون إلى أن يكونوا رسل حضارة كونية جديدة قائمة على مرتكزيْن:


1- التعددية الاجتماعية، أي الاعتراف بحق الاختلاف ضمن الائتلاف والتضامن، من أجل القضاء على الفقر والظلم والجهل والاستبداد. لذلك هم شهود على هذه التعددية المتميزة، حيث يتم الالتقاء بين المسيحية والإسلام.


2- أنسنة الحضارة عبر المزاوجة بين البعدَين المادي والروحاني. فللإنسان مصالح وحاجات مادية يجب توفيرها بشكل طبيعي وسليم من دون استغلال أو حرمان أو إفراط. وللإنسان أيضاً بعد روحاني ذو تطلعات عقلانية جمالية نفسية ومُثل عليا وقيم ومناقب، من دونها لا قيمة لأي حضارة أو ثقافة. بالنتيجة ولذلك، يجب:


تفعيل الدور المسيحي ببناء الدولة الوطنية الديموقراطية. فعودة الدور المسيحي الفاعل والبنّاء والمنتج وطنياً ومشرقياً، يبدأ بالإصلاح وإعادة بناء كنيسة البشر لا الحجر.


لقد نال المسيحيون بشكل عام، والموارنة بشكلٍ خاص، امتيازاتهم مكافأةً لهم على إنجازاتهم وتتويجاً لدورهم وريادتهم في عصر النهضة. العودة إلى هذا الدور تستوجب العودة إلى الريادة بإعطاء لبنان معنى جديداً عبر بناء دولة مدنية ديموقراطية ومقاومة لكل ظلم وهيمنة واحتلال، وإطلاق نهضة جديدة في إطار إعادة صياغة علاقات التعاون في مشرقهم؟


فهل يستجيب المسيحيون لهذه التحديات، ويكونون المعنى الجديد في هذا المشرق ويقودون الرسالة والدور الذي دعاهم إليه المسيح، وهم الأقرب منه وإليه؟

 

 

 
التاريخ: 2022-11-17
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 17 تشرين الثاني 2022
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro