مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ذكـرى الدكتـور خليـل سعـاده لعشـرة أعـوام على وفاتـه
 
 
 
الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 75، 15/4/1944
 

في العاشر من شهر أبريل/نيسان سنة 1934 توفي الدكتور خليل سعاده مغترباً في سان باولو، البرازيل.
كان الدكتور خليل سعاده جباراً من جبابرة الفكر. علا بتفكيره عن عصر أمته علواً كبيراً، ولذلك تقطعت الأواصر النفسية بينه وبين أمته، أو بالـحري بينه وبين الـجيل الـماضي والـجيل الـحاضر من أمته، حتى أنه لم يكد يـمر عقد واحد من السنين على وفاته حتى صار نسياً منسياً لا يجري ذكره إلا على ألسن أفراد قلائل رأوا عظمته ولم يفقهوا إلا لـمحات منها!


تخرّج هذا الكاتب والـمفكر السياسي والاجتماعي الكبير دكتوراً في الطب من «الكلية السورية الإنـجيلية» التي كانت أول معهد علمي عصري في سورية، والتي صارت بعد الـحرب الـماضية «الـجامعة الأميركانية في بيروت». ونبغ في هذا العلم حتى أنه كان يُختار لإلقاء محاضرات فيه على الطلبة وهو بعد طالب. وقبل أن يُكمل دروسه الطبية حدثت حوادث سياسية دلت على فطرته الـممتازة، من أهمها حادث الانشقاق الذي جرى بين بعض أساتذة معهد الطب في الكلية الـمذكورة وبقية عمدة الكلية بسبب النزاع على اللغة التي يجب أن تكون الرسمية لتعليم الطب. فبعد أن سارت الكلية الـمذكورة على قاعدة تعليم الطب باللغة العربية والتي هي لغة السوريين في هذا الزمن ارتأى معظم رجال إدارتها الأميركان أن يجعلوا اللغة الإنكليزية لغة التعليم لهذا الفرع العلمي، فتصدى لهذا الرأي الأستاذ الأميركاني الكبير الـمقسرين الدكتور فنديك الذي أحب السوريين ولغتهم وبلادهم ووهب بقية حياته لسورية وأدبها، وتألّب حوله فريق من طلبة الطب في طليعتهم الطالب خليل سعاده وأحدثوا ما عرف باسم «الثورة الـمدرسية» ضد قرار عمدة الكلية. وعُرف الطالب خليل سعاده بقوة منطقه وفصاحة لسانه في الـمواقف الـخطابية فصار خطيب الثورة التي استفحل أمرها وأوجدت الانشقاق الفعلي، فصار حزب اللغة العربية يدرس الطب على فنديك منفصلاً عن بقية طلبة الكلية الذين ظلوا موالين لها. ولكن ضعف النفوس ووهن العزائم وفقد الـمطالب العامة الكبرى جعلت عدداً من طلاب فريق الثورة يرتد. وكان من الذين وافقوا قرار عمدة الكلية من الطلبة والـمتخرجين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نـمر صاحبا مجلة الـمقتطف. وشيئاً فشيئاً فقدت صفوف الثورة وحدتها وانحلّت.


تلا هذا الـحادث أمر تسليم الدكتور بوست مجلة الطبيب، التي كان يصدرها في بيروت، إلى الشيخ إبراهيم اليازجي والدكتور خليل سعاده والدكتور بشارة زلزل.
في مجلة الطبيب ظهرت مواهب الدكتور خليل سعاده العلمية والأدبية. فأنشأ الـمقالات العلمية الـجليلة واشترك اشتراكاً فعلياً بيّناً في تلك الـمناظرة القوية العنيفة بين مجلة الطبيب في بيروت ومجلة المقتطف في القاهرة التي لم تنتهِ إلا على أثر رسالة تهكمية لاذعة أنشأها الدكتور خليل سعاده في اسطمبول وهو يقدم امتحاناته الطبية لدى الـمكتب الطبي العثماني وطبعها هناك وفيها رد قوي على ما ورد في مقالة في مجلة المقتطف من القدح في صديقه الشيخ إبراهيم اليازجي وفيه.


وفي هذه الـمجلة استحكمت الصداقة بينه وبين العالِم اللغوي الطيب الأثر الشيخ إبراهيم اليازجي وتـماشيا في الأسلوب الذي طبع مزاياه على أدب اللغة العربية الـحديث.
بعد هذه الأمور وجّه الدكتور خليل سعاده عنايته إلى الـمشاريع النافعة لوطنه فسعى لإنشاء مصح للسل في لبنان. ومُثّلت في بيروت رواية لشكسبير أرصد ريعها لتحقيق مشروع الـمصح. فجرّت أمور الرواية إلى اصطدام داوٍ مع قنصل فرنسة في بيروت. السبب هو رفض قنصل فرنسة دفع ثمن التذكرة التي عرضت عليه وقبلها قبل موعد الـحفلة. وبعد الـحفلة أخذت اللجنة الـمالية تسعى لقبض ثمن التذاكر التي بقي تـحصيل ثمنها لبعد الـحفلة. فلما طولب قنصل فرنسة بثمن التذكرة قال إنه لا يدفع لأنه عدّ الأمر دعوة شرفية له. فعادت اللجنة إلى الدكتور خليل سعاده وأخبرته بجواب القنصل فأعاد الدكتور إلى القنصل برد صريح خلاصته أنه لم توجه إلى قنصل فرنسة أية دعوة رسمية ليحضر الـحفلة بصورة شرفية، وأنه يجب عليه أن يدفع ثمن التذكرة الـمقيدة في جدول الـمبيع. فأصر القنصل الفرنسي على موقفه وأصر الدكتور خليل سعاده على موقفه واحتدم الـجدل بين الفريقين. وأخيراً تشكلت لـجنة سعت للتوفيق بينهما وبعد أن زارت اللجنة القنصل الـمذكور عادت تعرض على الدكتور خليل سعاده التساهل تـجاه تصلب القنصل الفرنسي منعاً لـحصول «عواقب سيئة» فأثار هذا الطلب غضبة الكرامة في الدكتور خليل سعاده وقال لسعاة الصلح إنه لا جواب عنده غير ضرورة تأدية القنصل ما عليه.


رأى الدكتور خليل سعاده أنّ موقف قنصل فرنسة قد تعدى مسألة حساب مالي بسيط كان يجب أن يصفّى في الـمقابلة الأولى مع أحد أفراد اللجنة إلى مسألة نفوذ أجنبي وامتيازات أجنبية لا تريد أن تراعي كرامة الوطنيين وحقوقهم وشعورهم، فرأى أنّ صدم النفوذ الأجنبي ورفع شعور الكرامة الوطنية لازمان وضروريان. فأنشأ كتاباً مفتوحاً وجّهه إلى قنصل فرنسة وسلّمه إلى الـمرحوم خليل سركيس صاحب جريدة لسان الحال التي كانت أهم جريدة في سورية في تلك الأيام. فلم يقبل السيد سركيس، على الفور، أن ينشره وقال للدكتور خليل سعاده متعجباً «أضد قنصل فرنسة، يا دكتور؟» وبعد أيام من التفكير والاستشارة قَبِل السيد خليل سركيس أن ينشر الكتاب الـمفتوح الذي أحدث نشره ضجة عظيمة في بيروت وجميع أنحاء سورية.


كان ذلك الكتاب أول صدمة من سوري وطني لذي نفوذ أجنبي في صميم نفوذه. كان الأمر عظيماً جداً. فقد كانت فرنسة عند الطوائف الـمسيحية الكاثوليكية في سورية بـمثابة ظل الله على الأرض. كانت فرنسة «حامية الدين» و «حامية الـمسيحيين» في سورية. وكان شائعاً عند الـموارنة الاعتقاد أنهم فرنسيو الأصل من بقايا الصليبيين، وأنّ فرنسة تـحنّ إليهم كما يحنّون إليها. وكانت السياسة الفرنسية ترغب في تقوية هذا الشعور واستغلاله وكان على مـمثليها في سورية أن يعملوا كل ما في وسعهم لإلقاء هيبتها في النفوس. وكانت تركية في حالة «الإنسان الـمريض»
كان من يقف في وجه قنصل فرنسة في ذلك الزمن كمن يقف في وجه الآلهة. لم يطل الوقت حتى بلغت مسامع الدكتور خليل سعاده أنّ الإكليروس الـماروني يتآمر بالاتفاق مع قنصل فرنسة على حياته فلم يعبأ بهذه الإشاعة إلى أن دعاه متصرف جبل لبنان (والأرجح أنه كان مظفر باشا) وأطلعه على خطورة الـمسألة التي أثارها كتابه الـمفتوح إلى قنصل فرنسة ورجاه أن يخرج من البلاد مدة لأن حالة الدولة العثمانية لا تسمح لها بـمواجهة مشاكل سياسية جديدة!


حمل تصريح متصرف جبل لبنان الدكتور خليل سعاده على مغادرة سورية فسافر إلى مصر وأمَّ القاهرة وانضم إلى مجالس عليّة أدباء سورية ومصر الـموجودين في القاهرة، فاجتمع هناك بأصدقائه الأدباء والعلماء كالشيخ إبراهيم اليازجي والدكتور شبلي شميل وغيرهما.
في مدة قصيرة سطع نور أدب الدكتور خليل سعاده وعلمه في مصر كما كان سطع في سورية فذاع صيته وأقبل الناس على مقالاته في جريدة الأهرام وغيرها. وقد جعله نبوغه على اتصال بـمعظم رجال السياسة الـمصريين فكان صديقاً لعرابي باشا الشهير ولسعد زغلول باشا وغيرهما.


في مصر كثر إنتاجه الأدبي والعلمي فألّف قاموس سعاده الإنكليزي - العربي، الذي شهدت جميع الـمؤسسات العلمية في سورية ومصر أنه أدق وأكمل ما جمع من مفردات اللغتين واصطلاحاتهما في جميع فروع العلوم والفنون. وألّف كتابه الطبي في السل الرئوي وعلاجه والوقاية منه وكان يريد أن يكمل عمله في ترجمة مفردات اللغتين العربية والإنكليزية ومصطلحاتهما بوضع قاموس عربي - إنكليزي. ولكنه سافر إلى الأرجنتين في أوائل سنة 1914 ونشبت الـحرب العالـمية تلك السنة فبقي في الأرجنتين كل مدة تلك الـحرب.


في الأرجنتين صرف عنايته إلى القضية الوطنية والـمسائل السياسية والاجتماعية. فأنشأ في هذه البلاد الـمجلة وألّف أبحاثاً جليلة نشرها فيها وتناول في هذه الأبحاث قضايا ذات خطورة عظمى للتطور الاجتماعي والتقدم الفكري، وأبدى من الآراء السديدة والنظريات الصائبة ما يُعدّ مع ما أضافه إليه في البرازيل، أفضل ما كتب الدكتور خليل سعاده وخلّفه لأبناء أمته ليستفيقوا ويستنيروا.
من القضايا الاجتماعية القومية التي حللها تـحليلاً لم يسبق له نظير قضية النزاع الديني والتعصب الديني الـمميت عند السوريين، ومن أهم القضايا الاجتماعية على الإطلاق، التي وضع في بحثها قواعد نظرية خطيرة، الاستبداد أو الطغيان وطبائعه وعواقبه في الـمجتمع الإنساني. وفي بحثه الـجليل «فلسفة الـجوع» أظهر مدى نتائج الاختلال الاقتصادي وتولّد القوة الساحقة من الضعف البالغ أقصى حدوده. وكتب في الـمجلة والـجريدة التي أصدرها، فيما بعد، في البرازيل مقالات عديدة ليوقظ الشعور الوطني في السوريين، وعالج مسائل سورية السياسية، ووصف تطوراتها الأخيرة منذ الـحرب العالـمية الـماضية أبدع وصف، خصوصاً في سلسلة مقالاته «سورية وفرنسة أثناء مؤتـمر الصلح».


وقد ذاع صيت الدكتور خليل سعاده في إنكلترة حيث طبع مؤلفه بالإنكليزية قيصر وكليوبطرا. وهو رواية تاريخية عرض فيها لأدق الـمسائل والنظريات السياسية والإدارية والأخلاقية التي وضعها مقتل القائد الرومي، يوليوس قيصر، على بساط البحث. وقد تـحدَّى في تلك الرواية رأي شكسبير الـمقدس عند الإنكليز وفضّل رأي غوته في مقتل يوليوس قيصر عليه وحلل، في سياق الرواية، سيرة يوليوس قيصر تـحليلاً جلا فيه آراء ونظريات في غاية الأهمية. واهتمت الصحافة الإنكليزية لذاك الـمؤلَّف اهتماماً عظيماً، وعقدت في التعليق عليه الـمقالات الطويلة.


قتل وسط السوريين الـمغتربين الـمادي روحية الدكتور خليل سعاده العظيمة وعلمه وأدبه، وطمس نبوغه ودثر أثره. وقد كان الدكتور خليل سعاده يتوقع هذه النتيجة فطالـما تأوه من عماوة «الشرقيين» وشراستهم، وشبّه الشرق بالغول الذي يفترس بنيه، لأن السوريين كانوا ينهشون نوابغهم بأنياب أنانياتهم ومخالب الغايات الدنيئة التي عشقتها نفوس جيل فاسد.


مات الدكتور خليل سعاده، قبل أن تنفد قواه ويرزح جسده، مغترباً في البرازيل، نافخاً، حتى آخر نسمة من حياته، في بوق اليقظة والطموح القومي، يائساً من الـجيل الذي حوله، الذي له آذان ولا يسمع وله أعين ولا يبصر!
مات الدكتور خليل سعاده في العاشر من أبريل/نيسان سنة 1934 غير عالم أنّ رجاءه في أمته ووطنه كان أعظم أثراً من يأسه من جيله!


لم يتح للدكتور خليل سعاده أن يرى رجاءه يتحقق بنشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أنشأت لسورية جيلاً جديداً ووضعت قواعده حياة جديدة. ولكن روحية الدكتور خليل سعاده، ذاك الرجاء العظيم الذي خفق به قلبه، تلك الـمطامح النبيلة التي جرى بها قلمه، هاتيك الأخلاق الكريـمة التي ملأت فضاء حياته، لم يعد مـمكناً أن تضيع، وتهلك، لأن الأمة السورية قد استفاقت وأخذت تـميّز بين من أراد لها الـحياة الـجيدة ووثق بجودة جوهرها ومن أراد لها الـموت وأخذ يكرس باليأس منها!

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro