مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​الفصل الثالث الأرض وجغرافيتها
 
 
 
 

أهمية الأرض للحياة

لو كان بحثنا في فلسفة العلم الطبيعي لكان من حق هذا الفصل أن يتقدم جميع فصول هذا الكتاب لأن التعليل العلمي يقرر، أو يرجح، أسبقية الأرض على الحياة. فإننا لا يمكننا أن نتصور تصوراً أشبه باليقين حياة شبيهة بحياتنا وكائنات حية شبيهة بكائناتنا الحية إلا على سيّار شبيه بسيّارنا. والذي لا شك فيه أنّ وجود الأرض (الكرة الأرضية من ماء ويابسة) شرط أوّلي لوجود الحياة التي نعرفها، والبرّ خاصة شرط أوّلي لوجود ذوات الجهاز التنفسي، أي للحيوانات البرية، وخصوصاً ذوات الأثدية.

ومهما يكن من شيء فإننا لا نعرف الحياة إلا على الأرض ولا نعرفها تقدمت إلا بتقدم الأرض في الصلاح للحياة.


إذا كانت الأرض شرطاً أوّلياً للحياة فلا شك أنها إذاً شرط أوّلي لوجود النوع الإنساني وبقائه. فليس للإنسان حاجة من حاجات الحياة يستطيع سدها إلا مما هو في الأرض. خذ الغذاء والماء، وهما حاجة كل حي، فمصدرهما الأرض وما عليها. والحياة ليست متوقفة على الغذاء والماء فقط، بل هنالك أيضاً درجة الحرارة أو البرودة ومعدل الأكسجين في الهواء. ومن هذه الوجهة نرى أنّ الأرض، مع كونها وحدة جوية، مقسمة بحسب طبيعتها إلى أقاليم تتنوع فيها مقومات الحياة وتتفاوت، وفي بعضها تنتفي بالمرة كما في القطبين، فالبرد فيهما يبلغ درجة لا قِبَل للإنسان بها، وتتعذر فيهما الحياة بجميع أشكالها.

 

الطبيعة والإنسان
قلنا إنّ الأرض شرط أوّلي للحياة عموماً. ففيها أو عليها تعيش جميع الكائنات الحية التي نعرفها. ولكننا لو وقفنا عند هذا الحد من تقرير علاقة الطبيعة بالحيوان والإنسان لما كان من وراء ذلك فائدة جديدة في تقدم مداركنا العقلية في تفهّم أسباب حياة الحيوان والإنسان.


تختلف علاقة الطبيعة بالنبات والحيوان عنها بالإنسان. فالعلاقة الأولى علاقة مفردة أو وحيدة الطرف، فالأرض تُعِدُّ حاجة النبات والحيوان الحيوية. وليس لأحدهما عمل مقصود لتكييف الأرض وإعداد مقومات الحياة. خذ الحيوان الذي هو أقرب إلى الإنسان، فهو لا يعرف إلا سدّ الحاجة مباشرة أو جمع الغذاء. كذلك فإذا وجد في بيئة ما يسد حاجته مباشرة بقي فيها وإلا انتقل إلى غيرها. أما علاقة الطبيعة بالإنسان فهي مزدوجة. ففي الدرجة الأولى نجد أنّ بيئة الإنسان الطبيعية هي التي تمده بالمواد الخام اللازمة له لإرضاء شعوره بالحاجة. وهي في الدرجة الثانية مشهد أعماله وسعيه لبلوغ إربه مداورة (غير مباشرة). ومن هذه الوجهة نرى أنّ امتياز الإنسان على الحيوان في سد حاجته مداورة - بإعداد الأدوات للصيد والقتال والبناء وغير ذلك - جعل علاقته بالأرض أمتن من علاقة سائر الكائنات الحية بها، إذ هو يقدر على معالجتها مباشرة، فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع. وحيث بعض الحبوب والنباتات واللحوم لا تصلح لتناولها مباشرة يعمد الإنسان إلى معالجتها بالطبخ والشيّ. فالأرض تكيف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقية الحيوانات في تنازع البقاء. يكيف الإنسان الأرض ولكن الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية. وفي الوقت الذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيوية يجد نفسه مضطراً لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النازل فيها.

 

أهمية البيئة للإنسان
قلنا إنّ الأرض مقسمة بحسب تكوّنها إلى أقاليم وبيئات ولكل إقليم خصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر، ولكل بيئة خصائص تتميز عن خصائص البيئة الأخرى. وهذه الخصائص هي التي تعيّن وجهة تقدم الإنسان في سد حاجاته مداورة - أي مدنيته. بل إنّ البيئة هامّة لتقدم الإنسان بقدر ما هي الأرض عموماً هامّة لحياته. ولـمّا كانت البيئة جزءاً من الأرض فهي هامّة لحياة الإنسان أيضاً. فمن جميع المواد التي يتطلبها الإنسان لحياته لا توجد مادة واحدة تمد الطبيعة بها إمداداً مستمراً في كل مكان بشكل يسد حاجة الحياة مباشرة أو مداورة. وهذا ينطبق حتى على الهواء. فالمرتفعات العالية جداً كجبال الأندس في أميركة وجبال آسية الوسطى تبلغ من العلو طبقة من الهواء يقل فيها الأكسجين عن المقدار الضروري للحياة والعمل، فالتنفس فيها صعب ومتسلّقها لا يلبث أن يسقط فريسة «دوار الجبل». ولـمّا كان الإنسان يتميز عن الحيوان بسد حاجاته مداورة، أي بالعمل بالأدوات لإعداد الحوائج، فالبيئة الطبيعية من الأهمية في المكان الأول، لأنها هي التي تمده بالمواد الخام اللازمة لصنع أدواته وإعداد معداته.

 

البيئة والجماعة
إنّ تقسّم الأرض إلى بيئات هو السبب المباشر لتوزع النوع البشري جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدد الجماعة، لأن لكل بيئة جغرافيتها وخصائصها، كما مرَّ بك.

فلو أنّ الأرض كانت سهلاً منبسطاً في درجة واحدة من الحرارة والرطوبة، خالياً من الحدود الجغرافية من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهي أن يؤدي انتشار النوع البشري فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة. ولكن الحدود الجغرافية الطبيعية جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقاً للبيئات الجغرافية، التي لولاها لما استطعنا تفسير ظواهر المدنيات المختلفة.


تحدد البيئة الجماعة من عدة وجوه: أولها - حدود الإقليم الجغرافية. ثانيها - طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها - شكل الإقليم (طبغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره. فالحدود الجغرافية تضمن وحدة الجماعة، لأنها تجمعها ضمنها، وتكون العامل الأول في المحافظة عليها، لأنها الحصون الطبيعية في وجه غزوات الجماعات الأخرى(1).


ونحن نرى ذلك، لا في المجتمعات الأولية فقط، بل في الأزمنة التاريخية أيضاً. فلولا جبال الألب الفاصلة بين بلاد الجلالقة (فرنسة) وإيطالية، لما كان أصاب جيش هاني بعل [247 -  183ق.م] (هاني بال)، أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم، ما أصابه من التشتت والضعف حين زحف على رومة. ولولا هذه الجبال نفسها لما وجد أخوه القائد الباسل حسدروبعل نفسه في ذلك المأزق الحرج الذي انتهى بقتله وتقرير مصير قرطاضة. وطبيعة الإقليم تميّز الجماعة بما تكسبها من لون وشكل، وبما تمدها به من المواد الخام لسد حاجاتها الحيوية من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنية الجماعة المستقلة مستمدة من بيئتها لأن الاستنباط والتكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطبيعية، موافقين لها. فلا يمكن، مثلاً، أن تكون العجلة التي كان اختراعها خطوة كبيرة في ارتقاء التمدن، قد استنبطت في الصحراء، لأن استنباطها يقتضي وجود أخشاب صلبة كالسنديان وغيره مما لا وجود له في الصحراء. وهي لا يمكن أن تنتشر بجميع أشكالها في الصحراء، لأنها لا توافق خصائص رمالها.


وإنّ من الأمور المقررة التي قد تبدو غريبة ولكن غرابتها لا تمنع من أن تكون واقعة، أنّ المادة تعيّن الشكل. فمما لا شك فيه أنّ لكل مادة خصائص من شكل وحجم وصلابة تعطي صفات معيّنة للأبنية والأدوات المصنوعة منها. ونتيجة ذلك أنّ المواد التي تستمدها النزالات البشرية من بيئاتها وتستعملها في أغراضها تحمل طابع بيئاتها، فيكون لكل بيئة موادها المتشكلة بأشكال خاصة توافق طبيعتها وتزيد في خصائص مظهر بريّتها كما تزيد منازل اليابان الخشبية في خصائص مظهر بريّتها، وأنّ الذوق الصيني والياباني في البناء، الذي يطبع مدنية هذين الشعبين بطابع خاص في أشكال منازلهم، عائد بالأكثر إلى أنّ اختبارهم في البناء والتزيين كان في الخشب المستخرج من أشجارهم الكثيرة. وويدال دلابلاش يعطينا صورة من توافق الأبنية الخشبية المصنوعة من مواد الشجر الدائم الاخضرار والبيئة الطبيعية في اليابان(2). أما في الأقسام الجديبة من بلاد الكلدان وشوشان وسيستان وآسية الوسطى فالقرى والمدن أيضاً قد بنيت من الطين واللِّبن فقط(3).


وهكذا نرى الجماعات البشرية قد تأثرت كل جماعة منها بمواد بيئتها وجرت على أساليب توافق طبيعة هذه البيئة، فتنوعت أساليب الجماعات ومجاري حياتها حسب تنوع بيئاتها. وهكذا نرى أنّ تاريخ علاقة الجماعة بالأرض، المستمد من «الجلالي» المغروسة بأصناف الفاكهة والسهول المزروعة بأنواع الحبوب هو غير التاريخ المستمد من الصحراء القاحلة والأراضي الجديبة.


ولشكل الإقليم تأثير عظيم في تمييز الجماعات بخصائص مادية ومعنوية. فليس المناخ، أو طبيعة الجو فقط، العامل الوحيد في تكييف الإنسان، فالتربة وشكل الإقليم - أشكال الأديم فضلاً عن ترابط اليابسة والماء - هكذا البيئة التي تؤثر على الإنسان(4). فالبيئة الجغرافية المؤلفة من سهل منبسط فسيح تكسب جماعتها تجانساً قوياً يختلف في نوعه عن تجانس أهل البيئة المؤلفة من جبال. والتجانس في هاتين البيئتين يختلف اختلافاً قوياً عن التجانس الذي أسمّيه «التجانس التنوعي» الناتج عن بيئة جغرافية متنوعة الأديم من سهل وجبل وساحل.


وقد أشرنا في الفصل السابق (ص 22 أعلاه) إلى تأثير البيئة الطبيعية على لون البشرة، ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطبيعية في أشكال الهيئة غير السلالية تأثير قوي جداً فقد ذكر بواس(5) أنّ البيئة تؤثر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدي إلى اتجاه واحد بناءً على أنّ لكل عضو «حدود سلامة» يتكيف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة، فيتخذ الهيئة التي تتطلبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته. فإذا جئنا بشخصين متباينين إلى بيئة واحدة فقد يتشابهان في الإجابة العضوية على المحرضات البيئية حتى أنه قد يتراءى لنا حدوث تشابه أشكال تشريحية متميزة ناتج عن البيئة، لا عن التركب الداخلي.


نرى مما تقدم أنّ البيئة تُعِدُّ الفوارق الشكلية أيضاً للجماعات البشرية، وأنّ الترابط بين الجماعة والبيئة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميزات العمران والاتجاه التمدني متين جداً.

 

البيئة وشخصية الجماعة
وإنّ من أهم مؤثرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنها أهم عامل في تكوين «شخصية الجماعة». والسبب في ذلك هو الارتباط الوثيق المولِّد حق الوراثة واستمرار التشابه الشكلي الذي تكلمنا عنه آنفاً. فلنتكلم الآن على الوجه الأول من هذا السبب.


إنّ تأثير امتلاك أرض أو عقار في شخصية الممتلك شديد جداً، بل إنّ الأرض أو العقار جزء من شخصيته. إذ لولاه لكانت طريقة معاشه ومرتبته ونوع حياته على غير ما تكون عليه مع هذا الجزء. وإذا استمر العقار في العائلة بحكم الوراثة صار جزءاً من شخصية العائلة، به يثبت مركزها ويُحفَظُ مقامها. ومن هذا نستنتج أنّ المُلك قد يكون أهم ما في الشخص المالك، بل أهم منه، لأن الشخص زائل والمُلك هو الباقي على التوارث. فإذا كان رجل يملك أرضاً زراعية، مثلاً، تكفيه وعائلته، كانت شخصيته ورتبته الاجتماعية موقوفتين على ما يملك حتى إذا زال من يديه تغيّرت شخصيته ورتبته. هكذا، مثلاً، حدث لأمراء الروس حين جرّدتهم الثورة البلشفية [1917] من أملاكهم فخرجوا إلى العالم سائقي سيارات وخدماً بعد أن كانوا أمراء. وهكذا الجماعات شخصياتها مرتبطة بالأرض التي تملكها ارتباطاً وثيقاً، بل قوام شخصياتها البيئة - الوطن.

 

البيئة وتاريخ الجماعة
من الحقائق المقررة علمياً وقام عليها البرهان الاختباري أنه يستحيل نشوء جماعة زراعية حضرية في الصحراء. وفي حين أنّ الوادي الخصيب يدفع الجماعة إلى الفلاحة والزرع، فهو ليس صالحاً، عادة، لإقامة البدو. وإذا كنا نرى في هذه الحقيقة برهاناً على أهمية الأرض الأساسية في تمييز الجماعات البشرية، فإننا نرى من الوجهة الأخرى أنه لا بد للأرض من جماعة مؤهلة للاستفادة منها. فحيث كانت الأرض خصبة والجماعة البشرية عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، كما هو الواقع في أودية أميركة الخصبة التي ظلت عديمة العمران إلى أن جاءت أميركة أقوامٌ جديدة راقية في خبرتها بطبيعة الأرض واستعدادها للاستفادة منها(6).

ومن هذا نستنتج أنّ الطبيعة والجغرافية هما الطبقة الداخلية في تاريخ حياة الإنسان، فمع أنهما تميّزان الجماعة تمييزاً واضحاً فإنهما، فيما يختص بتاريخ الجماعة، لا تقدمان الاضطراريات إلا نادراً وفي حالات استثنائية ولكنهما تقدمان الإمكانيات(7). إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية، التي، مع أنها تتأثر كثيراً بعامل البيئة، إما أن تستفيد من القاعدة الطبيعية، شأن الجماعات الراقية، وإما أن تهملها على حسب استعدادها وإرادتها. وإذا عدنا هنا إلى ما أثبتناه في بداءة هذا الفصل (ص 31 أعلاه) فالقاعدة التي يمكننا أن نستخرجها من هذا البحث هي: لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة.

 

هوامش الفصل الثالث: الأرض وجغرافيتها

(1) يصوّر كميل جوليان في كتابه تاريخ بلاد الجلالقة هذه البلاد «منطقة فسيحة... ذات حقول محروثة في الوسط، مصونة على أهدابها بحواجز متلاصقة إما من غابات أو مستنقعات.» نقله دلابلاش، ص 62
 
(2) المصدر نفسه، ص 239. وفي كولمبية البريطانية نجد مدنيتها القديمة قائمة على الخشب. فمنه المنازل والأدوات جميعاً. وفي النزل أو الفنادق المدلول عليها بأنصاب خشبية أمامها لا يعرف الخزف، فالطعام يطهى في مواعين خشبية على أحجار محماة.
 
المصدر نفسه، ص 207
 
(3) المصدر نفسه، ص 245
(4) المصدر نفسه، ص 459
(5) بواس، ص 47
(6) ماير، ج 1. ق 1. ص 65
(7) المصدر نفسه، ص 66
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro