مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​الفصل الخامس المجتمع وتطوره
 
 
 
 

المجتمع البدوي أو المتوحش


رأينا في ختام الفصل السابق أنّ الاجتماع البشري يقسم إلى شكلين رئيسيين: الاجتماع الابتدائي (Primitive) والاجتماع الراقي(1). والشكل الأول هو من خصائص السلالات الأولية والشعوب المنحطة المتبدية من السلالات الراقية. والشكل الثاني هو من خصائص السلالات التي أنشأت المدنيات أو أخذت بها. ومن هذه القسمة التصنيفية التي تقودنا إليها الملاحظة الدراسية، نرى أنّ النوع البشري يظهر، من الوجهة الاجتماعية، بمظهرين متباينين نوعاً ومتميزين دائماً، هما: مظهر المجتمع المتوحش أو البدوي، ومظهر المجتمع العمراني أو المتمدن.


والتوحش أو البداوة إحدى حالتين: إما حالة وقف التطور والجمود، وهي حالة السلالات الأولية المتوحشة. وإما حالة التطور نحو الانحطاط، إنْ بعامل انحطاط البيئة كما هو الراجح في بلاد العرب(2)، وإنْ بعامل الرجوع إلى حالة معيّنة كالصيد ورعاية الماشية أو نحو ذلك(3). ومهمـا يكن من الأمر فإن الاستقرار على حالة التوحش والبداوة يُخرِج المجتمع المتوحش أو البدوي من دائرة التطـور بالمعنى الصحيـح، ويكـاد يُخرِجـه من نطـاق هـذا الفصـل. ولكـن رغبتنــا في جعـل البحـث أتـم وأوفى بالغرض يجعلنـا نتناول حقائق هذا المجتمع قبل أن ننتقل إلى المجتمع العمراني المتطور الذي سيستغرق كل عنايتنـا في سيـاق هـذا الفصـل والفصول التاليـة.


إذا كان المجتمع المتوحش أو البدوي لا يتطور تطوراً بالمعنى الصحيح فلا شك في أنه حالة من حالات التطور البشري الاجتماعي لها خصائصها التي يحسن بنا أن نفهمها.


خصائص المجتمع البدوي
لا بد لنا، قبل الخوض في موضوع هذا الفصل، من تقرير حقيقة ضرورية لفهم تركيب المجتمع والأحوال الاجتماعية على إطلاقها وفي أكثر أشكالها تعقداً، هي حقيقة الضرورة الاقتصادية للاجتماع البشري. فالرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان أو الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه؛ فلا نستطيع أن نتصور مجتمعاً يقوم على غير أساس التعاون الاقتصادي لسد الحاجة مداورة، تعويضاً عن نقص وجود المادة المحتاج إليها. وقد أشرنا إلى هذه الحقيقة في بداءة الفصل الثالث. ونزيد هنا أنّ كيفية تركّب الإنسان تجعل حياته تتوقف على سد حاجاته مداورة، أي بالعمل والواسطة، فهو دائماً مضطر لإرضاء دافع الارتقاء والتعويض عما فقده من سرعة الجولان وقوة الوثب وتكوّن المخالب بإعداد أداة الدفاع والصيد والمعزق. وهذا يتطلب منه التعاون في الصناعة وفي السعي لمطاردة الفريسة والإيقاع بها وفي الزراعة. ولابن خلدون بحث قيِّم في التعاون في مقدمته المشهورة [المقدمة، الفصل الأول من الكتاب الأول. «في العمران البشري على الجملة» ص46 - 48]. فالاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع، حتى أننا نرى الحالة الاقتصادية تؤثر على الحالة البيولوجية أحياناً(4). والتطور الاجتماعي هو دائماً على نسبة التطور الاقتصادي.


يمكننا الآن أن نتقدم بارتياح إلى النظر في خصائص أو مزايا المجتمع البدوي والمتوحش. وأول ما نلاحظه في هذا المجتمع أنّ مستواه الاقتصادي لا يزال على درجة ابتدائية بحتة، فهو لا يعلو عن درجة سد حاجة الحياة مباشرة إلا قليلاً. ومن مظاهر هذه الدرجة فقدان الصناعة أو وقوفها عند حد صنع بعض الأدوات الضرورية، خصوصاً الخشبية منها، كالأوتاد والركائز والعصي وجَدْل بعض الأعشاب والنباتات لسقوف وحيطان الأكواخ (الجماعات الأولية)(5) ونسج الوبر والشعر للخيم وبعض اللباس (الجماعات المنحطة المتبدية). وأسباب عيش الجماعات التي على هذه الدرجة تقتصر على الضروري ويندر أن تتعدى إلى الحاجي فضلاً عن الكمالي(6). فكثير من الجماعات الأولية تطلب سد الحاجة مباشرة أو بمداورة قليلة. وحاجاتها تقف عند حد الحصول على البُلْغَة ونقع الغلة ومدرأ واقٍ من العوارض الجوية وغدر الحيوانات المفترسة. وعلى ما يقارب هذا الجماعات المنحطة المتبدية. وهمّ مثل هذه الجماعات هو غالباً في الصيد وجمع القوت النباتي النابت من تلقاء نفسه (عمل النساء) وزرع بعض الحبوب على كيفية أولية رديئة. وفي شرقنا الأدنى نرى العرب يسدّون حاجاتهم المعاشية مباشرة، أو بما يشبه المباشرة، كتناولهم لبن النوق والتقاطهم التمر. وتربية الجمال أهم شؤونهم الاقتصادية. وترتقي حياتهم إلى رعاية الماشية وتربية الخيل. وبيوتهم شعر ووبر وكذلك لباسهم. ويجمعون إلى ذلك زراعة أولية يتولاها أهل المدر منهم.


وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعية هي، بحكم الضرورة، متابعة لأحوالهم الاقتصادية ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعي يقوم على الرابطة الدموية المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النظام ككل فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي أنّ قيمته هي في الغالب عددية عامة لا نوعية خاصة، لأن فقد العمران ونقص المطالب الحاجية والكمالية يبطلان المواهب الشخصية وينفيان المزايا الفردية. وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشخصية والمُلك الفردي وإذا وجد شيء من ذلك فهو في صورة أولية غامضة. ومن درسنا أحوال العرب الذين هم في جوارنا نرى أنّ الفرد لا يكون عندهم سوى وحدة عددية في القبيلة، سواء في ذلك أهل الوبر وأهل المدر، والانتساب إلى إحدى القبائل هو ضرورة(7) ومن هذه الحقيقة ندرك أهمية الثأر الذي يعني حق القبيلة لا حق الفرد كما سيجيء. ويُرى فقدان المُلك الشخصي عندهم في أنّ الفرد لا يمكنه الاعتماد على نفسه في الدفاع عن الممتلك وفي أنه إذا فقد أحد مقتنياته توجّب على بقية أفراد القبيلة أن يعطوا كل واحد من ماله ما يعوض على الرجل خسارته(8).


ونوعا هذه الجماعات الأولي والبربري يشتركان في العادات الاجتماعية والأذواق بحكم مستوييهم الاقتصاديين المتقاربين. فترى الضيافة التي تفرضها عليهم أحوال معاشهم صفة عامة عندهم على السواء، وكذلك تعاملهم فيما بينهم، وخصوصاً معاملتهم المرأة(9). وما يروى، مثلاً، عن كرم العرب وفروسيتهم والشعور بالشرف عندهم وضيافتهم، يروى مثله عن أهل بلاد النار (ترادلفويغو) وهنود أميركة والفيجيين والطنغوسيين(10) فهذه الصفات المشتركة تظهر بقوة في الشعوب التي لما تحركها الثقافة الزراعية التجارية، وساعدتها أحوال معاشها الضيقة على حصر قواها النفسية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطعم. فهم، لجوعهم، يزدردون الطعام بطريقة لا تسمح بالتلذذ به على حد الجماعات الراقية، حتى أنّ بعض العلماء يذهب إلى جعل درجة لذة الطعم في عداد الفوارق بين الأقوام الأولية والشعوب الراقية. وجميع هذه الجماعات أو المجاميع لا تعرف توزيع العمل الذي هو من خصائص المجاميع المتمدنة(11).

 

ومهما ارتقت اجتماعية هذه الجماعات فهي لا تبلغ إلى هذه الدرجة العالية الممثلة، في المجتمعات المتمدنة، بالجمعيات وسائر المؤسسات التي تمثل بدورها الأعمال الذاتية والأفكار الحرة الصادرة عن الأفراد الذين يؤلفون المجموع المتمدن، وتمثل، فوق ذلك، النفسية الفاعلة في المجموع ونوع روحيته الاجتماعية. وبالإيجاز نقول إنّ أغراض الجماعات الأولية المتوحشة والجماعات البربرية المنحطة أو المتأخرة محدودة جداً بالنسبة إلى أسباب سد الحاجة المعاشية، مباشرة أو مداورة، إلى مدى محدود. وفي حين أنّ أفعال مؤلفي هذه الجماعات الاجتماعية محدودة نرى أنها لا تتناول مطلقاً الأفعال السياسية أو، على الأقل، الأفعال السياسية النظامية. وهذا، من الوجهة العامة وبالاختصار، هو المستوى الاجتماعي الذي وقفت عنده الجماعات الأولية والجماعات المنحطة أو المتبدية أو المتأخرة من السلالات الراقية العمرانية. وسنرى لمحة أخرى من هذا المجتمع في الفصل التالي.

 

المجتمع السابق العمران وتطوره
لا مشاحة في أنّ المجتمع العمراني، أو مجتمع السلالات العمرانية الآسيورية (الآسيوية - الأوروبية)، لم ينشأ منذ البدء مع أول نشوء هذه السلالات الراقية، بل نشأ مع تطور جماعات هذه السلالات وحين بلوغها الدرجة العمرانية التي هي درجة الزراعة والإقامة في الأرض. ويحسن بنا هنا أن نمهد لدرس تطور المجتمع العمراني خاصة، باستعراض التطور البشري الاجتماعي العام منذ البدء الذي أمكن العلوم الاجتماعية، أو التي تدرس حياة الإنسان ومنشأه، وخصائصه، استقصاؤه.

 

التطور الثقافي السابق التاريخ
ولا بد لنا، لجعل هذا الاستعراض تاماً أو غير مبتور، من الابتداء مع نشوء الإنسان. إذ ما المجتمع الإنساني العصري المتمدن إلا نتيجة أو حاصل الثقافات المتوالية على الإنسان التي ولّدها التفاعل المستمر بين الإنسان وبيئته.


ولقد مر معنا في الفصل الثالث(12) أنّ الإنسان هو الوحيد من بين جميع الكائنات الحية الذي أمكنه إيجاد علاقة تفاعلية مع الطبيعة، وخصوصاً مع بيئته. وما ذلك إلا بإجابته على مطالب البيئة بنمو الجهاز الذي أعطاه أن يعقل الطبيعة: الدماغ. إنّ عقل بعض الأشياء المحيطة مما قد توصل إليه بعض القرود العليا. فالشمبنزي، مثلاً، يعرف كيف يستخدم أغصان الشجر لبناء بيوت له ليست أسمج مما تبنيه القبائل المتوحشـة(13) ولكن عقل الطبيعـة أو العقل المطلق الذي سمِّي به الإنسـان الحقيقي الـ «Homo Sapiens» هو الشرط الذي لا بد من تحقيقه ليصبح التفاعل ممكناً، وهو الشرط الذي تحقق في الإنسان العاقل، وبتحققه أخذت الصلات التفاعلية تتوثق بين الإنسان والطبيعة عن طريق البيئة أولاً.


وممـا لا شـك فيـه عنــد العلمـاء أنه قد سبق عصـر الـ  Homo Sapiens عصـر الـ Homo Primigenius المطــلق على الـ Homo Neandertalensis وسبـــق هــذا الـ Homo Heidelbergensis وقبل هذا كان الـ Anthropus وهذه الأسماء تعني لعلماء الإنسان أشكالاً مخصوصة تـدل على أطـوار ليـس من شـأن موضوعنـا الدخـول فيهـا ولذلـك فضلنـا أن نسمي عصـر الـ Homo Sapiens عصـر التفـاعل وما قبـله عصـر الاحتكاك.


ويظهر أنّ الاحتكاك ابتدأ من الدرجة التي نجد الشمبنزي عليها اليوم، أي من درجة عقل بعض الأشياء المحيطة واستخدامها. وقد لا تكون هذه الأشياء الأغصان المتخذة لبناء العرازيل، كما يفعل الشمبنزي، إذ يرجح أنّ النوع القردي المجهز بالاستعداد للتطور نحو الإنسانية لم يكن يقطن الغابات التي لا تساعد على تولد الخصائص الإنسانية، كتحرير الذراعين والمشي على القدمين. ويظهر أنّ الاحتكاك ارتقى إلى تناول النار واستعمالها لأغراض متعددة(14). وإنّ فجر الإنسانية مقرون بفجر الثقافة الإنسانية وهو ما يسمى عند علماء الإنسان بالزمن الإيوليثي، أي زمن الأثافي التي لمّا يمكن الجزم في هل أشكالها وكسورها من صنع الإنسان أم من الطبيعة(15).

فاستعمال النار هو الخطوة الفاصلة التي عيّنت للإنسان السابق اتجاهه.


وأهمية النار العظيمة لحياة الإنسان وارتقائه هي في كونها عاملاً اقتصادياً كبير النتيجة حتى في ذلك العهد السحيق. فلا بد أنها خدمت الإنسان السابق في صدّ السباع المفترسة عنه، وفي الإنارة له ليلاً، وفي تدفئته وشيّ لحم فرائسه. فجذبته إلى حرارتها وضوئها وأوجدت لذة في تجمّع قطعانه حولها، وهي لذة مصحوبة بالاطمئنان.

واللذة والاطمئنان وتوفير الجهد والنصَب هي الضرورات التي يؤدي حصولها إلى تولّد الإحساسات النفسية الفردية والاجتماعية حيثما كان ذلك ممكناً في الكائنات العليا.

ولعل هذا الاطمئنان قرب النار هو السبب في تحويل علاقة الذكر والأنثى من عمل بيولوجي بحت يقتصر على فصل اللقاح إلى حالة اجتماعية لها خصائصها النفسية.

 

ولا شك في أنّ النار قوّت الرابطة الاجتماعية في الإنسان السابق ومهدت له كثيراً إظهار استعداده للارتقاء، فساعدت كثيراً على نشوء النطق الذي يعدّه لتزرس غيغر(16) أبا العقل. ومهما يكن من أمر تقديرنا نشوء النطق فلا بد لنا من التسليم بأنّ النطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التطورية الأولية إلى معارف اجتماعية وراثية (اجتماعياً). أعدت النار الإنسان السابق لدخول العصر الحجري(17) الذي هو بدء الإنسان الذي ولّى الحيوانَ ظهره وبدء الثقافة الإنسانية. ومنذ تلك العصور المتطاولة في القدم لم تفارق النار الإنسان ولا قطع الإنسان صلته بها.


كان الإنسان السابق صياداً قبل كل شيء، وكان أهم طعامه لحم طرائده. ويحتمل أنه كان يقتات أيضاً ببعض الأعشاب والثمار. وهذا كان الإنسان الهيدلبرغي المنبثق من الحيوانية العجماء. ولا بد أنّ الإنسان الآخذ في التقدم بفضل النار واستعداده الخاص أخذ يتنبه للأشياء المحيطة به التي أكثر من تلمُّسها وأخذها بيده - إلى الأحجار التي قد يكون استعملها عن غير عمد. وبفضل تطور دماغه أخذ يشعر بعلاقة أشياء بأشياء في حاجاته وقد يكون قاده ذلك، كما هو الأرجح، إلى حمل مشعل بيده وحمل حجر أو هراوة باليد الأخرى. ولكنه كان إلى الحجر أحوج، لأنه كان يستعين به على شق الحيوان وسلخه وتقطيعه بعد قتله. فاضطره ذلك إلى العناية بالحجر فاتخذ منه أدواته. ومن صناعته هذه الأدوات نستطيع أن نتتبع ثقافة الإنسان منذ ابتدائها. والحقيقة التي نستخرجها من درسنا أدوات الإنسان السابق الحجرية هي أنّ هذه الأدوات استغرقت كل عناية الإنسان ومجهوده العقليين. وهو بديهي من ذكرنا ما مرَّ معنا(18) من أنّ حياة كل كائن حي تجري ضمن المثلث: الجسم؛ النفس؛ المحيط؛ وأنّ حفظ الحياة الفردية، مضافاً إلى حفظ النوع، وأنّ حفظ الاجتماع مضافاً إلى حياتيْ الفرد والنوع، تقتضي جميعها تأمين حصول الغذاء الموجود في الطبيعة بتأمين وسائل الحصول عليه. ولا يمكننا أن نتصور حياة فردية أو اجتماعية بدون غذاء. ولذلك قلنا إنّ رابطة الإنسان الاجتماعية الأولى هي الرابطة الاقتصادية.


وظل الإنسان السابق يرتقي في هذا الزمان الاحتكاكي ترافقه النار، ويُظهر مهارته الفطرية في تقطيع الأحجار وتحسين أشكالها وشحذ حافّاتها لتفي بغرضه، ولم يكن له حينذاك من عمل «إنساني» غير هذا العمل. وظلت صناعة الأحجار ثقافته الوحيدة طول الحقب المبتدئة من الحقبة الشلية الدنيا إلى الشلية العليا إلى الأشولية، التي خلَف فيها الإنسان النيندرتالي الإنسان الهيدلبرغي، إلى المسترية الدنيا إلى المسترية العليا التي هي نهاية الإنسان النيندرتالي، أو على الأرجح الشكل النيندرتالي ((Homo Neandertalensis primigenius. وهذه الحقب تعادل نحو 250,000 سنة من الزمان الجليدي(19). وعند هذا الحد ينتهي القسمان الأولان من العصر الحجري السابق، وبنهايتهما تتم مدة الاحتكاك.


ليس لنا من أدلة اجتماعية إنسان هذا العصر الاحتكاكي ونفسيته سوى آثار مواقده وبقاياه العظمية وأدواته الحجرية، وكلها تدل على حالة الخروج من الحيوانية وبدء الإدراك وانحصار الأعمال الإنسانية في الاشتغال بأدوات الفتك. ولا شك في أنّ نفسيته كانت لا تزال في بداءة وعيها. أما اجتماعيته فلم تكن نوعية مطلقة، إذ إنّ تنقيبات غريانفتش - كرامبرغر 1899 - 1905 (Gorjanovic - Kramberger)(20) في كرابينا من أعمال كرواطية دلت على أنّ الإنسان النيندرتالي كان يأكل نوعه. وحالة معيشته كانت على درجة سد الحاجة مباشرة.


يدخل القسم الحديث من العصر الحجري السابق فنجد الإنسان قد حقق ارتقاءً جديداً في شكله وثقافته أكسبه اسم الإنسان العاقل الـ ((Homo Sapiens. وبدخول هذا القسم يبتدىء عصر التفاعل. فالإنسان يظهر منذ بداءة هذا العصر أنه ابتدأ يدرك طبائع المواد المحيطة به. فهو قد حسّن أدواته الحجرية تحسيناً كبيراً، واخترع أدوات جديدة من العظم، ونوّع الجميع لمختلف الأغراض. وقد فسح له هذا الارتقاء الاقتصادي المجال لبروز الحاجات النفسية مع الإدراك، فأخذ الإنسان ينقش في الطبيعة ويحفر في كهوفه، على الحيطان، وعلى الأدوات العاجية والعظمية رسوماً جميلة تدل على سلامة ذوق، وقام بقسط كبير من صناعة النصب. ومع ذلك فإننا لا نجد تغيّراً خطيراً في وسائل سد الحاجة. فالإنسان لا يزال صياداً وإنْ كان قد حسّن عدة الصيد باختراع القوس والسنان للرماية. وقد يكون أضاف إلى صيد حيوان البر صيد حيوان البحر. ولا نرى أي تطور خطير في ثقافة أوائل العصر الحجري اللاحق، ولكننا نلاحظ أنّ هنالك بداءة جديدة لأشكال الإنسان العاقل تجعلنا نسميه «الإنسان العاقل الحديث» ((Homo Sapiens recens تمييزاً له عن إنسان العصر الحجري السابق، الإنسان العاقل المتحجر ((Homo Sapiens fossilis ونرى أنّ الصناعة الصغرى ارتقت. ويعرف هذا الطور عند العلماء بالطور الأزيلي، نسبة إلى «Mas d’azil». ولكن لا يكاد هذا الطور ينتهي ويبتدىء الطور الثاني الكمبيني، حتى نلاحظ ظاهرة جديدة خطيرة هي ظاهرة تدجين الحيوان باقتناء الكلب، ونلاحظ أيضاً أنّ الأدوات الحجرية تتخذ وجهة أغراض جديدة، فنجد بعضها خشناً قاسياً - ولعله لغرض العزق أو الحفر في الأرض - ونجد بينها الفأس الحجرية وإذا بنا في مدخل العصر الحجري المتأخر المتصل بعصرنا الحالي في بعض السلالات الابتدائية.

 

في مجرى هذين العصرين الحجريين اللاحق والمتأخر تمَّ نطق الإنسان وارتقى إلى مرتبة لغة، وارتقت أحوال معاشه بتدجين الحيوان والتنبّه لطبائع المادة، ولكنها ظلت على مستوى سد الحاجة مباشرة، الأخذ مما تقدمه الأرض من حيوان ونبات بري، وفوقها قليلاً إذ نرى ابتداء النسيج وصناعة الخزف. والرابطة الاجتماعية هي الرابطة الدموية، رابطة القبيلة.
 
وهذان العصران، بالنسبة إلى العصر الحجري السابق، قصيران. ونعلم أنّ زمانهما كان يختلف باختلاف البقاع والأقاليم، كاختلاف مراتب العصر الحجري السابق، على الأرجح. ومما لا شك فيه أنه بينما كانت أوروبة في إبّان العصر الحجري المتأخر كان بعض مناطقها الشمالية (سكندينافية) لا يزال في بدء هذا العصر، إذا بالعصر المعدني ينبثق في كلدية - (بلاد الكلدان - بابل) وفي مصر وفي أرض كنعان.
 
حتى العصر المعدني كانت الثقافة البشرية عامة تناولت النوع الإنساني بكامله. فجميع البشر كانوا صيادين وصانعي أدوات حجرية وجامعي القوت النباتي مما تقدمه الأرض الكريمة. ولكن لـمّا حصل الاتجاه الزراعي في العصر الحجري المتأخر القصير الأمد ظهر عامل جديد في ترقية حياة البشر لم تشترك فيه جميع سلالاته أو شعوبه. ومع الزراعة والاشتغال بالمعادن يرتقي عصر التفاعل إلى ما نسميه التفاعل العمراني أو الثقافة العمرانية.
 
 
الثقافة الأولية والثقافة العمرانية
تقتصر الثقافة الأولية على: أولاً: إقامة النسل. وثانياً: السعي وراء الرزق بالمعنى الحرفي. أمران ينتج عنهما نظام اجتماعي أولي محدود، كما رأينا في خصائص المجتمع البدوي، بل دون ما ذكرناه هناك. أما الثقافة العمرانية فتقوم على: أولاً: إقامة النسل. ثانياً: تحصيل الرزق واستدرار موارده. ثالثاً: التنظيم الاجتماعي الاقتصادي. ثلاثة أمور تتوج بالحياة العقلية المشتملة على المنطق والأخلاق وسلامة الذوق. وهي هذه الحياة، التي ابتدأها بعض الشعوب السامية ووضع السوريون أساسها الراسخ، ما يعطي المجتمع المتمدن قيمته ومزاياه والمدنية الحديثة أبرز صفاتها وأثمن كنوزها.
 
ومع أنّ الزراعة هي أساس الثقافة العمرانية، فالزراعة ليست نوعاً واحداً، بل أنواع. والثقافة العمرانية المؤسسة عليها هي مراتب:
أولاً: ثقافة المعزق  (Hoe)= زراعة المعزق.
ثانياً: أ. ثقافة المحراث = زراعة المحراث.
    ب. ثقافة البستان = زراعة البستان.
ثالثاً: ثقافة الإنتاج التجاري = زراعة المحاصيل وإنشاء الصناعات وإعداد الحاجيات والكماليات.
 
والمرتبتان الأوليان هما إفراديتان وعائليتان ترميان في الدرجة الأولى، أو هما تنتهيان، إلى كفاية الفرد أو العائلة ولكنهما تستدعيان اهتمام الفرد أو العائلة الدائم.
 
وزراعة المرتبة الأولى أولية تقتصر على قلب سطح الأرض بمعزق بشكل عصا محددة وتغيير مكان الزرع كل مرة. وهي لا تعطي إلا الضروري. ولا تسمح في أرقى درجاتها والانصراف إليها أو التعويل عليها بعمران وكثافة سكان مدنية. وقد تبلغ الكثافة حداً يسترعي الاهتمام، ولكنها تكون كثافة متقطعة متفرقة لها مراكز تفصل بينها قطع واسعة من الأرض المقفرة. ففي السودان تقتصر الزراعة على التربة التي هي من الرخاوة بحيث يكفي قلبها بعصا الزراعة لطمر الحبة. فتقتضي القرية الواحدة ثلاثة أضعاف المساحة التي تزرعها في المرة الواحدة لأن إفقار التربة المتروكة بدون سماد يدعو إلى طلب التعويض بالمساحة(21).

والمرتبة الثانية هي التي بلغتها الشعوب الساميّة منذ أقدم عصورها المعروفة وهي المرتبة التي تحاول سورية الآن الخروج منها إلى المرتبة الثالثة، وهي أساس هذه المرتبة الأخيرة. وأهم الأطوار التي مرَّ بها القسم «أ» من هذه الثقافة هي(22):

أ - الحراثة بالحرق وهي الزراعة الكلأية الناتجة عن المجهود الأول لإنقاذ التربة من الحرجات البكر. ولا يستعمل في هذه الزراعة سماد سوى رماد الأشجار المحروقة أو سماد البقر التي ترعى في المكان عينه. وأكثر تقدماً من هذا الطور طريقة:

ب - نظام الحقل حيث تقسم الأرض الصالحة للزراعة غالباً إلى ثلاثة حقول: حقل يبقى بوراً، ويزرع الثاني حبوباً صيفية، والثالث حبوباً شتوية. وشبيه بهذا:

ج - زراعة المرج إذ تختلف إلى الأرض بضع سنوات من العشب وبضع سنوات من زراعة الحب(23)، وأرقى من هذه جميعها:

د - زراعة الدورة التامة، وهي تتطلب تصنيف النبات إلى ما يزيد في ثروة التربة وقوّتها كالتبغ وغيره، وإلى ما يفقرها ويستنفد قوّتها كالحبوب والنباتات الزيتية.

 

فتتوالى زراعة هذين الصنفين في دورة تامة على الأرض وهذه الدورة الزراعية التامة تتطلب العناية بها زيادة في العمل والرأسمال والتحسين الزراعي للأرض.

والقسم «ب» من هذه المرتبة، ثقافة البستان (أو هي ثقافة المرج)، يشتمل على أرقى أنواع الزراعة والعناية بالتربة على الإطلاق. وفي مقدور هذه الزراعة أن تقوم بأود مجتمع كثيف السكان، كما هي الحال في الصين(24). وج. أ. سمعان(25) يُبرِز لنا صورة من هذه الثقافة. والصورة من قرية «ونغ - مو - في» الصينية. عدد سكانها 10,000 يعيشون على 3000 فدان (أكر [Acre]). ويسكن في كل منزل من منازلها عائلة اتحادية لا تقتصر على الآباء وأبنائهم بل تتناول الجدود والآباء والأبناء والأحفاد مجتمعين، والمُلك أو البستان مشترك بينهم. فالعائلة الاتحادية من هذا النوع المؤلفة من نحو اثني عشر شخصاً تجد في قطعة من بستان لا تزيد على خمسة فدادين (أكر) من الثمار الوافية بمطالب العيش مقومات كافية. وهذا الإنتاج الكبير عائد إلى حسن الري والتسميد والعمل.

إذا أمعنّا النظر في كل مرتبة من المراتب المتقدمة وجدنا أنّ الأولى منها ابتدائية جداً في العمران، فهي لا تدخل في نطاق الثقافة العمرانية إلا من حيث إنها طور تمهيدي لها. والصحيح أنّ أهل هذه الثقافة يدخلون في المجتمع البدوي الذي وصفناه آنفاً. فإذا كان لهم حياة عقلية فهي محدودة جداً. وهم خارج نطاق شعوب آسية وأوروبة المتمدنة. فبين الشعوب التي لها إلمام وقسط من هذه الزراعة بعض هنود أميركة الشمالية كالموهكان والأركوى والبنكا والمندان وغيرهم، وبعض هنود أميركة الجنوبية أيضاً كالبكايري والغواراني في البرازيل. وهم يمارسون إلى جانبها الصيد. وسكان جزائر المحيط الهادىء وجزائر المحيط الهندي يمارسون هذه الزراعة مع صيد السمك. وزرّاعو أفريقية الذين لا يدخلون في عداد الصيادين والرعاة تقوم حياتهم على هذه الزراعة فقط كقبائل زمبازي ومكلاكه ونيام - نيام وغيرها(26).
 
والسبب في بقاء هذه المرتبة خارج نطاق العمران نسبة العمل إلى مقدار الحاصل الغذائي. فالاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سد الحاجة أو تأمين سدها بأقلّ مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين. وهذا النوع من الزراعة لا يوفر مجهوداً يستحق الذكر، فحاصله قليل وأهله مضطرون إلى الاهتمام دائماً بالضروري من أسباب العيش.

لا نرى للعقل منفذاً إلى الحياة الفكرية والعلمية إلا مع المرتبة الثانية، ففي هذه المرتبة نجد الزراعة المعروفة في نطاق المدنية الآسيورية. وهي الزراعة الحضرية بمعناها الصحيح. ومع أنّ نطاقها بالأكثر فردي أو عائلي، بحيث يقصد منها تموين العائلة وبيع ما يفيض عن المؤونة لشراء الحاجيات بثمنه، فهي تعلو كثيراً عن الزراعة المعزقية بأنها أفضل لغرض الخزن. والخزن والهري فارق أساسي للزراعة بمعناها العمراني عن الزراعة الأولية. «الزراعة كانت أسلوب العيش الوحيد الذي مكّن الناس منذ البدء، من أن يحيوا معاً في مكان معيّن وأن يحشدوا فيه مقومات الحياة.» هكذا يقول دلابلاش(27) ويزيد «ليس زارعاً الذي يحرق العشب وينثر مكانه بضع حفنات من البذور، ثم يرحل عن المكان، بل الذي يحصد الغلال ويخزنها هو الزارع.»

ومع أنّ المرجح أنّ القسم «ب» من المرتبة الثانية ناشىء عن الزراعة الأولى، فيجب حساب هذا النوع في هذه المرتبة. وهو نوع راقٍ رفع سد الحاجة إلى درجة غنية بالغذاء أو الحاجيات البيتية.

فإن خيرات الأرض تستدر للعائلة إلى آخر مواردها فالتسميد في هذه الزراعة يبلغ شأواً بعيداً، والري في حالة بالغة من الكفاءة والأرض تعطي بخصب. ولكن هذا النوع كالذي قبله، يقتضي انصباب أفراد العائلة على العناية بالأرض والصناعة البيتية. وهذه الزراعة بيتية قبل كل شيء وبعد كل شيء ولا يمكن أن تتقدم أكثر من هذا المدى. وهذان النوعان، زراعة المحراث وزراعة البستان، قد حررا العقل إلى درجةٍ ما، وأوجبا ارتقاء في توزيع العمل ولكنهما لم يفسحا للعقل وللتنظيم العملي كل المجال الذي يسمح لهما بالتقدم.

تأتي أخيراً المرتبة الثالثة، التي أطلقنا عليها اسم ثقافة الإنتاج التجاري، وهي الثقافة القائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصناعات الكبرى. وهذه هي مرتبة التمدن الحديث التي أخرجتها من المرتبة الثانية التجارة التي ولدت الأساس النقدي والرأسمالي، وحولت عملية المبادلة الأولية، إلى تجارة إنترناسيونية وأكسبت الحاجة إلى الآلة المحققة الأغراض معنى اقتصادياً عالياً، وجعلت الآلة من أهم عوامل ترقية هذه الثقافة. ترقّت الزراعة كثيراً في هذه المرتبة فازدادت العناية بالأسمدة حتى انتهت إلى الأسمدة الكيموية وامتد الرأسمال وحب التجارة والكسب إلى أراضٍ جديدة، ولو كانت بعيدة، لاستخراج المحاصيل والمواد الأولية لتلبية الطلب الحاجي وأخيراً الكمالي. وكان من وراء اتساع نطاق هذه الزراعة وتحسينها أنّ حاصلها كثر إلى درجة صار عندها قسم كبير من أهل هذه الثقافة محرراً من الحاجة إلى زرع وحصد قوته بنفسه، وأصبح في إمكانه الاهتمام بالشؤون الثقافية الأخرى والانصراف إليها، فنشأ عن ذلك التخصص الراقي الذي هو أبرز ميزة في حياة المجتمع المتمدن الاجتماعية وأرقى مرتبة في مراتب الاقتصاد الاجتماعي وأفعل أسلوب للحصول على أكبر نتيجة من مبدأ التعاون.

تطور الثقافة العمرانية
الحقيقة أنّ الأطوار الزراعية التي وصفناها آنفاً لا تعني شيئاً ثقافياً إلا متى نظرنا إلى العمل المبذول فيها ومقداره وكيفية تنظيمه، وما يتبع ذلك من الأحوال الاجتماعية.

أي أنه لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها ونتتبع تطورها إلا في سياق التفاعل، أي في تتبُّع أعمال الإنسان على مرسح الطبيعة. والمقياس الذي نقيس به قيمة أية مرتبة ثقافية هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السبيل، لأن كل تطور في الحياة الاجتماعية وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث إلا ضمن نطاق هذه العلاقة. فالنظام الاجتماعي هو دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة، أو منبعث منه وموافق له. ونحن نتتبع تطور الثقافة العمرانية بتتبع تنظيم الإنسان مجتمعه بناءً على هذا التفاعل. فكما أنّ التطور الإنساني، نشوءاً وارتقاءً، كان وفاقاً لمقتضيات تطورات الطبيعة والبيئة، أي أنه تطور محتّم بالاختيار الطبيعي لا مفضّل بالاختيار العقلي، كذلك التطور الاجتماعي، نشوءاً وارتقاءً، هو وفاق لتطور التفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادية. فإذا كان العقل نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية، فالعقلية الاجتماعية نتيجة تطورات التفاعل المادي لتأمين الحياة الاجتماعية.


يستنتج مما تقدم أنه إذا كانت الرابطة الاقتصادية أساس الرابطة الاجتماعية البشرية فالعمل ونظامه التعاوني مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع. وإننا لنرى التعاون على نوعين: بسيط ومركّب. فالبسيط هو التعاون على ما فيه مجهود من نوع واحد كرفع الأثقال وتحريكها، والسعي في طلب طريدة (في حالة الإنسان الصيّاد) وما شاكل. والمركّب هو ما كان في المشاريع البنائية وفي تنوع حاجات المجتمع وأغراضه العمرانية. والعمل يجري على أحدهما وأحياناً يجمع بينهما.


ذكرنا في بداءة هذا الفصل أهم المزايا التي تفرّق المجتمع الذي هو دون مرتبة التمدن عن المجتمع المتمدن، ومنه نرى أنّ النظام الاجتماعي ابتدأ من مرتبة الشيوعية في نظام العشيرة الدموي حيث الأرض التي تحتلها العشيرة وتربتها مشاع للعشيرة كلها بدون تمييز، وحيث العائلة جزء من العشيرة بالمعنى الاقتصادي، أي أنّ العائلة ليست كياناً قائماً بأوده، فهي تعيش معتمدة على مورد العشيرة العام. شيوعية العمل والغذاء والأرض الممثلة في وحدة العشيرة وقسمة العمل بين الجنسين الممثل في وحدة العائلة، هذا هو كل النظام الاجتماعي السابق الذي يكاد يكون الآن بائداً.

 

ثم ارتقى من هذه المرتبة نظام آخر إضافي إلى ما تقدم هو نظام المبادلة في المنتوجات بين العشائر المتجاورة. وهو ما يسمونه الاقتسام الخارجي للعمل. ولهذه المبادلة طرق خَبِرَ منها السوريون الكنعانيون (الفينيقيون) بناة قرطاضة، الطريقة المعروفة بالمبادلة الصامتة. فكانوا في إقدامهم التجاري في أفريقية الغربية «يفرغون البضاعة على الشاطىء ويرتبونها ثم يعودون إلى مراكبهم ويُصعدون دخاناً كثيفاً فيراه قاطنو ذلك المكان ويأتون إلى الشاطىء ويضعون ذهباً بدلاً للبضاعة ثم ينسحبون إلى بُعد عن البضاعة. فينزل القرطاضيون إلى البرّ ثانية ويفحصون كمية الذهب حتى إذا وجدوها كافية للتعويض عن البضاعة حملوها وأقلعوا، وإلا فإنهم يعودون إلى مراكبهم وينتظرون فيعود أولئك القوم إلى وضع كمية أخرى من الذهب. وهكذا إلى أن يرضى أصحاب البضاعة. ولم يكن أحد الفريقين يلحق بالآخر إجحافاً فلا الفينيقيون يمسّون الذهب قبل أن يصبح مكافئاً لقيمة البضاعة ولا أهل تلك الأرض يمسّون البضاعة قبل أن يكون الفريق الأول أخذ الذهب.»(28) وهذا التبادل بين جماعتين، تبادل كل واحدة بما عندها، هو أشبه شيء بتوزيع العمل فيما بين الجماعات.

وأفضل أمثلة هذا النوع من الرباط الاجتماعي الأولي وأرقاها هو في قبائل أفريقية حيث تشابه كل قبيلة «القيلد» [guild] أو النقابة وتحمل اسم صناعتها كقبيلة الحدادين وقبيلة صيّادي السمك، الخ(29). فقد تطورت المبادلة هنا إلى تجارة منظمة بين القبائل.


ويوجد غير هذه الطريقة، طريقة التجول خارج القبيلة. ولـمّا كان هذا العمل خطراً على المتجول استحدث لإزالة الخطر نظام الضيافة. فينزل البائع ضيفاً على رجل وبعد إقامته يعرض على مضيفه قبل رحيله بعض ما يحمل ويسأل ما يريد مقابله. أو هو يعرض بضاعته في حمى مضيفه ويقبل المبادلة. ونوع آخر هو إنشاء أسواق في أماكن محايدة. وكان لهنود أميركة الشمالية سوق كبيرة على المسيسبي «في هذا المكان كانوا يجتمعون من كل ناحية وتنفّذ فيهم هدنة تامة بين القبائل متعادية»(30) (الشهر الحرام).


ومع أننا نرى في هذا التطور الثقافي الأولي أنّ بنية الاجتماع هي في العشيرة وشيوعية العقار والإنتاج فيها، وأنّ العائلة ليست إلا وحدة جزئية متلاشية في العشيرة، فلا بد لنا من الإقرار بأن العائلة نظام اقتصادي قبل كل شيء(31) قائم على قاعدة توزيع العمل الذي ابتدأ في الأصل بين الجنسين. فكان على الرجل، في عهد الإنسان الصيّاد ومرتبته الحالية، أن يقوم بالأعمال التي تتطلب الخفّة والسرعة والمضاء، وهو من متعلقات إحضار الغذاء الحيواني، وكان على المرأة أن تقوم بكل نصيب الأعمال التي تقتضي الجهد والصبر والمعالجة، كجمع القوت النباتي البري وبناء الأكواخ للصيف وللشتاء، وحفظ النار موقدة وحمل الأثقال، فضلاً عن الأطفال، أثناء الرحلة. وهي تدبغ الجلود وتصنع منها الأردية والأحذية وما شاكل. ولولا هذا النظام التعاوني الاقتصادي لكان نشوء العائلة الموحدة تأخر كثيراً، على الأقل، إذ إننا نرى في أمثلة شيوعية العمل مضافة إلى شيوعية الغذاء عند بعض هنـود أميركة وملايا، في أشد أطوار وحدة العشيرة الاجتماعية، أنّ الرجل وامرأته لا يعيشـان معاً، بل يبقى كل منهما في عشيرته(32) وسنعود إلى الكلام على هذه النقطة في الفصل التالي.

 

ينتج لنا من هذا الاستقراء أساسان للكيان الاجتماعي الأولي هما: نظام الوحدة الاجتماعية المنصرفة إلى الاهتمام بالغذاء الذي هو قوام الحياة، بصرف النظر عن أقسام العمل وهو حق الجماعة؛ ونظام الوحدة العائلية المنصرفة إلى الاهتمام باقتسام العمل وهو بدء تنظيم التعاون. وحالة المرأة، على هذا المستوى الثقافي، تدعو إلى تأملنا.

ولسنا نجد تمييزاً واختصاصاً في الأعمال بين الرجال في هذا الطور. وفي أرقى حالاته قد نجد اتجاهاً نحو احتراف الكهانة والسحر.


متى تقدمنا نحو درجة الرعاية والزراعة الدنيا لاحظنا ارتقاءً في نظام اقتسام العمل بين الجنسين على القاعدة المتقدمة عينها. فمن الصيد نشأت تربية المواشي التي هي أولى درجات الحصول على الغذاء اللحمي مداورة. ومن جني الثمار والنباتات البرية نشأت الزراعة الأولى التي كانت أول تطور نحو الاستحصال على الغذاء النباتي مداورة. ولـمّا كان الصيد من خصائص الرجل فقد تولدت العناية بالحيوانات القابلة للدجن من خصائصه، فاستقل بالرعاية وأحوالها بينما ظل نصيب المرأة من العمل جمع الغذاء النباتي البري والقيام بالأعمال الأخرى المشار إليها كالعناية بالمضرب وضرب أطناب الخيمة وتقويضها وشد الأحمال وتحميلها أو حملها:


ردّت عــلــيـــه أقــاصــيــه ولــبّـــده
                                               ضــرب الـولـيـدة بالمســحاة في الـتـأد
خَــلّـتْ سـبيـل آتـيٍّ كــان يـحـبســه
                                                ورفَّـعـتـه إلـى السـجفين فـالنضـــد(33)


أما الزراعة فقد كانت من نتائج عمل المرأة وعنايتها بالنبات وهي (الزراعة) عند الجماعات الزراعية الدنيا شغل المرأة الخاص بها، فالرجال بين أكثر هنود أميركة المنتمين إلى هذه الدرجة الثقافية لا يساهمون فيها، بل لا يزالون منصرفين إلى شأنهم من الصيد وصيد السمك(34). وحيث الزراعة مصحوبة برعاية الماشية نجد المبدأ نفسه، النساء يقمن بشؤون الفلح الزراعي، بينما الرجال يرعون الماشية التي هي من خصائصهم وحدهم. وفيما سوى هذا التطور نحو الاحتراف لا نجد تغييراً جوهرياً في النظام الاجتماعي الذي يحدد جميع العلاقات بالعرف والعادة، ولا نرى إقامة ثابتة وبداءة عمران.


نترك هذه الدرجة ونصعد في سلّم الارتقاء إلى الزراعة الأولية المتقدمة المعوَّل عليها في المعاش. فنجد أنّ الإقامة التي تتطلبها الزراعة أوجدت فكرة التملك العقاري، فكرة الارتباط بين الإنسان وحقله - بين الإنسان وبيته. ومن ثم أوجدت استقلال العائلة والكيان الاقتصادي لها. فحلت كفاية العائلة نفسها محل كفاية العشيرة نفسها، وسمحت هذه الحالة للعائلة بالتطور نحو حالة البيت الكبير إلى طبقة الأشراف وأصبحت حاجات أهل هذه الدرجة أرقى مما قبلها. فأدى ذلك إلى الأخذ بتمييز العمل ونشوء طبقة الصنّاع من أسرى الحرب المستعبَدين عند أصحاب البيوتات الكبيرة ومن الذين لم يحصلوا على نصيب وافر من الأرض الصالحة للزراعة أو الذين عجزوا، لسبب من الأسباب، عن الأعمال الزراعية الكافية للقيام بأودهم مستقلين ومعتمدين على أنفسهم.


وهكذا نرى التمييز الاجتماعي يقود التمييز الاقتصادي فيكون الأشراف الملاكون طبقة دونها طبقة العامة من أرقّاء أو داخلين في نظام المنزل القائم بنفسه. ودون هذه، من الوجهة الاجتماعية، طبقة العبيد. وتمييز العمل هو في هاتين الطبقتين الأخيرتين عدا عن التمييز السابق بين الجنسين في نوع العمل. ففي منزل النبيل وممتلكه نرى العبيد والصنّاع الأحرار مختصين كل واحد منهم، وأحياناً أكثر من واحد، بعمل خاص كصنع الشباك لصيد السمك وصنع الزوارق والنجارة والعمل في العزق وقطع الحطب والطبخ والخدمة المنزلية، وغير ذلك من الأعمال التي يتطلبها سد حاجة المنزل المركب القائم بنفسه. وكل عائلة تقوم الآن بأودها وتطلب رزقها الخاص ويتعاون أفرادها بتوزيع الأعمال فيما بينهم، من بناء وعزق وصنع مواعين أو أدوات منزلية وما شاكل. فقد زالت شيوعية الغذاء والمُلك والعمل بزوال المساواة في الرابطة العشيرية الأولية التي لم يكن لها غرض سوى حفظ حياة الجماعة (النوع)، ونشأ مع تمييز العمل التبادل الداخلي ضمن القرية وبين الأفراد.


نرى في هذه المرتبة أنّ العشيرة نفسها آخذة في التلاشي في القرية التي هي بداءة العمران. ولكن الرابطة الدموية لا تزال قوية، فهي قد ثبتت في العائلة نفسها التي هي رابطة دموية، وفي نظام القبيلة الذي تتحد فيه القرى. وتصبح العلاقات البشرية في هذا الطور بحيث يبرز الشيخ أو الأمير على رأس القبيلة أو مجموعة القرى المتقاربة. ومن هذه النقطة تبتدىء الحياة السياسية. ومن مظاهر هذه المرتبة في أفريقية نظام التجارة المستمرة فيما بين القبائل المتجاورة المتخصصة، كما ذكرنا (ص 57 أعلاه) ويكمل هذا المجتمع حاجياته بالمبادلة مع الخارج.


لا نجد لهذه المرتبة، مع تقدمها، حياة نفسية (عقلية). فالناس غارقون في شؤون معاشهم وصناعاتهم والوقت الباقي يصرفونه في حفلاتهم الدينية وفي الكسل والتراخي والثرثرة الغريبة. ولهم لهو بالحرب والسبي وخصوصاً سبي النساء. وعند هذا الحد نترك المجتمع الذي يخرج عن العمران والثقافة العمرانية.


في هذه المرتبة التي لا يزال عليها أهل بولنيسية وأفريقية كان الأوروبيون، وعلى رأسهم الإغريق ثم الرومان، حين نشأت في سورية الثورة الثقافية العظمى التي كانت الخطوة الجازمة للمدنية. فلننظر الآن كيف حدثت الثورة السورية التي وضعت للثقافة الإنسانية ابتداءً جديداً.


كل ما مرّ معنا في هذا الطور الثقافي، من شيوعية العمل وسدّ الحاجة مباشرة إلى الرعاية وبداءة الزراعة والإقامة، ينطبق على الشؤون الثقافية للعصرين الحجريين السابق والمتأخر، أو على الأقل اللاحق والمتأخر، أي ثقافة الإنسان قبل أن ذرّ قرن عصر المعادن. ومنه يمكننا أن نقول إنّ العصر الحجري لا يزال متعلقاً بأذيال البشرية حتى اليوم. وإذا كانت بقايا أطواره الأولى آخذة في الزوال والتلاشي أمام فتوحات التمدن الحديث، فإن آخر أفقه المتصل بأول أفق العصر المعدني لا يزال باقياً.

ومن الأطوار الأولى التي تكاد تكون الآن معدومة، ومن الطور الأخير البادي في الزراعة الأولية التي هي زراعة المعزق يقدم لنا علم الأقوام البشرية (الإتنلوجية) براهينه على ثقافة الإنسان السابقة التاريخ.


إبتدأ العصر المعدني بين الشعوب السامية وفي مصر وجمهور العلماء يرجحون أنّ مركزيه كانا كلدية على مجرى الفرات ودجلة، ووادي النيل. والكنعانيون أيضاً يعدّون بين أقدم الشعوب التي عرفت المعادن والتعدين في شبه جزيرة سيناء وفلسطين(35) وكانت لهم في الدفاع عن معادنهم حروب مع المصريين الذين طمعوا فيها.

وفي هذا العصر ابتدأت الحضارة ترتقي بترقية أحوال الفلح والتسميد والاعتناء بالأشجار المثمرة وتنويع الزرع.


في هذا العصر وفي هذه البقاع السورية دخل المحراث في العمل لسدّ الحاجة بواسطة الزراعة فكان ذلك خطوة واسعة في الاقتصاد نتج عنها تفوق في العمل على الإنتاج، فاستغني عن مقدار لا بأس به من الجهد أو، بمعنى آخر، تحرر قسم من «الزخم» البشري من حاجة الانصباب على الأرض للعناية بتأمين مقدار الغذاء الضروري، وأصبح في الإمكان توجيهه إلى سدّ الحاجات الأخرى التي ارتقت من المرتبة الضرورية إلى المرتبة الحاجية. وانطلق العمران من قيوده الثقيلة ونطقه الضيقة التي نراها في العشيرة القائمة بأودها والتي لم يتحرر منها الزارع الأولي الذي لم يتمكن من تنمية العمران الاجتماعي إلى ما يزيد عن نطاق القرية، وترقية النظام الاجتماعي إلى ما يزيد عن إمارة القبيلة، وتعيين العلاقات بين السادة والعبيد أو إقرار هذه العلاقات على الحالة التي توجد فيها. ففي السودان نرى العمران الاجتماعي لا يتمكن من النمو بسبب تأخّر الثقافة الزراعية حتى أنّ زيادة السكان لا تؤدي إلى زيادة في العمران، بل إلى زحام في المعاش يضطر معه أهل المنطقة إلى نبذ الفئات الزائدة منهم إلى مكان قصيّ(36).


إزداد الحاصل الزراعي بواسطة إدخال المحراث والتسميد حتى أصبح في الإمكان تغذية عدد وافر، قابل النمو من السكان الذين أخذوا يوطدون إقامتهم في الأرض بتثبيت العمران وزيادته. فنشأت المدينة وفيها ارتقت شؤون المأكل واللباس، وازدادت الصناعات اليدوية واتّسع نطاق التمييز الصناعي (وهذا التمييز كان، طبعاً، بين الذكور) فتناول صناعات عالية كصناعة الطب وفنوناً كفن الحرب وفن النحت والنقش، وفن الكتابة الأولية الهيروغليفية في مصر والمسمارية في شنعار (بابل). وفي هذا الطور ارتقى تبادل الحاصلات والمنتوجات الداخلي إلى حدٍّ عال.


بيد أنه مع كل هذا التقدم في الثقافة العمرانية ونشوء الثقافة النفسية أو العقلية فإن الحياة العقلية ظلت ابتدائية ومقيدة بالضروري لشؤون المجتمع، لأن وسائل تحرير العقل كانت لا تزال ناقصة. فنمو العمران واتساع نطاق التمييز العملي رقّيا مستوى المعيشة، ولكن الكتابة الهيروغليفية والمسمارية كانت بعيدة عن إظهار التعابير العقلية المتعددة وتقتضي عناءً كبيراً في التسجيل والقراءة ولا يمكن نشرها بحيث تعمّ، فهي أدت خدمتها الضرورية الجلّى بتسجيل أهم حوادث السلطان وغزواته، وأهم قوانين الدولة التي نشأت مع المدينة، وشؤون العبادات الدينية. ووقفت عند هذا الحد فلم تتناول نشر المعارف والعلوم ولا تسهيل المعاملات والاتصال بين شعب وشعب.

وارتقاء التعاون المركّب في المدينة أبقى حاجات كثيرة حاجية وكمالية غير قابلة السد في المجتمع نفسه فأدى هذا النقص الكبير إلى اتخاذ الحرب المنظمة وسيلة للتعويض عنه. هكذا الغزوات المصرية للاستيلاء على مناجم شبه جزيرة سيناء والحصول على أرز لبنان. وهكذا الغزوات الأشورية والكلدانية لأخذ الجزية التي كانت تحتاج إليها بلاليط نينوى وبابل.


وسط هذه الحروب، وفي هذا النقص العمراني عن بلوغ مستوى راقٍ من الثقافة الإنسانية، كان الكنعانيون يتخذون اتجاهاً جديداً. إنهم ساهموا في الحالة العامة التي وصفناها آنفاً، وغزوا مصر وأنشأوا دولة منهم فيها(37). ولكنهم لم يغرقوا في الحروب، بل اهتموا بالتغلب على صعوبات الحاجات العمرانية بترتيب ثقافتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً حتى سمِّي وطنهم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، وتنبهوا باكراً إلى إمكانية التوسع والحصول على أكبر نصيب من كماليات العمران عن طريق غير طريق الغزو وفرض الجزية - عن طريق التجارة. فتوسعوا في أرضهم وتوجّه شطر منهم شمالاً على شاطىء البحر غربي لبنان، واحتل كل هذا الساحل الخصب الذي عرف فيما بعد باسم فينيقية نسبة إلى هؤلاء الكنعانيين(38) الذين لوَّحتهم الشمس على رمال الشاطىء وأمواج اليمّ، أو إلى الأرجوان الذي كانوا يصنعونه. أنشأ هؤلاء الكنعانيون المدينة البحرية التي امتازت بصفات ثقافية خاصة، وأصبحت المثال الذي احتذته الأمم التي دخلت في نطاق المدنية السورية(39) كالإغريق والرومان. وأهم خصائص هذه الثقافة أنها توجِد تلاؤماً بديعاً بين شؤون سلك البحر وشؤون زراعة تتطلب عناية أكثر مما تتطلب جهداً عضلياً. فوراء المدينة في الهنترلند (Hinterland) قامت زراعة لها خصائص اتخذت مثالاً نقلت عنه الأمم الأخرى، هي غراسة البستان التي جمعت بين الأشجار المثمرة والبقول والحبوب. إنّ فن البستان والكرم، العناية بالأشجار المثمرة في تشذيبها وتحسين نتائجها، هو فن زراعي سوري تردّه تقاليد الأمم إلى الفينيقيين.

ودلابلاش(40) يقول إنّ عالم البحر المتوسط اقتبس هذا النوع من الحضارة عن الشاطىء السوري ما بين طرابلس وجبل الكرمل.


كانت التجارة الطور الأول للثورة السورية الثقافية فسارت قوافل الكنعانيين بين مصر وبلاد الكلدان وجرت مراكبهم على سطح البحر لتكتشف في غربه وشماله أقواماً لا تزال في طور الوحشية أو البربرية، وتنشىء معها علاقات تجارية سلمية ينتج عنها ربح مادي للمكتشِفين وربح ثقافي للمكتشَفين. ولم يكن هذا الطور التجاري مقتصراً على نقل بضائع بين مكان ومكان آخر، بل كان يقوم على نشوء صناعات عديدة ونموها كالنسيج والصبغ وصنع الزجاج وما شاكل، فضلاً عن صناعة القوارب والمراكب التي بقيت صناعة قومية بحتة لا يقصد منها التصدير.


التجارة هي أحد العوامل العظمى في تفاعل الثقافات وأحد العوامل الاقتصادية الكبرى. التجارة مكّنت السوريين من التعويض عن فقر أرضهم في المعادن وعن نقص المواد الخام التي يحتاج إليها مجتمعهم الآخذ في النمو والارتقاء المدني ومهّدت لهم، بواسطة ما أحدثوه من فن سلك البحر، الانتقال إلى طور آخر عظيم الأثر في العمران هو طور الاستعمار الذي أدخل البحر المتوسط كله في نطاق هذه الثقافة السورية الجديدة التي هي بدء التمدن الحديث. وليس أدل على أهمية هذه الخطوة السورية المبدعة لتقدم الثقافة العمرانية وانتشارها من النظر إلى حالة الأقوام البربرية التي دخلت في نطاق هذه الثقافة  الجديدة عند أول عهد السوريين بها. خذ الإغريق مثلاً فإن حالتهم بالنسبة إلى ما كان عليه الفينيقيون من ثقافة هي، كما يصفها هوميروس(41) [,Homer حوالى 850ق.م] مشابهة لحالة برابرة أفريقية تجاه الشعوب التجارية الحديثة. فقد كان المركب الفينيقي يرسو على الشاطىء الإغريقي حاملاً أنواعاً عديدة من المنتوجات المصنوعة في بلاده للّبس والزخرف. وبعد أن يشتري التجار رضى الأمير كانوا يعرضون بضاعتهم التي كانوا يبدلون بها من الإغريق مواد خاماً كالقمح والخشب والجلود والمعادن الخام والعبيد وما شاكل. أما البضاعة السورية فكان فيها النسيج وأصناف كثيرة من المصنوعات المعدنية والأرجوان الذي اشتهروا به وغير ذلك.


من الثقافة الزراعية الصناعية البحتة التي وسعت نطاق تمييز العمل بواسطة تحرير الأيدي الذي أدخله المحراث ومكّنت النظام الداخلي من الارتقاء إلى المدينة والدولة، مع تحديد كل النتيجة العمرانية بالبيئة، اللهم إلا ما يأتي عن طريق الحرب وهو غير ثابت، خطا السوريون الكنعانيون والآراميون إلى التجارة وثقافة الإنتاج التجاري التي تتصل بأمكنة بعيدة وتمتد إلى موارد واسعة جداً وتدخلها في نطاقها. ونتج عن هذا التطور الخطير، عدا الاستعمار الذي أشرنا إليه، فن معرفة العالم وما فيه من ثروات، وترقية فن سلك البحار وربط أماكن المواد الخام بمراكز الثقافة التجارية الجديدة. فكان التقدم من الوجهة العمرانية الاقتصادية عظيماً.


إبتدأ العمل العقلي في هذه الثقافة يرجح على غيره، فالتجارة عمل عقلي Par excellence. فكان على الذين أوجدوا الثقافة الاقتصادية الجديدة أن يبتدعوا الطريقة العملية للحياة العقلية ويضعوا أساساً جديداً متيناً للثقافة الإنسانية. كان على سورية أن تكمل ثورتها الثقافية وتفتح طريقاً جديدة للارتقاء الثقافي فاستنبط الكنعانيون (الفينيقيون) الأحرف الهجائية فتمت قاعدة التمدن الحديث.


في طور الثقافة الزراعية الصناعية القائمة بأود المجتمع، عن طريق العائلة والتملك الشخصي، نجد نمواً في النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم على طبقات ثلاث:

الأشراف، الصنّاع الأحرار، العبيد. فقد زال، من زمان، نظام العشيرة القائمة بأودها والقبيلة التي تضم قرى وحلَّ محله نظام الدولة الملكية ثم الجمهورية. ولكن موارد هذه الثقافة اقتصرت على بيئتها فلم تتمكن من اطّراد التقدم، لأن مواد كل بيئة محدودة بذاتها. ولم تكن الحرب تعويضاً ثابتاً أو وسيلة عمرانية لاطّراد الارتقاء الثقافي. ولا نقول إنّ التجارة كانت معدومة ولكنها لم تكن عاملاً اقتصادياً منظماً، بل كانت عبارة عن تبادل خاضع للإنتاج الفردي غير المنظم.


أما الثقافة التجارية فإنها نظمت العمل في وحدات مشتركة وأوجدت معنى الرأسمال الهامّ. كان الرأسمال قبل نهضة التجارة بين الأمم فردياً يستعمل في الإنتاج لسد الحاجة مداورة وللتبادل الداخلي، الذي هو من أهم عوامل تنظيم المجتمع العمراني، ولكنه لم يكن عاملاً في تنظيم الاقتصاد والعمل، أي أنه لم يكن رأسمالاً بالمعنى العصري. ولكنه في الثقافة التجارية أصبح ذا قيمة قومية لأنه تناول تنظيم العمل للإنتاج الواسع بقصد الإتجار مع الأمم وتموينها بما تحتاج إليه، عن طريق أفرادها وجماعاتها، لقاء الحصول على ما يغطي نفقة العمل ويعطي الرأسمال، نفقة تنظيمه الإنتاج والأسواق، ربحاً ينمي الثروة القومية التي أصبحت في هذا الطور تحت حماية الدولة. مع هذه الخطوة الواسعة نشأ الاقتصاد القومي الذي لا يزال يسيطر على المجاميع البشرية والثقافة المدنية الحاضرة.


في هذه الثقافة ابتدأ كون العائلة أساس النظام العملي في المجتمع يضعف. فتوزع العمل وتميّز بين الرجال، أما المرأة فإنها بقيت ربة البيت أو أنّ عملها المميز هو القيام بجميع شؤون المنزل. وظلت القرابة الدموية الفاعل الأقوى في النظام الاجتماعي الاقتصادي إذ كانت الحرفة تبقى في العائلة يعطيها الأب لابنه وللأقربين إليه من بعده، وكذلك إرث الثروة. كان ذلك أهم عامل في التمييز الاجتماعي وبه تحددت الطبقات تحدداً شديداً أدى إلى نضال عنيف ضمن نطاق الدولة ومشادة بين الأرستوقراطية الوراثية وطبقة العامة. وقد تمكنت التجارة الفينيقية من أن تزيد العمل بواسطة العبيد الذين كانوا يشترونهم ويوزعونهم على الأعمال المختلفة. فظلت العائلة محتفظة بمركزها أساساً للتنظيم الاجتماعي، ولكنها لم تعد وحدة اقتصادية قائمة بأودها، بل أصبحت تعتمد على الإنتاج التجاري المنظم بالرأسمال، الأمر الذي أدى إلى ما عرف بالعمل البيتي للصناعات اليدوية.

 

الثورة الصناعية
كان هذا التطور بداءة عودة الاقتصاد الاجتماعي بدلاً من الاقتصاد الفردي العائلي، الذي لا يزال ممثلاً بعض التمثيل في تجمهر العائلة المتصلة الصينية وقيامها على سد جميع حاجاتها بعملها الخاص في بقعة صغيرة من الأرض المحولة إلى بستان زراعي غني خصب، ولكن أهمية العائلة الاقتصادية لم تتلاشَ، في هذا الطور، بالـمرة، بل احتفظت بكثير من خصائصها الاقتصادية حتى مجيء عصر الآلة المعروف بعصر الثورة الصناعية، فأخرج الصناعات اليدوية الباقية من بيوتها وأخرج الصنّاع من المصانع بالمئات والألوف، وأوجد هذا العصر، فيما أوجد، الآلة المنزلية التي أخذت معظم عمل المرأة في بيتها وزال توزيع العمل بين الجنسين.

 

ولم يعد الزواج مبدأً اقتصادياً يقوم على تقسيم العمل، الرجل لأعمال التحصيل والمرأة لأعمال التدبير. فاضطرت المرأة إلى إيجاد عمل لها خارج المنزل بدافع الحاجة إلى إيجاد عمل يشغلها وبدافع الحاجة المعاشية في نظام توزيع العمل والثروة الرأسمالي الحاضر. ومن هذه الحالة نشأ تمييز العمل بين الإناث أيضاً وظهرت الحركة النسائية الحديثة. وهذه الظاهرة الاجتماعية الحديثة هي السبب في حياة المرأة العصرية، الغربية خصوصاً، التي يريد الكتّاب الذين لم يعنوا بدرس سُنَن الاجتماع أن يفضلوا المرأة الشرقية عليها، لحشمة هذه وحيائها ولسفور تلك وإقدامها وتطرفها.


إنّ الثورة الصناعية وضعت الاجتماع على أساس جديد. فهي لم تقتصر على سلب العائلة صناعاتها وصاحب الحرفة الفردية حرفته، بل هي أوجدت المعامل والمصانع الكبيرة التي تضم مئات وألوفاً من العمال في كل معمل أو مصنع. فنشأت في المدن والمناطق الصناعية هذه الطبقة من العمال، التي عرفت في التعابير العصرية بلفظة «بروليتارية» (Proletariat) والتي أصبحت في العقود الأخيرة قوة سياسية هائلة، لأنها تختلف عن الطبقة الزراعية المتصفة بالجمود(42) التي، لبعدها عن مراكز الثقافة المتمدنة وانتشارها على أبعاد شاسعة، لم تتسنَّ لها وسائل الاتحاد وتنظيم صفوفها وتكوين قوة سياسية متحركة.


قادت الأبجدية العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوُّق القوى العقلية على صعوبات الطبيعة إلى الآلة الاقتصادية التي وضعت في يد الرأسمالي قوة لم يكن يحلم بها، ففاقت قوة الرأسمال المتعاظم أية قوة أخرى مناقبية أو مادية. فقضت هذه القوة الجديدة على النظام القديم: النبلاء [الأشراف] و[الصناع] الأحرار والعبيد، ووضعت نظاماً جديداً: الرأسماليون ومزاولو المهن الحرة والعمال، أو ما يعبَّر عنه بالطبقة العليا والطبقة الوسطى والطبقة الدنيا.


نجد في هذا الطور الجديد أنّ العائلة فقدت رابطتها المتينة السابقة ولم تعد الدرجة الرابعة من القرابة الدموية ولا الدرجة الثالثة بذات بال، بل إنّ الدرجة الثانية أيضاً لم يعد يُحسَب حسابها إلا نادراً. والذين لا يفهمون العوامل الاقتصادية الخطيرة العاملة تحت كل مظهر من مظاهر الاجتماع، وخصوصاً أولئك المناقبيين الذين يرون المناقب أساس كل شيء، يعدّون هذا التحول الجديد، تفسخاً من جراء الفساد.


أوجدت الأبجدية والتجارة اتجاهاً ثقافياً جديداً انتهى إلى عصر الآلة الصناعية الذي هو عصر التمدن الحديث. وهذا العصر فسح للثقافة العقلية أوسع مجال ورقّى التفاعل الاجتماعي إلى درجة عالية جداً.


منذ الفترة التي ظهرت فيها الأبجدية إلى جانب التجارة، واتّحد هذان العاملان في التفاعل الاقتصادي الاجتماعي، اتجه الاجتماع البشري نحو الحياة النفسية (العقلية) وسيطرة العقل على كنوز الطبيعة ومواردها. وفي هذه الحياة الجديدة تساهم الأمم المتمدنة. وبوجود هذه الحياة ووسائلها يمكن الآن ملايين البشر أن يفكروا في قضايا الإنسانية الحيوية والاجتماعية مستقلين ومشتركين وأن يشتركوا في ثقافة إنسانية عامة يدهش المفكر لألوانها المتعددة تعدد القوميات، وللخصائص النفسية التي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات.


ومتى ألقينا نظرة على هذا الصرح الفخم من الحياة المدنية، التي تحرز بعد كل فترة نصراً جديداً للإنسان على أسرار الطبيعة، المزين بكل فن جميل من رسم ونحت ونقش وبناء ودهن وموسيقى، الخ.، المبطن بالأخلاق وكل ما تعني من شخصية الفرد وشخصيات الأقوام - متى نظرنا إلى هذا البناء العقلي السامي الذي يمثّل لنا المدنية الحديثة، أدركنا قيمة الثورة السورية ومعناها الكبير.

​هوامش الفصل الخامس: المجتمع وتطوره
 
(1) سيجيء الكلام على مراتب التطور البشري في سياق هذا الفصل. وقد رأينا أن نقتصر هنا على هذه القسمة لأنها أوفى بغرضنا، الذي هو الاجتماع العمراني الراقي فأخرجنا ما دونه وجعلناه قسماً واحداً، في حين أنّ التدقيق في أمره يوجب قسمته بدوره إلى قسمين: متوحش وبربري، فيكون الاجتماع ثلاث مراتب: التوحش فالبربرية فالتمدن.
 
(2) سنعود إلى الكلام على هذه النظرية بإسهاب في بحث أصل الساميين ومهدهم في الكتاب الثاني من هذا المؤلَّف. ونكتفي هنا بالإشارة إلى النظرية التي يؤيدها كيتاني (كيتاني، ج1) القائلة بأن بلاد العرب كانت في الأعصر الجليدية، أو في العصر الجليدي الأخير، أصلح الأقاليم المحيطة بها لإقامة الإنسان. ثم تطورت طبيعة الأرض بعد العصر الجليدي الأخير وأخذت تربتها في الإمحال ببطء متناه قضى على العمران الذي كان فيها (المصدر نفسه، ج1، ص 276) واضطر أقواماً إلى المهاجرة منها وأقواماً أخرى إلى تعوّد حياة البداوة.
 
(3) لا يعتقد ملر - لير أنّ التطور كان دائماً من حالة الصيد إلى الرعاية إلى الزراعة والحضارة. بل يعتقد بحوادث رجعة من هذا القبيل. ملر - لير، ص 85 - 88
(4) راجع الفصل الرابع (ص 42 أعلاه). ولسنا نقصد بالضرورة الاقتصادية أنّ الاقتصاد هو أساس أو مرجع جميع المظاهر الاجتماعية، فلا نزعم أنّ الاقتصاد هو الدافع إلى الحب والزواج والعناية بالبنين أو أنه الباعث على محبة الموسيقى، ولكننا نزعم أنه لا يكاد يعقد الزواج حتى يدخل العامل الاقتصادي أساساً لكيانه وبقائه، وأنّ محبة الموسيقى، من حيث هي مظهر اجتماعي، تبقى عقيمة أو أولية بدون الأساس الاقتصادي ولا يمكن الفصل عملياً بين الحياة ومقوماتها.
 
(5) راجع ص 28 أعلاه الهامش رقم (34)
(6) قسَّم إبن خلدون في مقدمته، مراتب أسباب المعاش إلى ثلاث: ضروري فحاجي فكمالي. إبن خلدون. المقدمة، ص .120 - 122 [ص 132 - 135 في طبعة دار الجيل.]
(7) كيتاني، ج 1، ص 323
(8) المصدر نفسه، ص 97: أنظر أيضاً بشأن التملك، ماير، ج1، النصف الثاني فقرة 333
(9) حمل الأثقال وتحميل الدواب وجمع الغذاء النباتي هو عمل المرأة عند البدو والجماعات الأولية. (راجع أيضاً، ملر-لير، ص 72) وقد ذكر كيتاني (ج1، ص 335) أنّ النساء هنّ اللواتي يقمن عند السحر بتقويض الخيام وبجمع المواعين والأدوات وحزمها وبتحميل الجمال، وغير ذلك من الأعمال الشاقة بينما الرجال مجتمعون حول المواقد يصطلون من شدة البرد.
 
(10) هرتس. وفيركنط AVV، ص 2
(11) إنّ تعاون الرجل والمرأة على الحياة واتخاذ كل منهما ناحية لا يمكن اعتباره «توزيع عمل» إلا بصورة أولية بحتة.
(12) ص 30 أعلاه
(13) ملر - لير، ص 54
(14) لا نوافق مدرسة، منها ملر - لير، تقول إنّ النار دخلت في حياة الإنسان بعد أن كان سار أشواطاً في الثقافة. ملر - لير، ص 56. فنحن نرى أنّ النار ضرورة سابقة للنطق ونجد تأييد ذلك في أدلة علم الإنسان.
 
(15) وينرت، Menschen، ص 18 - 19
(16) نقلاً عن ملر - لير، ص 50. ويصعب أن يكون مذهب قيقر صواباً. ولكن النطق كان ملازماً لارتقاء العقل.
 

(17) يحسن بنا، من أجل حفظ النسق العلمي في تتبُّع الثقافة الإنسانية، أن نحفظ الأعصر الثقافية التي رتبها علم الإنسان وعلم طبقات الأرض. والذي عليه أهل هذا العلم أنّ تاريخ الارتقاء البشري غير المكتوب يقسم إلى قسمين عامين هما: العصر الحجري والعصر المعدني. وكل من هذين العصرين ينطوي على أجزائه الخاصة، فنرى أنّ العصر الحجري يشتمل على ثلاثة أجزاء هي: العصر الحجري القديم أو السابق (البليوليثي) والعصر الحجري المتوسط أو اللاحق (المزليثي) الذي كثيراً ما يعرف بأنه حقبة ختامية للعصر الحجري القديم ويسمونه «الإبيبليوليثي» (Epipaleolithicum) والعصر الحجري الجديد أو المتأخر (النيوليثي). ثم يدخل العصر المعدني مبتدئاً بالحقبة النحاسية أو بإسقاط هذه والابتداء بالحقبة الشبهية (البرنز) التي حلَّ محلها أخيراً الحقبة الحديدية التي لا نزال فيها. والعصر الحجري القديم هو أطول هذه العصور، وهو المعقول بالنسبة إلى حالة الإنسان وأحوال زمانه، الزمان الجليدي. ويقسم أحياناً هذا العصر بدوره إلى ثلاثة أقسام: قديم ومتوسط وحديث، يستغرق الأول ما بين أوائل الإيوليثي وأواخر الشلي (Chélles) ويشمل الثاني الأشولي (St. Acheul) والمستيري (Le Moustier) ويحيط الثالث بالأورنياكي (Aurignac) والصلترائي  (Solutré)والمجدلاني  (La Madeleine)وهذه النعوت التصنيفية منسوبة إلى الأماكن التي اكتشفت فيها عظام أصحاب البقايا الثقافيـة المكتشفـة معهم أو لوقتهـم وهي أمـاكن فرنسية (راجع وينرت، Ursprung ص 17 - 18 خصوصاً).

 

(18) ص 40 أعلاه
(19) هذا وفاقاً لنظرية تقول بابتداء الإنسان وثقافته مع نهاية عصر «غنتز» الجليدي أو بدء عصر «مندل». أما حسب نظرية أخرى تقول بالابتداء مع عصر «رس» فتكون المدة نحو 150,000 سنة (أنظر وينرت، Ursprung، ص 13 و23) والأسماء المذكورة هي أسماء أنهر سويسرانية تسمى بها الأعصر الجليدية الثلاثة.
 
(20) المصدر نفسه، ص 58
(21) دلابلاش، ص 57 - 58
(22) نقلاً عن ملر - لير، ص 77
(23) هذه الطريقة هي الأكثر شيوعاً في أراضينا الزراعية.
(24) في مقاطعـة الأنهر الأربعة (شخوان أو ششوان) يبلغ معدل السكان في سهل شنتو 300 - 350 للكيلومتر المربع. دلابلاش، ص 94
(25) G. E. Simon, La Cité Chinoise نقلاً عن ملر - لير، ص 78
(26) ملر - لير، ص 73 - 74
(27) دلابلاش، ص 56
(28) ملر - لير، ص 159 نقلاً عن هيرودتس
(29) المصدر نفسه، ص 167
(30) المصدر نفسه، ص 162 نقلاً عن شرادر: وكولر A R، ص 31
(31) المصدر نفسه، ص 157
(32) المصدر نفسه، 202
(33) النابغة الذبياني
(34) ملر - لير، ص 209
(35) ماير، ج 2، فقرة 356
(36) دلابلاش، ص 58
(37) إنّ الاستنتاجات من معظم الأبحـاث عـن الهكسـوس (الذيـن عرفـوا بالترجمـة «الملوك الرعاة») تـدل علـى أنهم كانـوا سامييـن سورييـن، أي كنعانييـن (أنظر إدوار ماير، ج1، فقرة 304 ص 315). وسوريتهم مذكـورة فـي أخبـار مصريـة، خصوصـاً أخبـار الملـك حتشبسـوت والملـك أبوبـي (المصـدر نفسه، فقـرة 303 ص 313). يـدل أيضـاً تأثيرهـم الدينـي علـى مصـر (المصـدر نفسه، فقـرة 304) وغريفث تايلـر (Environment and Race، ص 119 - 121) يسميهم الملوك السوريين.
 
(38) ماير، ج 2، فقرة 356، ص 422
(39) دلابلاش، ص 138
(40) المصدر نفسه، ص 139 و ص 214
(41) نقلاً عن ملر - لير، ص 174
(42) مكيور، Modern State، ص 140
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro