مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​الفصل السابع الإثم الكنعاني
 
 
 
 

تـحديــد الـمتحــد (1)
إذا كـانت الدولـة مظهـراً سيـاسياً من مظـاهر الاجتماع البشـري فالأمة واقع اجتماعي بحت. ودرس الأمم ونشوئها هو درس اجتماعي، لا درس سياسي، وإنْ كان لا غنى للعلم السياسي عن درس الأمة والقومية، لأهميتهما في النظريات السياسية وفعلهما في تغيير مجرى الشؤون السياسية وإصلاح المعتقدات والمبادىء السياسية، كما مر في الفصل السابق.


وإذا كـانت الأمـة واقعـاً اجتماعيـاً، وإنها لكـذلك، فما تحـديد هذا الواقع الاجتمـاعي وما أسبابـه وخصائصه ومميزاته؟ وما هي روحيته أو عصبيته، التي نسميها القومية(2) وكيف نفهمه؟


قد رأينا في بحثنا «الاجتماع البشري»، في الفصل الرابع من هذا الكتاب، أنّ الـحياة البشرية، ككل حياة أخرى، تجري وفاقاً لناموس عام هو ناموس العلاقة البيولوجية الـمثلثة الأضلاع: الجسم؛ النفس (الدماغ)؛ المحيط. فهل يعني ذلك أنّ اشتراك الكائنات الحية في هذا الناموس العام يمكن أن يولد اجتماعاً عاماً بين الإنسان والـحيوان، وأن يكوّن متحـدات عـامة أو مشتركة بين أنواع الـحيوان والإنسان؟ وهل، إذا وجدنا في عالم الحيوان أنواعاً اجتماعية تجمهرية قائمة على أساس هذا الناموس المشترك، كالنمل والنحل والذئاب وغيرها، يصح أن نبحث في إنشاء متحدات من هذه الأنواع والإنسان بناءً على إضافة ناموس آخر مشترك هو ناموس الاجتماع؟ وإذا كان الجواب على كل هذه الأسئلة نفياً، فما هو السبب المنطقي الذي نحتاج إليه دائماً في إقناع عقولنا المنطقية؟


السبب هو أنّ الناموس اصطلاح بشري لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة، نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة أو الطبيعة، لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النواميس وأمرتها بالسير عليها. وفي كل النواميس التي نكتشفها يجب أن لا ننسى أننا نستخرج النواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطبيعي الذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطبيعي ونواميسه الأخرى، فالنواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنا قد اكتشفنا سنّة التطور فيجب أن لا نتخذ من هذه السنّة أقيسة وهمية تذهب بنا إلى تصورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.


إنّ القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الأبحاث العلمية الاجتماعية، خصـوصـاً في الأبحـاث التي لا تجرّد علم الاجتماع من النظريات الفلسفية، من الفلسفة الاجتماعية. وهو الالتجاء إلى القياس، ما أوجد شيئاً كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعية عموماً ومسألة الأمة والقومية خصوصاً. فالكلام السياسي عن الأمة، مثلاً، أنها مجموع ذو إرادة واحدة قد قاد إلى جعل الإرادة غرضاً معيّناً من أغراض الحياة الاجتماعية، أو تمثلها بصورة الإرادة الفردية كما في القول: أريد السفر إلى أميركة أو أريد أن أشرب. والحقيقة أنّ الإرادة الاجتماعية ليست في هذه البساطة. فلا تكفي إرادة عدد من الناس، من مجتمع واحد أو من مجتمعات متعددة، السفر إلى أميركة لإنشاء متحد. بل إنّ الاشتراك الفعلي في تنفيذ هذه الإرادة لا يولّد متحداً. إنّ ركاب السفينة لا يشكلون متحداً، لأنهم يشتركون في مصلحة واحدة هي السفر وإرادة واحدة هي الانتقال، فإن لم يكونوا متحداً من قبل فهم ليسوا متحداً.


ولقد أشرنا في غير موضع من هذا الكتاب (ص 73 أعلاه) إلى أنّ الاجتماع البشري ليس اجتماعاً مطلقا، أو اختيارياً مطلقاً. فإذا كان الاجتماع صفة عامة في الإنسـانيـة فهـذا لا يعني أنّ الإنسـانيـة مجتمع واحد يسري فيه الاجتماع بمجرّد الإنسانية. فالسوري المسافر إلى أميركة ليس كالمنتقل من دمشق إلى بيروت أو القدس، من وجهة الاتحاد الاجتماعي، ويعظم التباين في انتقاله إلى الصحراء مثلاً. وقد نجد في بعض الدروس العلمية الاجتماعية أوضاعاً تصنيفية عامة كالاصطلاح على نعت مرتبة الرابطة الاجتماعية الاقتصادية بمرتبة أو مظهر العلاقة الاختيارية(3) بالنسبة إلى العلاقة الدموية الأولية (راجع ص 42). فمثل هذا الاصطلاح قد يحمل على تصور اختيار استبدادي أو اختيار مطلق، والواقع غير ذلك. لا يختار الإنسان المجتمع الذي يعيش فيه أكثر مما يختار والديه، ولكنه قد يخيّر أمه على أبيه أو العكس. ليس المجتمع Contrat Sociale [تعاقد اجتماعي] أساسه الفرد. وفي المجتمع يختار المرء من يُنشئ علاقات معهم اختياراً لا يخلو من تقيّد. ولا نريد أن نبني هنا فلسفة اجتماعية كالفلسفة التي يقول بها تكاتا الياباني أو شمالنبخ الألماني(4) اللذان يذهبان إلى أنّ رابطة الاجتماع في المستقبل ستكون رابطة الميل أو العاطفة. فذلك طور لا نعرف متى يكون، على افتراض أنه كائن لا محالة، ولا كيف يكون.


إذا كانت البشرية ليست مجتمعاً أو متحداً، فما هي إذاً؟ هي مجتمعات ومتحدات. ولماذا هي كذلك؟ ولنوضح أكثر ونسأل: ما هي العوامل والأسباب التي تولّد المجتمعات وتكوّن المتحدات؟


إنّ الجواب على بعض هذا السؤال قد أعطي في «المجتمع وتطوره» (ص 45 أعلاه) ففي هذا البحث تكلمنا عن الروابط الاجتماعية الاقتصادية الفاعلة في تطوير المجتمع عموماً، أي كل مجتمع تتناوله هذه الروابط نفسها. ولكن المجتمع عموماً ليس المتحد الخاص المعيّن. فكيف نعيّن المتحد بالنسبة إلى ما نسميه أحياناً المجتمع الإنساني، إلى الإنسانية؟


هل مجرّد انتشار ثقافـة ماديـة وروحية واحدة بين عدد من الجماعات البشرية يولّد من هذه الجماعات متحداً رابطته الثقافة؟ إذا كان الجواب نفياً ولم تكن الثقافة الواحدة أساساً للمتحد فما هي عوامل المتحد وروابطه؟


إنّ الثقافة العامة تفرّق بين أنواع المتحدات، لا بين المتحدات، فهي أول شاطر بين الـجماعات الأولية والفطرية الـجاهلية وبين المجتمعات العمرانية الراقية. ولكن الثقافة ليست من الصفات الطبيعية الشخصية التي لا تنتقل. وسنعود إلى درسها فيما يلي. أما الآن فنريد أن نضع قاعدة عامة للمتحد ندرسه عليها.


أريد أن أجاري هنا مكيور في إيضاحه المتحد أنه كل مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميزة عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصح بدونه تسمية المتحد(5). فالقرية متحد، والمدينة متحد، والمنطقة متحد، والقطر متحد، ولكل متحد خصائص تـميّزه عما سواه مـما هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه. فإذا سلّمنا بالافتراض أنّ المريخ مأهول وأنّ فيه نوعاً من البشر يحيون في جوه وأرضه حياة توافق ذلك الجو وتلك الأرض، صحّ أن يكون الناس على هذه الدنيا متحداً مشتركاً، على ما فيه من متناقضات، في خصائص تـميّزه عن متحد سكـان المريخ، الذين، على ما قد يكون لهم من فوارق متناقضة، لا بد أن يشتركوا في خصائص حياتهم العامة المميزة لهم عن سكان كل سيّار آخر، الـموجدة لهم إمكانيات تفاعل داخلي تحدد مجموعهم بالنسبة لمجموع هذه الدنيا، ويكون أساس هذه الإمكانيات خصائص النوع. ويكون معنى هذا المتحد منتهى التوسع في استعمال هذه اللفظة التي تفيد التجانس والتلاحم، والتي أريد بعـد الآن أن أقتصر فيها على الواقـع الاجتمـاعي، على الجماعة المشتركة في حيـاة واحـدة تكسبها صفـات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصية ووحدة خاصة بالنسبة إلى الوحدة الإنسانية العامة. فإن شرط المتحد ليس أن يكون مجموعـاً عددياً من ناس مشتركين في صفات النوع الإنساني العامة فحسب، بل مجمـوعـاً متحداً في الـحيـاة متشابهاً أفـراده في العقـول والأجسـام تشابهاً جوهرياً. ولا نقصـد بهذا التشابه شيئاً سلالياً بحتاً، ولكننا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضوية على محرضات البيئة التي تحدد المتحد (راجع ص 34). ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التشابه العقلي والفيزيائي نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة. فالنَّقّاد الخبير يقدر أن يميّز بين الدمشقي والبيروتي أو بين الجبلي والسهلي من بعض الصفات التي يتحلى بها كل من هؤلاء وتنطبع فيهم بعامل متحد كل منهم. كذلك يمكنك حالاً أن ترى الفوارق المميّزة بين السوري والمصري وتدرك في مقابلتهما أنّ الواحد منهما ينتمي إلى غير متحد الآخر. فمتحد المدينة والمنطقة واقع اجتماعي، وكذلك متحد القطر.


إنّ الإشتراك في الحياة يولّد اشتراكاً في العقلية والصفات كالعادات والتقاليد واللهجات والأزياء وما شاكل. وعدم الاشتراك في الحياة يوهي أشد الروابط متانة كالرابطة الدموية، وهو ما تنبَّه له وذكره ابن خلدون في مقدمته [ص 142] ومنه القول «النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر»، أي أنّ النسب متى صار من باب العلم وفقد الاشتراك في الحياة الواحدة أصبح لا تنفع معرفته ولا يضر نسيانه أو جهله.


الإشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدارسين حين يتكلمون عن المتحد أنه جماعة لها صفات مشتركة من عادات وتقاليد ولهجات، حتى أنهم يجعلون هذه الصفات الأساس الذي يقوم عليه المتحد، فيأخذون عدداً من الصفات العامة المشتركة ويحاولون أن يجعلوا من الذين تنطبق عليهم هذه الصفات متحداً واحداً لا يتقيد بمساحة ولا تربطه بيئة. وهم في فعلهم هذا ينسون أو يجهلون أنّ هنـالك صفات عامة تسري على جميع البشر من غير أن تجعل منهم متحداً. فالمتحد هو دائماً أمر واقع اجتماعي. وإنّ من الصفات ما قد يميّز جماعات من الناس عن جماعات أخرى من غير أن يعني ذلك وجود متحد منها. فإن الصفات تتبع المتحد لا المتحد الصفات.


لنتوسع في درس هذا الـموضوع ولننظر في التخبط الـذي يجرّنا إليه حسبان صفات مشتركة أساساً للمتحد. إذا سلّمنا بهذه النظرية، سلّمنا بأن الصفات من عادات وتقاليد ومناقب هي صفات ثابتة لا تتغير ولا تتحول ولا تنتقل ولا تكتسب، بحيث يتحتم على المشتركين في مجموعة معيّنة منها أن يكونوا متحداً خاصاً محدداً بهذه الصفات كل التحديد أو يمتنع عليهم الدخول في متحد تسري عليه صفات تتميز عن صفاتهم ويكون الاختلاف في الصفات بمثابة اختلاف طبيعي وراثي. وهذا يعني ألا يؤمل السوريون والإنكليز والطليان والألمان إنشاء متحد في نيويورك أو في الولايات المتحدة عامة، أو الدخول في المتحد الأميركاني، لأنهم أقوام لكل منها صفات خاصة تميّزه عن القوم الآخر، أو تختلف عن الصفات السارية على محيط المتحد الأميركاني! ولكننا كـلنا نعلـم أنّ السـوري الذي يهـاجـر إلى أميـركة لا يلبث، إذا أقـام، أن تتبـدل صفاته الخاصة ويكتسب صفات المتحد الأميركاني الخاصة. فكيف زالت صفاته الأولى الثابتة التي كانت تميّزه عن الأميركان ومن أين جاءته الصفات الأميركانية التي أصبحت تـميّزه عن السوريين؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصفات ليست أساس المتحد وأنّ أساس المتحد والصفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى، فحيثما اجتمع جمهور كبير من السوريين في أميركة وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متحدهم، فهم يكتسبون كثيراً من طابع البيئة ولكنهم يظلون متحداً متميّزاً عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانية وعكفهم على حياتهم السورية. وكلما قلَّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانية ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم. وإذا كـانت أميركـة بعيدة على القارىء في سورية فلنأخذ مصر مثلاً. ألسنا نرى اشتراك السوريين المقيمين في مصر، في الحياة المصرية، يكسبهم، تدريجاً، صفات مصرية فيعود واحدهم إلى سورية يخاطبك بلهجة «إزيّك» بدلاً من «كيف حالك» و«خبر إيه؟» بدلاً من «شو صار»، الخ. أوَليس عدم حصول هذه الصفات لهم إلا بعد إقامتهم في مصر دليلاً على أنّ صفات المتحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصفات؟

 

لنأخـذ متحداً صغيراً يـمكننا أن نراقبه في جـزئياته أكـثر من الـمتحد الكبير كالشوير، مثلاً، أو صوفر أو مشغرة أو بلودان أو معلولا أو بيروت أو دمشق أو نابلس. إذا أخذنا الشوير مثلاً وجدنا أنّ للشويريين لهجة خاصة في النطق واشتراكاً في صفات نفسية أو خلقية خاصة كاشتهارهم بالصلابة والعناد وعادات ومظاهر خاصة في نوع معيشتهم والحِرَف التي يحترفونها ناتجة عن اختباراتهم الخاصة. ولا بد لمن هو غير شويري من ملاحظة بعض مظاهر خاصة من حياة الشويريين اليومية. ومع أنّ عادات ومظاهر أهل بكفيا تقرب كثيراً من عادات ومظاهر أهل الشوير فإن لكل واحدة من هاتين البلدتين بعض الصفات الخاصة التي لا بد أن يظهر أثرها وفرقها في المعاشرة، لتدل على أنّ ابن الشوير وابن بكفيا من متّحَديْن لا من متحد واحد. فهل يعني  ذلك أنهما من متّحَديْن، لأنهما متميزان الواحد عن الآخر، أو أنهما متميّزان، لأنهما من متّحَديْن اثنين؟ ولا شك أنّ الوجه الثاني هو الصواب في بحثنا عن السبب في حين أنّ الوجه الأول صواب في الاستدلال، لأننا نرى الشويري والبكفيي يفقدان خصائصهما المميزة إذا تركا متحديهما وسكنا بيروت، مثلاً، مدة طويلة تسمح للبيئة الاجتماعية بالتأثير عليهما أو إذا جيء بهما إلى بيروت طفلين وربيا فيها. وليس من ينكر الفوارق بين متحدي بيروت ودمشق، مثلاً، فلهجة البيروتي، ومظهره الخارجي ونوع حياته، من الوجهة الخاصة، وبعض اتجاهاته النفسية، كل هذه تميّزه عن الدمشقي. ولكن جميع هذه  المتحدات الصغيرة وألوفاً مثلها تؤلف متحداً واحداً هو المتحد القومي أو متحد الأمة أو متحد القطر، أسماء لمسمى واحد. وهي في مجموعها تشكل وحدة يعمّ في أفرادها التجانس العقلي والتجانس في الهيئة والمظهر، التجانس الذي هو أكثر وأقوى من الفوارق الجزئية. وشرط كل متحد يصح أن نسميه متحداً أن يكون تجانسه أقوى وأكثر من تباينه.


عند هذا الـحد يـمكننا أن نعيّن المتحد بالنسبة إلى صفاته بأنه اتحاد مجموع من الناس في حياة واحدة على مساحة محدودة يكتسب من بيئته ومن حياته المشتركة الخاصة صفات خاصة به، إلى جانب الصفات العامة المشتركة بينه وبين المحيط الذي هو أوسع منه، بينه وبين جميع البشر، وبينه وبين المتحدات الأخرى. أما تحديد الـمتحد بأنه صفـات مشتركـة تشتمل على عـدد من الناس بصرف النظر عن حدود المساحة والاشتراك في الحياة فمن الأخطاء التي أدت إلى كثير من البلبلة والهذر.
لنترك هنا تحليل المتحد من حيث صفاته ولنأخذ في تحليله من وجهة أعمق من وجهة الصفات: من وجهة العلاقات، من وجهة الأغراض والمصالح والإرادة. فمما لا شك فيه أنّ وضع عدد من المشدوهين أو المجانين في بقعة محددة من الأرض لا يكوّن متحداً اجتماعياً، كما أنّ اجتماع عدد من الـمسافرين على باخرة أو في عربة قطار لا يكوّن متحداً. ولقد تكلمنا عن الإرادة والمسافرين في بداءة هذا الفصل ونزيد هنا أنه إذا كانت الإرادة خاصة ملازمة لكل متحد فلا يحسن أن نتجاهل الواقع، فنظن أنّ التوافق في إرادة معيّنة أو إرادات معيّنة يكفي لإيجاد المتحد. فإذا تكلم العلماء عن عوامل الاجتماع ووصفوها بأنها قوى أو توافق المصلحة والإرادة فيجب ألا يبادر إلى تكوين اعتقادات سطحية بشأن المصلحة والإرادة بحيث تستعمل المصلحة بالمعنى التجاري البحت، وتستعمل الإرادة بالمعنى الفردي أو الاستبدادي. فلا يتصورن أحد أنّ تأليف شركة تجارية من سوريين وإنكليز لاستثمار بعض أسواق الصين أو البرازيل يؤلف متحداً اجتماعياً من أفراد الشركة بناءً على تعريف الشركة بأنها هيئة تجمع المصلحة والإرادة، والـمصلحة والإرادة هما قطبا الـمجتمع أو الـمتحد. ومن تصور شيئاً من ذلك فقد اختلط عليه ما هو شأن المتحد وما هو شأن الجمعية أو الشركة.


نتكلم عن المصلحة والإرادة متابعة للاصطلاح العام، ولأن المصلحة والإرادة أوفى بالتعبير وأوضح. فالحب الجنسي، مثلاً، هو أشد من مصلحة، هو حاجة بيولوجية، والـجوع كذلك حاجة بيولوجية، ولكن سد الجوع مصلحة ترتقي أو تنحط، وإرواء الحب مصلحة ترتقي إلى أعلى مراتب النفسية وتنخفض إلى أدنى مراتب الحيوانية - البيولوجية، والتوسع في معنى المصلحة يشمل كل ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في علاقاتها. وبهذا الـمعنى نتكلم عن المصلحة الاجتماعية. وإذا كانت المصلحة والإرادة هما قطبا الـمجتمع فواحـدهما سلبي وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، فالمصلحة هي التي تقرر العلاقات جميعها والإرادة هي التي تحققها. وبديهي أنـه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحب. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس. وتحقيق ارتياح النفس هو غـرض الإرادة. وهكـذا نرى أنّ الـمصلحة غير الـمنفعة أو الفائـدة، وليست هي دائماً وليدة الشعور بالحاجة ولا هي والحاجة شيئاً واحداً. إننا نعني بالمصلحة في هذا البحث كل ما يولّد أو يسبب عملاً اجتماعيا، وبناءً على هذا التعريف يمكننا أن نقول إنّ رابطة المتحد هي رابطة المصلحة، فالمصلحة وراء كل متحد. وكلما نمت الحياة، ازدادت المصالح التي تولّد الاجتماع وقلّت المصالح المفرّقة.

كما أدى استعمال الأمثال في الكلام على المجتمع إلى شيء كثير من الهذر، كذلك أدى الكلام غير المنقود إلى إساءة فهم وإساءة استعمال المقصود من المصلحة والإرادة. وتجنباً للوقوع في فوضى الاصطلاحات التي عممتها لغة الجرائد في قطرنا تعميماً فاضحاً يجعل كل دراسة جدية لوضع الأشياء في مواضعها عملاً شاقاً، رأيت أن أعرض هنا للمحة من المصالح الاجتماعية التي يمكننا أن نسميها مصالح المتحد، أو مصالح لها خصائص ربط الناس في متحد.


إنّ المصالح، مبدئياً، صنفان يجب ألا يصير بينهما خلط وتداخل كما يحدث عادة في تعميم المصطلحات الفنية. فهنالك المصالح المتشابهة أو الشكلية التي هي لكل فرد مثلما هي لكل فرد آخر، كتحصيل المعاش، أو ربح الصيت، أو جمع الثروة، أو أي مصلحة أخرى شخصية خاصة. فهذه المصالح هي شكلية أو متشابهة ولكنها لا تقتضي اتحاد من يريدونها أو إيجاد علاقة اجتماعية ثابتة فيما بينهم. وهنالك المصلحة العامة أو المشتركة التي يُجمِع عدد من الناس على الاشتراك في تحقيقها لأنها تشمل الكل، كمصلحة خير القرية أو المدينة أو القطر. ومهما كان الباعث على العمل لهذه المصلحة، فالمصلحة نفسها تظل مصلحة الجميع لأنها تشملهم، أي أنه قد يكون حب المجد هو الموحي أو الدافع لبعض الأشخاص على العمل للمصلحة العامة، فتكون المصلحة في هذا المثل مركّبة بالنسبة إلى الشخص، ولكنها بالنسبة إلى العموم عامة بسيطة، وهنا نضطر إلى التمييز بين الـمصلحة العامة الأولية بالنسبة إلى الكل وبين الـمصلحة العامة الثانوية بالنسبة إلى الشخص الذي يتخذ من المصلحة العامة وسيلة لمصلحة شكلية شخصية هي المصلحة الأولية له. فالأساس الاجتماعي للمصلحتين واحد هو خير المجتمع، وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعية الثابتة. ومهما يكن من الأمر في هذه المسألة فمصلحة المتحد تظل قائمة لأنها دائمة وهي تختلف عن مصلحة قريبة منها هي مصلحة الشركة. فهذه المصلحة تقوم على أساس المصلحة الشخصية البحتة وكل اعتباراتها العامة مقررة بالمصلحة الشكلية لكل شخص، فهي خصوصية قبل كل شيء، لأن غرضها خصوصي، معيّن ومحدد. فإذا رجعنا إلى مثل الشركة السورية - الإنكليزية للمتاجرة بصنف معيّن وجدنا أنه متى وجدت شركة من هذا النوع نفسها تجاه حالة لا تسمح بالإثراء الذي هو غرضها لم يبقَ للشركاء أية مصلحة أخرى يجب اعتبارها، والشركة تزول بزوال غرضها. الشركة وسيلة مصالح خصوصية متماثلة. أما المتحد فهو مجمع الحياة الاجتماعية. هو مقرّ الأحياء المتحدين في الحياة بكل مصالحها. الشركة أو الجمعية هي شيء جزئي أمّا المتحد فشيء شامل كامل فيه تقوم جمعيات من كل نوع وتزول وهو مرجعها. هو أكبر وأوسع من أية جمعية ومصالحه عمومية وبعضها ثابت لا يزول إلا بزوال الحياة، باندثار المتحد كما بنكبة من النكبات.


يجب ألا يفهم من هذا الإيضاح أي تنـاقض بين ما نقولـه هنا وبين ما قلناه في الفصل الخامس من أنّ رابطة الاجتماع الأساسية هي الرابطة الاقتصادية. فيجب أن لا نتصور الرابطة الاقتصادية عبارة عن عملية اقتصادية أو غرض من أغراض الربح الاقتصادي، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها. ولذلك يمكننا أن نعدّ المصالح الـمتشابهة الـجوهرية من أهم الـمصالح الاجتماعية، فتأمين سد حاجة الجوع والبرد يسهل جداً في الاجتماع وكل مجتمع لا يؤمّن سد هذه الحاجات لا يمكنه أن يثبت. ولهذا السبب نرى الأفراد الذين لا يجدون تأميناً لمصالحهم الحيوية في متحدهم يهجرونه، حالما يتمكنون من ذلك، إلى بيئة جديدة يجدون فيها غرضهم الأولي. حيثما وجد متحد كانت مصلحة حياة كل فرد من أفراده، مصلحة حياته العامة، أولى مصالحه. إنّ مصالح الحياة هي مصالح كل متحد ولكن ليست مصالح أي متحد مصالح كل متحد، لأن مصالح المتحد ليست بيولوجية فقط، بل هي مصالح نفسية (عقلية) ومصالح حيوية نوعية أيضاً. وقديـماً ميّز أرسطو بين «الـحياة» و«الـحياة الجيدة»(6). فإذا كانت مصالح الحياة الجيدة كذلك، فإن مصالح الحياة الجيدة هي التي تتنوع وتتحد بتنوع الـمتحدات وتـحددها، مولّدة أنواعاً جديدة من الاشتراك في الحياة. ولكن جميع هذه المصالح لا تقوم إلا على أساس المصلحة الاقتصادية، وقد رأينا في درسنا «المجتمع وتطوره» (ص 45 أعلاه) كيف ارتقى المجتمع وفاقاً لنجاح المصلحة الاقتصادية.


إذا كانت المصلحة الاقتصادية أساسية في كل مجتمع فهو لأنها تخدم كل مصلحة أخرى حيوية أو نفسية. والمتحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيوية ولكنها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيدة بالنسبة إلى المرتبة الثقافية والدرجة الاقتصادية. ففي القبائل التي لا تزال على درجة الرابطة الدموية نجد المصالح القائمة على الـحاجات الـحيوية العضوية أكثرها من نوع الـمصالح الـجنسية، وهي المصالح التي تتعلق بالزواج والعائلة والنسب. أما مصالح الحاجات الحيوية اللاجنسية، أي مصالح الطعام والشراب واللهو وغيرها، فهي بسيطة جداً من رعاية وجمع نبات وثمر. وأما مصالح الحاجات النفسية (العقلية) فقليلة وضعيفة جداً وهي تنحصر في بعض القصائد أو الأغاني وكلها تدور على محور العلاقات الجنسية والحرب أو الغزو وفي الدين الذي يعني التسليم لإرادة عليا أو لقوة خارقة، لله القدير العلاّم، خالق السموات والأرض. وجميع هذه المصالح عامة في المجتمع الفطري ومتداخلة، فهي مركّب.


الحقيقة أنّ الـمصالح لا تتعدد وتتعين إلا في الـمجتمعات الراقية وفي هذه الـمجتمعات تتحدد الـمصالح وتولّد جمعيات معيّنة. والـمصالح وجمعياتها تتميّز وتتنوّع بحيث تجعل وحدتها أتمّ وأوضح.


في المتحد الراقي نجد المصالح جميعها تتنوّع وتتعين بتنوعها، وتؤدي إلى إنشاء جمعيات من كل نوع منها تجمع كل جمعية الأفراد العاملين لمصلحتها. وهذه المصالح على ثلاثة أنواع: النوع الأساسي وهو يشمل الـمصالح الحيوية والمصالح النفسية (العقلية). والـمصالح الحيوية هي: أولاً - الجنسية، وجمعياتها العائلة في أشكالها. ثانياً - اللاجنسية، وهي ما تعلّق بالغذاء واللباس والـمدرأ، وتؤدي إلى إنشاء الجمعيات الزراعية والصناعية والتجارية وجمعيات الصحة والطب والجراحة. والمصالح النفسية هي: أولاً - المنطقية من علمية وفلسفية ودينية وتهذيبية، وتتحد في الجمعيات العلمية والفلسـفيـة والدينيـة (الكنيسة) والتربويـة، وفي الـمدارس والـمعاهد التهذيبيـة. ثـانياً - الفنية، وتتناول جمعيات الرسم والدهان والموسيقى والتمثيل والأدب. ثالثاً - المصالح الخصوصية، مصالح السلطة والجاه، والعاملون لها ينشئون الأندية الخاصة والجمعيات العسكرية والقومية. ثم تأتي الـمصالح الاقتصادية البحتة (تمييزاً لها عن المصالح الاقتصادية الحيوية التي تبعث الجمعيات الحيوية في نوعيها الجنسي واللاجنسي) وهذه تتناول الـجمعيات الـمالية والتجارية الكبرى والمصارف والشركات الـمتحدة كـ «الترسط» [trust] وغيرها والاتحادات التجارية وجمعيات المستخدِمين وجمعيات المستخدمين، الخ. وتأتي في أرقى المراتب المصالح السياسية وأكبر جمعياتها، الدولة، تشمل جميع مصالح الـمتحد الأتم الذي هو الأمة ويتفرع من الدولة جمعيات أخرى أصغر منها تختص بالمتحدات التي هي أصغر من الأمة هي الحكومات المحلية للمناطق والمدن. وبعد الدولة نجد الأحزاب السياسية التي هي جمعيات تختص بمصالح الفئات. ثم تأتي الجمعيات السياسية للقيام على مصالح معيّنة. ثم الجمعيات القانونية والقضائية وغيرها. وهنالك أيضاً المصالح الاجتماعية العمومية وهي تشكل جمعيات التعارف والصحبة وأندية السمر والتسلية البريئة أو المفيدة.


هذه صورة غير تامة من مصالح أي متحد راقٍ، وهي على ما بها من نقص تمثل جلياً بُعد المرحلة بين مصالح الجماعات الفطرية والمجتمعات المتمدنة الراقية. وكلما ارتقى المتحد في ثقافتيه المادية والعقلية ازدادت المصالح المعيّنة التي من شأنها ترقية الحياة الجيدة وتجميلها.


قد عرّفنا الـمتحد بالنسبة إلى الصفات الـخاصة التي تميّزه عن غيره (راجع ص 124) ونرى أن نعرّفه بالنسبة إلى مصالـحه وإرادته، فهو من هذه الوجهة وحدة اجتماعية حاصلة لأعضائها القناعة الداخلية الاجماعية أنّ لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإراداتهم، في حياة عمومية مشتركة على مستوى ثقافي معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة. وبعد هذين التعريفين، هل ندرك الفارق المعيّن الرئيسي بين كل متحد وكل متحد آخر؟ أهو الصفات المميزة، وقد رأينا أنّ هذا الفارق ليس من الثبـات والتحـدد بحيث يصح أن يكون الفارق الرئيسي المعيّن؟ أم هو الـمصلحة، ومصلحـة عـدد كبير من الـمتحدات تتماثل إلى درجة يستحسن معها توحيدها؟ أم هو الثقافة، ونحن نعلم أنّ متحدات عديدة كبيرة وصغيرة تأخذ بثقافة واحدة عامة؟ كلا، ليس واحداً من هذه الفوارق الفارق الأساسي، بل الفارق الأساسي هو وحدة الحياة المتجمعة ضمن حدود معيّنة. فالمتحد الاجتماعي ليس مجرّد أوصاف أو مصالح، بل هو أمر واقع. هو جماعة من الناس تحيا حياة مشتركة في بقعة معيّنة ذات حدود.


كل متحد، مهما كثرت صفاته أو قلّت، ومهما تعددت مصالحه، هو متحد قائم بنفسه. كل قرية متحد ولا يعكس، وكل مدينة متحد ولا يعكس، وكل منطقة متحد ولا يعكس، وكل قطر متحد ولا يعكس. والقطر الذي هو متحد الأمة أو المتحد القومي هو أكمل وأوفى متحد. فالمصالح تنشأ في المجتمع، لا خارجه. والصفات تتكوّن من حياة جماعة مشتركة وكل جماعة لها حدود، حتى البدو الرُحّل لهم حدود لرحلتهم. فهم يتنقلون أبداً ضمن نطاق تجري حياتهم ضمنه فإن خرجوا منه إلى بيئة جديدة خرجت حياتهم عن محورها. ولو كانت بيوت أهل دمشق قائمة إلى جانب بيروت من جهة صيدا والشويفات مثلاً، وملتحمة ببيوت هذه المدينة، أكان يجوز حينئذٍ التحدث عن مدينتين متميزتين، عن متَّحَديْن؟


يعرف المتجول المتحد قبل أن يعرف مصالحه وخصائصه وصفاته. فهو إذا أطل على بلدة كمشغـرة يـدرك حالاً أنّ هنالك متحداً من الناس قبل أن يعرف أنّ أهل مشغرة كانوا زرّاعاً وأنهم اليوم صناعيون متخصصون في دباغة الجلود، وأنّ هذا التطور الاقتصادي قد طوّر مستوى مصالحهم وعدّل أخلاقهم. وهكذا الذي ينتقل من قطره إلى قطر آخر يدرك أنه قد أصبح في متحد جديد سواء أكان يعرف ما هي لغة أهله أم لا يعرف، سواء أكان يجهل أخلاقهم أم لا يجهل. يميّز الإنسان المتحد أولاً ثم يميّز خصائصه فهو يرى البلدة أولاً ثم يرى أشكال بيوتها وجنائنها وبساتينها ونسبة ترتيبها إلى طبيعة البيئة. وهو في تنقّله من قطر إلى قطر يرى برية ذلك القطر وأماكن إقامة أهله واتصال قراه ومدنه بعضها ببعض ومدنه الكبرى، التي هي الكتل الـمغنطيسية التي تتوجه إليها الكتل الصغرى ثم يتعرف إلى جمعياته التي تمثل مصالحه ومؤسساته وإلى أخلاق أهله وصفاتهم. أما المصالح فهي مصالح هذه المتحدات. وأما الصفات فهي صفاتها، وأما الإرادة ففي كل منها وما الإرادة إلا التعبير عن الحياة. ما نريد هو ما نحن(7). نحن نريد مصالحنا لأننا نريد حياتنا والإرادة على قدر المصلحة، وكلما كانت المصلحة أساسية دائمة كانت الإرادة كذلك.

 

تـحديــد الأمــة
الأمة هي أتم متحد، كما قلنا. ولكن لا بد لنا من درس هذا المتحد درساً خاصاً به، لأنه أوسع وأكثر تعقداً من كل متحد آخر. ومع أنه ليس من الصعب إيضاح الواقع الاجتماعي والحقائق الاجتماعية فإن الأمة كانت ولا تزال محور كثير من النظريات التي قد تبـدو متعـارضة وأحيانـاً متناقضة. والسبب في ذلك أنّ الأمة تنطوي على عنصر هامّ، بل حيوي لها، مفقود من المتحدات الأخرى، هو العنصر السياسي. فالكلام على الأمة يكاد لا يخلو من عصبية القومية أو الوطنية، أو من الأغراض السياسية، وهو لذلك عرضة لاختلاف النظريات وتعدد المذاهب فيه.


كل أمة تشعر بضرورة سيادتها على نفسها وحماية مصالحها من إجحاف وتعديات الأمم الأخرى. وفي هذا التنازع، الذي كثيراً ما يكون عنيفاً، يلجأ سياسيو الأمة ومفكروها إلى نظريات توافق ظروف أممهم وتكسبها معنويات قوية. فبعضهم يبحث عن حقيقة تاريخية أو مثال حقيقي أو موهوم من التاريخ، أو عن نزعة دينية أو سلالية. ولا يقتصر تنازع البقاء على تنازع النظريات بين الأمم، بل يمتد إلى تنازع النظريات ضمن الأمة الواحدة، لما تشتمل عليه الأمة من طبقات وجماعات يكون لبعضها مطامع ومصالح خاصة، كما حدث للنظريات القومية الفرنسية، مثلاً. فإن الأمة الفرنسية التي ابتدأت تتكون من امتزاج عنصرين رئيسيين هما: الجلالقة أهل البلاد الأصليون والفرنك المغيرون على بلادهم، وهؤلاء شطر من القبائل الجرمانية، تعرضت في مجرى تاريخها للنزاع الخارجي الذي جعل رجالها الشاعرين بمصالحها الخاصة يبحثون عن ممسك روحي، حقيقي أو خيالي، يجمع الفرنسيون من فرنك وجلالقة على التمسك به صيانة لمصالحهم، التي أصبحت مصالح متحد واحد، من أخطار التقلبات السياسية والحربية. وقد توهّم بعضهم أنّ إنقاذ وحدة المتحد الفرنسي من كل اختلاط خارجي، خصوصاً مع جيرانهم الألمان الذين هم شطر آخر من القبائل الجرمانية، وتقويتها يتمّان بجعل الفرنسيين سلالة واحدة من نسب واحد. ويجب أن يكون هذا النسب عريقاً في المجد والبطولة، عظيماً بخوارق قوّته يحبب الانتساب إليه والالتفاف حوله. وأي نسب أعرق وأحب من أبطال طروادة الذين خلدهم هوميرس [Homer حوالى 850 ق.م.]. ألم يقلد ورجيل [Virgil, 71 - 19 B.C.] هوميرس وينظم أناشيد «الإنيادة» في البطل إنياس Eneas الذي تحدر منه الرومان؟ إذاً يجب أن لا يقلّ بناء باريس عظمة عن بناء رومة. وكما وجد في إيطالية ورجيل ليخلد ذكر أبي الرومان الوهمي كذلك يجب أن يوجد لفرنسة من يخلد ذكر البطل العظيم الذي خرج من صلبه الفرنسيون: فرنقس أو فرنسيون بن هكتور! وقد وجد «رنسار» (Ronsard) الذي اهتدى إلى هذا الحلم الضائع وأخذ يؤلف أناشيد «الفرنسيادة»(8) مجاراة لورجيل في الإنيادة فنشر سنة 1572 الأناشيد الأربعة الأولى الوحيدة التي ظهرت. ولكن رنسار عدل عن متابعة هذا العمل الشاق العقيم، ومع ذلك فإن الاعتقاد بالأصل الطروادي للفرنسيين ظل معششاً حتى أواخر القرن السابع عشر. وقد حمل السبب نفسه الذي من أجله وضعت نظرية الأصل الطروادي للفرنسيين، فرنكاً وجلالقة وروماناً، كتّاباً آخرين على البحث عن ممسك آخر مخترع يكون أقرب إلى المعقول، فذهب بعضهم (Etienne Forcadel) إلى أنّ الفرنك ليسوا سوى جلالقة هاجروا في زمن قديم ثم عادوا إلى وطنهم وميراثهم وعلى هذا يكون كل الفرنسيين جلالقة. فلما أثبت ليبنتز جرمانية الفرنك ولم يعد في الإمكان دحضها ذهب عدد من الكتّاب إلى وحدة الشعب المؤلفة من المزيج الجلالقي والفرنكي وواحد منهم جعل اسم فرنسة «فرنكوغاليا» (Francogallia) واتخذه عنواناً لمؤلفه(9).


تـراوحت النزعات القومية في فرنسة بين أن تكون الأمة من أصل جلالقي أو طـروادي أو جرمـاني. واشتد نـزاع النظـريـات في الأصل بين مختلف الكتّاب والـمؤرخين الذين عالـجوا هذه القضية القومية الفرنسية. وبديهي أن تكون الأنظار اتجهت في البـدء إلى الوجهـة السلاليـة من الموضوع، لأن اصطلاحات الرابطة الدموية الموروثة من العهد البربري كانت لا تزال مسيطرة، وهي الاصطلاحات التي تسيطر على كـل مـوضـوع قـومي في كـل أمـة لا يزال عهدها بالبربرية قريباً أو خضعت، لعهد قريب، لعوامل موجة بربرية. واشتد النزاع الداخلي في فرنسة حول هذه النقطة لأنها كانت تهمّ طبقتي الأشراف والعامة في تنازعهما حقوق السيادة والحرية. وقد أولع عدد من أشهر كتّاب الفرنسيين بالمفاخرة بالعنصر الجرماني الفاتح، مزدرين كل فكرة جلالقية، لأن الفتح شيء لامع محبوب عند كل الأقوام، حتى حسبه هؤلاء الكتّاب مغنياً عن روعة الواقع في نشوء الأمم. وقد أشرنا إلى ما كان من شأن العقائد السلالية في فرنسة في الفصل الثاني من هذا الكتاب (ص 17 أعلاه) فليراجع هناك.


سيطـرت كل نـزعة من هذه النـزعات السلاليـة القومية على عصر من عصور حياة الأمة الفرنسية، وفاقاً لظروف كل عصر ومطاوعة لمصالح الطبقات والفئات الخاصة. فسرى الاعتقاد بالأصل الطروادي مدة من الزمن ثم قويت العقيدة الجلالقية ثم سيطر المذهب الجرماني الفرنكي، في التعليم المدرسي، الذي يجعل الفرنك أسلاف الفرنسيين حتى مئة وخمسين سنة خلت. أما الآن فالتعليم العمومي في فرنسة يجعل الجلالقة، أهل البلاد قبل مجيء الفرنك، أسلاف الفرنسيين(10). أما الأمة الفرنسية والقوميـة الفرنسيـة فتتمثلان في كلمة كـانت استعمالاً لم يحظَ منذ البدء بمرتبته العالية، ولكنها أخذت تنحت موقعها في القلوب حتى أصبحت أوضح صورة للأمة الفرنسية والقومية الفرنسية هي: الوطن  (11) (Patrie) الذي جعل إسميْ «فرنسية» و«غليا» مترادفين. ومع أنّ اسم فرنسة هو الذي غلب على البلاد بالاستعمال فإن الكيان الفرنسي ظل دائماً يطمح إلى جعل حدوده حدود الجلالقة القديمة.


نكتفي بهذا الـمقدار للدلالـة على أنّ تـحديد الأمة قد يتعرض للتأثر بعوامل العقائد والأغراض قبل أن تنجلي في الذهن حقيقة الواقع الاجتماعي. فالأمة الفرنسية التي بقيت هي هي كانت أولاً نسباً بعيداً ثم سلالة ثم أصبحت وطناً.


كما يجد الدارس الاجتماعي صعوبة في فهم حقيقة المتحد من الأمثال والتشبيهات، كذلك هو يجد صعوبة في فهم المتحد القومي أو الوطني من وراء التحديدات التي قد تبدو متعارضة، وتكون كذلك أحياناً إن لم يكن غالباً، لأن الذين حددوا الأمة حددّوها على ما سطع لكل منهم من نورها ووحيها في بيئته الخاصة. فرينان [J.E. Renan, 1892 - 1823] يحدد الأمة متأثراً بتاريخ فرنسة والروحية الفرنسية حين قال «ليس تكلم لغة واحدة أو الانتساب إلى مجموع شعبي Ethnographique واحد هو ما يؤلف الأمة بل يكوّنها الاشتراك في فعل أمور عظيمة في الماضي والرغبة في فعلها في المستقبل»(12) هذه صورة الأمة الفرنسية من خلال تاريخ دولة الكبتيين وما بعدها. ولـمّا كان دارس العلم السياسي يتناول موضوع الأمة ويحاول فهمها من الأقوال التي ذهبت أمثالاً في هذا الشأن، أرى أن أتناول هذه التحديدات وأن أحلل أجزاءها، لكي أسهّل على الطالب السياسي أو الاجتماعي متابعة درس هذه القضية بالأسلوب الذي تعوّده.


إنّ أول تـحديد وُضِع لتعيين ماهية الأمة وإيجاد صورة ذهنية منطقية لها هو التحديد الذي أعلنه بسكال منتشيني Pascal Mancini في خطابه الشهير الذي افتتح به فـرع الـحقـوق الإنتـرنـاسيونيـة في جـامعـة تورينـو، في الثاني والعشرين من كـانون الثاني/يناير سنة 1851 وهذا نصه الحرفي:
"Nazione é  una Società naturale di uomini,  dà unità di territorio, di origine, di costumi, di lingua conformata à communanza di vita e di coscienza sociale.”


وترجمته: «الأمة هي مجتمع طبيعي من الناس ذو وحدة أرضية (جغرافية) وأصلية ووحدة عادات ولغة خاضع للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي.» وقد جلب هذا التصريح على منتشيني نقمة النمسة، التي سعت إلى منع خطبه، ومصادرة أملاكه بأمر ملك نابولي.


منذ صرّح منتشيني بتحديده المشار إليه ونشره في السنة نفسها، في  Prelezioni تنبه المفكرون الحقوقيون والسياسيون والاجتماعيون إلى وجوب تعريف الأمة تعريفاً خالياً من الغرض ومن حرية القول الاستبدادي أو غير المنقود. فتعاقبت التصريحات والتعاريف، التي لم يكن بعضها سوى توسيع أو تعديل لتعريف منتشيني. فشدد بعضها على عنصر معيّن من عناصر الأمة وتشبث البعض الآخر بعنصر غيره أو بمجموعة عنصرية خاصة. ويحسن هنا، قبل البدء بتحليل عناصر الأمة، أن نذكر تعاريف أخرى بألوانها الخاصة لنرى تنوعات الفكرة الواحدة ونموها وتطورها.


بعد منتشيني ببضع سنوات عرّف الأمة متشرع آخر فرنسي Pradier - Fodéré بأنها «مجتمع يشكله سكان بلاد معيّنة لهم لهجة معيّنة (Même langage) وترعاهم قوانين معيّنة وتوحدهم هوية الأصل والتوافق الفيزيائي والاستعدادات المناقبية، واتحاد طويل العهد في المصالح والشعور، وتدامج في العيش على مر القرون. وما يفهم من القومية هو أنها حصول حالة الأمة في الواقع.»(13) وفي سنة 1915 عرّف إميل دركهيم  (Durkheim) القوميـة بأنها «جماعـة إنسانية تريد، لأسباب إتنيـة أو تاريخية فقط، أن تـحيا في ظل قوانين معيّنة وأن تشكل دولة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وهو الآن مبدأ مقرر عند الأمـم الـمتمدنة أنه متى ثبتت هذه الإرادة الموحدة نفسها باستمرار، حق لها أن تُعتبر الأساس الثابت الوحيد للدول.»(14) وفي سنة 1919 ألّف م. إيوانوف كتاباً بعنوان البلغاريون أمام مؤتمر الصلح عدّد فيه العناصر التي تـؤلف الشخصية القومية وتحفظها فـإذا هـي: «وحدة السلالة، الـحدود الـجغرافيـة، اللغة، الدين، الوحدة السياسية، التاريخ والتقاليد، الأدب، طريقة الحياة والمظاهر الثقافية العمومية، وكلما ازداد ظهور العناصر في قـومية ما، ازداد أحيـاؤها وحدة، وازداد الشعور القومي الذي يحركهم توقداً واندفاعاً.»(15) وإننا نرى رنان يشدد على «الـمبدأ الروحي» للأمة ولكنه يعود فيقول: (Une nation résulte du mariage d’un groupe d’hommes avec une terre»(16» الأمة تتـولد من زواج جماعة من الناس وبقعة أرضية. ويأتي أيضاً شبنغلر فيقول «ليست الأمـم وحدات لغوية ولا سياسية ولا بيولوجية، بل وحدات روحية(17) ومع ذلك نرى مبدأ السلالة يسيطر على معنى الأمة في ألمانية في حين أنّ هنالك تعاريف أخرى تعزز أهمية الأرض كقول فن إيرن (Fon Ihren) «الأرض هي القوم» وما ذهب إليه هردر (Herder) بهذا الصدد.


إذا تركنا الآن التحديدات الـجزئية أو الفرعية، أو الموضوعة من وجهة نظر واحدة أو خاصة، وعمدنا إلى درس عناصر الأمة استناداً إلى التحديدات الشاملة غير المتميزة، أو المقصود منها أن تكون مجرّدة، وجدنا هذه العناصر معددة، على أتم وجه موضوع حتى الآن، في تعريفيْ منتشيني وإيوانوف. ومن مقابلة هذين التعريفين نجد إيوانوف يستعمل «وحدة السلالة» حيث يستعمل منتشيني «وحدة الأصل». ونراه يضيف إلى عناصر منتشيني الدين والوحدة السياسية والتاريخ والأدب، ويضع التقاليد في محل العادات، وطريقة الحياة والمظاهر الثقافية العمومية في محل الاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي. فلنأخذ كل عنصر كما ورد في كل من هذين التعريفين ولندرسه ولنقابله مع مشابهه.


نبدأ بتعريف منتشيني ونتناول قوله إنّ الأمة هي «Società naturale di uomini» مجتمـع طبيعـي من الـنـاس. فـواضح من هـذا القـول أنّ الـمجتمع الطبيعي هو نقيـض الـمجتمع الاصطناعي، وبهذا القول وضع منتشيني حداً فاصلاً بين الأمة من حيث هي مجتمع بطبيعة الواقع، إذ ترى الناس مشتركين في أسباب حياتهم الواحدة في مجرى طبيعي من التفاعل والترابط، والدولة من حيث هي نطاق قد يتسع حتى يشمل ما هو أوسع من الـمجتمع الطبيعي فيكون مجتمعاً مصطنعاً من مجتمعين طبيعيين أو أكثر. نأخذ مثـلاً سوريـة وبلاد العرب فنرى سورية متحداً تاماً، مجتمعاً طبيعياً تجري ضمنه حياة أفراده في ترابط وتفاعل تامّين واشتراك في مصير واحد. فالسوريون يشتبكون اشتباكاً متيناً في جميع المصالح كالزواج والتعاشر والتعاون الاقتصادي والجمعيات والأندية والأحزاب والنقابـات والـمدارس، الخ. كـذلك نـرى بلاد العرب مجتمعاً، بل مجتمعـات طبيعية. فالعـرب تـجـري حيـاتهم ضمن دوائـر قبائلهم ولهم مصالحهم الخاصة في الزواج والرحلة والغزو والسلب. وليس لهم مصالح عمرانية إلا في أسفل الجنوب في اليمن وهناك مصالحهم خاصة وضعيفة. والمصالح النفسية هي بالإجمال معدومة. ففي زمن الدولة الإسلامية أصبح هذان المجتمعان الطبيعيان مجتمعاً واحداً مصطنعاً هو مجتمع الدولة، فاشتركا في دولة واحدة ولكنهما ظلا مجتمعين طبيعيين منفصليـن في الـحياة. فمن استقر من العرب في سوريـة أصبح جزءاً من المجتمع السوري الطبيعي وطلّق البادية بالمرّة. وهذا ما حدث مراراً في مجرى التاريخ ليس لسورية وبلاد العرب فقط بل لأقطار عديدة كالمجتمعات التي ضمتها رومة إلى نطاقها الشرعي والدولي، وبسطت عليها لغتها كجلالقة عبر الألب وأقطار أخرى فإن هذه المجتمعات اشتركت في حياة الدولة الرومانية ولكنها لم تكوّن وإيطالية مجتمعاً طبيعياً واحداً. وكان من البديهي أن تنقم النمسة على منتشيني لأنه يوقظ في الطليان فكرة مجتمعهم الطبيعي فيكون فيها القضاء على سلطتهم في إيطالية. فالأمة إذاً مجتمع طبيعي، لا بالقوة الخارجية ولا بالاستبداد ولا بأي شكل من أشكال الاصطناع. أما قوام الأمة (المجتمع الطبيعي) فيعطينا منتشيني عنصرها الأول: الوحدة الأرضية، أو الحدود الجغرافية في تعريف إيوانوف.


كان منتشيني موفقاً كل التوفيق حين قدّم العنصر الأرضي على جميع عناصر المجتمع الطبيعي الأخرى. فقد رأينا في فصل سابق (الثالث) أنّ الأرض هي أولى إمكانيات الحياة على الإطلاق، واليابسة عموماً هي أولى إمكانيات حياة الحيوانات ذات الجهاز التنفسي وأولى إمكانيات حياة الإنسان. وأشرنا هناك إلى تنوع البيئات وإمكـانياتها. فالبيئة الـجغرافية ضرورية لحياة المتحد أو المجتمع ضرورة الأرض للحياة. وأي متحد أخذناه وجدناه محدداً بالمساحة أو البيئة، لأن الإقامة في الأرض والعمران لهما شروط سابقة لا يتمان إلا بها. وقد عرضنا لها في الفصل الثالث.


وإذا أعدنا النظر في البيئة الجغرافية، في القطر وما يتعلق به، وجدنا أنّ الحدود ليست من التمام بحيث تفصل فصلاً تاماً بين أي قطر وكل قطر، بين أي متحد وكل متحد، وإلا لوجب أن نسمي كل قطر دنيا قائمة بنفسها. وحيث الفصل تام كما في الجزر يلجأ المجتمع إلى إيجاد طرق وأساليب للمواصلة، وهو لا ينفك يحسّن هذه الطرق والأسـاليب حتى يجعـل الاتصال على أفضل حالـة مـمكنة. لأن العزلة التامة منافية للتمدن والارتقاء الثقافي. ولكن الحدود تقلّل الاتصال، سواء أكان سلمياً أم حربياً، وتصعّب التداخـل والاختلاط الاجتماعيين مع الخارج بقدر ما تسهّل اشتبـاك الجماعات في الداخل واتـحادها. فالبيئة الـمحددة هي البوتقة التي تصهر حياة هذه الجماعات وتمزجها مزجاً يكسبها شخصية خاصة، كالشخصية التي يكتسبها الشبهان (البرنز) من مـزج النحـاس والتنـك والـرصـاص، وهي التـي تـوجـد الإمكـانيات لنشوء الـمراكز العمرانية التي تتألب عليها قوات المجتمع ويحتشد فيها نتاجه الثقافي، فتتكون البيئة الاجتماعية التي تصبح ذات مناعة تكمل ما نقص من الحدود الطبيعية. والحقيقة أنّ البيئـة، من حيث هي مـركز الاجتماع والتكتل، هي أهم من الـحدود لتكـوّن البيئـة الاجتماعية ولكن الـحدود الطبيعيـة ضروريـة لوقايـة الـمجتمع وحماية نـموه حتى يستكمل قوّته الشخصية. فبعض الأمم جنت عليها قلة حدودها الطبيعية أو رخاوتها وطلاقتها كبولونية، وأرمينية وإلى درجة أقلّ الإغريق والأراضي السفلى (هولندة) وبلجية. وكذلك سورية فقد جنت عليها كثيراً طلاقة تخومها من جهة الصحراء فالصحراء حد للبيئة السورية يقف عنده عمرانها وتمدنها وثقافتها، ولكنها لم تكن حداً للقبائل المتحيّنة الفرص للاستيلاء على أرض آمن من الصحراء وأضمن للعيش منها، والاستقرار فيها.

لعل سورية أفضل مثال للبيئة التي تصهر الجماعات المختلفة النازلة بها وتحوّلها إلى مزاج واحد وشخصية واحدة. فنحن نعلم أنّ سورية كانت مأهولة في العصر الحجري الـمتوسط، كما دلـت البقايا الـمكتشفة في فلسطين، وأنها على الأرجح مصدر الثقافة المغالثية(18). ونعلم أيضاً أنّ جماعات شمالية كالحثيين وغيرهم قطعت طوروس وهبطت سورية لتلتقي فيها بالجماعات الجنوبية الخارجة من الصحراء، فتمتزج هذه الجماعات كلها وما أضيف إليها مما جاء من الغرب كالفلسطينيين بعضها بالبعض الآخر وببقايا جماعات العصر الحجري وتكون مزيجاً خاصاً. ومع أننا نتمكن، بالأدلة الرأسية والدموية من تقصّي مختلف السلالات الموجودة حالياً في سورية، فإننا نرى لها كلها طابع البيئة الخاص الذي يكسبها تشابهاً قوياً وتجانساً شديداً(19). وقد رأينا أنّ هذا المزيج السوري تمكن من إنشاء إمبراطورية قوية بسطت سيطرتها على مصر واتخذت مصر قاعدة لها، كما رأينا مصر تبسط نفوذها على سورية وكما رأينا إمبراطورية الفرس تبسط ظلها على العراق وسورية ومصر. ولكن لم يؤثّر شيء من ذلك على تحديد البيئة المتحد. وهنا تبدو لنا صحة قول فن إيرن «الأرض هي القوم» وقول رنان في كيف تتكون الأمة (راجع ص 134) والفرق الواضح بين المجتمع الطبيعي القومي والمجتمع المصطنع السياسي. وويدال دلابلاش، الذي أشرت مراراً إلى مؤلفه القيِّم في الجغرافية الإنسانية، يقول(20): «إنّ ظواهر الجغرافية الإنسانية (توزيع البشر) تنسب إلى الوحدة الأرضية التي لا يمكن تعليل تلك الظواهر بدونها. إنها (الظواهر) تعزى، في كل مكان، إلى البيئة التي هي بدورها وليدة توافق حالات فيزيائية» وهو يوافق «لواصور» في أنّ سكان أية بقعة كانت يتألفون من عدد معيّن من النوايا (جمع نواة)  المذرورة المحاطة بمناطق مشتركة المركز تقلّ كثافتها في ابتعادها عن مركزها(21). فكل متحد له مراكز تجمّع مشتركة تضعف عوامل الحياة وظواهرها وتقلّ كثافة السكان كلما ابتعدت عنها، فهي الكتل المغنطيسية التي تجذب ما حولها إليها.
ما أصدق هذا القول على سورية. فهو يصدق عليها كما يصدق على فرنسة وعلى أي بلاد أخرى. خذ النوايا المذرورة في سورية، في التاريخ القديم، تجد أنها قد أصبحت كتلاً مغنطيسية قوية كدمشق وحمص وحلب وبيروت والقدس. ألا تقلّ كثافة السكان ومظاهر الحياة كلما ابتعدت عن القدس جنوباً وعن دمشق شرقاً وجنوباً حتى تكاد تنعدم، ثم ألا تقلّ عن حلب شمالاً وشرقاً، وماذا [عن] غرب بيروت؟ أوليست سورية كلها تجمعات صغيرة حول كتل مغنطيسية كبيرة؟ ولو كانت القاهرة واقعة بين القدس ودمشق، مثلاً، أو بين القدس وقناة السويس، وقرى مصر ومزارعها واقعة في شبه جزيرة سيناء وما حولها بحيث يكون هنالك عمران واحد في بيئة واحدة، هي بيئة القطر السوري، أكان في الإمكان حينئذٍ التكلم عن القطرين سورية ومصر؟ ولو كانت بغداد واقعة قرب «الرتبة»، أو بين هذه ودمشق، أو لو كانت الصحراء بين سورية والعراق بلاداً عمرانية آهلة بالسكان، أما كانت البيئة الموحدة وحدت المجتمع أيضاً؟


لا أمة على الإطلاق بدون قطر معيّن محدود. أما ما ذهب إليه إسرائيل زنويل  (Israël Zangwill)من أنّ الشعب اليهودي تمكن من الاحتفاظ بنفسه بدون بلاد(22) فمن الأغلاط الاجتماعية الفاضحة. فاليهود قد احتفظوا بيهوديتهم الجامدة من حيث هم مذهب ديني. وقد أكسبهم دينهم الشخصي عصبية لا تلتبس بالعصبية القومية إلا على البسطاء والمتغرضين. اليهود ليسوا أمة أكثر مما هم سلالة (وهم ليسوا سلالة مطلقاً)، إنهم كنيس وثقافة(23). لا يمكننا أن نسمي اليهود أمة أكثر مما يمكننا أن نسمي المسلمين أمة والمسيحيين أمة، أو السنيّين أمة والشيعة أمة والأرثوذكس والكاثوليك أمة، الخ. ولجميع هذه المذاهب عصبياتها وتقاليدها التي تتميّز بها.
الأمة تـجد أساسها، قبل كـل شيء آخر، في وحدة أرضية معيّنة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها. ومتى تكونت الأمة وأصبحت تشعر بشخصيتها المكتسبة من مناخ أرضها ومواد غذائها وعمرانها ومن حياتها الاجتماعية الخاصة، وحصلت من جميع ذلك على مناعة القومية، أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها وممكناتها. وبقدر ما هي الحدود جوهرية لصيانة المجتمع من تمدد المجتمعات الأخرى القريبة منه كذلك هي، إلى درجة أعلى، طبيعة البيئة ومواردها. فالأمة تكون قوية أو ضعيفة، متقدمة أو متـأخـرة، على نسبة مـمكنات بيئتها الاقتصادية ومقدرتها على الانتفاع بهذه الـممكنات. وإنّ وجود مـوارد كافية لتأمين التبادل الـداخلي ومعادلـة التبادل الـخارجي، أو زيـادة الصادر على الوارد، هو من شروط البيئة الصالحة لنشوء الأمة. القطر والجماعة، وإن شئت فقل القطر الصالح والقوم المؤهلون، هذان هما العنصران الأساسيان لنشوء الأمة.


يعرّف منتشيني العنصر الثاني بوحدة الأصل (العرق) للجماعة، أما إيوانوف فيعرّفه بوحدة السلالة. وفي هذين التعريفين، على ما بهما من تشابه في المرمى، اختلاف قد لا يكون يسيراً، وهذا الاختلاف هو في اختيار إيوانوف لفظة السلالة التي قد لا تخلو من مغزى في استثارة نعرة معيّنة. يمكن أن تتفق هاتان اللفظتان: الأصل والسلالة، إذا عني بالسلالة تعاقب أجيال شعب معيّن بصرف النظر عن الحقائق الأنتربلوجية - الحيوانية (زولجية). فإن من المؤلفين في السلائل كمرتيّيه  (Mortillet) من يميّز بين السلالات التاريخية والسلالات الحيوانية الفيزيائية. وهذه نظرة تذهب إلى أنّ اختلاط سلالات أمة معيّنة وتمازج نسلها قد يولدان، على التعاقب، سلالة فرعية أو ثانوية، بحيث يصبح في الإمكان التكلم عن السلالة السورية والسلالة الألمانية والسلالة الإنكليزية. وقد ورد ذكر السلالة السورية على أقلام الكتّاب كما جرت على أقلامهم السلالة الأنكلوسكسونية التي يسخر منها كثيراً ولز في مجتزئه التاريخي. والفرنسيون، الذين ينتقدون الألمان كثيراً في مذهبهم السلالي في القومية المؤسس على نظرية غوبنو وتشمبرلين الآرية، يعتنقون هذا النوع الفرعي من السلالة، فتقوم السلالة التاريخية لهم مقام السلالة الفيزيائية. ومع أنّ هذه السلالة قد تراوحت عندهم بين أن تكون فرنكية جرمانية أو جلالقية، فهي قد رست على السلالة الفرنسية التي تتخذ الجلالقة أسلافاً لها، محافظة على الارتباط التاريخي بين القوم والأرض.
الحقيقة أنه ليس لأمة من الأمـم الـحديثة أصل سـلالي واحد، حتى ولا أصل شعبي واحـد، إذا أردنـا أن نعود إلى الأصل الفيزيائي أو التاريخي. فلست أخال منتشيني يعتقد أنّ الطـليـان من أصـل سـلالي واحـد أو من أصل شعبـي واحد. فإذا تتبعنا تاريخ تكوّن الأمة الإيطالية كان الأصل الوحيد الثابت الذي نتمكن دائماً من تقريره هو الأرض إيطالية. أما الأصل الشعبي فهو مشترك في عدة أصول. فقد نشأت رومة من ثلاث قبائل وجدت نفسها محاطة بشعوب قوية مختلفة اللغات والثقافات كالأتروريين (الأترسكيين) الذين أخذ الرومان عنهم فنونهم، واللاتين الذين أخذوا عنهم لغتهم واللوكانيين والليغوريين والجلالقة أمام الألب وغيرهم، ثم جاء فيما بعد اللمبرديون. ومن اختلاط هذه الشعوب في إيطالية نشأت الأمة الإيطالية (لا الأمة الرومانية). وقد أشرنا إلى سلالات إيطالية الأنتربلوجية (راجع ص 25). وسواء أأخذنا السلالات الإيطالية من الوجهة الأنتربلوجية أم من الوجهة التاريخية وجدناها غير موحدة الأصل.


إنّ الأمة، من الوجهة السلالية أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماوية التي يتميز كل مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر. وهذه الأمة السورية فأي أصل واحد لها؟ أهو الأصل الكنعاني (الفينيقي) والكنعانيون جاؤوا طبقة فوق طبقة أهل العصر الحجري، أم الأموري أم الحثي أم الآرامي؟ أوليست سورية مزيجاً أو مركّباً معيّناً من هذه الشعوب مضافاً إليها العرب بعد الإسلام وغيرهم. وإذا أخذنا الوجهة الأنتربلوجية من الأصل السوري وجدنا أنه كذلك مزيج من مفلطحي الرؤوس ومعتـدليها ومستطيليهـا كما أثبتت ذلك الأبحاث الأنتربلوجية(24) وكما سنسهب ذلك في الكتاب الثاني. وقد رأينا أنّ فرنسة لا تختلف عن سورية وإيطـاليـة بهذا الصدد. وإذا وجّهنـا نظـرنـا إلى إنكـلتـرة والـجـزر البـريطـانيـة عموماً فإننا نـجد الـحالة نفسها من الـمزيج ففي إنكلترة وحدها شعبا «الإنكليز والسكسون» ثم ما جاءهم من رومان ونرمان، وهؤلاء الأخيرون كان لهم التأثير في تغيير لغة الإنكليز حتى أصبحت لاتينية أكثر منها جرمانية، حتى أنشد تنسون «من نرمان وسكسون ودنمركيين نحن.» وليس الأصل الإنكليزي سوى ما جعل شكسبير هنري الخامس يحثّ به جنوده:  Yeomen whose limbs were made in England «الرجال الذين صنعت أعضاؤهم في إنكلترة.» وماذا نقول في ألمانية؟ أليست هي خليط من نحو ثـلاث سـلالات أنتربلوجيـة وتختلـف أشكـالها السلالية في الشمال والجنوب والوسط، مع كل ما يحكى هنالك عن نقاوة الدم الآري؟ وهذه أميركة أمامنا فأية وحـدة سـلالية، تاريخيـة أو أنتربلوجيـة لها؟ أليست الولايـات الـمتحدة خليطاً من إنكليز وألمان وإرلنديين وطليان وسوريين وفرنسيين وأسوجيين، الخ. والبرازيل أيضاً هي خليـط من برتغاليين وسوريين وألـمان وطليان وزنوج وهنود أصليين وإسبان. وعلى هذا قس أية أمة أميركية أخرى. أكرر أنّ الأصل الإنساني الوحيد للأمة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال وهي الوحدة التي تتم دورتها ضمن القطر. المزيج المتجانس أصل كافٍ للأمة وهذا المزيج هو ما يُعبَّر عنه أحياناً بلفظة السلالة.


يضع منتشيني بعـد وحدة الأصل وحـدة العادات. وإذا بحثنا عن مرادفها أو مقـابلها في تعريف إيـوانوف وجدنا التقاليد، ولعل منتشيني يجعل العادات تشمل التقاليد، ولعل إيوانوف يجعل التقاليد تشمل العادات، والفرق بين العادات والتقاليد أنّ الأولى لا يجب أن تكون موروثة من الأجيال الماضية والثانية وراثية في الأجيال. تتناول التقاليـد ما هو بـمعنى الطقس أو القانون غير الـمكتوب لـما يكون لها من الـمساس بالحالات النفسية العميقة وشؤون الـحياة الهامّة كالزواج وأحواله والمآتم وطريقة دفن الـموتى ونظام العائلة، وهي لذلك أثبت وأصلب من العادات. فقد يجوز، في العرف، أن تترك عادة من العادات ولكن الخروج على التقليد يعتبر تمرداً وثورة. أما العادات فتتناول ما هو بمعنى الأزياء والتصرف في حالات وظروف معيّنة كحالات الأكل والشراب واللباس والمعاشرة والأعياد. فمن العادات عادة تقبيل الأيدي، مثلاً، وشرب قدح من العرق قبل الأكل وعادة التقبيل عند الوداع أو اللقاء وعادة السلام والتعارف والرقص. وبالإجمال العادة تتعلق، على الأكثر، بالذوق وما هو مستحسن وما هو مكتسب في الحياة الجيدة اليومية، والتقليد يختص بما هو جوهري في الـحياة الاجتماعية وما يتعلق بالاعتقادات الخفية المتوارثة ومنها ما صار اعتقادات دينية أو نصف دينية. ولا ينفي ما قلته بشأن وراثية التقاليد أن يكون هنالك عادات وراثية أيضاً فإن من الأشياء التي تصبح مستحبة ما يظل كذلك أجيالاً.


تنشـأ التقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها، وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها. وهذا يعني أنّ التقاليد والعادات تنشأ بعامل الاجتماع في المجتمع، فهي شأن من شؤون المجتمع ونتيجة من نتائجه أي أنها ليست سبباً من أسبابه، كما يظن عادة بعض الدارسين سطحياً، الذين يتوهمون أنّ توافق بعض عادات عند عدد من الأمم سبب يكفي لإلغاء واقع هذه الأمم والتعويض عنه باستنتاج أمة واحدة موهومة من عادات أو تقاليد معيّنة. فإن من التقاليد والعادات ما هو مشترك بين عدة أمم أو بين عدد كبير من الأمم، خصوصاً الأمم التي كانت قديماً قبائل أو شعوباً متجاورة كالشعوب السامية. فإن هذه الشعوب جميعها تشترك في تقاليد وعادات بعضها ديني وبعضها اجتماعي. ولكن هذه التقاليد والعادات ليست كـل تقاليدها وعـاداتها موحـدة، بل إننا نـجد لكل أمة من هذه الأمـم تقاليـد وعـادات خاصة بها ناتجة عن اختباراتها الخاصة الشخصية وعن نمو أذواقها بتفاعلها مع بيئتها وباتصالها بالعالم الخارجي. ووحدة هذه التقاليد والعادات الشخصية، التي تُظهر وجهاً من نفسية الأمة في مجرى حياتها، هي العنصر الهامّ من عناصر وجود الأمة.


كل أمة تنشأ بعامل ارتباط جماعة من الناس، مهما كانت تقاليدها وعاداتها ومهما كان مصدرها، ببقعة من الأرض لا بد من أن تكوّن في مجرى حياتها تقاليد جديـدة وعادات جديدة. فالتقاليد مع أنها وراثية، تنشأ وتندثر بعامل الحياة لتحلّ محلها تقاليد جديدة وكذلك العادات، وهي أسرع تبدلاً من التقاليد. كل ارتقاء في أمة يُحدِث تعديلاً في التقاليد والعادات. والأمة التي تتحجر تقاليدها وعاداتها تكون هي نفسها في حالة تحجر. هكذا الصين، مثلاً، فإن صلابة تقاليدها حرمتها التقدم بقدر ما فصلتها عن تقاليد العالم المتمدن. إنّ التقاليد تصبح في مثل هذه الحالة كالأغلال والقيود، لا يمكن الأمة أن تحيا حرة إلا بتحطيمها. يجب أن تكون حياة الأمة أقوى من تقاليدها وإلا قتلتها التقاليد. التقاليد والعادات تكسب حياة الأمة لوناً خاصاً تتميز به ولكنها لا تكوّن الأمة.


كل تطور ثقافي في أمة من الأمم يولّد تقاليد جديدة. وشرط التقاليد المميِّزة الأمة أن تكون متولدة من حياة الأمة. فهنالك تقاليد مشتركة بين عدد من الأمم ولكن ليست هذه التقاليد هي التي تميّز الأمة.


يشتـرك منتشيني وإيـوانوف في اعتبـار وحدة اللغة عنصراً أساسياً في تكوين الأمة. والحقيقة أنّ اللغة (أية لغة كانت) من حيث هي وسيلة للتخاطب والتفاهم البشري في المجتمع هي من ضرورات الاجتماع الإنساني الداخل فيه العقل والنفس. وإنّ وسيلة من وسائل التفاهم ضرورية أيضاً للتجمهر الحيواني الراقي كأصوات بعض الطيور وتنبيهات بعض الحيوانات الصوتية كنباح الكلاب وهريرها، أو الصامتة كإشعارات العث أو الذئاب.


كل مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية. وهكذا نرى أنّ اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه. إنها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أنّ الاجتماع أمر حادث باللغة.


ثم إنّ اللغة متى صارت لغة جماعة أو جماعات معيّنة أصبحت حاملة الميراث الأدبي الثقافي لهذه الجماعة أو هذه الجماعات. وفي هذه الحقيقة يكمن سر أنّ اللغة عنصر من عناصر الأمة. فالأمة من حيث هي متحد اجتماعي ذو نوع من الحياة خاص به في بيئته لا بد لها من لغة واحدة تسهّل الـحياة الواحدة وتؤمّن انتشار روحية واحدة تجمع آدابها وفنونها وعواملها النفسية وأهدافها ومثلها العليا. ولا فرق بين أن تكون اللغة الواحدة مختصة بالأمة الواحدة، أو مشتركة بين عدد من الأمم، لأن الهامّ للأمة في اللغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجاتها النفسية والمادية وما هو من خصوصياتها، لا أشكال ألفاظها القاموسية. فليس الفرق عظيماً بين أن يكون اسم الباب «باباً» والحجر «حجراً» وأن يكون اسم الباب Door أو  Porte أو Tuer واسم الحجر Stone أو Pierre أو Stein. وأن يعرف الإنسان أو القوم لغة لا تعبّر عن احتياجاته واشتياقاته كأن لا يعرفها. وبهذا المعنى فقط يجب أن يفهم قول بلنتشلي  :(Bluentschli)«متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميته» أي متى كانت اللغة الجديدة لغة راقية غنية بأدبها الخاص حاملة مجاري نفسية وفكرية قوية تجرف معها النفسيات الجديدة الداخلة فيها. أما حيث تكون النفسيات الداخلة في لغة جديدة قوية فإنها تفعل في اللغة وتكسبها من نفسياتها وتوجهها في التعبير عن احتياجاتها ومثلها العليا شأن السوريين في اللغة العربية، فإنهم أخذوها من الفاتحين العرب ولكنهم نقلوا إلى هذه اللغة علومهم وأدبهم ومجاري فكرهم فأصبحت اللغة العربية لغتهم القومية، تسيطر نفسيتهم ومواهبهم فيها في بيئتهم وتجاوزها. وإنّ من الأسئلة التي تنبه الفكر إلى هذه الحقيقة: ماذا كانت تكون الثقافة العربية لولا ما نقله السوريون من السريانية واليونانية إلى اللغة العربية؟


لا يصحّ قول بلنتشلي المشار إليه إلا في الأقوام الغافلة عن نفسها ووحدة اجتماعها، أما الأقوام المتنبهة الحية الوجدان القومي أو الاجتماعي فيمكنها أن تقبل لغة جديدة ولا تفقد خصائصها القومية الأخرى. وهذه إرلندة يعود إليها تنبهها القومي وعصبيتها بعد قرون من سيطرة اللغة الإنكليزية.


إنّ وحـدة اللغة لا تقـرر الأمـة ولكنها ضروريـة لتماسك الأمة. وحيث تتخذ اللغة أساساً للقومية يكون القصد من ذلك التعبير عن حاجة التوسع والامتداد، كما هي الـحال في ألمانية التي يلجأ مفكروها أحياناً إلى وحدة السلالـة وأحيانـاً إلى وحـدة اللغة(25) لسد حـاجتها إلى التـوسع ولضم أقلياتها الداخلة في أمم أخرى تعمل على إذابتهـا.
وإنّ من أكبر الأغلاط تحديد الأمة باللغة. فليس عالم اللغة العربية أمة واحدة وليس عـالم اللغة الإنكليزية أو اللغة الإسبانية أمة واحدة. وكل أمة من أمم هذين العالمين تنشىء أدبها الخاص الذي يعالج حاجاتها ويظهر نفسيتها وذوقها بلغة هي مشترك بينها وبين غيرها. وبعض الجماعات لا تفتقر إلى لغة واحدة لتكوين أمة. فهذه سويسرة يطلق عليها كل ما يطلق على الأمة إلا وحدة اللغة، ولكنها بدون لغة واحدة تظل ضعيفة الوحدة الروحية، قابلة للتفسخ بعامل التأثيرات الثقافية التي تمتد إليها بواسطة لغاتها المتعددة المتصلة وراء الحدود بأمم عظيمة ذات مراكز ثقل ضخمة وجاذبيات قوية.


إنه ضروري أن تتكلم الأمة لغـة واحدة وليس ضرورياً أن تنفرد بهذه اللغة. على أنّ أهـم ما في اللغة للأمة الأدب الذي تنشئه هذه الأمة ليعبّر عن روحيتها ويحفظ روحيتها ومثلها العليا.


يزيد إيوانوف على عناصر منتشيني عناصر منها الدين، فهو يرى الدين لازماً للشخصية القومية ومن صفاتها الأساسية. وما يقصده من الدين هو الاعتقاد الديني الواحد العام في المتحد الاجتماعي.


مـما لا شك فيه أنّ الدين ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظواهر الاجتماع البشري. إنه ظاهرة قد نشأت وارتقت بعامل تطور الإنسانية نحو سيطرة النفس وحاجاتها في شؤون الـحياة. وهو قد تطور مع تطور البشرية ولن ينفك يتطور بتطورها. ولكن تطوره بطيء جداً وفي هذا البطء سر خطورته.


إذا مثّل الدين وحدة العقيدة في شعب كان من العوامل على تقوية التجانس الداخلي الروحي فيه. وكلما كان الشعب متأخراً في الارتقاء الفكري الفلسفي كلما كان الدين أفعل في السيطرة على العقلية.


الحقيقة أنّ الدين في أصله لا قومي ومنافٍ للقومية وتكوين الأمة، لأنه إنساني ذو صبغة عالـمية. ففي التعاليم الدينية، الـمسيحي أخو الـمسيحي باعتبار الـمسيحيين جماعة واحدة، والـمسلم أخو المسلم باعتبار المسلمين جماعة واحدة. ورابطة الـمسيحيين دم الفادي وتعاليمه ورابطة المسلمين القرآن المنزّل. وكل دين إلهي في العالم يزعم أنه للعالم كله، لا فرق بين سوريِّهِ وإغريقيِّهِ، ويسعى لتوحيد العالم تحت ظله.


ولكن الدين، إلهياً كان أو غير إلهي، لم يشذ عن قواعد الشؤون الإنسانية، ولم يخرج على مقتضيات أنواع الـحياة البشرية وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة. فحيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدولة أو الأمة، ومصلحة الدين، كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النزاع. هكـذا أخـذت السور القرآنيـة الـمدنية تتطور لتوافق حاجة الجماعة فصارت جهاداً وتشريعاً، بينما كانت السور المكية فكراً متسامياً إلى «الله» وروحاً متجرّدة من الأصنام والدنيويات. وهكذا صارت تعاليم لوثر [1483 - 1536 ,M. Luther] المصلح وسيلة لتحرر ألمانية من ربقة رومة. والكنيسة الأنكليكانية (الإنكليزية) التي أُنشئت وأُزيلت ثم أُعيدت لتفي بغرض المجتمع الإنكليزي فظلت في طقوسها كأنها كاثوليكية أو أرثوذكسية ولكنها استقلت عن هذين المذهبين.


إنّ الدين واحد ولكن الأمم متعددة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينية أو غير دينية، لتحافظ على استقلالها الروحي فلا تخضع لأمة أخرى بواسطة السلطة الروحية الدينية ولذلك ظلت اسكتلندة كاثوليكية لكي تحتفظ بشخصيتها القومية، فلا تذوب في إنكلترة، وما يقال في اسكتلندة يقال في إرلندة. وهكذا لجأ الفرس إلى الشيعة ليحدثوا انقساماً يتخلصون فيه من سيطرة سورية الأموية وليستعيدوا استقلالهم ونفوذهم الروحيين والماديين، وتابع العراق الفرس لتصبح السيطرة فيه، وتمسكت سورية بالسنّة لكي لا تذوب في العراق وبلاد فارس.


أما الدين من الوجهة العقلية فهو نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية. ومع أنّ جميع الأديان الكبرى تجمع على فكرة أساسية واحدة، هي فكرة الله وخلود النفس والعقاب والثواب، فهي تختلف في جزئيات تتعلق بالمناقب والأخلاق بالنسبة إلى البيئة التي ينشأ فيها كل دين وحاجة الحياة لتلك البيئة. ثم تأتي المذاهب والشيع لتعدّل الدين من هذه الوجهة ليلائم حاجات ومصالح مجتمع خاص أو مجتمعات خاصة. ونحن نعتقد أنّ إيوانوف قصد المذهب حين قال الدين فجعل المذهب ديناً قائماً بذاته وهو من باب تسمية الجزء بالكل أو الفرع بالأصل.


إنّ في الـمجتمعات الإنسانية نـزعة إلى إكساب العقائد العامة صبغات وألواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها. فكل مجتمع يحب أن يرى نفسيته وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه، أي أن يطبع المذهب العام أو المشترك بطابع شخصي. فالمجتمع الروسي، مثلاً، قد أدخل في الأرثوذكسية الشيء الكثير من شخصيته وخصوصياته الاجتماعية. فالترانيم والأجواق الكنسية وتقبيل الأقارب والأحباب ثلاثاً والأعياد ومظاهرها القومية، هذه الأشياء الثانوية بالنسبة إلى الاعتقاد بالله والخلود والمسيح لها الشأن الأول في نفسية المجتمع وهي هذه الأشياء التي لها قيمة قومية في حياة المجتمع، أشياء تقليدية صبغ المجتمع الدين بها فأصبحت تقاليد دينية قومية.
أرادت الـجامعة الدينية أن تـحول دون نشوء الأمم ولكن الأمم عدّلت الدين ليوافق نزعاتها القومية. وبهذا المعنى صار الدين ويصير عنصراً من عناصر القومية. وفي الأمم التي تتعدد فيها الأديان أو المذاهب تكون القوميةُ الدينَ الجامع ويعود الدين إلى صبغته العامة وعقائده الأساسية المتعلقة بما وراء المادة.


إنّ شرط كون الدين عنصراً قومياً أن لا يتضارب مع وحدة الأمة ونشوء روحها القومية فإذا فُقِد هذا الشرط زالت عنه صبغته القومية وعادت له طبيعته العامة.
ومن العناصر التي يعددها إيوانوف الوحدة السياسية والتاريخ والأدب وطريقة الحياة والمظاهر الثقافية العامة. أما الوحدة السياسية فهي التاج الذي تتوِّج به الأمة نفسها وتحصل به على اعتراف الأمم الأخرى بحقها في الحياة وكرامتها الشخصية. ولكن الوحدة السياسية ليست شرطاً للأمة ولا عنصراً من عناصرها ولكنها ضرورة من ضرورات الأمة ليكون لكيانها الاجتماعي - الاقتصادي قيمة حيوية عملية. كل أمة تتجه بطبيعة وجودها إلى إنشاء دولة تضمن لها سيادتها وحقوقها الإنترناسيونية.
وأما التاريخ فهو سجلّ مجرى حياة الأمة وخطورته هي في القومية، في روحية الأمة ووجدانها، لا في الأمة بعينها. فإن ذكريات ما قامت به الأمة وما عانته تقوي الوجـدان القـومي. ووحـدة الأمة هي التي تعيّن التاريخ القومي. فلولا ما حدث من وحدة الإغريق بعد الإسكندر لظل تاريخ الإغريق تواريخ أثينة وإسبرطة وطيبة ومكدونية، أو تواريخ الدوريين واليونانيين والهلينيين، الخ.

وأما الأدب فقد ذكرناه في باب اللغة.
وأما طريقة الحياة فمن مميزات الأمة الناشئة في بيئة معيّنة تقدم إمكانيات معيّنة من زراعة وصناعة وسلك بحار وتجارة وتفصيلها في باب العادات والتقاليد.
وأما الـمظاهر الثقافية العمومية فتشمل جميع ما ذكـر من لغـة ودين وعادات وتقاليد وتاريخ وأدب وهي كلها من مظاهر المتحد الاجتماعي الأتمّ الذي هو الأمة.
ومـع أنّ تفصيل الـمظاهر الثقـافيـة قـد مـرَّ معنـا فيحسن بـنا أن نعـرض هنـا لشـيء أدق من المظاهر الثقافية ولم يذكره إيوانوف ولا منتشيني ولكن الكتّاب الاجتماعيين يوردونه في أدلتهم على الأمة، وهو الثقافة أو وحدة الثقافة. والثقافة هنا بمعنى «Culture» وهي مجمل العلوم والفلسفات التي تتناول الحياة وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوى عقلي واتجاهات فكرية واعتقادات مناقبية وإدراك للشؤون النفسية والمادية.
الحقيقة أنّ طبيعة الثقافة عامة كطبيعة الدين. وإنما قد مرَّ على العالم أدوار ثقافية سمِّي كل دور منها باسم الشعب الذي قام به أو اللغة التي كانت واسطته. فإذا تكلمنا عن الثقافـة السوريـة عنينـا بها الدور الذي قـام به السوريـون في ترقيـة الثقافة العامة، وهو دور الجمع بين الزرع والغرس وسلك البحار والتجارة وإنشاء الحروف الهجائية [الأبجدية] والدولة المدنية وخصوصاً العناصر الأربعة الأخيرة، كما تقدم معنا آنفاً. وإذا تكلمنا عن الثقافة الإغريقية عنينا بها الفلسفة والفن اللذين أنشأهما الإغريق وأعطوهما للعالم. وإذا تكلمنا عن الثقافة العربية عنينا ترقية العلوم التي اشتركت فيها العناصر الداخلة في نطاق اللغة العربية، كالحساب والهندسة والطب والكيمياء. وإذا تكلمنا عن الثقافـة العصريـة عنينا بها الدور الأخير الذي تشترك فيه الأمم المتمدنة واللغات الحية كلها مع الاحتفاظ بالألوان أو الصبغات القومية لبعض نواحي الثقافة.


إذن، ليست الثقافة شيئاً خاصاً، بل شيئاً عاماً يتفاوت في الدرجات بين الأقوام. فالسوريـون والإنكليـز والألـمان والفرنسيون والمصريون وجميع الأقوام المتمدنة يشتركون في ثقافة واحدة عامة دورها هو الدور العصري. ولكن كل أمة من هذه الأمم تـحتفظ لنفسها بأسلوبها الأدبي أو الفني الخاص في ما تعطيه لهذه الثقافة. ويجوز أن يكون لكل أمة بعض مظاهر ثقافية خاصة.


إذن لا تعيّن الثقافة الأمة ولكن درجة الثقافة تكون فارقاً بين أمم وأمم. والسبب في هذا الفارق اقتصادي جغرافي قبل كل شيء، حيثما وجدت المؤهلات الروحية.
بقي في تحديد منتشيني عبارة قوية هي كون الأمة مجتمعاً طبيعياً من أبرز صفاته خضوعه للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي.


هذه هي نقطة الابتداء الحقيقية الأساسية لوجود الأمة ولتعريف الأمة. شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعياً، أن يكون خاضعاً للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل الـمجموع كله وتنبه فيه الوجـدان الاجتماعي، أي الشعور بوحدة الـحياة ووحـدة المصير فتتكون من هذا الشعور الشخصية الاجتماعية بمصالحها وإرادتها وحقوقها.


كل ميزة من ميزات الأمة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتحاد في الحياة الذي منه تنشأ التقاليد والعادات واللغة والأدب والدين والتاريخ (أنظر ص 122 و 123).
الأمة متحد اجتماعي أو مجتمع طبيعي من الناس قبل كل شيء آخر. وكل ما مرَّ آنفاً من العناصر هي أوصاف للأمة ناشئة من مجرى حياتها وتاريخها وهي قابلة التطور والتكيّف. فقد تتعاقب الأديان ويتحول الأدب وتتبدل العادات وتتعدل التقاليد وترتقي الثقافة في أمة من الأمم من غير أن يشوب سنّة نشوء الأمم شائبة، ومن غير أن ينتفي وجود الأمة، إلى أن تزول الأمم والقوميات من الوجود ويصبح العالم كله متحداً اجتماعياً واحداً لا تفصل بينه فواصل أرضية أو اجتماعية أو اقتصادية.
لقد عرّفنا المتحد الاجتماعي في مكان آخر (ص 124 و 129) فراجعه هناك. ومما مرّ في بحثنا في تعريف الأمة وعناصرها يمكننا أن نستخلص قاعدة عامة لتعريف الأمة تعريفاً غير خاضع لتأثير واحد معيّن من تاريخ أو أدب وهي:


الأمة جماعة من البشر تـحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية - المادية في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.

 

الإثـم الكنعـاني
ما دمنا قد بلغنا حد الوجدان القومي الذي هو أبرز الظواهر الاجتماعية العامة العصرية فقد بلغنا هذا الدين الاجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالـم، ونُعت في بعض الظروف بالـخديـعـة الكنعـانيـة(27) أو الإثــم الكنعاني.ومن الهامّ جداً للعلم الاجتماعي أن نستقصي سبب نسبة الرابطة القومية المؤسسة على فكرة الوطن إلى السوريين الكنعانيين، لأن هذا الاستقصاء يساعدنا على فهم هذه الرابطة الروحية المتينة. ولا بد لنا من الاعتراف بأننا لم نقف في ما طالعناه من كتب التاريخ والاجتماع على سوى هذه الإشارة السريعة إلى أصل الوطنية الكنعاني، ومع ذلك فلن يصعب علينا اكتشاف السبب بدرس أحوال الكنعانيين الاجتماعية والسياسية.
إنّ الكنعانيين، من بين جميع شعوب التاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعي وفاقاً للوجدان القومي، للشعور بوحدة الـحياة ووحدة الـمصير، فارتحلت جماعة منهم من حوالى البحر الميت إلى الشمال الغربي ونزلت على الساحل أمام لبنان وعرفت في التاريخ باسم الفينيقيين(28) الذي أصبح أشهـر من اسـم كنعـان ولكنها ظلت محافظة على نسبها الكنعاني فظل الفينيقيون يسمّون أنفسهم كنعانيين.


أنشأ الفينيقيون (الكنعانيون) الدولة المدنية فكانت طرازاً جرى عليه الإغريق والرومان. ومع ما نشأ عندهم من الدول فإنهم لم يتحاربوا وظلوا محافظين على صفة الشعب الواحد المتضامن في الحياة. وكانت زعامة فينيقية تنتقل من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التقدم والكبر وازدياد المصالح والنفوذ كانتقال الزعامة من مدينة صيدا إلى مدينة صور التي أسست أول إمبراطورية بحرية في التاريخ.


وباكراً أسس الفينيقيون الـملكية الانتخابية وجعلوا الـمَلك منتخَباً لمدة الحياة فسبقوا كل الشعوب والدول التاريخية إلى تأسيس الدولة الديموقراطية. وما الدولة الديموقراطية سوى دولة الشعب أو دولة الأمة. هي الدولة القومية المنبثقة من إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه.


وإنّ [مبدأ] المحافظة على الرباط الوطني القومي عند الفينيقيين ظلّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوري وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريات التي أنشأوها، فظلت الحقوق المدنية في الزواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعية والثقافية واحدة لهم جميعاً ولم يكن هنالك استثناء إلا في الحقوق السياسية.
ومع أنّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطورية البحرية فإن انتشارهم كان انتشاراً قومياً بإنشاء جاليات استعمارية تظل مرتبطة بالأرض الأم، وتتضامن معها في السراء والضراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتساع دولة. وإنّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنية والدموية والاجتماعية كان الظاهرة القومية الأولى في العالم التي إليها يعود الفضل في نشر المدنية في البحر السوري، والتي خبت نارها قبل أن تكتمل بما هبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان. ومن دلائل هـذه الظاهـرة التي امتـاز بها الكنعانيون أنهم لم يُدخلوا الأقوام الغريبة التي أخضعوها بالفتح كالليبيين والإسبان القدماء (الإيبريين) في نظام حقوقهم المدنية والسياسية. ومع أنّ ذلك كان من مصادر ضعفهم تجاه تقدم رومة فإنه كان دليلاً على روحهم القومية ومحافظتهم على وحدة مجتمعهم.


القومية، إذن، هي يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها. إنها عصبية الأمة. وقد تلتبس أحياناً بالوطنية التي هي محبة الوطن، لأن الوطنية من القومية ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمة وأهم عنصر من عناصرها. إنها الوجدان العميق الحي الفاهم الخير العام، المولّد محبة الوطن والتعاون الداخلي بالنظر لدفع الأخطار التي قد تحدق بالأمة ولتوسيع مواردها، الموجد الشعور بوحدة المصالح الحيوية والنفسية، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة بالتعصب لهذه الحياة الجامعة التي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه.


القومية هي الروحية الواحدة أو الشعور الواحد الـمنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان. ليست القومية مجرّد عصبية هوجاء أو نعرة متولّدة من اعتقادات أولية أو دينية. إنها ليست نوعاً من الطوطمية، أو نعرة دموية سلالية، بل شعور خفي صادق وعواطف حية وحنوٌ وثيق على الحياة التي عهدها الإنسان. إنها عوامل نفسية منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية الموروثة والمعهودة، قد تطغى عليها، في ضعف تنبهها، زعازع الدعاوات والاعتقادات السياسية، ولكنها لا تلبث أن تستيقظ في سكون الليل وساعات التأمل والنجوى أو في خطرات الإنسان في برية وطنه أو متى تذكر برية وطنه.


وإنّ الوطن وبريته، حيث فتح المرء عينيه للنور وورث مزاج الطبيعة وتعلقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي القومية. ماذا تعني القومية للسويسري إذا أزلت جبال الألب وبحيراتها؟ وماذا تعني القومية للفرنسي إذا اختفت سهول فرنسة وتحولت أنهرها عن مجاريها؟


والسوري هل يخفق قلبه لجبال الألب أو لصحارى بلاد العرب على ما فيها من مشاهد جميلة؟ أليست سورية هي التي ترتاح إليها نفسه ويحن إليها فؤاده إذا غاب عنها؟
إنّ شـاعـراً سورياً مهاجراً ظن أنه قد وجد قوميته في الدعوة السياسية - الدينية إلى الإمبراطورية العربية أو الوحدة العربية أو إعادة مجد العرب. ولكنه، في ساعة 

سعيدة من ساعات يقظته النفسية، تنبه شعوره الداخلي المجرّد عن العوامل السياسية فأدركه الحنين إلى الوطن. على أنّ هذا الحنين لم يكن إلى وطن لا عهد له به، إلى الصحراء أو مصر أو المغرب، بل إلى سورية. هو الشاعر الياس فرحات فانظر كيف تتدفق عواطفه الصادقة وشعوره السليم الفطري:
نــــازح أقـــعـــده وجـــدٌ مــقــيــم
                                              فـي الــحشــا بــيــن خــمــود واتّــقــاد
كـلـمـا افترّ لــه الــبــدر الـوســيــم
                                             عضـــه الـــحـــزن بـــأنــيــاب حــــداد
                      يذكر العهد القديم
                                              فـــــيـــــنـــــادي
                      أين جـنـات الـنعيم
                                              مــــن بــــــلادي
زانــهــا الــمـبـدع بـالـفـن الـرفيـــع
                                              مـنــصــفــاً بـيــن الــروابــي والــبطــاح
مـلـقيـاً مـن نـسـج أبـكــار الــربيـع
                                              فـوق أكــتــاف الـربــى أبـهـى وشـــاح
                      حبّذا راعي القطيع
                                              فـــي الـــمــــراح
                      ينشد اللحن البديع
                                              لـــلـــصــــبـــــاح
مـوطـنـي يـمـتـد مـن بـحـر الـمـيـاه
                                              مــمـعــنـاً شــرقــاً إلـى بــحــر الــرمــال
بـيـن طــوروس وبـيـن الـتّـيـه تــــاه
                                              بـــجــمــال فـــائــق حـــد الـــجــمـــال
                         ذكره يغري فتاه
                                              بــــالــمــعــالــــي
                          أنا لا أبغي سواه
                                              فـــهــو مـــالـــــي
وأي سوري لا يشعر بهزة نفسية حين يقرأ قصيدة «ربِّ صُنْ سورية» لأمين تقي الدين وبأن في هذا المقطع روعة الحقيقة:
يـــا بـــلادي نــعـشــي غــداً سـيسـيـر
                                                  فــتــغــطـيــه مــن ربـــاك الـــزهـــور
ومــتــى حــثّ بــي لــقبـري الــمسير
                                                   فَــلِـنعـْشـي عـلى الأكــف صـــريــر
                          كـــل مـعـنـاه: ربِّ صُــنْ ســوريــة

وهنـالك شاعر سوري آخر كبير هو سليمان البستاني مترجم الإلياذة. هذا الشاعر اغترب وساح كثيراً وأدركته أوصاب الهرم فذهب يستشفي في سويسرة الجميلة. ولكن سويسرة لا ترتبط بحياته فهو لا يرى فيها صُوَرَ نفسيته ومزاجه وروابط حياته وروحيته. تأمّل حنينه إلى سورية ومقابلته بين تلول لبنان وجوّه وجبال الألب وهواء سويسرة:
أفـــِقْ ولـــو حــيـنــاً قــبـيــل الــرحـيـل
                                                      لــم يــبــقَ مـن صـحــوك إلا الـقـلـيـل
                          أفِـــقْ فـــذي شـمــسـك رأد الأصـيــل
                           إن آذنت بــالـعـبــور
                                                     عـــمّ الــظـــــلام
                           ونـمت عاري الشعور
                                                      بــيــــن الـنـيـــام
وفـــاتـــك الــحـس وســمـع الـكـــلام
                                                      والـمـنـطـق الـعـذب ومــرأى الـجـميل
                                          .......
ذكـــــرت لــبـنــان وهــاج الــحـنـيــن
                                                     فــــؤادي الـعــانــي لــذاك الــعــريــن
                           قــد عـــزَّ مـنـاه طــوال السـنــيــن
                            فأين تلك الفصول
                                                     بـــلا انــحـــرافِ

    وأيــن تــلك الــتــلول
                                              والـــجــو صـــافِ
وأيـــن مــاء فيـــه مــحــي وشـــاف
                                              وأيـــن ذيـــاك الــنسـيــم الـعـلــيــل
فــهـــل تُـــرى يــفسـح آتـي الأجل
                                               حــتــى بــه تـغـمـض مــنك الــمُقَـل
                   وأرض ســـوريــة مــحــط الأمـــل
                    ولــــو زمـــانـــاً يــسـيــر
                                                    قــبـــل الــفــــوات
                    إلـــى حــمــاهــا تــسـيــر
                                                     تــلــقــي الــرفــات
وأهـــلــهــا تـلــفــي قــبـيـل الـممات
                                               بــمـرتــع الـرغـد وعـيـش خــضيل

إنّ الإثم الكنعاني لا يزال فاعلاً فينا وقد أصبح فاعلاً في العالم كله.

 

 
هوامش الفصل السابع: الإثم الكنعاني
 
(1) قد اصطلحنا على ترجمة:Gemeinschaft, Communauté, Community  = متحد
(2) إنّ اختلاف اللفظ في النسبة إلى الأمة في اللغة العربية قد أدى إلى التباس في المعنى كثيراً ما انتهى بتشويش في الأبحاث. فيجب على القارىء أن يتحاشى هذا الالتباس
(3) غيغر، ص 292 و 293
(4) المصدر نفسه
(5) [مكيور]، Community، ص 22 - 23
(6) المصدر نفسه، ص 109
(7) المصدر نفسه، ص 136
(8) Franciade، جوانيه، ص 37. وفيما يلي مثال من الفرنسيادة:
Muse, enten-moy des Sommets de Parnasse
Guide ma langue et me chante la race
De rois françois issus de Francion
Enfant d’Hector, Troyen de nation,
Qu’on appeloit en sa jeunesse tendre
Astyanax et du nom de Scamandre.
De ce Troyen conte - moy les travaux,
Guerres, desseings, et combien sur les eaux.
Il a de fois (en despit de Neptune
Et de Junon) surmonté la fortune 
Et sur la terre eschapé de peris (perils)
Ains que (avant que) bastir les grands murs de Paris
(9) هو المتشرع الكبير هطمن Hotman
(10) جوانيه، ص 34
(11)  Maurice Barrés يقول في كتابه  Les Traits Eternels de la France 
   Nous sommes la» nation qui, la première de toute l’Europe, a eu l’idée qu’elle formait une patrie.
:نقلاً عن جوانيه، ص 32
(12) جوانيه، ص 226. أنظر أيضا: مكيور، Modern State، ص 123
(13) جوانيه، ص 9
(14) المصدر نفسه، ص 10
(15) المصدر نفسه، ص 9
(16) المصدر نفسه، ص 386
(17) مكيور، Modern State، ص 123
(18) المستد
(19) سنعود إلى هذا الموضوع بإسهاب في الكتاب الثاني
(20) [دلابلاش]، ص 7
(21) المصدر نفسه، ص 15
(22) نقلاً عن جوانيه، ص 385
(23) باركر، ص 15
(24) أنظر بهذا الصدد أبحاث كبرس، وأبحاث الدكتور شنكلن في الجامعة الأميركانية
(25) مثال ذلك غناء موريس أرنط M. Arndt:
So weit die deutsche Zung klingt
Und Gott in Himmel Lieder singt,
Das soll es sein! Das soll es sein!
Das ganze Deutschland soll es sein.
معنـاه: يجـب أن تشمـل ألمانيـة الكاملـة مدى ما يرنّ اللسان الألماني وما يترنم الله في السمـاء!
(26) هرتس، ص 162 نقلاً عن غوبنو. أنظر أيضاً: أفلاطون، الجمهورية، الفصل الثالث
(27) إنّ حكاية مجيء الفينيقيين من خليج العجم أو البحر الأحمر ليست موثوقاً بصحتها وقد أصبحت ساقطة بعد الأدلة الجديدة المثبتة ما ذكرناه آنفاً. ماير (ج 2، فقرة 356 الحاشية) يذكر نفي مجيء الفينيقيين من البحر الأحمر أو جزائر البحرين وإن كان كيتاني قَبِل القول بمجيء الفينيقيين من خليج العجم (كيتاني، ج 1، ص 185)

 

​مستندات هذا الكتاب

 

إبن خلدون. المقدمة. بيروت، 1900.

المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. باريس، 1861.

ماير

Meyer,E, Geshichte des Alterthums. Stuttgart u. Berlin 1910

ويدال دلابلاش

Vidal de la Blache, P.M].,Principles of Human Geography

 

Fr. trans. by M.T. Bing, New York, 1926.

هرتس

Hertz, F.O., Race & Civilization. Eng. trans. by Levelus,

 

A.S. and Entz, w., London & New York, 1928.

بواس

Boas, F., Anthropology & Modern Life. New York, 1922.

حتي

Hitti, PH., The Syrians in America. New York, 1924

وليمز

Williams, H.S. (ed.), Historian’s History of the World.

 

25 vols., New York, 1926.

ولز

Wells, H.G., The Outline of History. New York, 1929.

 

ريبيرو

Ribeiro, J., Historia Universal, Rio de Janeiro, 1925

برستد

Breasted, J.H., A History of Egypt from the Earliest Times to

 

the Persian Conquest. New York, 1905.

أولـمستد

Olmstead, A.T., History of Palestine & Syria to the

 

Macedonian Conquest. New York & London, 1931.

كيتاني

Caetani, L., Studi di Storia Orientale. Milano, 1911.

وينرت

Weinert, H., Ursprung der Menschheit. Stuttgart, 1932.

وينرت

Weinert, H., Menschen der Vorzeit. Stuttgart, 1930.

هدن

Haddon, A.C., The Races of Man and their Distribution. New York, 1925.

تايلور

Taylor, G., Environment & Race. London, 1927.

شمت

Schmidt, M., The Primitive Races of Mankind. London, 1926.

فن لوشان

Von Luschian, F. Antrhopological View of Race.

 

Papers on Inter-racial Problems. London, 1911.

قلدشمت

Goldschmidt, R., “Some Aspects of Evolution”,

 

Science, No. 78 (December 15, 1933), pp.539-547.

كبرس

Kappers, A., Anthropology of the Near East..

 

Contributions. Amsterdam, 1931.

Arbeiten zur Biologischen Grundlegung der Soziologie. Leipzig, 1931

وهو جزءان وفيه الأبحاث التالية:

ليغوي

Legewie, H., “Organismus und Umwelt”.

غيغر

Geiger, T., “Das Tier als Geselliges Subjekt”.

وسمن

Wasmann, E., “Die Demokratie in den Staaten der

 

Ameisen und der Termiten”.

شويدلند

Schwiedland, E., “Triebanlage und Umwelt als

 

Soziale Gestalter”.

ربيه

Rapaies, R., “Versuch einer Geselshaftslehre der Pflanzen”.

تسمرمن

Zimmermann, W., “Pflanzensoziologie”.

كريشه

Krische, P., “Beitraege zur Soziologie der Pflanzen”..

شيلدرب-إبه

Schjelderup-Ebbe, TH., “Die Despotie im Sozialen

 

Leben der Voegel.”

هيبرر

Heberer, G., “Das Abstammungsproblem des Menschen im Lichte Neurer Palaeontologischer Forschung.”

ولف

Wolff, K.E., “Die Kraniologische Polaritaetsheorie und ihre

 

Soziologische Bedeutung.”

 

 

Allgemeine Verfassungs and Verwaltungs Geschichte. Leipzig und

 

Berlin, 1911.

وفيه الأبحاث التالية:

فيركنط

Vierkandt, A., “Die Anfaenge der Verfassung und der Verwaltung und

 

die Verf. u. Verw. der Primitiven Voelker.”

ونغر

Wenger, L., “Die Verfassung und Verwaltung

 

des Orientaleschen Altertums.”

هرتـمن

Hartmann, M., “Die Islamische Verfassung und Verwaltung.”

فرنكه

Franke, O., “Die Verfassung und Verwaltung Chinas.”

راتغن

Rathgen, K., “Die Verfassung und Verwaltung Japans.”

ونغر

Wenger, L., “Die Verfassung und Verwaltung Europaeischen Altertums.”

فن إبنقرويط

Von Ebengreuth, A.R.L., :Die Verfassung und Verwaltung

 

der Germanen und des Deutschen Reiches bis zum Jahr 1806”

 

Allgemeine Rechtsgeschichte. Leipzig u. Berlin, 1914.

وفيه الأبحاث التالية:

كولر

Kohler, J., “Die Anfaenge des Rechts und das Rechts

 

der Primitiven Voelker.”

كولر

Kohler, J., “Das Recht der Orientalischen Voelker.”

ونغر

Wenger, L., “Das Recht der Griechen u. Roemer.”

مكيور

Mclver, R.M., The Modern State. Oxford, 1926.

مكيور

Mclver, R.M., Community. London, 1924.

ملر-لير

Muller-Lyer, F.C., The History of Social Development.

 

New York, 1921.

جوانه

Johannet, R., Les Principes des Nationalites. Paris, 1932.

باركر

Barker, E., National Character and the Factors In Its Formation

 

London, 1927.

جنكس

Jenks, E., The state and the Nation, New York, 1926.

 

مـلاحظــة:
1 -في الإشارة إلى هذه  المستندات سنعتمد اسم المؤلف فقط وعدد الصفحة أو الصفحات.
2 -إذا كان المؤلف صاحب بحث مدرج في أحد المؤلفات الكبيرة فإننا نعتمد اسمه ونختصر اسم المؤلف الكبير مضافاً إليهما عدد الصفحة أو الصفحات والجزء.
3 -إذا كان المؤلف صاحب كتابين اعتمدنا اسم المؤلف واسم الكتاب مع عدد الصفحة أو الصفحات. 
وإننا قد اعتمدنا المختصرات التالية:
ABS    Arbeiten zur Biologischen Grundlegung der Soziologie
AVV   Allgemeine Verfassungs und Verwaltungs Geschichte
AR     Allgemeine Rechts Geschichte
HH    Historian’s History

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro