مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
نظرات في «المساواة» (2)
 
 
 
 

​ولقد سعت الـمؤلفة إلى غرضها هذا على طريقة علمية تاريخية، فابتدأت بالكلام على الطبقات الاجتماعية وما جاء بشأنها في أساطير الهنود القديـمة من أنّ الإله برهما الذي خرج من بيضة ذهب كانت تطفو على وجه الغمر وتكونت من قشرتيها الأرض والسماء، هو الذي نشر الأثير بيـن الأرض والسماء وخلق الكواكب والنبات والـحيوان فتهيأت الأرض لسكنى البشر. ثم خلق برهما برهماناً أبا البراهمة من رأسه، وأخرج من ساعده الأيـمن الـمحارب الذي يدافع عن الكاهن، وانتشل من فخذه الفلاح الذي يعدّ الغذاء للجندي والكاهن، وأبدع التاجر الذي يـمهد لهما وسائل الـحياة، وصنع رجلاً آخر أطلقه من رجله هو الصنائعي، فتسلسلت الـمراتب الاجتماعية في الهند بـموجب هذه الـمخلوقات. ومع أنّ هذه القصة خرافية لا يسلّم بها عقل بشري، فهي تـحتوي على حكمة باهرة يقدّرها مفكرو هذا العصر حقَّ قدرها، وهي أنه وإن كان البشر من خلق واحد وطينة واحدة فهم متنوعون في الصلاحيات مختلفون في الكفاءات، ولولا هذه التنوعات والاختلافات لـما كان للاجتماع نظام يـميز طبقات عن طبقات.


ثم تطرقت الكاتبة في هذا البحث لبحث «الطبقات الاجتماعية» للكلام عن تكوين الشعوب بانتشارها قبائل، وتطور حالة هذه القبائل مـما أفضى إلى نشوب الـحروب فيما بينها وتغلب بعضها على بعض، الأمر الذي نشأت عنه الأوتوقراطية والرق، وكيف أنّ حب التفوق والطمع في السيادة أو الـملك كوّن الأرستوقراطية والعبودية اللتيـن لا تزال الـحرب بينهما سجالاً منذ بدء التاريخ ولن تنتهي حتى انتهاء الـخليقة، إلى أن بلغت نقطة جوهرية في حياة الإنسان قالت بشأنها ما يأتي:


«لقد طال تأمل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء الـمفقود، وترتع في بحبوحة السلام والـحرية. وقد نسوا أنّ الهمجي مستعبَد بجهله الفادح وأنّ له من الـخرافات سجناً لعقله ومن الأوهام حجاباً لروحه. فهو وإن كان حراً حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته - التي لا يـمكن أن تدوم أكثر من زمن ما فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها، وهيهات الرجوع إلى الـماضي! إذ إنّ عودة النظام الشمسي الـمندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق، قلت إنّ عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تـجريد النوع البشري مـما اكتسبه بالألم والـخبرة والبطش خلال تـحدر الدهور.»


هنا عثر قلم الـمؤلفة وبَعُدَ خيالها عن الـحقيقة. فهي تعني بـما قالته عن روسو أنّ مبدأ هذا مخالف لناموس التقدم والارتقاء، وهو قول منافٍ لـمبدأ روسو القائل بالعودة إلى بساطة الـمعيشة الطبيعية حيث السلام والـحرية، ولم يخطر في بال أحد أنّ الـمراد من ذلك العود إلى الهمجية. لا بل إنّ الارتقاء الذي ينشده العالم يتفق مع بساطة الـمعيشة أكثر منه مع معيشة الـمدنية الـحاضرة التي انهكت قوى البشرية، أوَلا يـمكن أن تكون بساطة الـمعيشة بدون الهمجية؟


لقد كثرت الظواهر الـخداعة في يومنا هذا حتى يكاد يتعذر علينا معرفة ما هو الارتقاء. فإن الارتقاء الـمادي الذي بلغ أوجه الأسمى في هذا العهد قد تـمكن من نفوس البشر وخيّل إلى بعضهم أنه الكل في الكل. على أنّ هنالك ارتقاء آخر لا أخال مؤلفة الـمساواة تـجهله، وهو ذلك الارتقاء الروحي الذي يدرك أسرار النفس والطبيعة. هو ذلك الارتقاء العجيب الذي يبعث الهندي من قبره بعد أن يكون قد مضت على دفنه أسابيع وأشهر عديدة، على حد ما بعث الـمسيح بعد صلبه. هو ذلك الارتقاء الذي يقف أمامه الارتقاء الـمادي صاغراً عاجزاً. 


بساطة الـمعيشة لا تـحول دون الارتقاء والسير إلى الأمام، ولا تنفي التفوق، ولكنها تزيل من أمام الإنسان عقبات كثيرة تـحول دون تفوقه وارتقائه. وروسو قد كتب ما كتب لا قائلاً بالعودة إلى الهمجية، بل بالرجوع إلى الـمعيشة الطبيعية الهنيئة. وليس في ذلك ما يجرّد النوع البشري مـما اكتسبه بالألم والاختبار خلال تسلسل الدهور.

 

 

أنطون سعاده

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro