مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
الحرية وأم الحرية «تأملات في الثورة الفرنسية»
 
 
 
مقال مخطوط،سان باولو، 1923/7/14
 

جمال، عظمة، أبّهة، مجد، حرية، تاريخ - فرنسة!


أمام الـجمال قف متأملاً، وأمام العظمة قف متمعناً، وأمام الأبهة قف متهيباً، وأمام الـمجد قف صاغراً، وأمام الـحرية إشمخ بأنفك واهتف، وأمام التاريخ قف متذكراً معجباً. أما أمام فرنسة فخرّ على ركبتيك ساجداً، لأنك إذا كنت أمام كل مظهر من هذه الـمظاهر الساحرة تقف خاشعاً متأثراً، فإنك أمام فرنسة لا يسعك إلا أن تخرّ على ركبتيك وتسجد لهذا الاسم الـمقدس لأن فرنسة تـمثّل الكل.


لست بأول شارح لهذه العقيدة، فقد شرحها قبلي الكثيرون من الكتّاب الكبار الذين يعوَّل على بُعد نـظـرهـم وتـعـمق أبحـاثـهم في تـعـليل التقـدم الإنساني وارتقاء البشرية، ورفعوا فرنسة إلى أعلى ذرى الـمجد وأسمى درجات الـجلال. وليس موقفي الآن مـوقـف من يجـدُّ في اقتفـاء آثـار أولئك الكتّاب ويكدُّ للوصول إلى النقطة التي بلغوها، لأن أولئك ساروا في سبيل العظمة والـمجد والتاريخ والألوهية معظِّميـن ما تناولته أقلامهم ومـمجِّدين ما حسن في أعينهم ومؤرِّخيـن ما أعجبت به عقولهم ومؤلِّهيـن ما صبَت إليه نفوسهم وجرت به أقلامهم، حتى أصبحوا آلهة وكل ما كتبوه إلهياً مؤلَّها، يؤمن عليه الناس تأمينهم على وحي هبط إليهم من السماء. أما أنا فأسير في سبيل ملأى بالـحقائق لا بالـمظاهر، وسبيلي لا تؤدي إلى الألوهية بل إلى الإنسانية. فكل ما أبحث فيه في الـموضوع الذي أنا بصدده الآن إنسانيٌّ بحت لا شأن للآلهة ولا للألوهية فيه.


أجل، لقد أصبحت فرنسة بفضل هؤلاء الكتّاب والتاريخ في مصاف الآلهة الـمبدعة التي تُنزل الآيات البينات وتُهبط الـموحيات الـخالدات لتهدي الإنسانية إلى السلام والسعادة وتنير لها طريق الـحرية والـمحبة. لذلك أحبَّ كثيرٌ من الناس فرنسة حباً بلغ درجة العبادة. وإني إذا كنت قد قلت لك أن تسجد لفرنسة على سبيل الـمجاز، فإن من الناس من يسجد لها متمماً هذا القول بالـحرف.


ابتدأ عصر مجد فرنسة الإلهي بعد الثورة الفرنسية الشهيرة التي شبّت في أصيل القرن الثامن عشر. فقد ألبس التاريخ هذه الثورة ثوباً قشيباً وعدّها أعظم ضربة سقطت على العبودية التي كانت ترسف في قيودها البشرية جمعاء. لذلك تقدِّس الأمـم الأوروبية والأميركية يوم الرابع عشر من يوليو/تـموز، وتعيِّد فيه لأنه يوم تلك الثورة الهائلة.


منذ ذلك الزمن حتى اليوم والبشرية تنظر إلى فرنسة بعيـن الإعجاب والإجلال، حاسبة إياها منقذة الإنسانية من وهدة العبودية ومُسيّرتها في سبيل الـحرية، حتى أنها دعت يوم الرابع عشر من يوليو/تـموز يوم الـحرية الإنسانية، وجعلته عيداً رسمياً تـحتفل فيه بتذكار الثورة الفرنسية، فتنبري العواصم والـمدن الأوروبية والأميركية مكسوة بالأعلام الـمتعددة الألوان وإلى جانب كل منها علم فرنسي. وتبرز الـجرائد والـمجلات طافحة بالـمقالات الفلسفية والتاريخية التي دبجتها أقلام مشاهير الكتّاب، وكلها ملأى بعبارات التعظيم والتمجيد لفرنسة والرابع عشر من يوليو/تـموز.


منذ ذلك الزمن حتى اليوم، والكتّـاب والـخطباء يهتفون أنّ عار العبودية قد غسلته دماء الثورة الفرنسية التي جرت في مدن فرنسة وعاصمتها باريس أنهراً متشعبة الفروع وتدفقت شآبيب شآبيب، وأروت هضاب وأودية تلك الأرض العطشى إلى الدماء، الـجائعة إلى الـحروب. ومنذ ذلك الزمن حتى اليوم وشعوب العالم الـمتمدن تـحذو حذو أولئك الكتّاب والـخطباء، وتهتف لفرنسة كلما أكملت الأرض دورتها حول الشمس مرة في الرابع عشر من يوليو/تـموز، ناعتة إياها بأم الـحرية تارة وتارة بـمنقذة الإنسانية وطوراً بإلهة الـمدنية.


«عار الإنسانية، ذل البشرية، شقاء الشعوب، كل هذه قد محتها الثورة الفرنسية وغسلتها بالدم.» هذا ما يهتف به الكتّاب والـخطباء في الرابع عشر من يوليو/تـموز، وفي كل زمن يجيء فيه ذكر الـحرية والعبودية أو اسم فرنسة، في حيـن أنّ عار الإنسانية وذل البشرية وشقاء الشعوب كلها أمور لا تزال منطبعة على جبهة الإنسانية، وهي تزداد وضوحاً كلما ازداد النوع البشري ارتقاء. ولم تكن تلك الثورة الهائلة التي يعدّها الكثيرون من أمجد صفحات الإنسانية وأشرف ما تفاخر به فرنسة، إلا أكبر لطخة عار وسمت بها جبهة الإنسانية وأشد ظلاماً من كل ما عرف من تاريخ فرنسة الـمظلم.


وكأني بأولئك الكتّاب والـخطباء السائرين في موكب الهتاف لم ينظروا إلى الثورة الفرنسية إلا من الوجهة التي نظر إليها التاريخ، أي إلى حوادث الثورة ومدارها نفسها من حيث الـمكان والزمان لا من الوجهة الـحقيقية الـجديرة بالنظر وهي أسباب ونتائج تلك الثورة. فكانت كتاباتهم وخطبهم أشبه شيء برواية يقوم أبطالها بأعمال عظيمة مدهشة، كقصل أعناق الـملوك والأمراء ودك جدران الباستيل، إلى غير ذلك من الـحوادث التي لها أهميتها ولكنها ليست أهم ما في تلك الثورة الـمريعة. ولكن كيف ينتظر العالم منهم كتابة ما لم يُسطِّره التاريخ وهم قد استقوا مادتهم من التاريخ وقصَّروا مصادرهم على التاريخ، كأنهم لا يدركون أنّ هنالك ما هو قبل التاريخ وأهم من التاريخ، وهو الـحقيقة الفلسفية التي تبحث في مسببات الأمور ونتائجها وتـحكم بخيرها للإنسانية أو شرها ونفعها أو ضرّها. لذلك كانوا كلما كتبوا شيئاً عن تلك الثورة كرروا على مسامعنا عبارات «هوذا التاريخ أمامكم اسألوا التاريخ»، فكان التاريخ شاهدهم الوحيد في كل ما يكتبون أو يقولون.


لو كانت مسألة الثورة الفرنسية مسألة تاريخ فقط، لم يكن هنالك بد من الإيـمان بالثورة الفرنسية وتقديس ذكرها عند سائر الشعوب التي تنشد الـحرية وتكره العبودية والاستبداد. ولكن الـمسألة على خلاف ذلك، والـحكم في أمر الثورة الفرنسية ليس عائداً إلى التاريخ، بل إنّ البتّ في حقيقة أمر تلك الثورة يقتضي له أبحاث طويلة وتفكير عميق في علوم الـحياة والنفس ودرس طبائع الشعب الفرنسي وغرائزه وطبائع الشعوب الأخرى وغرائزها. فالـحكم بأن الثورة الفرنسية كانت من أكبر العوامل التي كان القصد منها القضاء على العبودية وترقية الإنسان في سبيل الـحرية والـمدنية، وأنّ نتيجتها كانت كذلك دون أن يكون ذلك الـحكم صادراً عن تـحليلات وتعليلات فلسفية سيكولوجية تقنع العقل الإنساني بأن الثورة الفرنسية أفادت الإنسانية، وأنّ انهيار جدران الباستيل واقتلاع ارتـجته قضى على العبودية الشعبية، وأنّ الدماء التي طافت في شوارع وأزقة باريس غسلت ذل فرنسة وعار الإنسانية معاً، وبالتالي إنّ الثورة الفرنسية من أمجد صفحات الإنسانية وأشرف ما تفاخر به فرنسة - قلت إنّ الـحكم بذلك دون أن يكون هنالك تـحليلات وتعليلات يقبل بها العقل، لا لأنها تـحليلات وتعليلات فلسفية سيكولوجية بل لأنها تقرر حقيقة مقنعة مفعمة بالبراهيـن والـحجج الدامغة حتى لا يكون الـحكم مقتصراً على سفسطات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب ومضغتها أفواه الكتّاب والـخطباء حتى لم يبقَ هنالك ماضغ، لـمن الأمور التي فيها من التحقير لـمدارك العقل البشري ما يجعلنا نشك في تقدم الإنسان وارتقائه.


ماذا يـمكن التاريخ إفادتنا عن تلك الثورة الـمريعة من حيث نفعها للإنسانية أو ضرّها؟ وكيف يـمكن التاريخ تبرير عمل تلك الثورة؟ والتاريخ ليس إلا عبارة عن صورة ثابتة لـحوادث سابقة لا تعلل عن شيء فيما يختص بفلسفة تلك الـحوادث. وهل أنّ سبق تلك الـحوادث يفيد أنها هي الفاعلة في الارتقاء الإنساني وأنها هي التي أوصلته إلى الـموقف الـحالي، أم أنّ مجرد قولنا إنّ تلك الثورة دكّت عرشاً وخلعت ملكاً يصح أن يعبّر عن أنّ دك ذلك العرش وخلع هذا الـملك كانا عملاً مفيداً للإنسانية وعاملاً عظيماً في تـحرير البشرية من قيود العبودية والسير بها إلى مرتع الـحرية؟


إذا كنا نستدل بالتاريخ على الـماضي، فإنـما نفعل ذلك لنعيد إلى ذاكرتنا الـحادثات والاختبارات التي مرت بالنوع البشري في الأزمنة التي سبقت زماننا. أما الـحكم بنفع تلك الـحادثات والاختبارات أو ضرّها وما هو مبلغ تأثيرها في أحوال النوع البشري برمّته وكيفية فعلها فيه، فغير مختص بالتاريخ. لذلك كان التعليل عن الثورة الفرنسية من الوجهة التاريخية فقط خطأ تـمشى عليه أكثر الذين يعتبرون الثورة الفرنسية منقذة البشرية من هوة العبودية، ويعتقدون أنّ فرنسة حاملة لواء الـحرية وفي مقدمة الأمـم التي تعتبر حقوق الإنسان الطبيعية وتـحترمها.


إنّ الـمظهر التاريخي الذي ظهرت فيه الثورة الفرنسية والزمان والـمكان اللذين حدثت هذه الثورة فيهما أكسبتها صفة سامية، فهي قد نشبت في زمان كانت فيه سلطة الـملوك مستمدة من الله لا من الشعب - في زمان بلغ فيه استبداد الـملوك بالرعية حداً عجز عنده البشر عن احتماله. ويكفي لتعريفه أنه زمان القرون الوسطى، وفي مكان كان مركز قوة عظيمة للاستبداد وخزاناً هائلاً للظلم ينفتح فتتدفق منه الأوامر التي لا مردَّ لها كأنها القضاء والقدر، وينفّذها مأمورون تـجري في عروقهم دماء «الشرف والإخلاص»، فتساق الأنفس التي تعمل على تكدير راحة «ولي النعمة» وتعكير صفو حياته إلى ظلمات لا يخرجون منها إلا إلى ظلمة القبر. ذلك كان شأن فرنسة قبل الثورة، وهذا هو التعليل لتلك الثورة الهائلة.


ولكي لا يلتبس فهم هذا التعليل على الـمُطالع، يحسن بي أن أوضحه على صورة تلمّ بالنظرية العامة القائلة بأن الثورة الفرنسية من أكبر العوامل في ارتقاء الـحرية وإبادة العبودية، وأنّ فرنسة أُمّ الـحرية وحاملة لوائها. فالذي عليه جلّ النظر بيـن الذاهبيـن هذا الـمذهب أنّ الثورة الفرنسية أصابت العبودية في القلب فأردتها. وهم يبنون نظريتهم هذه على تعليل أنّ الاستبداد والعبودية هما نتيجة مقرَّرة للمبدأ الأرستوقراطي، لا بل إنهما من بعض صفاته، وأنّ الـمبدأ الأرستوقراطي ليس إلا عبارة عن نظرية واعتقاد يتشبث بهما الأفراد الذين يـميلون إلى السيادة التامة والـحكم الـمطلق والاستبداد بالشـعب. وحسـب هـذا التعـليل يـكـون الاستبـداد والعبـوديـة منحصـرين في الـمبدأ الأرستوقراطي، والـمبدأ الأرستوقراطي منحصراً في الـملوك والأشراف، إذ هم الأفراد الاستبداديون وأصحاب عقيدة الأرستوقراطية. وعلى هذا الرأي كان الكاتب الفرنسي الشهير روسو. وبـموجب هذا التعليل أطلق على هؤلاء اسم «أرستوقراطييـن». ومن ثم كان لا بد لإبادة العبودية والاستبداد من إبادة الأرستوقراطية، وإبادة الأرستوقراطية تعني إبادة الأرستوقراطييـن.


بناء على هذه النظرية وهذا التعليل، اعتُبرت الثورة الفرنسية التي قضت على الـملك والـملكية وأعدمت أكثر حكام الـملك والأشراف، ثورة الديـموقراطية ضد الأرستوقراطية، أو بالـحري ثورة الـحرية ضد الاستبداد والعبودية، وهذه هي الصفة السامية التي يهتف لها العالم.


بيد أنّ هذه النظرية نظرية فاسدة إذا قرنّاها بفلسفة أعمق وبحث أدق وأوسع، وعلّلناها تعليلاً أعمّ وأكمل. فإن الأرستوقراطية بـمعناها الأصلي الذي عرّفها به شيشرون وأرسطو هي حكم الأفضليـن أو حكم الأفضل.


الأرستوقراطية غير منحصرة في الـملوك والأشراف، لأن الأرستوقراطية على أنواع شتى. فمنها أرستوقراطية الـمال وأرستوقراطية العقار وأرستوقراطية القوة وأرستوقراطية النبوغ وأرستوقراطية اللقب. وما أرستوقراطية الـحسب التي يتمتع بها الـملوك والأشراف إلا جزءاً صغيراً من الأرستوقراطية الكاملة، وهي ليست ملازمة للملكية كما يفهم ذلك بعض الذين يتلقفون الأمور كيفما اتفق، بل هي موجودة في الـجمهورية أيضاً. وقد جاء في تعريف أرسطو لها ما معناه أنّ الأرستوقراطية أقلية من ذوي الأهلية والفضل، يسودون في جمهورية فيديرون شؤونها وينفّذون القوانيـن الـموضوعة بأمانة ودقة ويقومون بعبء الـحكم حباً بالـمصلحة العامة والـخير العام. وهذا يعني أنّ الأرستوقراطية يـمكنها أن تـحيا وتنمو بدون الـملكية، فهي أبداً موجودة في كل نفس تضطرم بشعلة الارتقاء والتفوق وفي كل فرد أفضل.


لقد حدد روسو وفولتير وغيرهما من الكتّاب الذين كان لهم شأن كبير في إضــرام الثــورة الفرنسيـة أقـلامـهـم وشـحذوا رؤوسها وانهالوا بها على الـملكية والأرستوقراطية بصواعق الـمقالات، وصوروا للشعب الفرنسي أنّ حريته تتوقف على إسقاط العرش وإبادة الأرستوقراطييـن. فكانت كتاباتهم من أكبر العوامل الـمثيرة لهمّة الشعب الفرنسي على إضرام تلك الثورة والـمناداة بـما سمّوه «حقوق الإنسان».


ولكن هل خلّصت الثورة الشعب الفرنسي من عبوديته؟ وهل أزالت الظلم والاجحاف اللذين كانا لاحقيـن بالإنسان وحقوقه؟


ليت جان جاك روسو وفولتير وسائر الكتّاب الأحرار يعودون ليبصروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم ويلمسوا بأيديهم النتيجة الـمحزنة لتلك الثورة الـمريعة. ليتهم عادوا وأبصروا أرتـجة وجدران الإمبراطورية النابوليونية تقام على ضحايا الشعب الفرنسي وسائر الشعوب الأوروبية. ليتهم عادوا وأبصروا الدماء والـحروب التي ترتبت على نتائج الثورة الفرنسية التي يعتقد العالم أنها أُضرمت حباً بحقن الدماء وإبطال الـحروب. ليتهم عادوا وأبصروا أبناء فرنسة الذين جاهدوا في سبيل حريتهم يساقون إلى مجاهل روسية سوق النعاج، حيث يفترسهم الـجوع والبرد والنار ويذهبون ضحية مطامع فرد قام من وسطهم وأذاقهم من الظلم والاستبداد والاجحاف ما لم يذوقوه على عهد الـملكية الذي سبق الثورة. وليتهم يعودون الآن ويرون ما إذا كان إجحاف الـجمهورية بحقوق الإنسان أقلّ من إجحاف الـملكية بها.


إنّ الـمبادىء السامية التي بشّر بها روسو ورصفاؤه، والتي إليها يعزو جمهور الكتّاب نشوب الثورة الفرنسية، لم تكن في الأصل مبادىء فرنسية لذلك انقلبت بعد تلك الثورة شر منقلب. وبعد أن كانت الإنسانية تخاف شر ملوك فرنسة، أصبحت تخاف شر زعماء فرنسة غير الـملوك الذين هم بالـحقيقة أشد خطراً على الإنسانية، وأكثر إجحافاً بحقوق الإنسان من الـملوك الـمتوجيـن. ولا يفرق استبداد زعماء فرنسة بعد الثورة عن استبداد ملوكها قبل الثورة، إلا في أنّ الـملوك استبدوا بـما أوتوه من سلطة اللقب، أما الزعماء الذين خلفوهم فيستبدون بـما لهم من سلطة السياسة والدهاء متسترين تـحت غطاء الديـموقراطية والـحرية.


لقد حاولت الثورة الفرنسية أن تبيد الأرستوقراطييـن من البلاد، ولكنها لم تكن لتبيد إلا أزكى وأشرف دم أنـجبته فرنسة. أما الأرستوقراطية فقد تـجلت بعد إبادة أولئك «الأرستوقراطييـن» في الـجمهورييـن الديـموقراطييـن الذين خلفوهم بأشد قسوة وأكثر استبداداً. وإننا إذا بحثنا في نتائج الثورة الفرنسية في فرنسة وحدها، بصرف النظر عن نتائجها في الـخارج، وجدنا أنها لم تـحقق الأماني التي عقدت عليها من هذه الوجهة. فإن الثورة بإبادتها الـملوك والأرستوقراطييـن، انتزعت السلطة من أيدي أشخاص ربوا على إتيان الـمكرمات والطموح إلى كل ما هو شريف وعظيم بحكم ما يكتسبونه من محيطهم الـممتاز فضلاً عن تأثير الوراثة الـمباشرة وغير الـمباشرة، مـما يجعلهم يفقهون الـمركز الذي هم فيه ويرغبهم في السير في سبيل مستقيمة شريفة حفظاً لـمركزهم وصيانة لأسمائهم، لتجعلها بيـن أيدي أفراد ربيَ كثيرون منهم على الـمكر والدهاء يعرفون من أين تؤكل الكتف، فضلاً عن أنهم لا يحجمون عن إتيان الصغائر في سبيل غاياتهم ومآربهم. فكانوا ولا يزالون يتلاعبون بأفكار الأمة وعواطفها تلاعب الصبيان بالأكر، بعضهم بـما أوتيه من التملق والاستمالة والبعض الآخر بـما فطر عليه من الـمكر والدهاء.


لهذه النتيجة تعليل ينطبق على الـمثل العربي الـمشهور القائل «كما تكونون يولَّى عليكم.» أما التعليل الذي وجدته أنا وأظنه أكثر انطباقاً على الواقع، فهو أنّ طبيعة رجال كل أمة تعود إلى طبيعة الأمة نفسها. فإذا كانت الأمة ميالة بطبيعتها إلى الظلم والاستبداد وسفك الدم، كان رجالها وزعماؤها مياليـن بحكم هذه الطبيعة إلى إتيان الأمور الـمتقدمة. وما أحراني في مثل هذا الـموقف بتشبيه الأمـم بالأشجار التي تنمو وتورق وتعطي ثماراً من نوعها. فكما أنّ إعطاء أثمار الشجرة الواحدة أسماء جديدة غير التي كانت لها لا يغيّر شيئاً من طبيعتها، كذلك إعطاء رجال الأمة الواحدة ألقاباً جديدة غير التي كانت لهم لا يغيّر شيئاً من طبيعتهم. فإذا رأينا بيـن رجال الأمة الفرنسية وزعمائها الذين عقبوا الثورة الفرنسية حتى اليوم من هم أكثر استبداداً وأبعد مطامحاً إلى السيادة والسلطة من الـملوك الذين تقدموا الثورة، فلأن ذلك عائد إلى الطبيعة الاستبدادية الـمتأصلة في الأمة الفرنسية التي يظهر أنّ تغيير حكومتها من الـملكية إلى الـجمهورية لم يُحدث في طبيعتها تغييراً ما.


أما الإنسانية؟ ماذا استفادت الإنسانية من تلك الثورة؟ على هذا السؤال تسمع زمجرة الهاتفيـن وصياحهم قائليـن «التاريخ. الـحرية. الإخاء. الـمساواة. الـمبادىء الفرنسية. لا تنكروا ما لفرنسة.»


يبحث بعض الكتّاب في مبادىء الـحرية والإخاء والـمساواة ذاهبيـن إلى أنها مبادىء أوحتها فرنسة إلى العالم بواسطة ثورتها الكبرى. وبناء على هذه النظرية تكون فرنسة عند دعاة الديـموقراطية أُمّ الديـموقراطية ومبدعة هذه الـمبادىء السامية. بيد أنّ التوفيق بيـن هذه الـمبادىء والسياسة الفرنسية الـحديثة والقديـمة هو الدافع الذي حدا بي إلى التساؤل عما إذا كان هذا الزعم في محله.


ولقد استخلصت بعد إعمال الفكر في ما آلت إليه فرنسة بعد الثورة أنّ مبادىء الـحرية والإخاء والـمساواة ليست بالـمبادىء الراسخة في روح الشعب الفرنسي، بل إنّ هذه الـمبادىء كانت حيـن إعلانها في فرنسة أشبه شيء بسحابة مرت على أرض رملية وأمطرتها فلم يفد الـمطر شيئاً وما كادت تلك السحابة تزول، حتى عاد الرمل إلى ما كان عليه.


ما كادت الثورة الفرنسية تضع أوزارها، حتى رأى الفرنسيون أنفسهم منقادين إلى إرادة رجل ضرب بهم في طول مجاهل أوروبة وعرضها، وساق أشداءهم إلى صحارى روسية البيضاء حيث زجهم بيـن لهيبيـن من حريق ودنق ورمى بهم إلى أنياب الـمشقة والـجوع لأن البلدان الأخرى لم تكفِ لسد مطامحه الـحربية. ثم جاءهم بعد ذلك الـجمهوريون الذين كانوا ولا يزالون يتنازعون السيادة عليهم تنازع الرعاة على قطيع من الغنم، متذرعيـن للوصول إلى هذه السيادة بالشعب نفسه ومتسلحيـن بإرادة الأمة. وكم من مرة أدَّى ذلك إلى انقسامات كادت تـجر على فرنسة الـخراب والدمار؟


قال روسو في كتابه «كونترا سوسيال» عن الإنكليز وحريتهم ما يأتي «يعتقد الإنكليز في أنفسهم أنهم أحرار. إنهم يخدعون أنفسهم. إنهم أحرار في الوقت الذي ينتخبون فيه أعضاء البرلـمان فقط، أما بعد انتخاب هؤلاء الأعضاء فإنهم يكونون عبيداً. هم لا شيء.»


فروسو هزأ بالـحرية الإنكليزية وعدّها حرية وهمية ليس لها من صفات الـحرية إلا حرية انتقاء الأسياد أو الـمستعبدين لأن الـحكومة في إنكلترة ليست ديـموقراطية. والـحقيقة أنه وإن كان لا يزال لأرستوقراطية الـحسب حقوقها في إنكلترة، نرى أنّ أرستوقراطيي إنكلترة أكثر اهتماماً بشؤون أمتهم وأشد إخلاصاً وأمانة في خدمتها بـما يوافق روحها وينطبق على راحتها وسعادتها من كثير غيرهم من ديـموقراطيي الأمـم الأخرى وفي عدادهم ديـموقراطيي فرنسة. وهذا عائد إلى أمرين جوهرييـن:

أولهما ارتقاء الشعب الإنكليزي إجمالاً ارتقاء متيناً راسخاً، وثانيهما تبادل الثقة بيـن الشعب والأمة بتبادل الـحقوق والواجبات.


في إنكلترة يؤدي الأشراف الأمة حقوقها، أما في فرنسة فالأمة تتنازع حقوقها تنازعاً.الأرستوقراطية الانكليزية أرستوقراطية في الظاهر ديـموقراطية في الباطن أو هي الأرستوقراطية الـحقة التي تـمثّل الأفضليـة بأبهى معانيهـا. أما الديـموقراطية الفرنسية فديـموقراطية في الظاهر، أوتوقراطية في الباطن وهي في مثل هذه الـحال أسوأ أنواع الـحكومات.


فواضح مـما تقدم أنّ العِبرة ليست في دك العروش وقصل أعناق الـملوك وإبادة الأرستوقراطييـن ولا في نوع الـحكومة. ولعل الـخطأ الكبير الذي ارتكبه روسو في كتابه الـمشار إليه هو حسبانه أنّ الـحرية لا يـمكن أن تكون إلا مع الديـموقراطية. ولـمّا كـان هذا الـمقـام ليس مقـام انتقـاد مطول لفلسفـة روسـو، فإني أكتفي بالكـلام عليـه عنـد هذا الـحـد.


وقد استخلصت أيضاً من الـحقائق الـمتقدمة أنّ الـمبادىء الـمتقدم ذكرها لا يـمكن أن تكون مبادىء فرنسية لأنها وطبائع الشعب الفرنسي على طرفي نقيض. أما الـمناداة بها في الثورة الفرنسية فاقتباس عن الثورة الأميركية، وهو ما ثبت لدى الكثيرين من أهل النظر على الرغم من محاولة الفرنسيس نسبتها إلى روسو في الأصل.

والـحقيقة أنّ أصل هذه الـمبادىء يعود إلى ما قبل الثورتيـن الأميركية والفرنسية بأزمنة، فهي مبادىء مسيحية في الأصل. وكل من قرأ العهد الـجديد من الكتاب الـمقدس يجدها متجلية في كثير من العبارات الفلسفية الـخالدة التي فاه بها ذلك الناصري السامي. فالنصرانية هي التي أعطت العالم هذه الـمبادىء.


ومهما يكن من الأمر، فإنه لا يوجد في كل تاريخ فرنسة ما يثبت أنّ الثورة الفرنسية أضرمت تأييداً للمبادىء الـمتقدمة. وكل ما يـمكن إثباته هو أنّ الثورة الفرنسية أضرمت للتخلص من استبداد وقتي بدليل أنّ الفرنسييـن ما كادوا ينتقضون على استبداد ضعيف، حتى استسلموا إلى استبداد قوي. ولا أظن أنّ نكبة فرنسة والعالم بالـملكية الفرنسية كانت أشد من نكبتها بالإمبراطورية النابوليونية التي كلفت فرنسة والعالم دماءً وأموالاً كثيرة، وبدليل سياسة الدهاء والـخداع التي يجري عليها جمهوريو فرنسة الآن وفي كل زمان.


إنّ السياسة الفرنسية التي عقبت الثورة الفرنسية، والتي لا تزال فرنسة جارية عليها، لم تبرهن قط على أنّ فرنسة رمت من وراء إضرام ثورتها خدمة الإنسانية وتأييد مبادىء الـحرية والإخاء والـمساواة. كما وأنها فشلت في أن تظهر فرنسة دولة تكره الظلم والـجور وتبغض الاستبداد والاستعباد. وها نحن نراها الآن بعد أن خرجت من هذه الـحرب الضروس دولة تسعى إلى الاستعمار والاستعباد جهد طاقتها، وتأتي في سبيل ذلك من ضروب الظلم والاستبداد ما لا يجوز صدوره عن أمة فيها مقدار حبة خردل من الكرامة الإنسانية، فكيف بأمة تعدُّ نفسها في مقدمة الأمـم الراقية وتدّعي أنها أُمُّ الـحرية ومبدعة الـمبادىء الإنسانية السامية؟


القول بأن الثورة الفرنسية أضرمت لترقية الـحرية وتأييد الـحقوق الإنسانية قول مؤوّل تأويلاً لا ينطبق على الـحقيقة والفلسفة والواقع كما يتضح مـما تقدم. ومهما يكن من أمر إعلان ما سموه حقوق الإنسان، فإن ذلك الإعلان الذي لا يختلف كثيراً في نتائجه عن إعلان حرية الشعوب الصغيرة أثناء الـحرب، لم يُبح للفرنسييـن إلا حرية الانغماس في حمأة الشهوات والرذائل التي تصرفهم عن سائر الشؤون وتـجعلهم سهلي الانقياد. وهذه هي الـحرية الوحيدة التي يتمتع بها الفرنسيون بكل ما في كلمة الـحرية من الـمعنى.


لقد أكثر البشر الذين تعودوا أن ينتقضوا على كل قديـم ويحبذوا كل جديد ويعرضوا عن الـحقائق ويتعلقوا بأذيال الـخيال، من الإطناب بالثورة الفرنسية وفرنسة إلى حد كادوا عنده يقطعون على أنفسهم كل مجال للتفكر في ماهية ما يطنبون به. والـحقيقة أنه لو لم تكن الثورة الفرنسية خالية من الـمبادىء السامية الـمنسوبة إليها لـما انتهت بـمثل هذا الإفلاس الذي لا نظير له في العالم.


وعندي أنّ الثورة الفرنسية أعظم مجزرة عرفها التاريخ وأكبر خدعة خُدع بها العالم إلى اليوم، لأنها وما ترتب عليها من الـحروب والـمجازر الأخرى في العالم لم تهب العالم الـحرية والإخاء والـمساواة، ولكن أفقدته كثيراً من زهرة رجاله وكبّدته خسائر حسية ومعنوية كبيرة.


لا أريد بـما تقدم أن أقول إنه كان يجب على الفرنسييـن أن يبقوا خاضعيـن لاستبداد حكامهم ويستمروا في حال العبودية التي كانوا عليها. ولكني أقول إنّ مبادىء الـحرية والإخاء والـمساواة ليست مبادىء ابتدعتها الثورة الفرنسية لأنها مبادىء مسـيـحـيـة، وإنّ الفـرنسـييــن بعد أن أضــرمــوا الثــورة وتـخـلصـوا من عبوديتهم عادوا فاستسلموا إلى عبودية أخرى من نوع آخر، ولم يكتفوا بذلك فقط بل هم يوافقون على استعباد الغير أيضاً.

 

فيرى مـما تقدم كل ذي بصيرة وفهم أنه ليس هنالك ولا وجه واحد حقيقي للاعتقاد بصحة ما ينسبونه إلى الثورة الفرنسية من الصفات الإنسانية السامية والـمبادىء العالية، وأنّ الصفة الـحقيقية الوحيدة الواضحة في تلك الثورة وضوحاً تاماً هي صفة الـمجزرة الدموية فقط.
 
لا تعجب يا عزيزي الـمطالع من هذه النتيجة الـمناقضة لكل ما سمعته عن محاسن فرنسة والثورة الفرنسية، لأن الأمة التي معظمها سكير متهوس محب لسفك الدم والاستعمار والاستعباد، لهي إلهة لا يـمكن أن تكون أُمّ الـحرية، ولا أن تكون ثوراتها مبعثاً للمبادىء السامية، ولا يرجى منها ولا من ثوراتها إلا ما يرجى من كل سكير متهوس محب لسفك الدم والاستعباد وثوراته!
 
لقد خدعت فرنسة بثورتها العالم كله بعض الوقت ولكنها لن تستطيع خداعه كل الوقت، وإنّ الذين كانوا يحسنون الظن بفرنسة قد ابتدأوا الآن يغيّرون اعتقادهم.
أنطون سعاده
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro