مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي
 
 
 
الـمجلة،سان باولو،السنة 10، الـجزء 4، 1924/5/1
 

الولايات الـمتحدة هي الدولة الغربية الوحيدة التي كان يُنتظر منها أن تكون مثالاً صالـحاً للتمشي على سياسة جديدة عادلة فيما يختص بالاستعمار واقتطاع الشعوب، اللذين أُنشئت لهما بعد الـحرب أساليب جديدة وبدعٌ جديدة. فبعد أن ظهر للشعوب الـمقتطعة خداع الدول الأوروبية لها، حوَّلت وجهها شطر الولايات الـمتحدة التي بدا من مجاهرتها بحقوق الشعوب الضعيفة وتصريحها بوجوب إلغاء الـمعاهدات السرية والسير على طريقة الباب الـمفتوح وغير ذلك، أنها دولة نزيهة لا ترغب إلا في العدل العام طبقاً للحقوق الأولية للأفراد والشعوب. ولكنها بعد مصادقتها على وصاية فرنسة على سورية مع ما تعلمه عن مآتي الظلم والاستبداد القبيحة التي تـجريها تلك الدولة الأوروبية في سورية، سقطت من عيون السورييـن خصوصاً والشرقييـن عموماً قشور جديدة، وتنبهوا إلى شؤون أخرى غير التي كانوا يعرفونها سوف تغيّر اعتقادهم تـماماً، إذا لم تكن قد غيّرته بعد، بشأن الثقة الأدبية بالولايات الـمتحدة وسلامة نيتها، كما تغيّر اعتقادهم بشأن الثقة الأدبية بسائر الدول الغربية.


الولايات الـمتحدة هي الدولة التي كان يرجو العالم أن تكون صلة التفاهم السياسي والأدبي بيـن الشرق والغرب، فخيبت رجاءه بصورة محزنة جداً. والشرق الذي كان يعتبر الولايات الـمتحدة صديقة له، يرى الآن أنّ هذه الصديقة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستعباد. فإذا نفر الشرقيون من الولايات الـمتحدة بعد ما بدا لهم منها، فالذنب في ذلك ليس ذنبهم بل هو ذنب الولايات الـمتحدة وحدها. فالشرق كان يريد أن يحب الولايات الـمتحدة وأن يحتفظ بصداقتها، ولكنها هي التي صرمت حبال الـمحبة وأبت أن تكون محبوبة ومحترمة من الشرقييـن.


الولايات الـمتحدة هي أول أمة صفعت ولسن في وجهه وهزأت بـمبادئه. ومع ذلك فإن صحافتها لم تخجل من نفسها عندما رمت الألـمان بكل فرية، لأن السفير الألـماني أبى أن ينكّس علم بلاده احتراماً لـموت ولسن، الذي سبّب تداخله في شؤون أوروبة تعاسة وطنه. وكان الأجدر بتلك الصحافة أن تخص بتقريعها الأميركييـن لأنهم هم أول من ضرب بولسن ومبادئه عرض الـحائط.


إنّ اعتراف الولايات الـمتحدة رسمياً بوصاية فرنسة على سورية، وهي الدولة التي أرسلت لـجنة فاحصة للوقوف على آراء السورييـن في تقرير مصيرهم وعلمت من هذه اللجنة أنّ كل حماية أو وصاية أو انتداب وما شاكل يكون ضد إرادة السورييـن وشعورهم الوطني، لم يكن يخطر في بال أحد بعد أن أقلقت الولايات الـمتحدة راحة الأرض والسماء تبجحاً بنزاهتها ومساعدتها للإنسانية. بيد أنه يـمكن السوريون الآن أن يحمدوا الله والظروف لـحصولهم على مثل هذا الاختبار الـمفيد. وسيكون هذا الـحادث عبرة لأمـم الشرق كلها.


الظاهر أنّ لـمعان الدولارات قد أعمى بصيرة الأميركييـن حتى أنهم أصبحوا يوافقون على الاعتداء على حرية الأمـم بدمٍ بارد وعجرفة متناهية، غير حاسبيـن أنّ مثل هذا العمل الشائن الذي يأتونه جارحيـن عواطف أمـم كريـمة كانت تعتبر الأميركييـن وتعتقد فيهم الإخلاص الذي أفلس في الغرب إفلاساً تاماً، هازئيـن بشعور تلك الأمـم صافعينها في وجهها جزاء محبتها لهم، وبيـن تلك الأمـم من قد ضحت بكثير من شبانها وزهرة رجالها في سبيل الذود عن شرفهم وعلمهم أثناء الـحرب العالـمية الهائلة التي كان الـمحور الذي تدور عليه الذود عن الـحياة لا عن الشرف، عمل معيب يسبب سقوط مرتكبه.


لا أدري ما هي الأعذار التي يبرر بها الأميركيون عملهم الشائن بـمصادقتهم على وصاية فرنسة على سورية تـجاه أنفسهم. ولكني أدري شيئاً حقيقياً ثابتاً، وهو أنه لا شيء يبرر هذا العمل تـجاه العالم. وأعتقد أنّ عملاً كهذا لا مبرر له في الـحالات الاضطرارية وغير الاعتيادية، فكيف في الـحالات التي لا اضطرار فيها، خصوصاً والعمل الـمشار إليه ليس له صفة الـمصادقة فقط بل صفة الـمشاركة بالاعتداء على حرية سورية وحقوقها أيضاً، لأن الولايات الـمتحدة قد اتخذت هذه الـمصادقة وسيلة لـجعل رعاياها مساوين لرعايا الدولة الـمعتدية في الامتيازات التي يطلقون عليها أحياناً «حقوق الامتيازات». وهكذا تكون الولايات الـمتحدة قد اشتركت فعلاً في الاعتداء على حرية سورية، لأنها قد اشتركت في الامتيازات التي هي نتيجة ذلك الاعتداء.


والآن لننظر في هذه الامتيازات وما هي فائدتها للولايات الـمتحدة ورعاياها حتى تستحق الاهتمام الذي علقته هي عليها، ورضاها بأن تضع نفسها في صف الدول الـمعتدية على حرية الأمـم وحقوقها، وأن تتحمل عبء مسؤولية الاعتداء أمام العالم الـمفتح العينيـن والتاريخ، رغماً مـما تعلمه عن وخامة عاقبة مثل هذه الـمسؤولية التي جربت أن تتحملها دولة هي أعظم من الولايات الـمتحدة في كل شيء، وهي ألـمانية، فجرّتها هذه الـمسؤولية إلى العاقبة التي يعرفها العالم كله، مع أنّ ألـمانية لم تقدم على تـحمُّل تلك الـمسؤولية التي حنقت لها الأمـم كلها بالاعتداء على البلجيك إلا مضطرة بالضرورة الـحربية الـمستعجلة.


مـما لا يخفى على الأميركييـن فضلاً عن السورييـن أنّ عدد رعايا الولايات الـمتحدة في سورية قليل جداً لا يكاد يؤبه له، وأنّ هذا العدد على قلّته كان قبل مصادقة الولايات الـمتحدة على انتداب فرنسة لسورية يتمتع بامتيازات كثيرة قائمة على محبة السورييـن للأميركييـن لاعتقادهم فيهم أنهم أبناء أمة منزهة عن الـمطامع الأشعبية، بعيدة عن الـمطامح الاستعمارية، راغبة في العدل بيـن الأمـم والشعوب، لا ترغب في الاعتداءات ولا تـميل إلى إحداث الإنشقاقات، ولا تعمل على نصرة الظالـميـن. فأينما وُجد أميركيون في سورية كانوا موضوع احترام الأهالي وإكرامهم اللذين لا ينالهما أجنبي آخر، سواء كان متمتعاً بامتيازات استعمارية أو لا. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ بيـن الوطنيين أنفسهم من كان يحسدهم على الـمنزلة التي كانت لهم في قلوب الأهليـن والإكرام الذي كانوا يلاقونه عندهم أينما كانوا وحيثما وجدوا. وإنّ الفرنسييـن أنفسهم الذين يتمتعون بامتيازات استعمارهم، يكادون يذوبون حسداً وقهراً، لأنهم رغم امتيازاتهم الاستعمارية لا يلاقون من الارتياح والانشراح ما يلاقيه الأميركيون الذين لا امتيازات لهم، بل هم يجدون صعوبات كثيرة من جانب الوطنييـن. فماذا كان ينقص الأميركييـن في ذلك الوقت، وماذا ربحوا من الامتيازات التي طلبتها لهم حكومتهم من فرنسة مقابل مصادقتها على انتدابها لسورية؟


نعتقد أنّ الشيء الوحيد الذي كان ينقص الأميركييـن في سورية هو إيجاد أمور تنفّر السورييـن منهم وتـحملهم على كرههم. فكل ما قام في الـماضي من الأمور الـمقصودة وغير الـمقصودة لتحويل السورييـن عن محبتهم للأميركييـن كانت نتيجته الفشل التام. أما الآن فالأميركيون أنفسهم نـجحوا، وكان نـجاحهم باهراً جداً. ولا يسعنا في هذا الـمقام إلا أن نهتف مع رصيفتنا مرآة الغرب الشهيرة قائليـن «فلتحيى الدولارات الأميركية!» ليس شيئاً صعباً على الأميركييـن. إنهم أرادوا أن يكونوا مكروهيـن من السورييـن، وإننا نقرّ ونعترف بأنهم نالوا ما يبتغون.


الأميركيون أرادوا أن يكونوا مساوين للفرنسييـن في سورية، فليكن لهم ما يريدون. فالسوريون لا يخسرون مقابل ذلك شيئاً، ولكن الأميركييـن يخسرون شيئاً هاماً. إنهم يخسرون مركزهم والثقة التي كانت للوطنييـن بهم. وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنييـن السورييـن إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهان كرامة سورية، فقد لا يـمنعهم شيء عن أن يتهموا السورييـن بالتوحش والهمجية، وأن ينسبوا إليهم كل فرية هم براءٌ منها.

من يـمنعهم؟ أضمائرهم وقد ماتت؟ أقلوبهم وقد تـحجرت؟ أعواطفهم وقد اضمحلت؟ أأدمغتهم وقد نضبت؟ أإنسانيتهم وقد أمحلت؟ أنوابغهم الـمصلحون والأرض خلاء منهم الآن؟ لا. لا شيء ولا أحد يـمنعهم. وغداً يسجل التاريخ أنّ الولايات الـمتحدة العظمى قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسة العظمى. ولتكن الولايات الـمتحدة على ثقة من أنّ الدولارات، مهما كثرت وفاضت، فهي لا يـمكنها أن تعمي بصيرة التاريخ.
 
ليست هذه أول مرة تُقدِم فيها الولايات الـمتحدة على مس كرامة السورييـن وإهانة شعورهم الوطني، بل الـمرة الأولى كانت عندما صادق مجلسها على وعد بلفور بجعل فلسطيـن وطناً قومياً لليهود. وقد احتمل السوريون تلك الصدمة غير الـمنتظرة بصبر جميل، حتى جاءت هذه الصدمة الأخيرة بالـموافقة على استعمار فرنسة لسورية، وهو ما كان بعيداً عن تقدير السورييـن لنوايا الولايات الـمتحدة بُعد الأرض عن السماء. ولكن الظاهر أنّ للولايات الـمتحدة من وراء ذلك غرضاً خاصاً غير الامتيازات التي أتينا على ذكرها، وهو أن تبيّـن للعالم أنها دولة مصابة بقحط هائل في رجال السياسة والإصلاح إلى حد أنه لم يكد يوجد في طول بلادها وعرضها رجل واحد قام يندد بهذا العمل العدائي ضد شعب صغير مسالم لم يتأخر عن تقديـم الألوف من رجاله فداء شرف الولايات الـمتحدة والعلم الذي يظللها. ومن هذه الوجهة أيضاً قد بلغت هي ما تبتغيه.
 
إنّ موافقة الولايات الـمتحدة على استعمار فرنسة لسورية ظلم مجاني واعتداء على حرية سورية وحقوقها لا مسوّغ لهما على الإطلاق. وعمل كهذا يُعدُّ أقبح أنواع الظلم والاعتداء. وليس من العجيب أن يسبب سقوط الدولة التي تأتيه، ولكن العجيب الغريب أن تظل الولايات الـمتحدة بعد العمل الـمذكور الذي أقبلت عليه تتبجح بديـموقراطيتها وعدلها ونزاهتها، حاسبة أنّ العالم يقنع بـمجرد الكلام الفارغ والادعاء البعيد عن الـحقيقة. ولكن يـمكن الولايات الـمتحدة أن تثق من أنها ترتكب بحسبانها هذا خطأ فاضحاً، وتبيـن عن عيٍّ مخجل. فالناس يفهمون جيداً أنّ مساعداتها الـمالية للأمـم ليس عملاً إنسانياً ما زالت تشترك في الاعتداء على حرية تلك الأمـم وحقوقها الطبيعية.
 
يجب على الولايات الـمتحدة أن تفقه أنها بـموافقتها على استعمار سورية قد أساءت إلى هذه إساءة لا يـمحوها بذل الدولارات، لأنها إساءة تعمدت الولايات الـمتحدة إتيانها دون أدنى مسوغ بعد أن صرفت في درسها أشهراً وسنيناً. وكان الأجدر أن تضعها جانباً إذ لا حاجة لها بها، فكانت أبقت على تلك الـمنزلة السامية التي كانت لها ولرعاياها في قلوب السورييـن والشرقييـن والعالم. ولكن من أين لنا بـمن يجعلها تصغي لصوت الـحق ويقنعها بوجوب الإسراع إلى التكفير عن إساءتها؟
 
في الساعة التي أمضت الولايات الـمتحدة صك الـمصادقة على استعمار فرنسة لسورية، مع ما تعلمه بأما يحلّ بسورية من ويلات ذلك الاستعمار، أمضى التاريخ حكمه وسقطت الولايات الأمتحدة سقوطاً أدبياً مخجلاً. وستظل الولايات الـمتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم.
 
ومهما يكن من الأمر، فإن حادثة هذه الـمصادقة ستبقى لطخة سوداء في تاريخ الولايات الـمتحدة، لا يزيلها منه شيء حتى يزول التاريخ نفسه.
 
أنطون سعاده
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro