مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
محافظو بريطانية ومصر
 
 
 
الـمجلة،سان باولو،السنة 10، الـجزء 11، 1924/12/1
 

عندما سقط بوانكاريه ذلك السقوط الباهر، قلنا الـحمد لله إنّ أوروبة قد وضعت يدها على الـمحراث ولن تنظر إلى الوراء بعد. ولكن سرعان ما ظهر الـمحافظون في بريطانية ليبرهنوا عكس ذلك. وسيكون للدور الذي ابتدأوا يلعبونه شأن وأي شأن في السياسة العالـمية.


الظاهر أنّ الـمحافظيـن قد عادوا في بريطانية إلى الـحكم واضعيـن نصب أعينهم ذلك الـمبدأ القديـم القائل «إنّ بريطانية يجب أن تكون سيدة العالم.» وهم يرون أنّ ذلك سهل عليهم الآن من الوجهة السياسية. فألـمانية مشلولة وروسية متخبطة وفرنسة وإيطالية لا تعاكسان السياسة البريطانية. ولم يبقَ إلا الولايات الـمتحدة واليابان، والأولى منهما لا تتداخل في السياسة الأوروبية، والثانية يهمّها الـمحيط الباسيفيكي أكثر من سواه.


لقد توقعنا أن يُحدث الـمحافظون البريطانيون تغييراً كبيراً في السياسة الأوروبية خاصة والسياسة العالـمية عامة، وها نحن الآن نشهد هذا التغيير الكبير الآخذ في التطور أمام أعيننا. والعالم مزمع أن يرى من وراء هذا التطور حالة حرجة جداً. وقد ابتدأت طلائع التحرُّج تبدو في السياسة في مسألة إخلاء كولونية الألـمانية والـمسألة الـمصرية.


كانت أوروبة قد ابتدأت تتنفس الصعداء على زمن حكومة مكدونالد، وأخذت الروح العدائية التي كانت ثائرة في الشعوب الـمختلفة تزول شيئاً فشيئاً. ولكن بريطانية التي فعلت شيئاً كثيراً في سبيل السلام، قد قامت الآن تنقض كل ما فعلت في ذلك السبيل لتفعل شيئاً كثيراً في سبيل الاضطراب والويل. وأوروبة اليوم قائمة قاعدة لهذا الانقلاب الفجائي الذي حدث كانتقال الـحرارة من درجة الاعتدال إلى درجة الغليان والاحتراق دفعة واحدة.


نترك أوروبة الآن تضرب أخماساً في أسداس وتـحسب لـما سيكون ألف حساب وحساب، وننتقل إلى مصر وهي البلاد الشرقية الناهضة جديداً نحو الـحرية والاستقلال نهضة مباركة أفعمت قلوب الأحرار الناهضيـن في الشرق كله سروراً وبهجة. ففي تلك البلاد الـجارة التي وقف أحرار السورييـن في جانب قضيتها الاستقلالية، كما وقفوا في جانب قضية استقلال سورية نفسها، تـجري الآن حوادث غريبة قلّما شهد لها العالم مثيلاً من قبل.


منذ نحو ثلاث سنوات حازت مصر على اعتراف بريطانية باستقلالها بعد أن وقفت موقفاً وطنياً باهراً، بدت فيه مصر كلها شعلة حرية تبعث نوراً للأحرار الـمجاهدين وتلقي ناراً على الأعداء والـخونة الـمارقيـن. فاشرأبت إليها الأعناق وخفقت لـموقفها الـمجيد القلوب، حتى لقد كان بيـن عشاق الـحرية في سورية خصوصاً والشرق كله عموماً من بكى سروراً باستقلال مصر، عادّاً عملها الـخطوة الناجحة الأولى نحو حرية الشرق بعد أن فشلت سورية في تـحقيق تلك الـخطوة بسبب غدر الفرنسيس والإنكليز وغيرهم. أما الآن فإن مصر قد صُدمت صدمة قوية لا نستطيع وصف مبلغ تأثيرها.


هذه الصدمة القوية التي أصابت مصر في بدء سيرها نحو الـحرية الباهرة، هي صدمة تعمدتها بريطانية مجاناً لوجه الله تعالى، ورأس الـمال. وكل ما كان لـمصر في هذه الصدمة هو أنّ بعض رعاياها قتل سردار الـجيش الـمصري وحاكم السودان السير لي ستاك.


تـمسّك محافظو بريطانية بقضية مقتل السير لي ستاك تـمسكاً شديداً. إنهم ندموا على اعترافهم باستقلال مصر ورفع الـحماية البريطانية عنها، فاتخذوا قضية مقتل السردار الـمذكور حجة لهم في إعادة مصر إلى الـخضوع للسيطرة البريطانية، وأرغوا وأزبدوا وقاموا وقعدوا وطلبوا مطاليب ما أنزل الله بها من سلطان، وصوّروا مقتل السردار صوراً شتى زعموا أنها تبرِّر الاقدام على نزع استقلال أمة لم يـمضِ على فتح عينيها لنور الـحرية والاستقلال سوى بضع سنوات.


إنّ القضايا التي تشبه قضية مقتل السردار كثيرة في العالم، وأشهرها قضية مقتل ولي عهد النمسة التي جرَّت أوروبة إلى نكبة سنة 1914، وقضية مقتل مبعوثي إيطالية في جنينا التي اشتهرت فيما بعد بحادثة كورفو. أما القضية الأولى، فإن أكثر الدول حنقت لذلك البند القائل بوجوب إشراف النمسة على التحقيق في مقتل ولي عهدها. وأما القضية الثانية، فرغماً من أنّ مندوبي إيطالية يقومون بـمهمة تهُمّ الـحلفاء كلهم، أعلنت بريطانية غضبها الشديد من مطاليب إيطالية وإقدامها على انتهاك حرمة استقلال اليونان بضربها جزيرة كورفو، وأرسلت إلى تلك الـجزيرة بعض الـمدرعات قصدت منها إيقاف إيطالية أمام خطر كبير إذا ظلت هذه على غيّها.


بعد إرسال بريطانية مذكرتها إلى مصر، وقف أحد أعضاء العمال في البرلـمان  وسأل ما إذا كانت مذكرة بريطانية تكون بذات اللهجة التي استعملت مع مصر لو كانت الـحادثة قد جرت في بلاد أخرى مستقلة وقوية مثل فرنسة أو الولايات الـمتحدة. وهذا السؤال يدل على فداحة مطاليب بريطانية بالنسبة إلى الـحادث وعلى عتوّها واستبدادها بالنسبة إلى قوّتها وضعف مصر. وهو لم يصدر عن سياسي مصري «متطرف» ولم يلقَ في برلـمان مصر الـمملوء وطنية «حمقاء»، بل صدر عن سياسي بريطاني حكيم وقيل وسط برلـمان بريطانية الـمملوء اليوم بالسياسييـن الـحمقى.


لم يرضخ الـمصريون لـمطاليب بريطانية إلا بعد أن لم تعد لهم في الأمر حيلة. وأهم مطاليب بريطانية أن يجلي الـجنود الـمصريون عن السودان التي كانت في الـمدة الأخيرة مدار الـخلاف بيـن مصر وبريطانية، ودفع دية لا تقلّ عن نصف مليون جنيه. وأما ما رمت إليه بريطانية من وراء هذه الـمطاليب، فهو أن تعيد سلطتها في مصر ونيل الـحرية التامة في السودان. وهي آخذة الآن في تـحقيق هذا الـمرمى. ولم تـجد بريطانية صعوبة كبيرة في تـحقيق القسم الأول من خطتها في مصر، لـخلو البلاد من الـجمعيات السرية الـخطيرة والأحزاب الـمنظمة التي تنظر في شأن القوة وإعداد السلاح والذخائر وتنظم حركة عسكرية احتياطية للدفاع عن البلاد ضد كل عدوّ تسوّل له نفسه مهاجمتها في بدء حياتها الاستقلالية. ولو وُجد شيء من ذلك لكانت الـمسألة الـمصرية دخلت طوراً خطيراً، ولكانت رأت بريطانية نفسها أمام قوى لا يـمكن إخضاعها إلا بعد تضحيات كبيرة جداً.


كل أمة مهما كانت ضعيفة يجب أن تعتمد في الذود عن حياضها على قوّتها هي، لأن القوة مهما كانت صغيرة تـجعل مهاجمتها أمراً يستدعي التفكير وتقدير التضحيات التي لا بدَّ من القيام بها تـجاهها. وهذا هو واجب مصر اليوم - يجب على مصر أن توجد روحاً عسكرية في رجالها تري عسكريي أوروبة كم تكلف مسألة مهاجمة مصر وإخضاعها من الرجال والأموال - يجب على مصر أن تـحذو حذو تركية ومراكش، وهاتان الأمتان الناهضتان أفضل برهان على فائدة القوة ضد القوة.


في العالم قوتان تتوقف عليهما حياة الأمـم الاستقلالية، وهما: السيف والقلم. وهاتان القوتان يجب أن تكونا أبداً متضامنتيـن وعلى أفضل حال من الدقة والنظام. وفي حال مثل هذه تكون البلاد قد قامت بواجبها نحو نفسها وبرهنت عن تفانيها في سبيل حريتها.


لا شك أنّ في مصر اليوم أمة تضطرم وطنية. ولكن الوطنية المصرية لم تعتمد في كل أدوارها على العقل الـمفكر الـمدبِّر الذي ينظم الكتائب ويعيّـن الـمواقف ويستفيد من الفرص السياسية - لقد اعتمدت مصر على الـمخابرات لا على الثورات، وعلى القول أكثر كثيراً مـما على الفعل. بيد أنها قد تلقت الآن الدرس الأول في كيفية الدفاع الوطني. ونحن على ثقة من أنها ستحسن تعلمه. لذلك لا يـمكن القول إنّ الـمسألة الـمصرية قد أُسدل عليها ستار الانتهاء.


أما بريطانية التي يقودها اليوم الـمحافظون إلى مواقع العداوات ظانيـن أنهم يقودونها إلى أرقى درجات الـمجد والقوة، فإن خرابها سيكون من هذا البناء الفاسد الذي سوف لا يـمضي وقت طويل إلا ويتفكك من تلقاء نفسه - حسن أن تلمَّ الإمبراطورية البريطانية شعثها وتنظر في إصلاح أمورها وتقوية بنائها، ولكن ليس حسناً مطلقاً أن تعود إلى السياسة الاستعمارية القديـمة وأن تقاوم تيار الـحرية الـجاري الآن في البلدان الشرقية بصورة عجيبة - لا بل إنّ ذلك حسن جداً يا أبناء التايـمز، إستعملوا القوة العمياء واضربوا هنا وهناك واستعمروا واستعبدوا، لأن ذلك يعجّل كثيراً في نيل مصر والشرق كله الـحرية الـجميلة - إنّ الله قد قسى قلوبكم كما قسى قلب فرعون من قبل. ولكن ثقوا أنّ خلاص الشرق مؤكد كخلاص إسرائيل.

إنّ الـجيش الـمصري قد انسحب من السودان. ولكن إذا كان عندكم يا أبناء بريطانية كتّاب مقتدرون فاسألوهم كيف يجمع الأسد نفسه في زوره، وكيف يثب بعد ذلك. فلعلهم يتمكنون من أن يصوّروا لكم مصر كما هي اليوم وكما ستكون.
 
إنّ الأمة الـمصرية قد انتبهت من رقادها، ولا يـمكن تخديرها مرة أخرى. وإذا كانت هي قد ارتكبت أغلاطاً سياسية وحربية، فإنها ستتجنب هذه الأغلاط في الـمستقبل وستنظم خططها تنظيماً تاماً حتى يصبح استقلالها محتوماً كالقضاء والقدر. ونحن لا نقول ذلك من باب التكهُّن، فإن ما حمله البرق إلينا عن الـحركة الوطنية في مصر يدعو إلى التفاؤل بنجاح مسعاها.
 
الرأي القائل أن لا أمل لـمصر بالاستقلال بعد، وأنها ليست أهلاً للاستقلال، رأي عقيم لا تدعمه الـحجة ولا يؤيده البرهان. بل الـحجة والبرهان يؤيدان عكس ذلك.
فمصر أهل للاستقلال بقدر ما هي بريطانية أهل له لا أكثر ولا أقل. أما الأمل بنيل الاستقلال فكبير جداً، لأن مصر قد صممت على الـحصول على مكانها تـحت الشمس. ومتى صممت أمة ما على نيل حق، بشِّرها بفوز باهر فما ضاع حق وراءه مُطالب.
 
سوف تنال مصر استقلالها التام الـمطلق، إن لم يكن برضى بريطانية فرغماً منها. وستضرب هي بسفسفة الأجانب والـخونة عرض الـحائط - لقد وضعت مصر يدها على الـمحراث فعلاً، وهي لا تريد أن تلتفت إلى الوراء بعد مهما قال القائلون وهوَّل الـمهوِّلون. وسيرى العالم مصر عما قليل أمة مستقلة رغم كل مكابر. ومن يعش يرَ.
أنطون سعاده
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro