مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
بدء النهاية «ثورة الشرق»
 
 
 
الـمجلة،سان باولو،السنة 11، الـجزء 6، 1925/7/1
 

​في كل مرة اصطدمت بعض قوات الشرق ببعض قوات الغرب وعاد الاصطدام على القوات الشرقية بالـخسارة، كان الـمؤرخون الغربيون يعدُّون ذلك خذلان البربرية أمام الـمدنية، وينسبون إلى القوات الغربية مجد الـمحافظة على الـمدنية. ولقد ذهب الـمؤرخون الغربيون في غلوّهم هذا إلى حد أبعد من ذلك بكثير، فصاروا يعدّون كل نهضة وطنية في بعض أقسام الشرق ترمي إلى الـحرية والاستقلال حركة بربرية تهدّد الـمدنية التي تـحمل أوروبة لواءها.


هذه الفلسفة التاريخية العقيمة التي أنتجتها أدمغة الـمؤرخيـن الغربييـن الـمتعصبيـن، يعدّها القوم في الغرب إحدى الـحقائق التاريخية. وقد تناولها الفريق الأكبر من الكتّاب الغربييـن كما هي وغالى بعضهم في وصف «الـمواقف التاريخية» التي أنقذ فيها الغرب الـمدنية من خطر بربرية الشرق. ومن الغريب الـمضحك الـمبكي، أنّ فريقاً كبيراً من كتّاب الشرق اقتفى أثر الكتّاب الغربييـن في جعل هذا الـخطأ الفاضح حقيقة راهنة، حتى أنّ كثيرين منهم، وبينهم كثيرون من كتّابنا نحن السورييـن، يسلّم بأن الشعوب الشرقية كلها، الـمرتقي منها والـمنحط، ليست أهلاً للحرية والاستقلال ولا تصير أهلاً لذلك إلا إذا سيطرت عليها الشعوب الغربية أولاً وأعدتها للحرية والاستقلال.


هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت الآن على وشك الاندثار، لأن النهضة الشرقية العامة الآخذة في الاقتراب شيئاً فشيئاً تبرهن جليّاً أنّ هذه الفلسفة والـحقيقة على طرفي نقيض. وإذا كان التاريخ قد أثبت في الـماضي أنّ الـمدنية غير مهددة من النهضات الوطنية، فإن التاريخ سيثبت في القريب العاجل أنّ النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد الـمدنية، بل تهدد البربرية الغربية الـمندغمة في الـمدنية، وتبعث من مهبط الوحي مدنية جديدة، لا تقلّ شأناً عن الـمدنية التي أعطاها الشرق للغرب أولاً.


نقول إنّ هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت الآن على وشك الاندثار، لأن النهضة الشرقية العامة ضد بربرية أوروبة أصبحت محتمة كالقضاء والقدر. فالشرق لا يريد أن يعرف هذه الفلسفة العقيمة، ولا الذين يقولون بها من الكتّاب سواء كانوا غربييـن أو شرقييـن، فهو قد ضرب بها عرض الـحائط في سورية ومصر ومراكش والصيـن والهند.


نقول إنّ هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت على وشك الاندثار، لأن بوادر النهضة الشرقية العامة ضد بربرية الغرب قد بدأت في الظهور في الأصقاع الشرقية كلها. وليس ما هو جارٍ الآن في مراكش وسورية والصيـن، إلا بدء ذلك الاشتباك الهائل الآتي. ولا يسعنا هنا إلا أن نقول إنّ كل الـمجهودات التي بذلها الكتّاب الغربيون البعيدو النظر لوقاية أوروبة أو الغرب كله من خطر الاعتداء على حقوق الأمـم الشرقية كانت باطلاً وقبض الريح، فإن أوروبة التي لم تعرف لهذه الـحكمة الباهرة التي أظهرها لها ذوو الأفكار الصائبة قيمة ستدفع ثمن تعلّمها ثمناً غالياً جداً، لأن النهضة الشرقية ستكون أشبه بتيار جارف، أو زوبعة ماحقة لا يعترض طريقها شيء إلا أهلكته، ولا يقوم في سبيلها حاجز إلا دثرته.


لقد تباهى الأوروبيون كثيراً بتمكنهم من الانتصار في مناوشات صغيرة قامت بها بعض القوات الشرقية في الغرب، معتبرين الانتصار في كل معركة صغيرة إنقاذاً لأوروبة من خطر الشرق، وصدّاً للبربرية عن الـمدنية. أما الآن فإننا نبشر أوروبة بأن دور الـمناوشات الصغيرة قد زال وانقضى، وجاء دور الـحروب الكبيرة - دور وقوف الـمظلوم والظالم، صاحب الـحق والـمعتدي عليه، الـمستعبَد والـمستعبِد، الـمستعمَر والـمستعمِر، الضعيف القوي والقوي الضعيف، الشرق والغرب، أمام تلك الـمحكمة الرهيبة - محكمة الـحساب وتسوية الديون ــ محكمة الـحرب أو محكمة القوة. وفي تلك الـمحكمة الرهيبة، وسط أشلاء القتلى وآلام الـجرحى، يؤدي كل من الشرق والغرب ما عليه للآخر، والرابح هو الذي يخرج من هذه الـمحكمة معترَفاً بتغلب قوّته على قوة الآخر، لأن قوّته تعطيه حقه وأكثر.


إذا كانت أوروبة تعتبر أنّ من العجز البحث عن الـحق ما زالت القوة تنيلها الـحق وأكثر، فإن الشرق يعرف هذه الفلسفة الباهرة وسيُري أوروبة أنها لا تنفع إلا القوي الأقوى، أما القوي الأقل قوة فلا تكون عليه إلا وبالاً.


رشحٌ قليلٌ من الشرق خبط أوروبة بعضها ببعض مرات عديدة، فماذا تكون حالة أوروبة يوم يتدفق السيل الشرقي عليها تدفقاً جارفاً. إندلاع ألسنة صغيرة قليلة من تلك النار الـموجودة في الشرق إلتهم نصف أوروبة مرة في فترة عين من التاريخ، فمن يقول بعد هذا إنّ لهيب نار الشرق كله لا يهصر أوروبة هصراً ويفتتها تفتيتاً عندما تسير تلك الـجيوش الـجرارة جيشاً وراء جيش، وكل جيش لا يُعرف أين أوله ولا أين آخره، أسلحته تلمع تـحت أشعة الشمس ووقع خطواته يحدث دبكة منتظمة هي رمز الزحف الظافر، وأبواق فرقه تبشر بضربة عظيمة هيأها ذلك الـجبار العظيم لتأديب أوروبة الوقحة.

إنّ التاريخ الظالم الذي رمى الشرق بكل فرية وحكم على الشرق بـما الشرق براء منه لا يطول أمد حياته بعد، وسيأتي بعده تاريخ آخر جديد يكون عادلاً منصفاً. ومتى ابتدأ التاريخ الـجديد اضمحلت تلك العظمة الفارغة التي تبجحت بها أوروبة زمناً طويلاً، وتـمزَّق ذلك الـحجاب الـمزخرف الذي لعبت أوروبة وراءه أخبث الأدوار وأكثرها لؤماً وغدراً، وظهرت الـحقيقة فاضحةً كذب أوروبة الهائل وخداعها العظيم.
 
ذلك التاريخ الظالم جعل أوروبة العالم كله، أما الشرق فهو فيه الغول الذي يريد سحق مدنية العالم وإقامة البربرية مقامها. ولكن الوقت الذي يقول فيه الشرق كلمته في ذلك التاريخ قد جاء، والشرق يستعد الآن لإعطاء حكمه الرهيب فيه، وهو حكم سترقص له عجائز أوروبة ولكن على غير نغم «خبب الثعلب».
 
أجل، لقد جاء الوقت الذي يقف فيه ذلك الـجبار الهائل على قدميه، ويصدر أحكامه على أولئك الذين عبثوا بحقوقه، وهزأوا بتذمراته، وهو سينفّذ أحكامه فيهم بقوة عضلاته الهرقلية، ومضاء عزيـمته الفولاذية، وعندئذٍ تفتح أوروبة عينيها لترى أنّ الأحلام اللذيذة لم تذهب بالـحقيقة الـمزعجة. والنهضات التي لا تزال في عهد حداثتها ليست إلا قسماً صغيراً من تلك الـحقيقة، وما تلك الـحقيقة إلا ما يسمُّونه خطر الشرق.
 
إذا كان الشرق خطراً على أوروبة فأوروبة هي التي جعلت الشرق خطراً عليها. ففي الـماضي لم يكن الشرق إلا رسول سلام ومحبة، بيد أنّ أوروبة لم تكتفِ بـما يقابلها به الشرق من السلام والـمحبة، بل رأت أن تـجعله عبداً دائماً لها. وهذا هو سر خطر الشرق. أما البربرية والهمجية اللتان تلصقهما أوروبة بالشرق، فهما حجة أوروبة الوحيدة لتبرير أعمالها الـجائرة في الشرق، لذلك كانت الأنشودة الدائمة التي تنشدها أوروبة وهي تزيد أسلحتها وتقوي حربيتها، هي الوقاية من خطر الشرق الذي لم يكن له أثر قبل اعتداء أوروبة على الشرق، وأصبح بعد ذلك الاعتداء القبيح محتماً كالقضاء والقدر.
 
لم يصبح خطر الشرق حقيقة إلا بعد أن ذاق الشرق من مرارة الاستعمار الأوروبي أشكالاً وألواناً. وما الـحرب القائمة سوقها في مراكش والثورة الـمندلعة ألسنتها في الصيـن، والاضطرابات الظاهرة في أمـم شرقية عديدة، إلا نتيجة ذلك الضغط الهائل الذي تأتيه أوروبة في الشرق، وهي ليست إلا مقدمات لذلك العراك الفاصل الذي يضع فيه كل من الشرق والغرب قوّته الكاملة.
 
لا ينتظر الشرق ولا يجب أن ينتظر إنصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل «أوروبة فوق الـجميع.» لذلك كان لا سبيل إلى نيل الشرق حقوقه إلا بالاعتماد على ذلك السند الطبيعي الأخير الذي يلجأ إليه كل حي للدفاع عن نفسه وحقوقه، وهو القوة. فإن شرائع البشر كلها كانت نتيجة استعمال القوة ولم تتعدل إلا بالقوة. والثورات العظيمة في العالم تثبت هذه النظرية إثباتاً لا سبيل معه إلى الـجدل.
 
القوة وحدها تخلّص الشرق من استعمار أوروبة وتنصفه من غريـمته، لذلك نقول بوجوب إضرام ثورة عامة في الشرق، ونحبذ تباشير هذه الثورة البادية في سورية ومصر ومراكش والصيـن والهند وأقسام أخرى من الشرق.
 
الشرق أصبح فاهماً فلسفة القوة، وهو يجب أن يستعملها حالاً وسريعاً. فإن إطالة أجل الاستعمار، يعني إطالة أجل الذل والعبودية والآلام الكثيرة.
 
كل أقسام الشرق أصبحت الآن على وشك الانفجار، ومتى انفجرت تلك الأقسام وشبّت الثورة الشرقية الكبرى الـمنتظرة، ابتدأ تاريخ جديد غير التاريخ القديـم البالي الذي يتسمك به الأوروبيون ــ تاريخ يعطي الشرق منزلته السامية التي أنكرها عليه تاريخ الأوروبييـن.
 
اليوم لكم يا أهل أوروبة، وأما الغد فهو لا شك لنا. وليس الغد ببعيد، فإلى الغد!
أنطون سعاده
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro