مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
الثورة البرازيلية «كيف اضطرمت ثورة البرازيل وكيف أخمدت في الأيام الأخيرة؟»
 
 
 
القبس، دمشق، العدد 515، 1930/12/7
 

أخيراً برزت الثورة البرازيلية بالطريقة القانونية لتبرير جميـع الثـورات والـحـروب - أعني بالانتصار. فالانتصار كان ولا يزال وسيظل الـحجة الوحيدة التي لا تُردّ في جميع الأعمال الـمسلحة، كما أنّ الفشل يعتبر الـحجة الكبرى لتجريـم الأعمال الـمذكورة. بناءً عليه، لا أكون مخطئاً إذا قلت، إنّ جريـمة ألـمانية الكبرى في الـحرب العالـمية هي انتهاء حملتها الـحربية البديعة بالفشل. والقاعدة القياسية في هذه الأحوال هي: أنّ مجرَّد النصر حق، ومجرَّد الفشل باطل.


بيد أنّ تبرير الثورة البرازيلية لا يقتصر على مجرَّد النصر، بل يتناول الفكرة الـمبدئية التي نشبت من أجلها وجميع الأطوار التي مرَّت بها. وأما الفكرة الـمبدئية فقد شرحتها بالأمانة التي تقتضيها الصحافة والتاريخ، في مقالي السابق (ص 222 أعلاه) عن الثورة البرازيلية، الذي جاءت النتائج مصادقة على جميع ما ورد فيه مـما وضعته في صيغة تقديرية وكان حقيقة واقعة. وأما الأطوار التي مرَّت الثورة البرازيلية بها فسآتي على أهمها فيما يلي، مستنداً إلى ما وردني من الأخبار الـخاصة والصحف البرازيلية نفسها.


وقبل أن أبدأ بذلك أريد أن آتي على ملاحظة مهمة تتعلق بدرس مهم لا يحسن إلقاء الكلام فيه على عواهنه، والـملاحظة الـمذكورة هي أنّ الثورات والـحروب الأهلية إجمالاً لم تختص بنوع من أنواع الـحكم، دون سواه، حتى يصبح اتخاذها دليلاً على فساد الـمبادىء القائم عليها ذلك النوع من الـحكم. فالثورات أعراض خطيرة يجب درسها بدقة لتشخيص الأمراض التي تدل عليها، ولكل ثورة عللها الـخاصة، وليس من يتخذ الثورات قواعد للمفاضلة بيـن نوع من الـحكم ونوع آخر إلا كمن يتخذ الهواء قاعدة للمفاضلة بيـن النار والـماء. أجل، إنه لا يـمكن بوجه من الوجوه اتخاذ الثورة البرازيلية قاعدة للمفاضلة بيـن الـمبادىء الديـموقراطية والـمبادىء الأرستوقراطية، مثلاً أو بيـن نوع الـحكم الـملكي.

 

أطوار الثورة البرازيلية 
ابتدأت الثورة أولاً في ولاية ميناس جرايس، وما كادت الـحكومة تنتبه إليها وتبدأ باتخاذ الاحتياطات اللازمة لـمقاومتها حتى وردت الأنباء باضطرام نارها في ولاية ريو غراندي دو سول، ثم أخذت الأنباء تتوارد باندلاع لهيبها في ولاية بارهيبا وولايات أخرى. حدث كل ذلك، بصورة فجائية، لم يتمكن معها سكان الولايات البعيدة منها من معرفة شيء راهن عن خطورة ما هو جار في البلاد، ولكن معظم الشعب البرازيلي كان يتمنى أن تنجح الثورة. أما الـحكومة «الـماضية» فقد صممت على أن لا تتخلى عن مركزها إلا بعد أن تطلق آخر رصاصة وتشبثت بالـجيش الـموالي لها تشبث غريق بخشبة طافية، ولكن العملية التي لـجأت إليها لتقوية الـجيش بـمناداة الصفوف الاحتياطية كانت عملية عقيمة، لأن النشء الذي تتألف منه الصفوف الـمذكورة كان مشبعاً بروح الـمقت لتلك الـحكومة.


وتقول الأخبار الأخيرة وتنشر الصحف البرازيلية صوراً تدل على مبلغ ترحاب الشعب بالثوار في كل مكان بلغوه، فكان جيش الثورة ينمو ويتقدم، بينما جيش الـحكومة يعتمد على الذخيرة والتحصيـن. وفي مثل هذه الـحال، كان فوز الثورة مرجحاً في كل الظروف ومؤكداً في الأخير، ولكن كان على الثوار أن يقابلوا برجالهم وذخائرهم الناقصة بنادق جيش الـحكومة الـمتحصن ومدافعه الـمتنوعة العديدة، الأمر الذي حمل أحد قواد الثورة على التصريح بأنه لو حدثت الـمعركة الفاصلة للاستيلاء على ولاية سان باولو عنوة لكانت تصادماً هائلاً بيـن القوة البشرية وقوة الـمادة.


وقد أدلى رئيس الثورة البرازيلية الدكتور جتوليو فرغس، الذي أصبح الآن رئيس الـجمهورية البرازيلية، بتصريح خطير عن أسباب الثورة وتطورها، إلى شركة الصحافة الـمتحدة الأميركانية وزعته الشركة الـمذكورة على الصحف التي تراسلها، فجاء تصريحه مؤيداً كل التأييد لتقديري أسباب الثورة في مقالي السابق. وإليك أهم ما جاء فيه، فهو أولى مني بالتكلم عن العمل العظيم الذي أداره. قال:


«... أما فيما يتعلق بأسباب الثورة فأكثره موضح في بياني الذي أذعته في الرابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول الذي هو اليوم الثاني لإعلان الثورة.


«إنّ تداخل السيد رئيس الـجمهورية الـمباشر في الانتخابات الأخيرة، حاشداً جميع الـموارد القومية لتأييد الـمرشح الذي يفضله هو، موجهاً الضغط العسكري على ولاية ميناس جرايس، التي هي أعظم الولايات الانتخابية والتي اعتنقت ترشيحي بواسطة أشخاصها الأكثر تـمثيلاً لإرادتها، ثم موقف الرئيس الأعلى للبلاد الذي تلا الانتخابات، تارة يأمر مجلس الأمة بخذل معظم نواب ولاية ميناس جرايس، وطوراً يحذف من بيـن مـمثلي ولاية بارهيبا، كل الـمرشحيـن الـمنتخبيـن بدون معارضة ليعطي كراسيهم في مجلس النواب ومجلس الشيوخ إلى سياسييـن من حزبه، وحيناً لا يسمح بفحص نتيجة الانتخابات لرئاسة الـجمهورية ونيابة رئاستها والتناقش فيها، وآناً أخيراً مبشراً ومحرضاً على الاضطراب في ولاية بارهيبا بـمعاونة حكّام الولايات الـمجاورة، ذلك الاضطراب الذي انتهى بقتل رئيسها البرازيلي العظيم، الدكتور جولن بشوا، واضعاً الاحتلال العسكري على الولاية الـمذكورة بواسطة انسلال الـجنود إليها، مريداً بذلك تعطيل السلطة الـمحلية بالتدريج النظامي - كل هذه الأعمال التي لا تتفق مع وظائف السلطة التنفيذية الاتـحادية في نظامنا الدستوري، جعلت رئيس الـجمهورية الذي نسي مسؤوليات انتدابه، خارجاً منذ ذلك الوقت على القانون، مهتماً بـمقتضيات السياسة الشخصية فقط، التي أضرت الـمصالح القومية الكبرى لـخدمة الـمصالح الـخصوصية الـمفوض أمرها إليه..»


بعد ما تقدم، أتى الـمحدث على سير الثورة وما قام به جيشها في ولاية بارهيبا بقيادة جواريس طافوره، الذي استولى في أيام معدودة على ولايات برناسبو والاغواس سبارا مارنيون، ريو غراندي دو نورتي، وزحف على ولايتي سرجيي وباهيا بعد أن انحاز إليه الشعب والـجيش في الولايات الـمذكورة. ثم ذكر كيفية انتصار الثوار في ولاية ميناس جرايس وتطهيرها من القوات الـموالية للحكومة، وزحف جيشها الثائر على ولايات ريو دي جانيرو واسبيرتو سانطو وسان باولو.وانتقل إلى وصف الثورة في ولاية ريو غراندي دو سول التي كان هو رئيسها فقال عنها: إنّ الشعب والـجيش كله ألّفا كتلة واحدة، ابتدأ معظم زحفها على ولاية بارنا التي سقطت حالاً، وانضم شعبها وجيشها إلى الثوار الذين تابعوا زحفهم على ولاية سان باولو.

 

أخيراً وصف الـمحدث الثورة بأنها «ثورة قومية عمّت البلاد كلها، ولها جذور متأصلة في ضمير الشعب، وأنها تـحمل معها خطة إصلاحية عظيمة تتناول الأخلاق والسياسة والاقتصاد والـمال.»


تزعزع الـحكومة السابقة 
مـما تقدم يرى الـمطالع صورة جلية للنطاق الذي ضربه الثوار حول ولايتي ريو دي جانيرو وسان باولو، وهما الولايتان الوحيدتان في قلب البلاد، اللتان بقيتا في قبضة الـحكومة السابقة، وما بقي في قبضتها من الولايات البعيدة لا شأن له البتة.


أخذ النطاق الـمذكور يتضخم ويضيق على الـحكومة التي أخذت تتحصن، مصممة على الوقوف في وجه الثورة إلى الدقيقة الأخيرة. وكان كلما ضاق النطاق كلما قربت الساعة الفاصلة التي تطلق فيها جنود الـحكومة مئات الرشاشات وعشرات الـمدافع وألوف البنادق في كل معركة على جيوش الثوار القليلة الذخائر والآلات، وتـحدث الـمجازر الهائلة مبتدئة بـمعركة [...](1) التي كان على نحو ثمانية آلاف ثائر أن يقتحموا فيها ثلاثة آلاف بندقية ونيف ومئات الـمدافع الرشاشة وعشرات الـمدافع الضخمة الـمحكمة الوضع والتسديد.


ولم تـحدث الـمعركة الـمذكورة إلا لأن برقية وردت على قائد جيش الثورة هناك معلنة له انتقاض الـجيش في العاصمة وسقوط حكومة واشنطن لويس، وكان وصول البرقية إليه قبل الوقت الـمعيّـن للهجوم بساعة.


مع ذلك لم تكن الـحكومة الـمذكورة قد سقطت إلا بعد نزع قوي وصفه مراسل ألاسنادو دي سان باولو وصفاً دقيقاً، نقتطف منه أجمل فصوله بالتصرف الضروري في هذه العجالة:


«في الليلة السابقة لسقوط الـحكومة ابتدأت الطلائع تدل على ما سيجيء به الغد، فعند انتهاء التمثيل وفصول السينما، كثر اللغط حول استعداد بعض فرق الـحامية للتمرد. في ذلك الوقت كان قد بلغ بعض الناس أنّ فرقة الـمشاة الثالثة الـمعسكرة في الـجون الأحمر رفضت الصدوع بالأمر في بعض الـمهام الـمكلفة بها، وأنّ قائدها كان قد أشار على بعض الـمنضوين تـحت لوائها من أبناء السياسييـن وكبار الـموظفيـن بالانصراف إلى بيوتهم داعياً كل واحد منهم بـمفرده وقائلاً له: «إذهب إلى بيتك. لا تبقَ ليلتك هنا!» وأكثرهم عمل بإشارته.


«أما في قلعة «كوبكبانا» فقد علمنا كل شيء قبل الفجر، هناك أعلن الضباط 


والـجنود أنّ التمرد قد تقرر لليوم الثاني وأنّ على الذين لا يريدون أن يشتركوا فيه أن ينسحبوا، فانسحب كثيرون وهكذا انصرف الكثيرون من الذين علموا أو شعروا بهذه الطلائع، إلى بيوتهم موقنيـن أنّ اليوم الـمقترب سيترك أثراً لـحدث هام!


الإشارة الأولى. «نحو الساعة السادسة صباحاً قفز قسم كبير من سكان الـمدينة من أَسِرَّتهم على طلقي مدفع كانا العلامة الأولى بابتداء التمرد العسكري... استيقظت الـمدينة لتجد حركات عسكرية آخذة مجراها والشوارع خالية من الترمواي ووسائل النقل الأخرى. والسيارات التي كانت تتسارع حاملة الهاربيـن أو الطفيلييـن لم تكن تتمكن من مجاوزة «الفلامنغو» أو الـمرور في شارع الكتيبة حيث قصر الـحكومة. وطارت فوق الـجماهير التي أخذت تزدحم في بعض الأقسام، طيارات رمت مناشير، هذا فحواها الـموجه إلى رئيس الـجمهورية:


«هي ذا الأمة تـحت السلاح والـحرب الأخوية تـمتد بصورة مخيفة باعثة في قلوب كل البرازيلييـن الرغبة في وضع حد لهذا القتال الـمعيب وإعادة السلام إلى جميع البيوت. لقد ظلّت القوات الـمسلحة والـمجهزة دائماً تستعمل بـمثابة الوسيلة الوحيدة لـحل الـمشكلة السياسية، ولكنها لم تـجلب، حتى هذه الساعة، سوى الألم والـخراب، والقلق القومي يستمر. لا يجب أن تنتهي الـحرب الأهلية الـحاضرة بالقوة، لأن القوة وحدها لا ترضي الآمال بالـحرية وتبقي على جراثيم القتال للمستقبل. لذلك نوجه إلى وطنية سعادتكم، نداءً حاراً مخلصاً، لكي تعيد سعادتكم الوحدة والسلام إلى البرازيل، بالابتعاد عن مركز لا يـمكن لسعادتكم أن تبقوا فيه بدون أن تظل الاضطرابات القومية مستمرة، لا تضحية إلا ولها كرامتها إذا كان القصد منها الاحتفاظ الكامل بالبلاد الـجميلة العظيمة التي أسلفها[خلفها] لنا خلافنا [أسلافنا] بعد أن أخذوها بالـجد والوطنية.

يجب على سعادتكم أن تستمدوا الوحي من موقف الـمارشال ديودورو، الـجندي الـمظفر والوطني الكامل، الذي لم يحجم عن محق عواطفه الشخصية ورغبته أمام عظمة الوطن الذي كان قد خدمه في السلم وفي الـحرب بإخلاص نادر، مستحقاً ذكرنا الـجميل وإعجابنا.
ريو دي جانيرو في 24 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1930
(الإمضاءات)»
 
 
يصف الـمراسل الـمشار إليه، بعد ما تقدم، الـمخابرات مع رئيس الـجمهورية، للحصول على تنازله وتردده العظيم في ذلك، وحركات الـجنود التي كانت تقترب من القصر الذي كانت فرقة من الدرك تقوم على حراسته، إلى أن تـم أخيراً التنازل الذي وضع حداً لـمقاومة لا طائل تـحتها.
 
مشهـد روائي. قال الـمراسل يصف تـجواله أثنـاء الـحوادث الـمذكـورة في عاصمـة البرازيل:
 
«أقفر شارع فاراني الـممتد من الطرف الأيـمن للقصر إلى جون بوطافوغو بانعكاف، فسِرْنا فيه متجهيـن إلى الـجون، حتى إذا كنا نـجتاز العطفة التقينا بضابط بحري فتى بلباسه الداخلي ويحمل في يـمناه مسدساً. هذا الضابط نادانا باسمنا ناصحاً إيانا:
 
- لا تذهب في هذه الوجهة، الـمحتمل أن تـحدث معركة. إنّ قوة الـجيش القائمة على حراسة القصر الدائمة وفرقة الدرك قد اتخذتا مراكزهما وستبدآن بإطلاق الرصاص على الفرقة الثالثة...
«في هذه اللحظة ظهر رجل لا يلبس سوى «بيجاما» كان قادماً من جهة الـجون فسأل الضابط مشيراً إلى الـمسدس الذي يحمله:
- لـماذا هذا؟
- ليس عندي مكان أخبئه فيه..
- ولكن لا حاجة إليه فالفرقة الثالثة قادمة هناك.. وقد انتهى كل شيء...(!)»
العيد. تقول الصحافة البرازيلية إنّ الشعب ما كاد يدرك حقيقة الـحدث حتى اندفع على دور الـجرائد الـموالية للحكومة القديـمة، فكسر أدواتها وأحرق أثاثها ومجموعاتها، وابتهج البرازيليون في جميع الـمدن وعيّدوا للثورة الظافرة ومشوا في كل مكان بـمواكب للاحتفال بأبطالها الـمظفرين، ورجع السيف إلى غمده.
وفق الله الأمة البرازيلية إلى ما فيه صلاحها.
دمشق في 3 ديسمبر/كانون الأول 1930
أنطون سعاده
 
 
 
 
(1) غير واضحة في الأصل.
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro