مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​الإصلاح الحقيقي
 
 
 
الشرق، سان باولو، السنة 4، العدد 13، 1931/9/30
 
كل ما أعلمه، من قصة هذا الإصلاح الـمبارك، هو أنني أفقت اليوم من رقادي وأنا أردد هذه العبارة الفخمة الرنانة «الإصلاح الـحقيقي. الإصلاح الـحقيقي» كما يردد الببغاء عبارة يستظهرها لـمجرّد سماعها. ولا أعلم أيضاً لـماذا سطرتها على القرطاس مرات عديدة وأنا أتلفظها بصوت مسموع كمن مُسَّ بجنة، أو كوسيط الأرواح يتكلم، على زعمهم، بـما يوحيه إليه الروح الذي جعله وسيطه لتأدية رسالته للأحياء من الناس.
 
بيد أنني أخيراً عدت أستوعب مغزى هذه العبارة الإصلاحية رويداً رويداً. أو عادت شخصيتي الظاهرة تتفهم رسالة شخصيتي الباطنة، (على مذهب السيد سلامة موسى)، وإليكم ما بلّغه ذاتي الباطني لذاتي الظاهري أنقله للقراء الكرام راجياً أن لا يثقل على طبعهم أو يزعج خاطرهم إذا طالعوه ولم يجدوا فيه من الإصلاح إلا اسمه ومن الـحقيقة إلا ظلها.
 
قال شخصي الداخلي لشخصي الـخارجي: إنّ ترديدك عبارة الإصلاح الـحقيقي هو من وحي الله لأنبيائه ورسله الـمختارين من قبله، لإبلاغ رسالته الإلهية عبيده على الأرض. إنّ صاحب الـجلالة قد اختارك، من بيـن الناس، لتصلح الناس وتهديهم إلى الإصلاح الـحقيقي الذي جهله جميعهم. إنّ رب إسرائيل اصطفاك من بيـن شعبه الـخاص لتقود خراف إسرائيل الضالة إلى حظيرة الصلاح والهدى.. أصلح وطنك. أصلح أمتك. أصلح أبناء جنسك. أصلح القريب والبعيد منك. أصلح الإنسانية جمعاء هكذا يقول الرب.
 
وقفت عند هذا الـحد كالـمأخوذ وأنا بيـن الشك واليقيـن مـما تبلغته. وصرت أفرك عينيَّ لأرى إذا كنت في اليقظة أم في الـحلم. وأصبحت الأفكار العديدة السلبية والإيجابية تدور في رأسي بقوة مليون حصان كهربائي، متنقلة من تصديق أو تكذيب هذه الرسالة إلى نوعية الإصلاح الـمقصود منها، إلى مقدرتي تـجاه هذا الإصلاح، إلى كيفية الابتداء بالإصلاح، إلى النتيجة الـمنتظرة منه، إلى، إلى، إلى ما لا نهاية له من مثل هذه الأفكار التي تزاحمت في دماغي تزاحم النحل في القفير، وأنا أمشي في غرفتي مقبلاً ومدبراً، مشيراً وساكناً، متكلماً وصامتاً، ضاحكاً وعابساً نحو أربع ساعات حسبتها جيلاً من الدهر تـحطمت بأثنائها تلافيف دماغي وأنهكت فيها قواي العقلية. وقد كدت أتخلص من هذه الأفكار الـمقلقة بعدم تصديق هذه الرسالة الإلهية لو لم يعاودني ذاتي الباطني قائلاً:
 
لـماذا أنت واهم يا رجل؟ لـماذا لا تصدق رسالتك من الله لعبيد الله؟... أليس من سبقك من الأنبياء والرسل من لـحم ودم مثلك؟ أليسوا من أبناء جنسك، أبناء عشيرتك، أبناء وطنك، وطن الأنبياء والرسل؟ أليسوا هم معلّمي الأمـم والشعوب سبيل الإصلاح والصلاح من قديـم الزمان؟ أليست هذه الأديان التي تراها بيـن الشعوب على اختلاف أجناسها وألوانها من وضع أبناء الشرق ورسله أبناء بجدتك ووطنك؟ إمضِ برسالتك وتـمم ما انتدبت له من الله فترضي الله وترضي الناس وترضي نفسك.
وسرعان ما صدّق ذاتي «ذاتي» هذه الـحجج والبراهيـن الدامغة، وسرعان ما جلست إلى مكتبي مثل بعض كتّاب هذا الزمان لأكتب للناس شرائع الإصلاح الـحقيقي وأهديهم إلى السبيل القويـم الذي ضلّوه عن جهل وغباوة.
 
الصدق، الأمانة، العدل، الرحمة، الـمحبة، الإخاء، الاتـحاد، الفضيلة، العلوم، الصناعة، الزراعة، الـملكية، الـجمهورية، الاشتراكية، وعشرات سواها من الـمواضيع خطرت في بالي بسرعة قنبلة من مدافع القرن العشرين السريعة، فشوشت أفكاري وقضت على رشدي وأنا أخطّ كل موضوع من هذه الـمواضيع على ورقة ثم أتركها جانباً، حتى رأيت حولي الأوراق مكردسة مبعثرة بدون نظام كأنها الفوضى الضاربة أطنابها في هذه الأيام في عقول الـحكومات والشعوب من جراء الأزمة الـحالية.
 
فوضعت رأسي بيـن يدي بعد أن أنهكني التفكير والتسطير وارتـميت فوق مكتبي لآخذ لنفسي الراحة، بعد هذا الـجهاد الـمضنك، على أمل أن أتابع عملي وجهادي في سبيل الإصلاح بعد برهة وجيزة من الوقت.
 
ومرت الساعات الطوال تتلو بعضها وأنا على تلك الـحال «الإصلاحية»، من السكون والـخمول. أما أفكاري فكانت باقية على حالها تعمل عملها الـمجيد!! دون أن تهتدي أو تستقر على حالة من الأحوال كأنها ريشة في مهب الريح. وكل ما أذكره من أمرها أنها كانت تدور حول نواة الإصلاح كالـخفاش حول النور، حتى كادت تلتهب من العمل الـمستديـم، وقد شعرت بحرارة التهابها تـحرق غلاف رأسي. وكأن شخصيتي الباطنة هالها جمودي على تلك الـحالة من الـخمول والسكون.
وأشفقت على غلافها الـخارجي أن يضمحل على تلك الصورة الـمحزنة فهزتني بعنف وشدة فارتـجفت وفقت من سباتي الطويل مذعوراً وأنا أسمع وأصغي إلى صوت ذاتيتي الداخلية التي كانت تقول بصوت يتهدج من الغضب والـحدة:
 
قم يا رجل. قم يا رجل واترك الإصلاح الـحقيقي وغير الـحقيقي لأنك لا تعرف لا هذا ولا ذاك!! إنك تــحاول الإصلاح عن طريق الكتابة والـخيال لا عن طريقه الـحقيقي. إنّ طريق الإصلاح في العمل، في العمل، في العمل لا في تشييد القصور في الهواء وتسويد الأوراق بالـمداد. أنت إلى الآن لم تصلح نفسك ولا علمت صالح نفسك فكيف تتمكن من إصلاح سواك؟ إنّ الله الذي أرسلني إليك قبلاً ليجرب معرفتك في الـحياة بانتدابك لإصلاح العالم قد أرسلني ثانية لأبلغك أنه قد انتزع وكالته منك لأنه رآك رجل خيال لا رجل عمل. فعليك الآن أن تصلح نفسك أولاً ولكن بالعمل لا بالوهم وبعدئذٍ يـمكنك أن تصلح سواك عن خبرة ومعرفة. قم إلى العمل. قم إلى إصلاح نفسك!
 
وكأن غمامة سوداء انقشعت عن نواظري، أو كأنني كنت في الظلمة وخرجت إلى النور، فرأيت الأشياء بصورها الـحقيقية، ورأيت أنني كنت على ضلال فيما كنت أحاوله من إصلاح الناس «بالكتابة» بينما لم أصلح نفسي أولاً بالعمل. فتركت قلمي وأوراقي لساعتي وقمت أفتش عن العمل الذي يقربني من الإصلاح. ولو عمل كل من القراء الكرام عملي وفتشوا عن إصلاح نفوسهم بالعمل سوف لا نحتاج أن نكتب لهم في الإصلاح الـحقيقي لأننا نكون جميعنا مصلحيـن. وهم فاعلون إن شاء الله.
 
أنطون سعاده
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro