مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
«عيد سيدة صيدنايا»
 
 
 
 
 
"Meine Laura! Nenne mir den Wirbel,
Der an Koerper Koerper maechtig reisst!
Nenne, meine Laura, mir den Zauber,
Der zum Geist gewaltig zwingt den Geist!"
Schiller
 
 
صيدنايا بلدة صغيرة بالقرب من دمشق، كل منازلها تقريباً أكواخاً بالـمعنى الصحيح. وليس فيها بناء كبير يستحق الذكر سوى ديرها الـمشهور. وهو بناء على شيء من الفخامة، مبني على ذروة تل تشرف على جميع الـجهات التي حول البلدة القائمة في السفح. وليس في كل تلك الـجهات موقع أجمل من موقعه (إنّ احتلال الأديرة أجمل مواقع البلاد لأمر بديهي عندنا. فالأديرة في بلادنا تقوم مقام قصور الأمراء والأشراف في البلدان الغربية). ويتألف دير صيدنايا من بناء صغير قديـم جداً أضيفت أبنية جديدة إليه تدريجياً. والـمعروف أنّ جزءاً هاماً منه أقامه بناؤون شويريون كانوا مشهورين بالهندسة والبناء.
 
ليست أكواخ صيدنايا على شيء من الرواء والرونق، فلا شجر ولا نبات يكتنفها، ولكن في السهل الـمنبسط عند أسفل التل بستان كبير فيه أغراس زيتون عديدة وأشجار جوز باسقة الأغصان وارفة الظلال، يرويه ماء نبع غزير، وتقوم فوق هضبة لا تبعد عن التل القائم عليه الدير، في أعلاها وسفحها كروم عنب وتيـن قليلة، وفي سفح هذه الهضبة مغارة تسمى مغارة «أم بزاز» (ذات الأثدي) ويعتقد أهل تلك النواحي أنها مقدسة ويعدّون الـحج إليها من جملة الفرائض.
 
أما «أم بزاز» التي أطلق اسمها على هذه الـمغارة فهي قديسة قديـمة - هكذا يقولون - أو هي سيدة صيدنايا. والقرويون يتناقلون عنها حكايات غريبة تدل على قوَّتها العجائبية ويوقدون لها الشموع ويوفون نذورهم لها على مذبح محفور في جانب الـمغارة إلى يـميـن الـمدخل. ولا يزال هؤلاء القرويون البسطاء يستدلون على صحة حكايات القديسة وعجائبها بوجود مكان معيَّـن في قبة الـمغارة يرشح منه ماء، قطرة كل ثلاث دقائق تقريباً، يجدون في انتظام رشح الماء على الوصف المتقدم رمزاً لقوة أم بزاز السحرية. ومع أنّ تعليل رشح الـماء سهل جداً نظراً لوجود الـماء على الهضبة فإن القروييـن يرون في رشحه من مكان معيّـن سراً مختصاً بالسيدة أم بزاز، وهم يتبركون بقطرات الـماء حتى أنهم وضعوا تـحت الـمكان الذي ترشح منه حجراً يقعد عليه من أراد التبرك ويتقبل قطرة الـماء على جبينه.
 

يؤم صيدنايا في عيد السيدة خلق كثير من أنحاء كثيرة من القطر السوري: من دمشق العاصمة، أقدم مدينة موجودة في العالم؛ ومن حلب وإنطاكية والإسكندرونة وحمص الغنيات بآثارهن التاريخية؛ ومن جبيل أو بيبلوس القديـمة، مدينة الإله أدونيس؛ ومن بيروت عروس الـمتوسط مدينة عشتروت القديـمة ومنارة العلم في الشرق الأدنى قديـماً وحديثاً؛ ومن صيدا وصور الـمدينتيـن الـخالدتي الأثر في تاريخ الـمدنية والعمران؛ ومن حيفا ويافا والقدس منائر الـجنوب؛ ومن قرى لبنان الـجبل الـجميل الفخم؛ وبقية البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. فيجتمع في العيد الـمذكور خلق كثير لا من الـمسيحييـن فقط بل من الـمحمدييـن أيضاً لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيد شعبي لسكان تلك الـمنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نحله، الأمر الذي ينبّهنا إلى الفائدة الاجتماعية الـجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية الـمحمدية والـمسيحية الكبرى أعياداً شعبية يوحد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السورييـن ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية.


يبتدىء القوم يتقاطرون إلى صيدنايا، قبل العيد بأيام، ثم تفد جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول (مدة عيد سيدة صيدنايا ثلاثة أيام) وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية بدلاً من العربات والـخيل والـحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلاً حتى عهد قريب. وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير معبّد فكلما مرت سيارة أثارت غباراً، ولكن القادميـن قلّما يبالون بالغبار فلا ينتصف نهار العيد الأول إلا وغرف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصّت بالـجموع ولم يعد فيها متسع للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة.

وبينما الـجماهير في غدوّ ورواح إذا بالشبان يؤلفون فرق «العراضات» التي تتجول في كل مكان ويـملأ هتافها كل تلك الناحية. أما أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم لنزول القادميـن الذين يضيق بهم الدير على رحبه، والبعض الآخرون يعدّون الـمآكل من لـحم مشوي وبيض مسلوق وخبز وجبـن وزيتون أو يجيئون بالعنب والتيـن وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين. ويدور في الدير رقص «الدبكة» فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن. ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والـمعاشرة أو هو يعرفها ولا يعرف أن يحافظ عليها فيكون سبباً في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.


وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شؤون الـخلق الـمزدحميـن هناك، ملابس القرويات وحللهن الـخاصة بالأعياد. فللقرويات السوريات حلل زاهية الألوان، بديعة الـمنظر حتى أنه يحق لهن أن يباهين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال الـمظهر. وملابس قروياتنا إجمالاً جميلة ولها رونق الزي القومي، بيد أنّ قرويات معلولا يـمتزن بزي خاص هو من أجمل أزيائنا القروية القومية وبقية زي القرويات السوريات القديـم الأصلي.


قلت إنه لا يخلو الأمر في الـحوادث الشعبية، مثل عيد سيدة صيدنايا، من جاهل أو أحمق يعكر بسوء تصرفه صفو الأفراح. والظاهر أنّ الـجهال والـحمقى لا يتركون فرصة تـمرّ دون أن يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة 1930 عدد غير يسير، إلا أنّ واحداً منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال الـمرسحية والأدوار التمثيلية التي أتاها:


كان بيـن القادميـن إلى دير صيدنايا في عيد السنة الـمذكورة شاب من لبنان ربعة إلى الطول، مرير القوى، مسمور الـجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صدر يشبه بارتفاعه برجاً حصيناً، وهو مستوي الوقفة، معتدل الـخطوة ولعينيه بريق تظهر فيه قوة روحه، وهيئته إجمالاً تدل على أنه غير ميال كثيراً إلى الهزل. بيد أنه كان يحب مشاهدة الألعاب ويسرّ بها سرور الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبت أخلاقهم وفسدت طباعهم من شبان هذا العصر الذين لم يحصلوا حيـن نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبت مخالبها بهم الـمشارب القديـمة الفاسدة التي لا تـجرّ على من يتمسك بها في القرن الـحاضر إلا الوبال. كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، وأسميه إبراهيم - لا أريد أن أدعوه باسمه الـحقيقي ولا أن أذكر اسم البلدة التي جاء منها لكيلا تتحول الـحكاية إلى أمر شخصي وتفقد صفة الواقعة الروائية الـمقصودة. ومن الـمؤكد أنّ إبراهيم لم يأتِ إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية لأنه كان يحب الله والطبيعة حباً خالياً من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديـم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية، لذلك كان إعجابه بالـمشاهد الكثيرة التي وقعت عليها عيناه الـمتقدتان شديداً، بل كان ابتهاج الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حلل القرويات الـمزركشة الزاهية.


لإبراهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل سِيَر الأبطال، وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الـجسد والروح، حتى أنه إذا وُجد بينهم وخطر لهم أن يدخلوا على الأسود في عرائنها، أو أن يتصدوا لـمحاربة جيش مسلح ولا سلاح لهم إلا العصي، أقدموا موقنيـن بالفوز. وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهوراً بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوّته البدنية العظيمة على الناس فخالف بذلك عادة الفتيان الذين لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم حتى يعمدوا إلى إظهاره والـمفاخرة به. وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصاً الـجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويعرض عن الـحسان اللواتي كن يخفين في صدورهن شوقاً لاعجاً للاجتماع به، مثيراً كوامن غيظهن بعدم مبالاته وعبثه حتى أخذن يتناقلن عنه حكايات مختلفة، القصد منها الـحط من شأنه. وشاركهن في غيظهن كل الشبان الذين كانوا يحسدونه لعلوه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة، فجعلوا يذيعون عنه حكايات قصدوا منها أن يطعنوه في رجولته، أما هو فكان يترفع عنهم ويـمر بأقاصيصهم مرور الكرام، ومع ذلك لم يرَ بداً من تأديب واحد أو اثنيـن مـمن بلغت بهم الوقاحة حداً حملهم على الاقتناع بـما كانوا يختلقونه عنه.


مـما يجب ألا يغفل ذكره هنا أمر له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أنّ إبراهيم سُئل مرة كيف يجب أن تكون امرأته فيما لو أراد أن يتزوج؟ وكان السائل صديقاً حميماً لإبراهيم فأجابه أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الـجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، مورّدة الـخدين، وافرة العقل، حسنة الـمدارك، تعرف كيف تدير شؤون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.


دخل إبراهيم الدير وأخذ يتجول في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه. ثم إنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه. فوقعت عينه على حلقة «دبكة» في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات والـجمع يحدق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقة ضمن حلقات. وبينما هو يتمتع بـمرأى حلقة الرقص إذا بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الـحلقة وتأخذ في رقص فردي مبتكر، بينما رفيقاتها يتابعن الدبكة حولها. وكانت الفتاة معتدلة القد هيفاء القوام، تلعاء الـجيد، أسيلة الـخد، ذلفاء الأنف، حوراء العينيـن، وطفاء الأهداب. وكانت لابسة حلة أرجوانية، شادّة وسطها بنطاق مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتيـن قرطيـن كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافّة شعرها بـمنديل تتعلق به قطع نقود فضية ومن فوقه وشاح أبيض مسدل على ظهرها. لم يكن إبراهيم قد رأى من قبل راقصة مثل هذه ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بـمرآها أيـما إعجاب وأخذ يتأمل قدّها الـجميل وهيأتها اللطيفة ويراقبها في خطوها وتنقلها وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتـمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها. وكانت بيـن حيـن وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز وتلقي على ما حولها ومن حولها نظرات فيها كل معاني عدم الـمبالاة.


وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياح تام، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه وأحس حرارة شديدة تغشى سطح بدنه دون أن ينتبه إلى هذه الـحالة الـجديدة التي صار إليها. ولو رآه على هذه الـحالة من يعرفه جيداً لعجب كثيراً من استئناسه بـمرأى الفتيات وإعجابه بـمظهر الراقصة الـحسناء، وهو الذي كان يهرب من النساء ومن كل مجتمع نسائي هرباً، ولا يرغب في أن يرى منهن إلا من كانت مـمتلئة البدن.


لا شك في أنه لو انتبه إبراهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الـحالة التي هو عليها، لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جرياً على عادته، وهزأ من نفسه كيف أطاق أن يطيل النظر إلى حلقة من النساء، ويبتهج بـمرأى فتاة غريبة جداً عن نوع الـجمال الذي كان يـملأ تصوراته، ولكنه لم  ينتبه قط لأن الراقصة كانت آية في الذوق والإبداع ولها مدلولات نفسية تثير كوامن الشعور. لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لـمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل إنّ الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقاً متطاولة نحوها.


أخيراً أتـمّت الراقصة رقصها الفردي فأقبلت عليها رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق توردت لها وجنتاها. أما إبراهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف ولكن عينيه كانتا تراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق. فإن فريقاً من الـجمهور الـمزدحم في الباحة، مؤلفاً من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذذ بأتفه الـملذات وأحقرها كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة وصلابة جبيـن تظهر فيهما الغريزة الـحيوانية بوضوح تام، أطبق على الراقصات وضرب حولهن نطاقاً ضيقاً أصبح اختراقه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من الـمستحيل، فتضايقن جداً وعبثاً نظرن إلى من حولهن نظرات ملؤها التضرع. وكان بيـن الـجمع شاب أخذ يشق طريقه نحو الفتيات وعليه دلائل الـجذل الـممزوج بالـخبث. فاغتاظ إبراهيم جداً من هذه الـحال، خصوصاً من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن، ولم يتمالك أن انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفيـن هناك أن يفسحوا له مجالاً للتقدم، ولـما رأى أنهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوّته الـملكارتية حتى شقَّ لنفسه بيـن الـجمع طريقاً عريضة كافية لـمرور شخص واحد دون انزعاج.

فلما بلغ الـمكان الذي انحصرت فيه الفتيات كان الشاب الذي انسل بيـن الـجمع قدامه وقد سبقه وجعل يحادث الراقصة الـحسناء بتودد. أما هي فامتعضت من وجوده وازدادت اضطراباً لـمّا رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبراهيم مقبلاً والرجال تتطاير من يديه ذات اليميـن وذات اليسار، دهشت دهشاً عظيماً ثم إنها لم تلبث أن أدركت أنه آتٍ للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرت نخوته وشجاعته. فتقدم إبراهيم إلى هذه الفتاة ووقف لـحظة يبادلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضاً لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلاً: «أيتها الآنسة، إنّ الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك»، فأجابته بصوت خريد، وقد تضرج خداها: «إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك»، وعلى الأثر غضت نظرها وانطلقت في الـممر الذي افتتحه إبراهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.


أما إبراهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتاً حائراً وكان قد همّ أولاً بالإجابة على شكر الفتاة ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب الـمجاملات فلم يُسْعِدْهُ النطق ولم يعد يعرف كيف يتصرف لأن هذا اللقاء ربَّك رأيه تربيكاً.


بيد أنّ حيرة إبراهيم لم تستمر طويلا، لأن الشاب الآخر الذي ظل لـحظة واقفاً يحرق الأرم على إبراهيم لقطعه عليه ما كان آخذاً فيه، تـحرك بغتة من موقفه وهمَّ باللحاق بالفتاة التي لـمّا تكن قد توارت عن النظر، فنبّه تـحركه إبراهيم فمدّ إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح به بغضب: «إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الـخروج منها.» وكانت صيحته قوية إلى حد أنّ الفتاة سمعتها فالتفتت إلى ورائها ورأته قابضاً على عضد الشاب فكرّت عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرع قائلة: «سامح هذا الشاب واخلِ سبيله لأنه لا يدري ما يفعل!» فتركه إبراهيم وقد دهش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذت بساعد الشاب وحاولت أن تـجرّه وهي تقول «تعال! عجّل!» ولكن هذا بدلاً من أن يتبعها نظر إلى إبراهيم شزراً وقال له: «سنلتقي مرة أخرى في هذا الـمساء وحينئذٍ أريك كيف تكون نتيجة تعرضك لـما لا يعنيك» وأفلت على الأثر من الفتاة وسار منفرداً. وكان كلما بعد عن الـمكان ازداد رأسه التهاباً وقلبه حقداً.


حينئذٍ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتت كمن يريد الهرب من شيء يخشاه. وبقي إبراهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهول حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبهه فرفع رأسه ونظر إلى الـجمع بعينيـن ضاقت الدنيا بهما ثم سدد خطاه نحو الـممر الـمؤدي إلى الـخارج وسار والناس تتراجع من طريقه كما من أمام جبار أو أمير.


لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلاً. ولم يكن إبراهيم يدري لِمَ أراد الـخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه، ولكنه لـمّا صار في الـخارج استرسل إلى إحساسه وهام على وجهه بيـن الهضاب التي بجانب الدير ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مرَّ به كان يبدو له معميات: من تكون تلك القروية الـحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لـماذا يقلقني ذلك وما يعنيني أنا من أمر الاثنيـن، ولـماذا يجب أن أفكر دائماً بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أن يضعف من شأن هذه الـمسائل ازداد قلقه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره حتى أيقن أنه لا يـمكنه أن ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أن يسري همه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يـمر بها، وإذا به يرى نفسه تـجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناساً واقفيـن عند مدخله وآخرين في داخله. فاقترب من صبي كان آتياً من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس الـمجتمعيـن هناك فأجابه الصبي: «هذه مغارة القديسة أم بزاز، والناس يأتون لزيارتها.»


ولم يكد إبراهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه. ولم يتردد لـحظة واحدة في تـحقيق هذه الرغبة. فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئاً غير عادي عن الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الـجبلية سوى الـمذبح الصغير في جانبه الأيـمن. وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تـحت مرشح الـماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبراهيم قطرة الـماء تسقط على جبينها وكيف أنّ النساء ابتهجن لذلك. فاكتفى بـما شاهد واقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتـحول إلى الـمخرج ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة: «تبرَّك أولاً ثم أخرج لأنه لا يحسن أن يزور إنسان هذا الـمكان ويعود بدون بركة القديسة»، ولكن إبراهيم انحاز عنها وقفز إلى الـخارج وعاد في طريق الدير.


وفيما هو في الطريق عاد يفكر: «إنّ ذلك الشاب قال لي إننا سنلتقي في هذا الـمساء، فكيف يعلم أننا سنلتقي؟ قد يخطر لي أن أغادر صيدنايا الآن ومن ثم لا نعود نلتقي. ولكن لِمَ أبرح هذه البلدة؟ أيوجد ما يضطرني إلى ذلك؟ ثم ماذا سيحدث في هذه العشية؟ أهو شيء جديد، غريب يعرض لي لأول مرة؟ - أفٍّ لهذه الوساوس. وهل يـمكن أن أكون قد أمسيت عرضة لها؟»


لـمّا بلغ إبراهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله، فإنه كان ليلاً داجياً.


وكانت ساحات الدير الداخلية قد أنيرت بقناديل البترول والـجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والـمرج، إلا القروية الـحسناء فإنها لم تعد تظهر لهم. فسار إبراهيم في ذلك الـمحيط الـخضم على غير هدى ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخره، فرأته إحدى الراهبات ودعته إلى العشاء، ولكنه لم يكن يشعر بـميل للأكل فشكر واعتذر، وتـحوّل إلى مـمر قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحاً قليلاً، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتاً رخيماً أدرك حالاً أنه صوت الراقصة القروية فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية: «لا تكن عنيداً يا جرجس، فيكفيني أن أكون قد تدخلت من أجلك أصيل هذا النهار. لا تنسَ أنّ أمك مريضة وأنه يجب عليك أن لا تـجعلني سبباً للشر. وأنت قد توعدت شاباً كريـم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من الـمأزق الـحرج الذي كنا فيه، وهو شاب قوي يُخشى منه ولا يُخشى عليه فلا تتعرض له.»


فأجابها الـمخاطَب: «إذا كان الشاب قوياً فإن ضربة سيفي لا تُردّ. وسترين صدق قولي.»
فأسرع إبراهيم بالابتعاد، موبخاً نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع، وصعد إلى أحد السطوح وقد خـطر له أن يغادر صيدنـايـا في الـحال، ولكنه عـاد ففكر: «لـماذا يجب أن أغادر صيدنـايـا، وهل من عـادتي أن أهرب؟ ولكن ما هذا القلـق الـمستولي عليَّ ولم أعهـد في نفسي شيئاً من ذلك من قبل؟» وبعـد أن هـدأ روعـه قـال في سـرّه: «من تكون هذه الفتـاة؟ إنها تقول إني أُخشى ولا يُخشـى عليَّ». عند هذا الـخاطر ابتسم ولم يشأ أن يطيـل التفكير فأخـذ يجـول ويتنقـل من سطـح إلى ساحـة ومن ساحـة إلى سطـح لعلـه يزيـل ما بـه من حـيرة.


وبينما هو في جولاته إذا بفتى لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، جميل الطلعة، حسن الهندام، معتدل القامة، شديد الأسر قبض على ساعده في إحدى الساحات وصاح به: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا إبراهيم؟

 

إنها والله لصدفة تستحق التسجيل»، فالتفت إبراهيم ليرى من ذا الذي أمسكه ومرت عليه بضع ثوانٍ قبل أن يتمكن من استرداد أفكاره الشاردة، ثم ظهرت عليه علائم البِشْر وقال: «آه. هذا أنت، يا رشيد! مرحباً، مرحباً. لقد جئت أنا لـحضور العيد وأنت ما الذي جاء بك؟»


- «وأنا أيضـاً جئـت لـحضـور العيـد ولكني جئـت على ميعـاد وأرجـو أن يكـون مواعدي قد حضر. وإني أشكر التقادير التي جمعتني بك الآن لتكون شـاهداً على ما سيجري.»
- «ماذا سيجري؟» وتسارعت الـخواطر في دماغ إبراهيم.
- «سيجري ضراب بالسيف، مبارزة حكمية أنا أحد الـمتنازليـن فيها. ويسرني كثيراً وجودك هنا، فقد لا يكون هنا أحد غيرك صديقاً وخبيراً بهذه اللعبة الـخطرة.»
- «من خصمك؟»
- «أرجو أن ألتقي به قريباً فهل لك أن تصحبني؟»
- «بطيبة خاطر، ولكن ما هذا الـميعاد الغريب للمبارزة؟»
- «إنّ لذلك حكاية لا مجال لقصها عليك الآن، وقد تأتي فرصة أخرى لذلك، هلمَّ نصعد إلى السطح.»
فصعد الاثنان إلى أحد السطوح وجعلا يتسامران وكان رشيد لا يغفل عن مراقبة الساحة التي تـحت، وبغتة توقف وأمسك رفيقه وهزّه قائلاً: «أنظر إلى ذلك الشاب الذي يخوض عباب الـجمع هناك! هذا هو خصمي، إنه ولا شك يبحث عني فهلمّ بنا نلاقِه.»
فنظر إبراهيم ورأى شاباً ما عتم أن عرف أنه نفس الشاب الذي توعده في النهار. فبهت لهذه الصدفة الـمفاجئة وتبع رفيقه وهو يتمتم لنفسه: «إنه من لاعبي الـحكم(1)ويبارز في الليل على ميعاد، وأمه مريضة ولكنه لا يعبأ بها، ويوجد فتاة تتدخل من أجله وتنصحه من أجل أمه ومع ذلك يظل على عناده.»


عندما لاقى رشيد خصمه ابتدره قائلاً: «لقد كدت أتأخر عن الـمجيء لأسباب، وأرجو أن لا يكون الـميعاد قد فات.»
فأجابه ذلك وهو ينظر إلى إبراهيم متعجباً من وجوده: «لـمّا يفت الوقت، بل لا يزال أمامنا نحو نصف ساعة يـمكننا أثناءها أن ندرس الـمكان ونعيّـن الـحكم.»
فقال رشيد: «إسمح لي أن أقدّم صديقي إبراهيم إليك فهو غير مشهور في عالم الـحكم ولكنه أبرع من انتضى سيفاً»، والتفت إلى إبراهيم وقال له: «أقدّم إليك السيد جرجس أحد البارعيـن بضرب السيف.»


فانحنى إبراهيم وانحنى الشاب ولكنهما لم يتصافحا. وسار الثلاثة يبحثون عن مكان موافق للمبارزة إلى أن اهتدوا إلى باحة صغيرة منعزلة واقعة في القسم الـخلفي من الدير، معلق في وسطها قنديل غازي نوره كافٍ لإنارة الـمكان. ثم إنّ جرجس قدَّم رجلاً عارفاً بأبواب الـحكم ورشّحه للقضاء بينه وبيـن خصمه فقبله رشيد، وزاد جرجس أن يكون لإبراهيم الـحق في مراقبة الـمبارزة بـما أنه ممن يحسنون الـحكم. بعد ذلك افترق الـخصمان فذهب جرجس مع الرجل الذي رشّحه هو ليكون حكماً وانصرف رشيد برفقة إبراهيم. فقال إبراهيم: «إنها الـمرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مثل هذه الألغاز.»


فأجابه رشيد: «سترى أنّ للألغاز لذتها. بل أنت تعلم ذلك لأن حياتك كلها ألغاز بألغاز. ألم تقم مرات كثيرة بأعمال غريبة كان يعدّها الناس ألغازاً، ولكنك أنت كنت تعدّها شيئاً طبيعياً بديهياً؟ إني أقتبس من نورك وأقتفي خطاك، وأعلم أنّ ألغازي ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ألغازك، وأرى أنّ ألغاز حياتك الـمقبلة ستكون أعظم من ألغاز حياتك الـماضية.»


لم يجب إبراهيم على كلام صديقه، إما لأنه وجده مصيباً أو لسبب آخر لم يرد إظهاره. وصمت رشيد أيضاً لأنه كان عليه أن يستعد للمبارزة. ودخل الاثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه الـمدنية ولبس بدلاً منها ثوباً بسيطاً تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلاً خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفاً وترساً، يبدو حالاً من مظهرهما أنهما خصوصيان فجرّد السيف وجعل يـمتحن حده وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه، وأعاده على الأثر إلى غمده وتأبطه وحمل الترس والتفت إلى صديقه وقال:


«ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني؟»
- «أراك نشيطاً وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حد من الـخطر ستبلغ الـمبارزة؟»
- «إلى الـحد الأخير.»
- «وهل هذا التصميم نهائي لا رجوع عنه؟»
- «إنه نهائي إلى النهاية.» ونظر إلى ساعته وقال: «هيا بنا فقد حان الـميعاد.» وخرج من الغرفة وتبعه إبراهيم صامتاً.


ولـمّا بلغا الساحة الـمعيّنة وجدا أنهما الأولان للقدوم ولم يكن هنالك جمع غفير، فجعلا يتمشيان ذهاباً وإياباً ويتكلمان عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلاً للوقت، إلى أن قَدِم الاثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط الـمتعلقة بالأصول الـمتبعة في الـجلاد بالسيف، ثم اتخذ كل من الـخصميـن مركزه مقابل الآخر، واتخذ الـحكم موقفه، ووقف إبراهيم في طرف الساحة عند متوسطها، وأعطى الـحكم الإشارة فتناول الـمتنازلان سيفيهما وترسيهما وشرعا يتجاولان من بعيد تـمهيداً للالتحام.


ما كاد سيفا الـمتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسيـن حتى أقبل الـجمع وضربوا نطاقاً عند مدار الساحة وشعر القوم على السطوح بـما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب. واشرأبت الأعناق وأمسى الـمتضاربان قبلة الأنظار وكان الناس يظنون أنهما يلعبان السيف من قبيل اللهو.


تـجاول الـخصمان حتى سبر كل منهما غور الآخر ثم تقاربا والتحما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسيـن، ولكن لم ينل أحدهما من الآخر منالاً فأشار الـحكم بالتراجع فتراجعا ثم عادا إلى التجالد بيـن كرّ وفرّ، وفي هذه الأثناء أصاب سيف جرجس صدر رشيد فجرحه. ولاحظ إبراهيم أنّ جرجس يستعمل في التسايف ضروباً لا يستعملها من عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهاً في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش الـمسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى. ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيداً في كتفه جرحاً بالغاً مستعملاً نفس الضروب الـمعيبة لرجال السيف، فلم يطق إبراهيم صبراً على ذلك، خصوصاً بعد أن رأى الـحكم لا يتدخل وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بيـن الـخصميـن في الوقت الـمناسب لـمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها، وصاح بهذا: «ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم.»


فاستاء جرجس جداً من حؤول إبراهيم بينه وبيـن خصمه وأجابه: «إذا كنت تدّعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك!»
فأجابه إبراهيم وقد نسي أفكاره السابقة: «حذار يا هذا فإنك تعرّض نفسك للإهانة.»
- «إنّ من يعرّض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر.» قال جرجس هذا وهزّ حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعياً مخاطبه إلى الـمبارزة. فثار ثائر إبراهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أن يصبر على وقاحة وقح إلى هذا الـحد، فأخذ رشيداً إلى جانب وهو في حالة نزف شديد وأخذ حسامه منه وأقبل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شرراً من شدة الغضب. ثم إنه لاعب سيفه مرسلاً منه بريقاً كوميض البرق وحمل على خصمه والتحم معه توّاً فدافع هذا عن نفسه بالتّرس وحاول أن يرد الضربة ضربة ولكن سرعة دوران سيف إبراهيم عرقلت حركة سيفه وأبطلت أبواب خداعه. وافترق الـخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحاً غير بالغ. وفيما إبراهيم يجول ليعيد الكرّة على منازله إذ حانت منه التفاتة إلى جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبّه وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها. والتحم الـمتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة وحانت لإبراهيم فرصة يدرك كل من يعرفه أنها قاضية له، ولكنه بدلاً من أن يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده، وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه فجرحته جرحاً بالغاً، وقبل أن يتمكن الاثنان من العودة إلى الالتحام ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال. وأقبلت إحدى راهبات الدير لترى ما الـخبر فلما رأت إبراهيم ورشيداً والدم يسيل منهما قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتيـن أخرييـن ساعدتاها على ضمد جراحهما. ورأت ما حلّ بإبراهيم بعض النساء اللواتي التقيـن به في مغارة «أم بزاز» وحالاً سرى بيـن القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا الـمتكبر الذي لم يشأ أن يطلب بركتها.


واتصل الـخبر حالاً برجال الدرك الـمرسليـن خصيصاً لـحفظ الأمن أثناء العيد، فأسرع اثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنييـن لا يحسنان التكلم بالعربية.

فأقبلا على الـجريحيـن الـمضطجعيـن في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير، واقترب أحدهما من إبراهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديـد، وسألـه: «مين بيضـرب إنتِ؟» وتقـدم الآخـر إلى رشيـد وسألـه: «ميـن بيضربِك إنـتِ؟» فنسـي إبراهيـم جرحه واستغـرق فـي الضحـك. ولم يتمالـك رشيـد عـن متابعتـه، ولكـن لـمّا أعـاد الدركيـان سؤاليهمـا نفذ صبر إبراهيم فصاح بهما بصوت دوت له الغرفة: «أخرجا حالاً من هنا! وإلا...» وحاول النهوض. ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالـخروج وعادا إلى الـمركز، حيث قدّما إلى الرئيس السوري تقريراً لم يفهم منه شيئاً ولكنه أظهر اكتفاءه به.


بعيد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما وقبل أن تترك الغرفة ابتهلت إلى الله أن يردّ عنهما الـخطر.


أخيراً خلت غرفة الـجريحيـن من الناس فالتفت كل منهما إلى الآخر وهو يبتسم وقال رشيد: «منذ هنيهة قلت لي يا إبراهيم إنّ ما قد قمت به لغز. وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت، فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك، في حيـن أنّ الضربة كانت لك لا له. وهذا أغرب ما رأيته منك.»


فأجابه إبراهيم: «أوَلم تقل لي إنّ للألغاز لذتها، فهل ابتدأت تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن؟»
قبل أن يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة واقتربت ببطء من سريري الـجريحيـن ووقفت عند مضجع إبراهيم، وكان إبراهيم ينظر إليها ساكناً متعجباً، لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: «قد رأيت وفهمت... كيف جرحك؟»
- «إنه بالغ ولكنه ليس خطراً» أجاب إبراهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها كأنه يرى فيهما لغزاً يريد أن يستجليه.
- «أشكرك وأتـمنى لك شفاءً سريعاً» قالت ذلك وتـحولت إلى رشيد وسألته: «وأنت أيها السيد كيف جراحك؟»
- «لا أظن أنها ذات بال، شكراً لك.»
- «شفاك الله عاجلاً.» ثم نظرت إلى إبراهيم طويلاً وعادت أدراجها مسرعة. فشيَّعها الاثنان بأنظارهما إلى أن توارت وراء الباب ولم يعودا ينبسان ببنت شفة.


بعد قليل كان رشيد قد نام، أما إبراهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس منعته من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات وكان، بيـن حيـن وآخر، يستعيد ما مرّ به في العشية ويسائل نفسه: «أما كان يجب عليَّ أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينيـن كانت تنظر إليّ الفتاة؟» وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة ومشى الهويناء في الرواق الـمؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب، حتى إذا بلغها أراد أن يعود ليصعد إلى السطح. وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القروييـن محلاً لهم وكان مناراً بقنديل ضئيل النور. فاقترب إبراهيم من ذلك الـمربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات ولا فرش تـحتهم سوى بسط وأغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تـحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الـجيداء، وللحال عرف الراقصة القروية وكانت نائمة بيـن أترابها. فخفق فؤاده لهذه الـمفاجأة وتقدم من حافة الـمربع الـمرتفعة وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتيـن فتململت الفتاة تـحت نظره ولكنها لم تستيقظ، لأن النوم كان مثقلها.


وبقي إبراهيم في مكانه ساهراً يكلأ الفتاة ويسامر نـجواه حتى انقطعت ضوضاء القوم في الـخارج وهدأت الرِّجل. وفيما هو كذلك لاحظ أشباحاً تقترب نحوه ثم تعود أدراجها وبدا له أنّ لهذه الأشباح قصداً وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوه فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.


في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها وغادر إبراهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان، وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاءً تاماً.


منذ ذلك الـحادث طرأ على حياة إبراهيم تغيُّر كبير لم يخفَ على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح إلى الفتور والتأمل وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه. فلاحظ أصحابه ذلك منه، وعبثاً حاولوا أن يعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لـمتابعة دروسه فلم يعد إبراهيم يراه وظل وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أن يستجلي غوامضها. ثم ابتدأ يشعر بسأم مـما هو فيه، فجرب أن يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثاً، ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أن يبعد فكره عن التصورات، لأن تساقط الثلج في الـخارج وتوهج نار الـموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور وتفتح إلى النفس طريقاً للمؤثرات. فرأى أن يسلو بالـمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى وتـجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص وحيـن زارته بعد جرحه وزودته نظرة لم يفقه معناها في الـحال ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكاً بقرونه الـجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله التحم وإياه بـمعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكاً يقضي على كليهما بالهلاك. بل إنه أبصر في الـحلم وعلاً عظيماً وقف على قنة جبل عال وقد اعلولت قرونه إلى الـجو. ثم رآه ينقضّ على وعل آخر عظيم مثله. فسرّه ذلك وأقلقه معاً.


ظلت الـحال بإبراهيم على هذا الـمنوال إلى أن حسر الثلج عن وجه الأرض وأورق الشجر ونوّر الزهر واكتست الأرض حلة سندسية، فلها إبراهيم قليلاً بـمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح وكل مساء ولكنه لم يعد إلى مرحه السابق. وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من الـمدرسة، إلا أنّ الصديقيـن لم يجتمعا إلا نادراً إلى أن لم يبقَ لعيد سيدة صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبراهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة، لأن له ما يريد أن يحدثه به.

فلبى إبراهيم الدعوة وسار الاثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تاماً وهناك اضطجعا تـحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد:
«هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الـماضي؟»
- «أذكر.»
- «كنت وعدتك بأن أحدثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب وقد رأيت أن أفي بوعدي الآن: أنت لا بد تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا» فخفق قلب إبراهيم خفقاناً شديداً ولكنه ظل صامتاً ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع: «إعلم أنّ هذه الفتاة رصيفة التلمذة وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها وأظنك لم تنسَ أنه يدعى جرجس. ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بيروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتاباً من أبيها. وفي اليوم التالي قام بزيارة أخرى للفتاة، وكنت أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حاد انتهى بأن الشابّ حاول اختطافها فأسرعت وحُلْتُ بينه وبيـن تنفيذ ما عقد العزيـمة عليه. فحقد عليَّ جرجس منذ ذلك اليوم وصار كلما رآني تهددني وتوعدني إلى أن كان ذات يوم اتفقنا فيه على الـمبارزة فاقترحت أن يكون ذلك في دير صيدنايا فقبل وهكذا كان كما تعلم. أما الفتاة فلم تكن تعلم شيئاً من أمري ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها. فعلمت أنّ الفتاة تدعى نـجلا وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس، لأن أمه كانت قد اعتنت بها في صغرها بعد وفاة أمها، وهي كانت ترجو منها أن تفعل ذلك من أجلها. والظاهر أنّ أم جرجس كانت تأمل أن تولِّد هذه الـمجاملة حباً ينتهي بزواج الاثنيـن لأنها أحبَّت صفات نـجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تـحب الأم وتفعل ما يرضيها ولكن البون الشاسع بيـن نفسها ونفس جرجس يجعل مبادلتها إياه الـحب أمراً مستحيلاً. وعلمت أيضاً أنّ أم نـجلا كانت قد نذرت عن ابنتها زيارتيـن لدير صيدنايا وأنّ الابنة تريد أن توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أن تكون الـمبارزة هناك، لأني كنت موقناً أنه سيتبعها إلى هناك. ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نـجلا إلى مجاملة ابنها فكتبت إلى صديقتها نسيبتي تقول إنّ جرجس يلاحقها الآن ملاحقة شديدة تتألم منها، وذكرت لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء لكي تقوم بالزيارة الثانية من أجل أمها، ويقيني أنّ جرجس سيتبعها إلى هناك هذه الـمرة كما في الـمرة السابقة ويحاول اختطافها هناك لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك.»


عند هذا الـحد انتهى حديث رشيد. أما إبراهيم فإنه كان يصغي إلى الـحديث الـمتقدم بصمت وإمعان، ثم إنه استرسل في تأملات عميقة واستغرق فيها استغراقاً لم يعد يعي معه على شيء. فقام رشيد وانصرف على مهل دون أن يتنبه إبراهيم إلى انصرافه، أخيراً انتبه ووجد نفسه وحيداً فتعجب من حاله ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدّثه بها رشيد، ولكن أمراً واحداً رسخ في ذهنه ورسا رسوّ الـجبال فلم يعد شيء في العالم يتمكن من زحزحته: نـجلا - صيدنايا؟


في تلك الليلة حلم إبراهيم كثيراً. ومرة أخرى أبصر في حلمه وعلاً عظيماً على قمة جبل عالٍ، رافعاً رأسه مطاولاً بقرونه السحاب. وحدّق إبراهيم في قرونه فوجدها محددة كرؤوس الـحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدهما ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم فهي مستقيمة وحادة. وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة، لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظراً رائعاً يأخذ بـمجامع القلب. أخيراً رآه يتنشق الهواء بسرعة بـمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم ويحوّل رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبراهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح، ولكنه لم ينهض حالاً بل ظل مستلقياً يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.


ظل إبراهيم منفرداً خالياً بنفسه، متحاشياً الاجتماع بأي كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لـمجيء عيد سيدة صيدنايا. وكان صامتاً هادئاً وفي هدوئه دلائل انصباب الفكر على مسألة معيّنة هامّة. كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار الـمرسح الـمسدل الذي يدل على الاستعدادات الـمتخذة وراءه. فبعث تصرّفه هذا على استغراب معارفه أمره استغراباً شديداً، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرّفه الـجديد الذي وقفوا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين كانوا يعدّون أنفسهم صحبه وتلاميذه ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردّون التّهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لـمجرّد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم. وابتدأ ضعاف الثقة منهم يشكّون في مصير هذا البطل الذي كان آية في القوة والبطش ومثالاً للشجاعة والإقدام وقدوة صالـحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهن بأفول نـجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظل يوده ويحترمه ويؤمن به وقعاً أثار أسفهم الشديد وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبيـن أولئك الـمتكهنيـن.


وقع عيد سيدة صيدنايا هذه الـمرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبراهيم باكراً ونهض إلى تـمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطاً في قوّته، رائق النفس، مرتاح البال. ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة، وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: «هلم نسافر معاً يا أنيس.»
- «ماذا؟ هذا أنت يا إبراهيم؟ وإلى أين نسافر؟»


- «إلى صيدنايا، فإن لي نذراً يجب عليَّ أن أوفيه هناك في هذا العيد.»
فاكتفى أنيس بهذا الـجواب لأنه كان يعرف مزاج إبراهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه، فبادر إلى إعداد سيارته، 

وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما ولم يعلم أمرهما أحد في البلدة. وفي طريقهما عرجا على دمشق حيث تغديا معاً وشاهدا بعض أسواقها القديـمة. ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر، وكان الدير قد امتلأ بالـخلق وسيارات القادميـن لا تزال تتوافد بكثرة. ولاحظ إبراهيم أنّ الإقبال على العيد هذه السنة يربي على الإقبال في السنة الـماضية، فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى الـمساء.


عندما دخل إبراهيم الدير وجده غاصاً بالـخلق كما في الـمرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيميـن. ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرة، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق: حلقات للرجال وحلقات للنساء والـجماعات الـمحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الـحماسة في الراقصيـن. فلما شاهد إبراهيم هذه الـحلقات خفق قلبه خفقاناً شديداً وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أن تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يجيل نظره في الناس بسرعة ولكنه لم يجد من يستقر عليه. وبينا هو كذلك رأته بعض النساء وجعلن يتهامسن قائلات: «أنظرن! هذا هو الرجل الذي جازته القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جرح من خصمه في البراز بالـحكم» وبأسرع من البرق تنوقلت هذه العبارة وتـجاوزت النساء إلى الرجال. أما إبراهيم فإنه لم يسمع شيئاً قط وهو لو سمع شيئاً لـما كان أعاره اهتمامه فقد كان له من شواغل نفسه ما يغنيه عن شواغل الناس.


بعد أن أجال إبراهيم نظره في تلك الـجموع طويلاً دون أن يحظى بـما يستوقفه، ترك مكانه وشرع يتنقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره، وأنيس يرافقه صامتاً متعجباً حتى أشرفت الشمس على الـمغيب. وكان أنيس قد لاحظ قلق إبراهيم الداخلي وشرود فكره، فقرر أن يبقى في الساحة الكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبراهيم تـجواله دون أن ينتبه إلى تخلّف صديقه عنه. ثم إنه عاد فمرّ في الساحة الكبرى حيث كان أنيس دون أن يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى مـمر يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من الـمدخل فمشى فيه إلى آخره وإذا هناك مدخل  صغير فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، وفي مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى فولج هذا الباب ووقف قريباً منه، لأن الغرفة كانت مظلمة لـمن يأتي من الـخارج فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلا من كوة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب بل على حائط من حيطان الدير.


بعد قليل ابتدأ إبراهيم يتبيـن ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها، فرأى أنّ جدرانها مبطنة بصُوَر القديسيـن، فتزحزح من موقفه وأخذ يطوف بالـمكان ويدقق النظر في الأطر الـمعلقة، حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلاً من بقية الشموع. فلم يشك في أنّ الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أن يخرجنها من ذلك الـمكان الـمظلم ويعرّضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتيـن ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب. وما أن فعل حتى استلفت نظره شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بيـن الشمعتيـن وهي كأنها تتأملها أو تناجيها. فبهت إبراهيم لهذه الـمفاجأة وتعجب من أنه لم يتنبه إلى وجود إنسان آخر في هذا الـمكان من قبل وهمّ بالتراجع، ولكن الـمرأة كانت قد شعرت بوجوده قربها وحوَّلت وجهها إليه لترى من هو.

وكم كانت دهشته عظيمة حيـن تبيّـن على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نـجلا: الراقصة القروية التي ظلّت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تام حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقلّ من دهشته حيـن رأت قامته وعرفت وجهه. فوقف الاثنان ينظر كل منهما إلى الآخر نظر من هو على يقيـن من أنّ ما يراه حقيقة لا حلم.


لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبي هذين الاثنيـن في هذه الدقيقة، لأنه يعلم أنّ لبعض العواطف البشرية لغة لا يـمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة بل يفضل متابعة سرد القصة:


- «أنت هنا؟» قالت الفتاة بصوت خافت يقارب الهمس. فطرق هذا السؤال مسامع إبراهيم بشكل مخصوص فهم منه: «أعَنْ قصد مجيئك؟»
فأجابها بصوت لا يعلو كثيراً عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة: «نعم. أنا هنا!»
عند هذا الـجواب لـمعت عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: «لقد كنت أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: - هل يجيء؟»
- «هل شككت في مجيئي؟»
- «أرجوك أن لا تـحملني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بيـن عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم.»
فأخذ إبراهيم يدها بيـن يديه وقال: «لقد جئت وفي نيّتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيّتك أنتِ؟»
- «أنت الشخص الوحيد الذي تـمنيت من كل قلبي أن يبقى إلى جانبي دائماً، فقد أرعبني الكثيرون وملأوا نفسي اشمئزازاً وخوفاً!»


فضمها إبراهيم إلى صدره بلهفة وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها: «إننا لن نفترق ولن يخيفوك بعد الآن!» وخرج وإياها من الـحجرة وهو يطوقها بيمينه القوية.


كان الليل قد غشي تلك النواحي ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة. فاجتاز إبراهيم ونـجلا الـممر الـمؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الـحالة التي كانا عليها حيـن خرجا من غرفة العذراء، ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفيـن أو مارين فيه. أما هؤلاء فإنهم حالـما رأوهما شغلوا بهما عما كانوا فيه وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبي الأعناق نحوهما، مستغربيـن مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل. فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل الـمبارز في السنة الـماضية نفسه وهو يحمل بيده اليمنى سيفاً مصلتاً وباليسرى ترساً وذراعاه متقاطعتان على صدره ومن حوله لفيف من الرجال هم مزيج من أهل القرى وأهل الـمدن وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال الـمحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلتقطهما. فلما رأى إبراهيم هذا الـمشهد ضم الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تـحديق النسر. حينئذٍ أدرك أولئك الرجال والـجمع الذي وراءهم أنّ شيئاً غير اعتيادي سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبت سحن الرجال الذين يحفون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تـماثيل الشبه.


ولم يشأ إبراهيم أن يبقى واقفاً في مكانه فمشى برفيقته بضع خطوات محاولاً أن يتابع سيره فاعترضه جرجس وهو لا يزال على الشكل الـمتقدم وصفه وقال له: «إنّ ذاك السيف الذي تراه على الأرض ينتظرك لإنهاء البراز الذي بدأناه السنة الـماضية في مثل هذا اليوم.»


ما كاد جرجس ينتهي من عبارته هذه حتى أحسَّ إبراهيم أنّ نـجلا ارتعشت مع أنّ ذراعه اليمنى مطوقتها، فالتفت إلى من حوله وإذا أنيس واقف إلى جانبه وفي يده عصاه الكبيرة التي لا تفارقه فقال له: «أعطني عصاك وخذ هذه الفتاة إلى السيارة وأنا أكون هناك بعد دقيقة»، وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة ليقودها ولكنها أبت الذهاب وقالت لإبراهيم: «إما أن نبقى معاً وإما أن نذهب معاً» فنظر إليها إبراهيم بحنان وقال لأنيس: «إذن إبقَ إلى جانبها إلى أن أعود» ثم تـحول إلى جرجس وقال له: «لا حاجة إلى ذاك السيف فإن هذه العصا تكفي لتأديبك فخذ مكانك سريعاً!»


فأراد جرجس أن يـمتنع ولكن إبراهيم أمسكه من عضده وضغط عليه بأصابعه الفولاذية وهزه بشدة وقال له: «إذا لم تقبل اضطررت إلى ضربك كما يُضرب الأولاد الصغار الطائشون، فأدرك جرجس من قوة خصمه ولهجته الثابتة أنْ لا مناص له من الإذعان، فالتفت إلى رفقائه وقال لهم: «إشهدوا أني بريء مـما سيحدث» ثم تراجع إلى متوسط الساحة وتقدم إبراهيم أيضاً بضع خطوات وقبض على عصاه من طرفها الدقيق وأدار رأسها الضخم في الهواء.


أخذ جرجس أولاً في اللعب بسيفه وضربه على ترسه وما كاد ينتهي من ذلك ويتحول إلى الـمجاولة، حتى أقبل إبراهيم نحوه بخفة الأسد وثباته وجاوله مرة واحدة فقط أطبق بعدها عليه مديراً عصاه بسرعة ومهارة عظيمتيـن، ثم فرّ منه وعاد فكرّ عليه كرّة لم يكن ذاك يتوقعها وباغته مباغتة خبلته حتى لم يعد يحسن الدفاع، وحانت الفرصة فأهوى عليه بضربة شديدة أصابته في قمة رأسه وألقته على الأرض صريعاً. وبينما الناس في دهشة عظيمة مـما حدث ذهب إبراهيم إلى رفيقيه وأحاط نـجلا بذراعه اليمنى كما في الأول واجتاز بها الـممر الـمؤدي إلى الـخارج وتبعهما أنيس يحمل عصاه التي استعادها.


في هذه الأثناء كان رجال جرجس قد تغلبوا على دهشتهم فخرج أربعة منهم في أثر إبراهيم، فتصدى أنيس بعصاه لاثنيـن منهم، وكرَّ إبراهيم على الاثنيـن الآخرين فأمسكهما من عنقيهما ودق رأسيهما الواحد بالآخر دقاً أفقدهما الصواب وألقاهما برفق على الأرض. فلما رأى الاثنان الباقيان ما حلَّ برفيقيهما فرّا هاربيـن ودخلا الدير وهما يقولان: «إنّ الشيطان يحميه!» فأجابتهما إحدى النساء الـمشاهدات «بل العذراء تـحميه!» وسمع جوابها بعض القروييـن فعدّوا هذا الـحادث من عجائب سيدة صيدنايا الكلية القداسة وهم لا يزالون يروونه من هذا القبيل.


أما إبراهيم ونـجلا وأنيس فتابعوا سيرهم إلى السيارة وركبوها وساق أنيس في طريق قرية ن... حيث تقطن نـجلا، فبلغوها بعد سير ساعتيـن تقريباً وترجلوا أمام بيت قروي معتدل، وطرقت نـجلا الباب وبعد هنيهة فتح الباب ودخلوا البيت ولم يكن فيه أحد سوى والد نـجلا الشيخ.


في صباح اليوم التالي جرى عرس بسيط جداً جمع الفرح والرضى ولم يجمع شيئاً من الضوضاء. وأصبح إبراهيم ونـجلا زوجيـن.


لا يستطيع من لم يشهد الـحادث بنفسه أن يتصور مبلغ دهشة أهل بيت إبراهيم عندما عاد مصطحباً نـجلا وقدّمها إليهم بصفة كونها امرأته، ولا شدة وقع ذلك عند معارفه والذين كانوا يعرفون عنه، خلا رشيداً فإنه كان قد قدّر الـحادث وأخذ ينتظره منذ علم أنّ إبراهيم برح البلدة يوم العيد. وأقبل كثيرون يريدون تهنئته ولكنه كان حالـما يشعر بقدوم أحد لزيارته يأخذ نـجلا ويخرج وإياها من الباب الـخلفي ويذهب الاثنان يتنزهان في الغابات. فأدرك أهل البلدة الـحيلة وأخذوا يرصدونهما وهم يكادون يذوبون شوقاً إلى رؤية الفتاة التي أصبحت امرأته. ولم يكن بينهم من لم يتوقع أن يراها امرأة بدينة رجراجة. فلما أتيح لهم أن يلحظوها ووجدوها فتاة ضامرة الـحشى، لطيفة الـجوانح بهتوا وانصرفوا وهم يشكّون فيما رأوا.


أخيراً أجمع الناس الذين يجعلون أنفسهم دائماً الـمثل الطبيعية للأطوار البشرية، على أنّ الـحادث أمر غير طبيعي. ولم يعدم الشبان الذين كانوا يحسدون إبراهيم والشابات اللواتي كان يغيظهن بتصرفه السابق، شيئاً جديداً يضيفونه إلى اختلاقاتهم الـماضية.


أما إبراهيم ونـجلا فلا يزالان يعيشان سعيدين جداً، وكلما عاد إبراهيم إلى نفسه تذكر صديقه رشيداً وتلك الـحكاية التي قصّها عليه في الغابة والوعل العظيم الذي أبصره في الـحلم. أما صور الـجمال التي كانت أفكاره السابقة تـحوم حولها فقد نسيها بتاتاً.

 

 

(1) لعبة السيف السورية القومية.

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro