مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
السياسة الأوروبية الإنقلابات الجديدة
 
 
 
الـمجلة،سان باولو،السنة 10، الـجزء 6، 1924/7/1
 

 

روسية الدولة العالـمية الأولى التي انقلبت على النظام السياسي والاجتماعي القائل بالرأسمال والـحرب والاستعمار، ووجهت أبصار العالم إلى فِكْرَى السياسة الـجديدة التي تألقت في أدمغة الفلاسفة كالشهاب الثاقب وانعكس نورها على عقول الأفراد والـجماعات وأُطلق عليها اسم الاشتراكية، التي أصبحت اليوم دين الـحزانى والأرقّاء وكل الذين كانت السياسة القديـمة وبالاً عليهم. ولكن روسية لم تكن الـمثال الذي ينسج على منواله. بيد أنه إذا كانت روسية قد أساءت استعمال الاشتراكية، فليس ذلك دليلاً على فسادها ولا يحط من شأنها عند الذين فهموها وآمنوا بها، بل هي سائرة إلى الأمام بخطوات واسعة وآخذة في الامتداد في عواصم العسكرييـن والرأسمالييـن الأوروبييـن. وعما قليل تسقط هذه العواصم سقوطها النهائي العظيم. وهذه إحدى نتائج تلك الـمأساة العالـمية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

 

الـحقيقة أنّ الـحرب العالـمية كانت لهذه السياسة الـجديدة أشبه بالزيت والشحم لآلات القاطرة الـحديدية. فبعد الـحرب، انتشرت الـمبادىء الاشتراكية انتشاراً عظيماً، وجزم الناس في أنها الطريقة الوحيدة لتخليص العالم من حروب الـمطامع والأهواء وإنقاذ الأمـم من كابوس أصحاب رؤوس الأموال. ويـمكن أن يقال إنّ العالم سائر إلى الاشتراكية بسرعة القطار الـمستعجِل.

 

إنتصرت هذه السياسة الـجديدة في بريطانية نصف انتصار أو أكثر قليلاً. ومعنى هذا أنّ حزب العمال ما بلغ السلطة إلا على أكتاف الأحرار[1]، الذين هم الآن أقلّ حزب وأقوى حزب، لأنه عليهم يتوقف ترجيح إحدى كفتي الـميزان السياسي في بريطانية على الأخرى. وهذا هو السر الذي لأجله بقيت بيـن الشك واليقيـن أمور كثيرة كان ينوي حزب العمال القيام بها. بيد أنه رغماً مـما تقدم، لا شك في أنه حيـن أصبح مكدونالد[2] رئيساً للوزارة البريطانية، تغيّر وجه السياسة تغيّراً هاماً انتقلت فيه الـمسائل التي كانت واقعة تـحت سؤال ماذا يجب عمله إلى سؤال كيف يجب أن يُعمل. وأول مسألة عرضت للوزارة هي مسألة إنعاش بريطانية. وهي مسألة تتناول الأحوال الداخلية وقوانيـن الضرائب وما شاكل، وهذه لا يزال الشيء الكثير منها عرضة للمناقشات الـحادة في مجلس الأمة. والـمسألة الثانية هي مسألة وضع حد للمشاكل الدولية في أوروبة وإرجاع الـحالة الطبيعية إليها. ولهذه الـمسألة علاقة كبيرة بالتي تقدمتها، لأنه ما زالت الـمشاكل الدولية غير محلولة، فالأحوال التجارية والاقتصادية التي تهم بريطانية وتؤثر عليها كثيراً ستبقى مضطربة.

 

إنّ النقط الأساسية التي أقرَّها حزبا العمال والأحرار في السياسة الـخارجية، والتي بـموجبها تغيّر وجه السياسة الأوروبية، هي التي أشرنا إليها في مقالة سابقة. ونعني بها النقط الثلاث الآتية: جلاء فرنسة عن الروهر، إنهاء مسألة التعويضات، الاعتراف بحكومة السوفييت. والـحق يقال إنّ تنفيذ هذه القرارات يزيل عن كاهل أوروبة أعظم مشاكلها ويخرجها من أضيق مآزقها.

 

على أنّ الـحقد والطمع لعبا في رأس بوانكاريه[3] رئيس وزارة فرنسة السابق، وسوّلا له تصور ما دون تـحقيقه الـمجازفة بفرنسة كلها. فوقف ذلك الـموقف الذي هدد أوروبة بحرب تستنزف الدم الباقي الذي تركته الـحرب العالـمية، وتضحى في ساحاتها الـجنود الفرنسية وفرنسة بأسرها. فقامر بحياة فرنسة مقامرة من يضرب الضرب الأخير، وكاد ينجح في تخريبها ثانية بصورة أقبح مـما خربته الـحرب السابقة. ولكن بيـن مطامع بوانكاريه وحياة الأمة الفرنسية، لم يكن للشعب الفرنسي الـخيار، فسقط بوانكاريه كما توقعنا من قبل.

 

في هذه الـمرة يـمكننا أن نقول إنّ فرنسة انتصرت على ألد أعدائها، وهم أولئك الذين لا همّ لهم إلا الـمقامرة بحياة الأمـم إرضاء لأهوائهم. وهي لو لم تتخلص منهم لكانوا ولا شك يتخلصون منها. فحرب أخرى اليوم كانت تخرّب فرنسة إلى الأبد.

 

كان هذا الانتصار الأخير للسياسة الـجديدة إحدى تلك النتائج الـخطيرة التي ينتظر من ورائها تغيير تاريخ العالم. فوجود حكومتيـن اشتراكيتيـن في أوروبة أمر عظيم جداً وهامٌ إلى الدرجة القصوى، لأنه إذا اتـحدت هاتان الـحكومتان لتنفيذ الـمبادىء التي تربطهما أمكنهما أن تـحوّلا أوروبة من حال إلى حال في برهة وجيزة. وإذا كانت مقابلة هريو[4] رئيس الوزارة الاشتراكية الفرنسية الـجديدة لـمكدونالد رئيس الوزارة الاشتراكية البريطانية التي أخذت مجراها في «تشكرز» قائمة على هذه النية، فيمكن التنبؤ بقرب انحلال أعظم العُقَد والـمشاكل الأوروبية.

 

منذ قبض حزب العمال على أزمة الـحكم في بريطانية، سارت هذه في طريق تختلف عن الطريق التي تسير عليها فرنسة. وحدث بيـن هاتيـن الدولتيـن من الانشقاقات ما توترت معه العلاقات بينهما توتراً شديداً كاد يفضي إلى عواقب وخيمة. فبينما كان مكدونالد يريد التمشي على سياسة التساهل في مسألة التعويضات الألـمانية، كان بوانكاريه يخطب وينادي باحتلال الروهر حتى تدفع ألـمانية الفلس الأخير. وقد تكلمنا في بعض أجزاء الـمجلة السابقة عن التأثير السيّىء الذي أحدثته سياسة بوانكاريه في أوروبة، الأمر الذي جعل فرنسة في مركز حرج إذ تخلت عنها بريطانية وأعرضت عنها إيطالية وهما حليفتاها اللتان تعتمد عليهما في صدّ التيار الألـماني عنها. ولقد اعتمد بوانكاريه حينئذٍ في تعزيز موقف فرنسة على الأسطول الهوائي، وعقد الـمعاهدات مع دول الاتفاق الصغير. بيد أنّ اعتراف بريطانية بحكومة السوفييت الـحالية وإصرارها على وجوب التساهل في مسألة التعويضات ووجوب جلاء فرنسة عن الروهر، واتّباع إيطالية بريطانية في الـمسألة الأولى والثانية وعقدها اتفاقاً منفرداً مع إسبانية، وكل ما تبع ذلك من الـمناورات السياسية، أرتْ فرنسة أنها دولة منفردة لا حول ولا طول لها، تطلب تعويضات ولا تـحصل على شيء، وتقيم أسطولاً هوائياً لا يهدد أحداً، وتعقد اتفاقات لا قيمة لها ولا تأثير ولا تخيف أحداً. حينئذٍ نهض الـحزب الاشتراكي الراديكالي وبيّـن سوء عاقبة هذه السياسة العقيمة. فلما جاء اليوم الـحادي عشر من مايو/أيار، وهو يوم الانتخاب، كانت الأكثرية الساحقة قد أصبحت في جانبـه، فسقط بوانكاريـه وسقط بعده ميلران[5] الذي كان يـمالئه، ونُصِّبَ مكان الأول هريو زعيم الراديكالييـن وأُقيم مكان الثاني دومرغ. ويُستفاد من تصريحات هذين الرجليـن أنّ الـحكومة الـجديدة ترغب في الاعتراف بحكومة السوفييت الروسية والتساهل مع حكومة ألـمانية في مسألة التعويضات.

 

أصـبحت السـياسة الفرنـسية بعد ذلك متفقة في جوهرها مع السياسة البريطانية، خصوصاً والـمبادىء واحدة عند الـحكومتيـن الـجديدتـيـن وهي الـمبادىء الاشتراكية الـمعتدلة. وصار من الواجب أن تتفاهم هاتان الـحكومتان فيما يختص بالـمشاكل الواقعة تـحت البحث تفاهماً تاماً، وهو ما حمل هريو على القدوم إلى إنكلترة بقصد مقابلة مكدونالد. وبعد هذه الـمقابلة حمل إلينا البرق تصريحات هذين الرئيسيـن، فإذا هي تدل على اقتناعهما بحسن الـمستقبل. وقد اتفقا على دعوة دول الـحلـفـاء كـلهـا إلى عقد مـؤتــمر عام في لندن في السادس عشر من شهر يوليو/تـموز.

 

إنعقد هذا الـمؤتـمر في الزمان والـمكان الـمعيَّنيـن، فشخصت إليه أبصار العالم الذي انتظر النتائج الـمترتبة على أبحاثه بشوق ولـجاجة لا مزيد عليهما، لأن عليها يتوقف انحلال أكبر العقد السياسية والاقتصادية في أوروبة ألا وهي عقدة التعويضات التي تشبثت بها فرنسة كما يتشبث الغريق بخشبة طافية، وكان من ورائها تلك الأزمة الشديدة التي كان من ورائها اتخاذ فرنسة مسؤولية هائلة باحتلال الروهر والإصرار على إرغام ألـمانية على دفع الفلس الأخير من غرامة لا قِبَل لها بها، وهو ما لا يزال يعتقد بصوابيته أصحاب السياسة البوانكاريّة العسكرية الذين قاموا يضعون العقبات في سبيل انعقاد الـمؤتـمر الـمذكور ويهددون وزارة هريو الاشتراكية بحملاتهم مـموهين على الشعب الفرنسي الـحقائق بقولهم إنّ هريو يريد الذهاب إلى لندن للمقامرة بحقوق فرنسة التي اعتُرفَ لها بها في معاهدة فرساي[6]. وقد كادوا ينجحون في مهمتهم لولا قدوم مكدونالد إلى باريس ومعاضدته لرصيفه هريو.

 

حضر هذا الـمؤتـمر التاريخي وفود الـحلفاء ذوي الشأن في قضية التعويضات الألـمانية، وفي عدادها اليابان. وتـمثلت فيه الولايات الـمتحدة بصورة غير رسمية. وقد انحصرت أبحاثه في تقرير داوز وخطته اللذين اعترفت الدول ذات الشأن بأنهما أفضل طريقة لإنهاء مسألة التعويضات. أما تقرير داوز وخطته بالاختصار فهما أنّ ألـمانية تتمكن من الدفع على قياس معيـن يرتفع سنة بعد أخرى من قيمة 250,000,000 مارك ذهباً ما بيـن سنة 1925 وسنة 1926 إلى 1,250,000,000 ما بيـن سنة 1928 وسنة 1929، وهو مبلغ معيّـن من الـمال يُدفع سنوياً عدا عن الـمدفوعات الأخرى التي تـجعل قيمة الدفع الـحقيقية 2,250,000,000 مارك ذهباً سنوياً. أما الكيفية التي تتمكن بها ألـمانية من دفع هذه القيمة فخطة دقيقة تقوم على زيادة الـمكوس والضرائب التي هي في ألـمانية أقلّ منها في غيرها من دول أوروبة، وإرجاع الـمرافق الألـمانية التي هي في أيدي الفرنسيس وغيرهم إلى الألـمان، وغير ذلك من الشؤون الاقتصادية التي لا تسمح هذه العجالة بالإفاضة فيها. وقد اشترط تقرير داوز لذلك أن تُقرَض ألـمانية مبلغاً من الـمال لا يقل عن 800,000,000 مارك ذهباً ليكون في ألـمانية بنك ثابت وعملة راسخة يكفلان إنعاشها وتـمكينها من دفع ما ورد في التقرير.

 

دارت حول هذا التقرير أبحاث ومناقشات طويلة ظهرت فيها اختلافات كثيرة كادت تفضي بالـمؤتـمر إلى الفشل وتـجعل نصيبه كنصيب غيره من الـمؤتـمرات السيئة الـماضية. وظهر من ذلك أنّ كل فريق كان يفسر التقرير على هواه. فالفرنسيون كانوا لا يفهمون من هذا التقرير غير عبارة واحدة وهي أنّ ألـمانية تتمكن من الدفع. في حيـن أنّ الألـمان والإنكليز كانوا يحلونه محل معاهدة فرساي كلها، ويريدون أن يبنوا عليه في لندن غير ما بُني على تلك في فرساي.

 

بيد أنّ من حسن حظ الـمؤتـمر أنّ من يـمثل فرنسة فيه رجل غير بوانكاريه أو أحد أتباعه، فقد رأى هذا الوزير الـجديد أنه إذا فشل الـمؤتـمر بسببه خرج هو وفرنسة بخسارة فادحة، لذلك عمد إلى التساهل بقدر ما يسمح له الضغط الـمالي والعسكري في فرنسة وبقدر ما يخوّله حزبه من القوة. ولكن الـمؤتـمر مع كل ما أظهرته الوفود من روح التساهل بقي مهدداً بالفشل حتى آخر ساعة من ساعاته.

 

كانت العقبات التي قامت في سبيل نـجاح الـمؤتـمر كثيرة شاقة، منها مسألة ضمان القرض الـمنوي عقده لألـمانية، ومسألة الاقتصاص من ألـمانية إذا أخلّت بشروط الدفع وكان الإخلال مقصوداً. وهذه مسألة تطيَّر منها أصحاب الـمصارف والـمتمولون الإنكليز والأميركان الذين رأوا فيها ما يحملهم على الاعتقاد بأن فرنسة ستقف لألـمانية بالـمرصاد فتثب عليها عند أقلّ تقصير يبدو منها وإن يكن غير مقصود، لأن تعييـن التقصير الـمقصود أو غير الـمقصود أمر صعب جداً في مثل هذه الأحوال. وما زاد مخاوفهم إصرار فرنسة على الاحتفاظ لنفسها بحق العمل الـمنفرد عندما ترى ذلك ضرورياً. فإذا كانت فرنسة تنوي من وراء ذلك شراً ذهبت الأموال التي يقرضونها لألـمانية ضياعاً، وعاد إلى أوروبة ضيقها واشتد خناقها.

 

عند هذه الـمسألة وجد الـمؤتـمر نفسه أمام عقدة صعبة الـحل، ورأى أنّ الاتفاق على هذه الـمسألة وغيرها من الـمسائل الدقيقة كمسألة إخلاء الروهر وغيرها التي يُخشى أن تسبب للمؤتـمر ما لا تُـحمد عقباه يستدعي وجود ألـمانية في الـمؤتـمر وتفاهُم الفرنسيس والألـمان رأساً بعضهم مع بعض، فإذا تـم ذلك سَلِم الـمؤتـمر وانحلت عقدة أوروبة. وبناء عليه قدم وفد ألـمانية إلى لندن، وبعد تبادل الـمذكرات بيـن الـمؤتـمر والوفد الألـماني بشأن ما أقرَّه ذاك وما يريده هذا مع الـملاحظات ونحوها، عُقد اجتماع خاص بيـن الوفد الفرنسي والوفد الألـماني كان من ورائه ما قام من الـمناقشات حول مسألة إخلاء الروهر ومسألة الضمانات وما شاكل، مـما أوقع الـمؤتـمر حيناً من الزمن في حيص بيص واضطر هريو إلى العودة إلى باريس واستشارة الوزارة في شؤون كثيرة، ثم عاد واستأنف الـمؤتـمر العمل.

 

بعد كل ما تقدم وما تبع من الـمناقشات والـمجادلات، توصل الفرنسيون والألـمان في أثنائها إلى الاتفاق فيما يختص بـمسألة الـجلاء عن الروهر، وهي أن يتم جلاء الـجنود الفرنسية والبلجيكية عن الروهر في مدة سنة فقط بعد انتهاء الـمؤتـمر ووضع الاتفاق موضع الإجراء من جانب الفريقيـن. وعيـّن الـمؤتـمر بعد ذلك ميعاد الدفع الذي تقوم به ألـمانية، وقرر إقامة لـجنة مراقبة تنظر في مسألة التقصير ولـجنة أخرى تكون حكماً في ما إذا كان التقصير مقصوداً أو غير مقصود. وقد رضي كلٌ من الوفود عن النتائج التي توصل إليها الـمؤتـمر وأجازها، وانفضّ الـمؤتـمر على وفاق في مسألة التعويضات على أن تسوّى الـمسائل الأوروبية الأخرى في اجتماع عصبة الأمـم.

 

عند هذا الـحد في هذا الـمؤتـمر التاريخي، الذي هو الـمؤتـمر الأول من نوعه بعد الـحرب، انتهت مسألة التعويضات من طورها الـمبهم القصير الأجل لتدخل في طورها الواضح الطويل الأمد. فالذي يقول إنّ مسألة التعويضات قد انتهت نهائياً في مؤتـمر لندن يخطىء كثيراً، فما مؤتـمر لندن إلا خطوة لابتدائها أما نهايتها فلا أحد يعلم كيف ومتى تكون. على أننا نعلم أنّ الوفود التي اجتمعت في لندن قد أفرغت جعبتها هناك وفعلت كل ما تقدر أن تفعله. ولكن يـمكن أن يقال إنّ مؤتـمر لندن، وإن يكن قد قصَّر عن إرضاء الشعوب كلها، فإن نتيجته تُعدّ انتصاراً للسياسة الـجديدة التي تلاقي من الصعوبات وهي في دور طفوليتها الشيء الكثير.

 

ولقد حمل إلينا البرق أنّ فرنسة قد ابتدأت في إخلاء أماكن محتلة في الروهر، وأنّ ألـمانية قد أخذت تسدد الدفعة الأولى الـمطلوبة منها. وهذا يدل على حسن قصد في التمشي بـموجب منطوق معاهدة لندن التي أصبحت الآن الـخطة الوحيدة التي يجب على أوروبة اتباعها لإبقاء سيف الـحرب في غمده.

 

ولكن هل تـمنع معاهدة لندن الـحرب في الـمستقبل، أو هل يوجد في معاهدة لندن ما يزيل أسباب الـحروب في أوروبة؟

 

الـجواب على ذلك هو أنّ تنفيذ معاهدة لندن يـمنع وقوع حرب مقبلة بسبب التعويضات، ولكنه لا يـمنع مثلاً وقوع حرب بسبب اعتبار ألـمانية أمة مجرمة مسؤولة عن الـحرب العالـمية وفظائعها دون غيرها من الأمـم، ووضع هذا الاعتبار نصب الأعيـن في كل معاملة مع ألـمانية الأمر الذي يقوي روح الرجعية وحب الانتقام فيها.

 

وجلّ ما يقال أو كل ما يقال في معاهدة لندن إنها فاتـحة عهد جديد في أوروبة. فإن ما ظهر فيها من الـميل إلى التساهل الذي، على علاّته، لم يكن معروفاً في أوروبة منذ وضعت الـحرب أوزارها حتى تاريخ انعقاد الـمؤتـمر، يحمل على الاعتقاد بحسن الـمستقبل إذا لم يقم في وجه الروح الـجديدة ما يعرقل مساعيها. ورغماً مـما يظهر في أوروبة من الـحركات الرجعية بيـن حيـن وآخر، فلا بد من القول إنّ أوروبة تشهد اليوم نهضة إصلاحية في السياسة والاقتصاد كان مؤتـمر لندن الـحجر الأول في بنائها.

                                                                             أنطون سعاده

 


[1] حزب الأحرار.        

 

[2] ماكدونالد، جيمس رامسي (1866-1937): سياسي بريطاني، وزعيم حزب العمال، وأول رئيس وزراء عمالي (1924).

 

[3] بوانكاريه، ريـمون (1860-1934): سياسي ورجل فرنسي. رأس الوزارة (1912) ثم انتخب رئيساً للجمهورية. عاد فتولى رئاسة الوزارة (1922) ثم شكّل حكومة وحدة وطنية (1926-1929).     

 

[4] هريو، إدوارد (1872-1957): سياسي وأديب فرنسي. رئيس الـحزب الراديكالي، نظّم إتـحاد اليسار ضد بوانكاريه وفاز في انتخابات 1924.     

 

[5] ميلران، الكسندر (1859-1943): خلف كليمنصو رئيساً للوزارة (1919) رئيس الـجمهورية الفرنسية (1920). أُجبر على الإستقالة أمام ضغط الأكثرية اليسارية (1924).

 

[6] معاهدة الصلح (1919) بعد الـحرب العالـمية الأولى.       

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro