مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
الوحدة الجمركية بين ألمانية والنمسة
 
 
 
ألف باء- العدد 3117 - 1931/5/5
 

 

[في شهر آذار الـماضي قررت الـحكومتان الألـمانية والنمسوية إلغاء الـحواجز الـجمركية بينهما واتـحادهما الـجمركي في جميع ما يصدر منهما أو يستورد إليهما في معاملاتهما التجارية مع الـخارج مع بقاء كل من الدولتين حرة مستقلة في عقد معاهدات تـجارية مع أية دولة أخرى، وأبلغ سفراء الدولتين حكومات الـحلفاء القرار الذي اتخذتاه، فأحدث ذلك دوياً كبيراً في الأندية السياسية خصوصاً في فرنسة وتشيكوسلوفاكية وبولونية وكانت لندن العاصمة الأكثر هدوءاً تـجاه هذا الأمر الـجديد. الـخطير من وجهته الاقتصادية والسياسية.

 

[للحدث الـجديد أهمية كبيرة لـما سيكون له من التأثير على وضعية أوروبة الـحاضرة فإن أول نتائجه الـمباشرة ستكون تعزيز الصناعات الألـمانية النمسوية تعزيزاً ذا شأن والصناعة هي الشيء الوحيد الذي تعتمد عليه في نهوضها من كبوتها. أما النمسة فإن نهوضها الاقتصادي وهي في العزلة التي وضعتها فيها معاهدة سانت جرمان بعد فقدانها معظم موارد ثروتها السابقة أمر لا يـمكن تـحقيقه إلا بالاتفاق مع ألـمانية. فالاتفاق الـمشار إليه ينقذ النمسة من موقف اقتصادي حرج بين شعوب لا تتمنى نهوضها وازدهارها.

 

 [بيد أنه مع عظيم أهمية هذه الوجهة فهي ليست أهم ما شغل دوائر العالم. بل هي الوجهة السياسية التي حولت أنظار الأندية السياسية إلى الـحدث الـجديد وأوجدت نوعاً من القلق الشديد في بعض العواصم الأوروبية التي تراقب كل حركة من حركات ألـمانية وكل سكنة من سكناتها وتكاد تعد عليها أنفاسها وفي مقدمة هذه العواصم باريس.

 

[مـما لا شك فيه أن أهم نقطة سياسية في وجهة الوحدة الـجمركية الـمشار إليها هي اعتبار هذا الـحدث خطوة واسعة في سبيل الوحدة السياسية والاجتماعية بين ألـمانية والنمسة، قد يبدو لنا ذلك نحن السوريين أمراً عادياً طبيعياً، وهو الواقع الذي تؤيده الأدلة السلالية والتاريخية والاجتماعية، فألـمانية والنمسة دولة واحدة من هذه الوجهة ولكنها كانت منقسمة إلى أمبراطوريتين مستقلتين، والـحاجز الوحيد الذي كان يحول دون تـحقيق وحدتهما فيما تقدم من العصور هو وجود عائلتين مالكتين لا تتنازل إحداهما عن حقوقها في عرضها ولم يكن إذ ذاك من ضرورة سياسية تقتضي تلك الوحدة أما الآن فقد تغيرت الأحوال كثيراً، فالـحاجز الـمذكور قد زال وتولدت الضرورة السياسية لتحقيق الوحدة من حالة أوروبة الـحاضرة والـمناورات السياسية الآخذة مجراها فيها، فضلاً عن ضغط الـحالة الاقتصادية السيئة على أحوال الدولتين. يبدو لنا ذلك طبيعياً بديهياً ولكنه يبدو على عكس ذلك لبعض الأمـم التي تؤثر عليها التطورات التي من هذا النوع تأثيراً كبيراً لأن الوحدة الـمذكورة تسهل انتعاش ألـمانية وتـجعلها دولة كبيرة قابضة على قلب أوروبة النابض وكما كانت رومة التاريخية تخاف من عودة ندتها العظيمة قرطجنة إلى ازدهارها وارتقائها بعد الـحروب الهائلة التي نشبت بينهما هكذا تخشی بعض الأمـم الأوروبية عودة ألـمانية إلى نشاطها بعد الـحروب الهائلة التي خسرت ألـمانية آخرها.

 

الوحدة الـجمركية بين ألـمانية والنمسة ليست بالـحقيقة إلا خطوة واسعة لتحقيق الوحدة السياسية ولكنها ليست الـخطوة الأولى إذ قد سبقتها خطوات أعظمها توحيد القضاء وأصول الـمحاكمات الذي تـم منذ نحو سنتين أو أكثر.

 

لا يوجد اليوم ألـماني أو نـمساوي وطني قومي إلا ويعتقد بأن اتـحاد ألـمانية والنمسة ضرورة طبيعية يقتضيها الـموقف الـمنعزل الذي تقفه كل من هاتين البلادين منذ انتهاء الـحرب. والـجهود التي بذلت ولا تزال تبذل في سبيل تـحقيق هذه الغاية عظيمة جداً تقابلها من الـجهة الأخرى جهود عظيمة مثلها تبذلها فرنسة وتشكوسلوفاكية ويوغوسلافية وبولندة في سبيل إحباط الـمساعي التي يقصد منها تـحقيق تلك الفكرة، والظاهر أن السياسة الألـمانية لم تقدم على اتخاذ الـخطوة الـمشار إليها إلا وهي واثقة من فوزها النهائي ولا يبعد أن تفوز السياسة الألـمانية هذه الـمرة لأن السلاح الذي تـحمله قوي جداً نعني الوجهة الاقتصادية البحتة واتفاق الوحدة الـجمركية مع مشروع بريان[1] الذي تدلى مؤخراً من مركز خطة يقصد منها إيجاد دول أوروبة الـمتحدة إلى مركز خطة القصد منها إيجاد اتفاق اقتصادي بين دول أوروبة. ومن غريب ما اتفق لهذا الـمشروع في الاجتماع الذي عقد في شهر يناير/كانون الثاني من هذه السنة أن بريان الذي كان متشبثاً في بدء مشروعه بتقديم الوجهة السياسية على الوجهة الاقتصادية عدل في الاجتماع الـمذكور عن هذه النظرية إلى عكسها وأن كرتيوس الذي كان يقول بتقديم الوجهة الاقتصادية اتخذ عكس ما كان يقول به. فكأنه تبادل الـموقف هو وبریان!

 

كانت الـحدة التي قابلت بها الأندية السياسية والصحافية الفرنسية الوحدة الـجمركية الـمشار إليها آنفاً دليلاً واضحاً على أن فرنسة مستاءة جداً من هذا الـحدث وأنها ستبذل قصارى جهدها لإحباطه أو إلغائه. أما بريطانية فمع أنها تعترف بأن هذه الـخطوة قد جاءت في غير أوانها وتطلب بأن تبحث القضية في اجتماع مجلس عصبة الأمم في الـجلسة القريبة القادمة ترى صحافتها أنه لا يوجد ما يمنع ألـمانية والنمسة من عقد الاتفاق الـجمركي الـمذكور وقد جاءت دعوة رئيس وزراء انكلترة ووزير خارجيتها رئيس وزارة ألـمانية ووزير خارجيتها إلى اجتماع ودي يعقد في تشكرز دليلاً على أن الـحكومة البريطانية غير حانقة على إقدام ألـمانية والنمسة على اتخاذ الـخطوة الـمشار إليها. فكان ذلك من الأسباب التي زادت في قلق الدوائر السياسية الفرنسية وهو أمر بديهي لأنه إذا لم يكن في وسع  فرنسة الاعتماد على معاضدة انكلترة في الـمناورات السياسية الـمقبلة في اجتماع مجلس عصبة الأمم كان أملها بالبقاء على رأس مشروع التعاون الأوروبي ضعيفاً جداً خصوصاً وهي لا يـمكنها الاعتماد على معاضدة إيطالية لـما بين الدولتين من اختلاف كبير في السياسة أشرنا إليه في مقال سابق[2]. وإيطالية هي الدولة الثانية التي احتفظت برباطة الـجأش تـجاه هذا الـحدث الـخطير.

 

لو كان من وراء هذا التطور الـخطير في السياسة الأوروبية أن السياسة الفرنسية أصيبت بصدمة قوية لم تكن في الـحسبان وقد عزا خصوم بريان ذلك إلى بريان نفسه وسياسته الـخاصة وقاموا يضعون اللوم في ذلك عليه حتى أن رئيس الـجمهورية نفسه ألقى خطاباً سياسياً في مدينة نيس اعتبر في دوائر كثيرة بـمثابة حملة على سياسة بريان الـخارجية. والـحقيقة أن خصوم بريان السياسيين قد استثمروا الـحوادث الـجديدة في نقمتهم عليه، إلى أبعد حد مـمكن ولكن وجود بريان على رأس السياسة الـخارجية مدة طويلة رغم تقلب الوزارات أصدق دليل على أن سياسته كانت السياسة الوحيدة التي يـمكن فرنسة اتباعها دون أن تصطدم مباشرة برغائب أمم أخرى اصطداماً قد لا يكون في مصلحتها. ولقد جاء مؤخرا أن بريان قد استعاد نفوذه السابق وأنه يستعد لتقديم اقتراحات عملية خطيرة الشأن فيما يتعلق بـمشروعه الأوروبي في الاجتماع الـمقبل الذي سيعقد في جنيف ويدور في الأندية السياسية أن خطوته الـجديدة ستكون أشبه بهجوم معاكس للهجوم الذي قامت به ألـمانية بالاستناد على مشروع بريان نفسه.

 

إننا الآن على أبواب معركة سياسية عظيمة تدور رحاها في اجتماع مجلس عصبة الأمم الـمقبل حول وحدة ألـمانية والنمسة الـجمركية ومقترحات بريان في سبيل تـحقيق مشروعه الأوروبي مع بقاء فرنسة على رأس الـمشروع. وقد كان بريان يود أن يتناول موضوع الوحدة الـجمركية الـمشار إليه من وجهته السياسية ولكن رفض ألـمانية الاعتراف بأنه يوجد للوحدة الـجمركية وجهة سياسية كان أشبه بتهديد بالانسحاب من عصبة الأمم إذا أصرت فرنسة على بحث الوجهة السياسية للموضوع وهو ما جعل بريان يعمد إلى السياسة الإيجابية في مقاومة السياسة الألـمانية.

 

والذي نراه أن مقترحات بريان سواء أنـجحت أم فشلت، سوف لا تتمكن من إلغاء النتيجتين الاقتصادية والسياسية اللتين حصلت عليهما ألـمانية من وراء الوحدة الـجمركية ولكنها قد تتمكن من أن تكفل لفرنسة نتائج اقتصادية وسياسية معادلة تقريباً لـما حصلت عليه.

 

أنطون سعاده

 


[1] أريستيد بريان وزير خارجية فرنسا.

 

[2] مقال: الـحالة الـحاضرة والعاصفة القادمة ص:

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro