مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
نسر الزعامة السورية القومية الاجتماعية ووحل التوكومان وذبابها (3) أول محاولة مسّوحية لاستغلال ثقة الزعيم
 
 
 
الزوبعة، العدد 87، 21/9/1946
 

 

ملاحظة: مهما طال الوقت فلا يـمكن لأصحاب الـمبادئ والأخلاق التخلّي عن الـحقيقة. والـحقيقة حقيقة في كلّ شيء خاص أو عام، ولـما كانت «الزوبعة» ابتدأت تفصيل أسباب سقوط الـمدعو جبران مسوح من حقوقه الـمدنية والسياسية في الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وإظهار أكاذيبه التي حاول بها ستر جريـمته الشنعاء، لم يكن بدّ من متابعة البحث لإظهار الـحقيقة كلّها. وما اعتدنا أن نبدأ أمرًا ونتركه غير كامل.

 

قلنا، فيما سبق، إنّ جبران مسوح كان يحتال على أدب غيره وينتحل أفكار الزعيم وشروحه، فضلًا عن أفكار طائفة من كبار الأدباء السوريين والـمصريين، وإنّ الزعيم اجتهد كثيرًا في ردّه إلى طريق الاستقامة وجعله يعيد الـحقوق إلى أصحابها، وإنّ نـجاح الزعيم في إصلاح مسوح لم يكن إلاّ جزئيًا. وهذا القول هو الـحقيقة بعينها بلا زيادة ولا نقصان. ولكن لا يظنّ أحد من القرّاء أنّ هذا القول هو من باب الاتّهام العدائي، ومع أننا أوردنا بعض الأدلة والشواهد على انتحالات جبران، فإننا نورد أدلة وبراهين جديدة ذات صفة قاطعة، خصوصًا وأنّ بينها اعترافًا لـجبران مسوح نفسه بانتحالاته وإصلاح الزعيم له في هذا الصدد:

 

في العدد الرابع والستين من «الزوبعة» الصادر في أول أغسطس / آب سنة 1943 نشرت مقالة لجبران مسوح عنوانها «أساس مبادئنا القومية»، حمل فيها كاتبها على انتحالات عدد كبير من الصحافيين والكتّاب أفكار غيرهم وكتاباتهم. وأفكار هذه المقالة عينها كلّها انتحلها جبران مسوح انتحالًا، ولكنه أراد فيها أن يكون أعظم مهارة من غيره الماهرين في انتحال أفكار الغير، فوضع نفسه بين الذين ينتقدهم وضربها مثلًا من جملة الأمثلة ليتظاهر بأنه اليوم غيره بالأمس، في حين لم يتغيّر في داخله عن أمسه،ولا في ظاهره إلاّ بزيادة ريائه. وإليك الـمثل الذي قدّمه جبران مسوح عن نفسه، وفيه اعترافه الصريح بعادة السرقة والانتحال التي صيرته كاتبًا: «من مدة وجيزة كنت أحادث معالي الزعيم في قضية فرويت له فكرة تتعلق بها فقال بلطف وابتسامة «أظنّ أنّ هذه الفكرة لفرح أنطون» انتبهت للأمر حالًا وراجعت ذاكرتي ثم قلت بكلّ ما يستدعيه الـموقف من الهيبة «نعم، يا سيدي، هي لفرح أنطون» فقال: «إذاً يجب أن تقول هكذا: إنّ القضية كذا وكذا، كما قال الـمرحوم فرح أنطون» هي صدمة لم أنل مثلها في حياتي، ولكنّي تلقيتها برعدةٍ وإجلال».

 

هذه الشهادة التي يؤدّيها جبران مسوح نفسه بقلمه تثبت بصورة لا تقبل الردّ ولا التأويل صحة ما نعلنه من حقيقة سرقته أفكار الـمفكرين وانتحاله الشيء الكثير من أدبهم. وتثبت أيضًا كيف كان الزعيم يعنى بإصلاحه وجلبه من الإجحاف إلى الـحقّ.

 

مثل هذا الاعتراف جعل الزعيم يعتقد بقابلية جبران مسوح للإصلاح. ولكن جبران مسوح لم يكن يجد في إحسان الزعيم ظنّه به غیر دليل على انتصار ريائه وثعلبته. ومن أدلّة ذلك ما تـحمله تلك الشهادة عينها من الرياء في قوله «انتبهت للأمر حالًا وراجعت ذاكرتي».فهو أراد به أنه كان ناسياً أن الفكر لغيره وأنه أورده كأنه هو صاحبه سهوًا فقط، لا متعمدًا، وهو خلاف الواقع، لأن جميع كتابات جبران مسوح السابقة واللاحقة تدلّ على أنه لم ينقطع عن تعمّد انتحال أفكار غيره، ولا عن الاحتيال لستر الانتحال بكلّ حيلةٍ ممكنة له.

 

ومن الأدلة القاطعة على استمراره في انتحال أفكار غيره مقالة «جبران خليل جبران» الصادرة في العدد الثاني والسبعين من الزوبعة، أي بعد ثمانية أعداد فقط على «حملته» الـمذكورة آنفاً على السرقة والانتحال في الأدب،التي وردت فيها شهادته على نفسه الـمشار إليها.

 

هذه الـمقالة اشتملت في جوهرها الـمناقبي وفي انتقاداتها الفكريّة، على أثر أفكار الزعيم في جبران خليل جبران وعدوله في القسم الأخير من حياته وعمله الأدبي عن الكتابة باللغة العربية التي هي لغة قومه السوريين الذين هم أحقّ من غيرهم من الأقوام بأن يكون أدب نابغتهم وتفكيره بلغتهم رأسًا. وهذه الأفكار أبداها الزعيم في غداء في بيت جبران مسوح أو بيت ابنه أمين في شارع مايفو في توكومان، في مدة أول زيارة، قام بها الزعيم للنزالة السورية في تلك الـمدينة في سنة 1939 وكانت حاضرة الغداء أخت زوجة جبران مسوح الآنسة نديـمة بش. وكان مدعوًّا إلى الغداء مع الزعيم مواطن متنوّر اسمه جورج شهدان (توفّي الآن، وقد كتبت هذه الـمقالة قبل وفاته بعدة أشهر)، وحديث الزعيم مع هذا الشخص هو الذي جرّ موضوع جبران خليل جيران وأدبه وسلوكيته وأظهر الزعيم أفكاره التي حفظها جبران مسوح بالصورة التي وسعها إدراكه واحتفظ بها كلّ تلك الـمدة الطويلة، الكافية في الظاهر لنسيان مصدرها وعلاقتها به، ليصدرها في مقالة ليس فيها أقلّ إشارة إلى مصدر أفكارها.

 

ولنعد الآن إلى تتبّع مجرى سلوك جبران مسوح في الـحزب السوري القومي. فقد قلنا إنه فهم، أو على الأقل تظاهر أنه فهم الزعيم أكثر مـما فهم النظام القومي الذي يقول إنه أراد أن يكون مطيعًا للزعيم من أجله لا من أجل الزعيم نفسه. وقد كان أول كتاب أرسله جبران مسوح إلى الزعيم بعد تعرفه به مؤرَّخًا في الـحادي عشر من أغسطس/ آب سنة 1939. وهذه أول فقرة منه «سيدي الزعيم الـمفدّى، وصلت توكومان مريضًا ولذلك لم أكتب إليكم من يوم وصولي. ولكني مع ضعفي أشعر بفرح عظيم لأني تعرفت في هذه الرحلة إلى الزعيم العظيم. وهذه أول مرة في حياتي أقول فيها لإنسان «يا زعيمي» من أعماق قلبي. لأني رأيت فيك القائد الـحقيقي لكلّ الذين يريدون أن ينهضوا بالوطن نهضةً صحيحة». وهذه الكتابة التي أظهرت جبران مسوح بـمظهر الـمهتدي الـحقيقي إلى الإيـمان القومي جعلت الزعيم يتوقّع أن يكون اهتداؤه تامًّا ومفيدًا لذاته ولغيره، ويوجّه إليه تلك العناية الـخاصة التي ذكرناها فيما تقدّم.

 

وبعد زيارة الزعيم الأولى لـمدينة توكومان وتأثيره في جميع أفراد عائلة جبران مسوح وحصول حركة التفاف عناصر من الشبيبة حول شخص الزعيم وفكرته، أخذت الـمراسلات تكثر بين الزعيم وجبران مسوح، خصوصًا لأن هذا الشخص صار يُكثر من الـمراسلة والاهتمام وكتابة الـمقالات التي كان يرسلها، في أحيانٍ كثيرة، إلى الزعيم ليلقي نظرة عليها أو ليبدي رأيه فيها. وكانت تلك الـمقالات ترسل أولًا إلى «سورية الـجديدة» في سان باولو، البرازيل، لأنه لم تكن للحركة السورية القومية جريدة في الأرجنتين ولم يكن في أميركة كلّها صحيفة للحركة غير «سورية الـجديدة». فتوثّقت، من جرّاء ذلك، الصلات بين الزعيم وجبران مسوح، وزاد في توثّقها عجز خالد أديب أولًا عن القيام بالـمراسلات والصلات اللازمة، وخيانته يـمينه ثانيًا بالانصراف عن العمل القومي إلى اللهو والسهر في الكبَريهات، والتظاهر بصفات وادّعاءات محِطّة بـمنزلة الـحركة السورية القومية وتقاليدها الشريفة. فصار جبران مسوح أبرز جميع الـمنضمّين إلى الـحركة في الأرجنتين في مواصلة الأعمال القومية، خصوصاً الأعمال الكتابية.

 

وكانت حاجة مكتب الزعيم إلى كتّاب ومعاونين شديدة. فقد كان سافر مرافق الزعيم الأوّل الرفيق أسد الأشقر إلى الوطن. وهذا الرفيق كان ذا قلمٍ سيّال وله اتّصال غير ضعيف بالـمجاري الثقافية العالية. وكان عاملًا نشيطًا. وظهر من الذين قاموا على أعمال «سورية الجديدة» في البرازيل شذوذ كبير ليس هنا مجال تفصيله، ولكن ذاك الشذوذ أخذ ينحرف بـمنهج الـجريدة عن الـموقف السوري القومي الاجتماعي الصحيح وعن توجيهات الزعيم، إلى نزعة إذاعية واضحة للمحور الألـماني- الإيطالي لم يوافق الزعيم على اتّخاذها، وأرسل كتبًا كثيرة إلى الـمختصّين يأمر فيها بترك تلك الإذاعة الدخيلة الضارة. فلما يئس الزعيم من إمكان تقويم اعوجاج الـمتولّين إدارة «سورية الجديدة» رأى وجوب إنشاء جريدة قومية اجتماعية في الأرجنتين تكون تـحت إدارته وإشرافه الفعليّ لتوصل الرأي السوري القومي الصحيح إلى أوساط الـحركة في الـمغترب وإلى جميع السوريين الـمغتربين. فأنشأ جريدة «الزوبعة» وعهد إلى الـمدعو فريد الياس نزها إدارتها تـحت إشرافه.

 

ما كاد يصدر العددان الأول والثاني من «الزوبعة» حتّى رأى الزعيم استحالة الاعتماد على فريد نزها لإدارتها أو تولّي ناموسية إنشائها، فخابر جبران مسوح في الأمر واستدعاه إليه وكلفه أن يقوم على تدبير شؤون الـجريدة وإدارتها تـحت إشرافه في مقام ناموس إنشاء ومدبّر شؤون.

 

فجاء جبران مسوح بوينس آيرس لهذا السبب وللقيام بـما اعتاد القيام به من قبل من مساعٍ تـجارية لـمحلّ ابنه أمين، وتولّى إصدار عدد واحد والزعيم في بوينس آيرس. ثم إنّ الزعيم بعد أن أقام جبران مسوح على الزوبعة وكّل إليه أمر الاستحصال على رخصة للجريدة باسم مسوح، لأن الزعيم لم يقصد الاستقرار في هذه البلاد التي لم يأتِ إليها مهاجرًا، وأشار بأن يوضع في العدد الـخامس من الزوبعة الذي ابتدأ به جبران مسوح عمله هذا الإعلان: «الزوبعة بإدارة الأستاذ جبران مسوح». نعلن للقرّاء أنه اعتبارًا من تاريخ هذا العدد أصبحت هذه الـجريدة بإدارة الكاتب القومي الرفيق جبران مسوح، وعليه نرجو الـجميع اعتماده ومراجعته بكلّ ما يتعلق بشؤونها».

 

قرّر الزعيم، على الأثر، الانتقال إلى جبال كردبة طلبًا لراحة جسدية لم ينل شيئًا منها منذ سنتين. فاغتنم جبران مسوح غيابه ليحقّق الغاية الكبرى الـخفية في نفسه، غاية الشهرة واكتساب الـمنزلة. فما كاد يستقرّ الـمقام بالزعيم في أحد فنادق مصيف لس كوكس الـجميل حتى ورده العدد السادس من الزوبعة حاملًا إلى جانب اسم الـجريدة، التي هي جريدته الـمنشأة بإدارته لتحمل التوجّهات الفكريّة والسياسية التي يرى الزعيم إصدارها، ولتكون في الدرجة الثانية مجالًا يظهر فيه إنتاج القوميين الاجتماعيين في الـمغترب، إعلان جبران مسوح أنه هو «صاحب امتياز» الزوبعة وأنه «مديرها» وهو إعلان يوازي إذاعة أنّ الـجريدة ملك خاص له وأنه هو مديرها السياسي أيضًا لا مدير شؤونها ومحرّر صفحاتها من الأغلاط الـمطبعية فقط!

 

استغرب الزعيم جدًّا هذه الظاهرة التي أخرجت الزوبعة عن وضعها الأصليّ، وحالًا كتب إلى جبران مسوح مستنكرًا هذا النهج الغريب الذي منه أيضًا ما كان بلغ الزعيم من أنّ جبران مسوح يذيع بين الرفقاء أنه هو ينفق على الـجريدة. فأجاب جبران مسوح على كتاب الزعيم في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1940 بكتابٍ طويل. ابتدأ مسوح هكذا:

 

«سيدي الزعيم الكريـم،

 

لكي نحصل على امتياز الـجريدة أمضى على الأوراق توفيق أبو نادر لأنه صاحب الـمطبعة التي تطبع فيها الـجريدة، لأنه بـموجب النظام الـجديد كلّ ما ينشر في الـجريدة يكون مسؤولًا عنه الناشر والطابع. وعندما صدر أول عدد في مطبعة أبو نادر طلبت منه أن لا يضع اسمي على الـجريدة فلم يقبل. وقال بعبارة صريحة: «يجب أن يكون اسمك على الـجريدة مثل صاحب امتياز لأن هنا مسؤولية» ولا أعلم إذا كان قد قال ذلك من نفسه أم مدفوعًا. وقد وضعت اسمي لتتم الـمعاملات وتصدر الـجريدة.

 

«أما من حيث ملكية الـجريدة فأنا لا شيء لي منها أبدًا وما أنا غير خادمٍ صغير عند سيدي الزعيم، وأقدّم قلمي ويدي وفؤادي بين قدميه...

 

«فأنا يا سيدي الزعيم أخدم الـجريدة بكلّ ما أستطيعه وأبقى في العاصمة لأجلها إذا اقتضى الأمر، ولا أذهب إلى توكومان إلّا في ظروفٍ خاصة لا يـمكن التملّص منها. ولا أطلب لقاء ذلك شيئًا أبدًا وإذا رفض محلنا في توكومان القيام بنفقاتي الـخصوصية فأنا قادر أن أجد عملًا في العاصمة أعيش منه ولا أُثقِل على الـجريدة ولا بريالٍ واحد. وتكون الـجريدة دائمًا ملك سيدي الزعيم ولا أنشر فيها إلّا ما يأمرني هو به. وما أنا في الزوبعة إلّا من يتوقّع أن يكون له شرف الـخدمة فيها. وإذا قبل الزعيم أن أكون خادمًا مرافقًا له فهذا منتهى ما أمله في حياتي».

 

أوقف الزعيم نظره طويلًا عند عبارة «وأقدم قلمي ويدي وفؤادي بين قدميه». إنها عبارة خالية من الرجولة ويشتمّ منها رائحة تزلّف أنانيّ لا قوميّ وهو لو قال «بين يديه» لكانت الـمسألة تختلف كثيرًا عما هي في القول «بين قدميه». ولكن الفقرة الأخيرة من كتابه الـمثبت آنفًا جعلت الزعيم يـميل إلى الاعتقاد بإخلاصه لـما فيه من صراحة واندفاعٍ عاطفيّ. ولم يخطر قطّ في بال الزعيم أن يكون كلّ ذاك الكلام رياء لتحقيق مبتغى أناني بحت وفضّل أن لا يحمل قوله: «وإذا قبل الزعيم أن أكون خادمًا مرافقًا له فهذا منتهى ما آمله في حياتي» على محمل مجرّد طلب العلو على أكتاف الزعيم.

 

وشيء آخر استرعي نظر الزعيم هو محاولة جبران مسوح إلقاء تبعة إعلان أنه صاحب الـجريدة على صاحب الـمطبعة، وتعليله قصده الـخبيث بـما ادّعى أن الطباعي قال له بوجوب ذلك قانونًا. وكانت الـحيلة ظاهرة للزعيم بجلاءٍ كلّي. إن الـحكومة تكتفي بوجوب معرفة من هو الناشر ومن هو الطابع، ولكن القانون لا يحتّم إعلان من هو صاحب الامتياز في الـجريدة، وهذه جرائد البلاد الكبرى لا تسير على هذه الـخطة، والزوبعة قبل أن يُعهد إلى جبران مسوح بتدبير شؤونها لم تكن تـحمل اسم من تخصّ وها هي الزوبعة تصدر من زمان، بعد إزالة ملكية جبران مسوح عنها والإعلان أنّ الزعيم صاحبها من غير إعلان من هو صاحب امتيازها أو صاحبها فيها.

 

وكان الزعيم في منتهى ضعف قواه الـجسدية وجاءت لهجة كتاب مسوح تـحمل صراحة خبيثة جعلت الزعيم يعمل بالقول الـمأثور: «أُعطِ الـمشكوك فيه فائدة الشكّ» إلى أن يعطى فرصة ليبرهن عن قصده الـحقيقي. ولم يكن للزعيم، وهو في تلك الـحالة، خيار في الأمر فاحتفظ بكتاب جبران مسوح لـحين الـحاجة.

 

أمّا جبران مسوح فإنه اكتفى بـما قدمه للزعيم من حجّةٍ باطلة لتبرير حيلته بإعلان تـملّكه الـجريدة وأبقى إعلانه في مكانه. وبعد أن انتهت فرصة راحة الزعيم في كردبة وتعريجه على حاضرتها حيث أُنزِل ضيفًا على السيد عبّود سعاده ليتسنّى للفئات السورية الـمتشوّقة الاتصال به. عاد إلى بوينس آيرس ولم يطل الوقت حتى أعلن له جبران مسوح أنه غير قادر على البقاء في بوينس آيرس، وأنه مضطرّ للعودة إلى توكومان بطلب ابنه أمين الذي أرسل يقول لأبيه إنه لا يقدر أن يتحمل نفقاته خارج البيت، وكان ذلك مناقضًا مناقضةً كليّة لتبجّحه بأنه «يبقى في العاصمة لأجل الجريدة» وأنه إذا رفض محلّهم (يعني محل ابنه) القيام بنفقاته فإنه قادر أن يجد عملًا في العاصمة يبقى فيها لأن «منتهى أمله في حياته أن يكون خادمًا مرافقًا للزعيم»!

 

حينئذ رأى الزعيم وجوب إلغاء ملكية جبران مسوح القانونية عن الـجريدة، فقال له: «بـما أنك ستعود الآن إلى توكومان وبـما أنّ بقاني في الأرجنتين سيطول، على ما يظهر، ولـما كان بقاء الـجريدة في ملكيتك وأنت على هذا البعد يـمنع أو يعرقل ما قد يجب اتّخاذه من تدابير فإني أرى وجوب نقل الـملكية لاسمي».

 

لـمّا وصل أمر ملكية الـجريدة إلى هذا الـحدّ الفاصل لم يسلّم مسوح بهذا الـحلّ وضرب بتعهده في كتابه الـمشار إليه عرض الـحائط، وحاول أن يقنع الزعيم أنه يظلّ قادرًا على القيام بالـمهمة الـموكولة إليه من توكومان، ولـما رأى إصرار الزعيم على رأيه قال للزعيم: «إني أعطيك تفويضًا يخوّلك التصرّف بالـجريدة»!

 

كان هذا الاقتراح أغرب الـحالات الدّالّة على سوء القصد وإخلاف الوعد. أين جبران مسوح القائل: «أما من حيث ملكية الـجريدة فأنا لا شيء لي منها أبدًا وما أنا غير خادم صغير عند سيدي الزعيم وأقدّم قلمي ويدي وفؤادي بين قدميه» من جبران مسوح القائل: «إني أريد الاحتفاظ بـملكية الـجريدة وأعطي الزعيم وكالة عني في غيابي»؟

 

وسافر جبران مسوح إلى توكومان من غير إتـمام معاملة نقل الـملكية. ولكن الزعيم كتب إليه بوجوب إرسال عقد نقل ملكية الـجريدة، فأذعن أخيرًا وأرسل العقد الذي تـحوّلت به ملكية الـجريدة القانونية من جبران مسوح إلى مُنشِئ الـجريدة الأصلي الزعيم!

 

مع كلّ ما أبدى جبران مسوح من تشبّث بـملكية الـجريدة التي أنشأها الزعيم ومقاومته لنقلها إلى صاحبها الـحقيقي فإنّ الزعيم، نظرًا لرحابة صدره، عدّ عمل مسوح ضعفًا وقتيًّا منه وصفح عنه صفحًا كليًّا ولم يحمل في صدره ذرة واحدة من الـحقد عليه، خصوصًا وثقة الزعيم بنفسه لا حدّ لها. ونظرًا لأن عبرة «سورية الـجديدة» كانت لا تزال جديدة فلم يكن منتظرًا من جبران مسوح الذي وقف على تفاصيل تلك العبرة بـما أملاه عليه الزعيم من رسائل إلى الـمتصرّفين بأمر تلك الـجريدة القومية، أن ينسى كيف كانت نتيجة مقاومة القائمين بأمر «سورية الـجديدة» مشيئة الزعامة!

 

والظاهر الآن أنّ جبران مسوح لم يتخلّ عن ملكية «الزوبعة» التي صارت في حوزته إلاّ حين شعر أنّ الزعيم عازم على ما يريد، وأنه لا قبل له بـمقاومة عزيمة الزعيم جهارًا، فلم يعد للمقاومة، وعاد إلى الإشادة بـمحبة الزعيم وتعلّقه به وأنه لا يبغي من الدنيا شرفًا إلّا أن يكون خادمه الـمطيع كلّ أيام حياته!

 

 

جبران مسوح بين جنون العظمة ومرض الأمعاء

 

عندما جاء جبران مسوح إلى بوينس آيرس ليعهد إليه الزعيم بتدبير شؤون الزوبعة، كانت الـحركة السورية القومية الاجتماعية في هذه الـمدينة في تقدّم وازدهار، فقد كان انضمّ إلى هذه الـحركة عدد من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والـخامسة والثلاثين. وفئة غير قليلة منهم كانت من الشبان الـحمصيين الذين ألّفوا كتلة قوية ذات مظهر جميل. وكان سرور الزعيم بهؤلاء الشبان كبيرًا لأنهم كانوا العناصر الـحية التي يرى الزعيم صلاحها لـحمل مبادئ الـحياة القومية الاجتماعية الـجديدة والعمل بها.

 

وكان قد انضمّ أيضًا عدد من السيدات والأوانس من مختلف الأوساط، وصارت محاضرات الزعيم الأسبوعية تقريبًا توحّد الفكر والشعور في هذا الـمجتمع القومي الناشئ وترفعهما نحو مطالب النهضة الروحية السامية. وبالتدريج صار مـمكنًا الاهتمام بالـمواضيع الثقافية العامة، وتـحقيق فكرة الزعيم الرامية إلى إنشاء مؤسسة سورية قومية ثقافية في الأرجنتين تضع حدًا للتشتت الروحي- الاجتماعي الـمصابة به النزالة السورية في هذه البلاد، وتُظهر شخصية سورية اجتماعية واضحة الصفات.

 

وبعد إزالة صعوبات كثيرة تمّ تأليف الـجمعية السورية الثقافية التي أظهرت وجودها بتمثيل رواية «في سبيل التاج»[1] متغلّبة على جميع الـمؤامرات والدسائس التي حاكتها فئات سياسية مريضة، وأرادت بها إحباط مجهود الـجماعة السورية القومية الاجتماعية. وكان نـجاح تـمثيل الرواية من الوجهة الفنية والاجتماعية كبيرًا. فقد غصّ الـمسرح بالسوريين ووجوههم، وظهرت العائلات السورية بـمظهر اجتماعي جميل. وأجاد الـممثلون إجادةً لم تكن متوقّعة، خصوصًا الرفيقة إميليا يونس والرفيق أميل بندقي والآنسة ديانا الـمير والسيد شبلي رومية. وكان وقْعُ التمثيل جيد جدًّا، ونـجاح الرواية من الوجهتين الفنية والاجتماعية محرّكًا أوساط النزالة السورية كلّها وداعيًا إلى التفاؤل.

 

وكان، على أثر تـمثيل الرواية الـمذكورة، أنّ الـجمعية السورية الثقافية اتّخذت دارًا لها في شارع (خوسا ماريا مريثو)، وهو شارع مركزي من شوارع الـمدينة الهامة. وعقدت في هذه الدار اجتماعات حضرها الزعيم بنفسه، منها آخر اجتماع حضره الزعيم قبيل انتقاله إلى جبال كردية طلبًا إلى الراحة والتأمل. كلّ مظهر كان يدعو إلى تفاؤل كبير.

 

في هذا الوقت كان تسلّم جبران مسوح تدبير شؤون الزوبعة والنزالة السورية كلها في بوينس آيرس، تلهج بـمجهود الـجمعية السورية الثقافية الـحميد ونـجاحها الـمعنوي الكبير. فحركت هذه  الـمظاهر الـجميلة غرور جبران فعاودته خيلاء تبجّحاته التي أخذنا صورةً منها من ختام كتابه «الـمسيحي والـمسلم» ففي كتابه إلى الزعيم إلى مصيف «لس كوكس» الـمؤرّخ في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الذي يشيد بولائه للزعيم ويطرح «بين قدميه» قلمه ویده وفؤاده، يقول في فقرة تالية «... وقد رأيت قضية الروايات أخذت دورًا مهمًا (يريد هامًّا) في الـجالية وكنت وعدتكم أن الرواية الـمقبلة ستكون من صنعنا وباشرت بها وقد تـم الفصل الأول والثاني منها، وأعتقد أنها ستكون أعظم ما صدر في اللغة العربية من حيث تأليف الروايات« وقوله: «كنت وعدتكم أنّ الرواية الـمقبلة ستكون من صنعنا» إشارةً إلى كتاب سابق أرسله إلى الزعيم من توكومان قبل مجيئه إلى بوينس آيرس وعقيب ظهور الأثر الـحسن لنجاح إبراز الـجمعية السورية الثقافية رواية «في سبيل التاج» وهو مؤرخ في 9 أغسطس / آب سنة 1940، وفيه يقول:

 

«كنت أرسلت إلى سورية الـجديدة مقالة عنوانها (مصيبة فرنسا مصيبة العالم) لا أعلم إذا كانت قد وصلت إليكم بالطيارة، أي العدد الذي فيه ذلك الـمقال. افتكرت أن نرسل نسخة من هذا العدد إلى إحدى الـجرائد الألـمانية ونشير بقلم أحمر إلى الـمقال لاستلفات النظر لعلّ الـجريدة تهتم بالـمقال وتنشر شيئًا عنه لأنه يهمها ما فيه عن فرنسا. متى قرأتم الـمقال الـمذكور افتكروا بالأمر والأمر لكم على كلّ حال». ثم يقول في فقرة أخرى، مشيرًا إلى نـجاح تـمثيل رواية «في سبيل التاج» ومحاولة صاحب «الاتّـحاد اللبناني» اتّهام السوريين القوميين الاجتماعيين بـما هو ملتصق به هو من محاولة الاستيلاء على نسخة لتلك الرواية لإحباط مشروع الـجمعية السورية الثقافية: «سوف يعلم ذلك الصحافي أنّ القوميين لا يسرقون روايات وبعد وقت يـمثلون روايات هي من صنع كتّابهم. وستكون روايات كتّابهم من الأدب الذي سيحدث ضجة هائلة في العالم كلّه. تلطّف وقل للرفاق الـممثلين إنّ الرواية الثانية ستكون من قلم كاتب سوري قومي وسيقف الـجميع على أبوابنا يطلبون أن نعيرهم رواياتنا الـخاصة»!

 

فممّا تقدّم يتبيّن أن جبران مسوح لم يتخلّ قط عن تخيّل أن ما يخطه قلمه هو من الآيات الباهرات التي «ستُحدث ضجة هائلة في العالم كله»،فمقالة بسيطة كتبها في سقوط فرنسة الـحربي قد يكون استعار تعابيرها،على عادته، من كتابات كثيرة نشرت في الصحف الأرجنتينية في ذلك الوقت، يجب أن ترسل إلى جريدة ألـمانية «لعل الـجريدة تهتم بالـمقال وتنشر شيئًا عنه» وهو عمل مخالف للروح القومية ولغايات نهضتنا. وما كاد يفكر في كتابة رواية تـمثيلية حتى أخذ يصوّر «الضجة الهائلة» التي ستحدثها تلك الرواية «في العالم كله».

 

وبينما الزعيم يرتاح في جبال كردبة صار جبران مسوح يـمطره بأخبار روايته وفقرات فصولها لكي ينظر الزعيم فيها ويبدي رأيه. وبعد أن أتمّ تأليفها وأبدى الزعيم رأيه في شكلها الروائي وأسلوبها مشيرًا إلى أهم نقاط الضعف فيها وأصلح ما أشار الزعيم بإصلاحه منها، أرسل نسخًا منها إلى شيلي وإلى الـمكسيك وإلى أميركانية يكلّف الكتّاب القوميين في هذه الأقطار ترجمتها وتـمثيلها. بل هو كان يعدّ العدة لذلك قبل الانتهاء من وضعها. ففي كتاب منه إلى الزعيم في كردبة مؤرّخ في الثالث من ديسمبر / كانون الأول سنة 1940، يقول:

 

«سيدي الزعيم الكريم،

 

«وصلني مكتوبكم في هذا الـمساء ولو تأخر قليلًا لـما وجدني لأني مسافر غدًا صباحًا- مكتوبكم رقم 1 الـجاري -

 

«ملاحظتكم على الـموقف الذي يتردد فيه البك (في الرواية) فإني وصفت حالته وموقفه لكي يعرف الذي يـمثله كيف يجب أن تكون ملامحه. وبـما أن الرواية صارت كلها عندكم فتقدرون أن تـحكموا فيها.

 

«لي أمل كبير في هذه الرواية وسوف أعرضها على شركات السينما وإذا وجدت من يقبلها فعندئذٍ تصير لازمة كلّ تلك التفاصيل لتشرح مرامي الرواية من جميع الوجوه...

 

«سأطلب من ميشال صبّاغ في الـ مكسيك أن يترجمها إلى الأسبانية، وإلى جوليو أطلس أن ينقلها إلى البرتغالية وإلى فخري معلوف (يريد الدكتور فخري معلوف) إلى الإنكليزية ونهاجم بها مراسح العالم وعندئذٍ فإما انتصار باهر أو فشل عظيم».

 

وقد شغلت أحلام جبران مسوح في عظمة الرواية التي خطها قلمه معظم تفكيره مدة غير قليلة. فما كاد يصل إلى توكومان تاركًا بوينس آيرس قبل عودة الزعيم إليها حتّى كتب إلى الزعيم في 5 ديسمبر / كانون الأول 1940 وإليك مطلع كتابه: «سيدي الزعيم الكريم هل انتهيتم من مطالعة الرواية. كيف رأيكم فيها. إني أنتظره لأنه سيدفعني دفعة قوية إلى الأمام أم إلى الوراء».

 

فكتب إليه الزعيم مبديًا ملاحظات أولية على بعض الفصول التي سمح له وقته بقراءتها، فأجاب مسوح في 17 ديسمبر / كانون الأول من السنة عينها وعرض مسألة الثلمات التي أشار الزعيم إلى وجودها في الرواية، قائلًا: «أما الرواية فبعد أن ينتهي سيدي الزعيم من مطالعتها يحكم فيها وأتـمنى من الآن أن أعرف الثلمات التي يجب سدّها لأعالـجها حتى إذا اجتمعنا تكون الرواية جاهزة للتمثيل. وإذا لم نـجد بين القوميين من نؤلّف منهم جوقًا نعتمد على غير القوميين أيضًا لِتُمثل الرواية على أحسن شكل مـمكن وعندئذٍ يحكم الـجمهور عليها».

 

ثم يقول في تساؤل الزعيم عن قصده من الإسراع إلى ترجمتها إلى الأسبانية مع أنها ذات موضوع بيتي داخلي: «أمّا قصدي في ترجمتها إلى الأسبانية فهو أني أعتقد أنّ الأدب الروائي في الأرجنتين ضعيف ونقدر أن نزاحمه ونعرض بضاعتنا في أسواقه وآمل لها رواجًا لأنها تفكير سوري يختلف عن تفكيرهم ويرون فيه شيئًا جديدًا من عوائدنا وتقاليدنا ولا تهمني النتيجة من ذلك مهما كانت وأفضل لنا أن نصلح عيوبنا من أن نستحي من الاعتراف بها أمام الناس».

 

وهي حجة ضعيفة أراد بها ستر حبّ الظهور الذي يدفعه إلى كلّ ذلك الاجتهاد لأن إصلاح العيوب شيء والتظاهر بإصلاحها شيء آخر.

 

ولم يقف مسوح في تهوسه عند هذا الـحدّ بل قال في كتابه الـمذكور: «ثم أفتكر برواية ثانية أجعل وقائعها في الأرجنتين وأشخاصها من أبناء هذه البلاد (أرجنتين) وأترجمها إلى الأسبانية وأهاجم بها مسارح هذه البلاد كلها بل كلّ البلاد التي تتكلم الأسبانية وبي ثقة بالفوز مئة بالـمئة. وسوف لا أخصص لكتابة هذه الرواية إلّا عشرة أيام»!

 

مع كلّ هذا الغرور الـمطبق فإن الزعيم أخذ مسألته بطول أناته وترك أشغالًا أخرى وقرأ روايته وأبدى ملاحظاته الـمناسبة فجاءه جواب مسوح في 19 ديسمبر/كانون الأول سنة 1940 وفيه هذه العبارة: «قرأت بسرور ملاحظاتكم على الرواية، وسوف أفتكر في تنقيحها وسوف ننهي كلّ ذلك في الشهر الـمقبل لتكون جاهزة للتمثيل في أوائل شباط. وأرى أن نسلمها لـمن يريدون تـمثيلها جاهزةً تامّة لأنهم على الأرجح يـمثلونها أكثر من مرة».

 

وفي كتاب منه في 14 يناير/ كانون الثاني سنة 1941 يقول: «نقّحت في الرواية كلّ الـمواقف التي نبهتني إليها وصارت تامة».

 

وفي كتاب آخر منه في 20 يناير/كانون الثاني من السنة الـمذكورة يقول: «الرواية صارت تامة. إني نقّحت كلّ الثلمات التي نبهتموني إليها وصارت صالحة لأن نبدأ بها فيما أعتقد. ولكن يجب أن تـحظى بنظرتكم الأخيرة ولكني أعلم أن وقتكم ضيق، فهل تريدون أن أرسلها إليكم أم نترك ذلك لـحين حضوري؟»

 

وظلّ الزعيم يشمل بعنايته وعطفه جبران مسوح وبيت جبران مسوح وأولاده، ويساعد البيت الـمذكور بالإرشادات والنصائح والـمعلومات ليس الروحية فقط بل الـمادية أيضًا.

 

في أواخر سنة 1941 أنشأ الزعيم بالأسبانية ردًّا[2] على تصريحات القائد سمطس[3] رئيس حكومة إفريقية الـجنوبية، ونشره في الزوبعة[4]. وكان ردّ الزعيم قويًّا مفحِمًا بحججه الـحقوقية والتاريخية في الدفاع عن حقّ الأمّة السورية في فلسطين التي هي جزء الوطن السوري الـجنوبي. فما وصل عدد الزوبعة إلى توكومان حتى تناوله عدد من الشبان أبناء السوريين وقرأوه بلهفة متأثرين بروحيته وبالـحقائق الواردة فيه. وكان في عداد الذين تأثروا ابن جبران مسوح الصغير بكتور، فأحبّ إظهار تأثره للزعيم فكتب إليه كتابًا يُبدي فيه إعجابه بـمقدرة الزعيم على تفصيل الـحقائق وإيضاح الـمشاكل. فرأى الزعيم في كتاب ابن جبران مسوح بداءة تـحسّس للمواضيع السورية الهامة يجب تشجيعها، فكتب إلى جبران مسوح كتابًا عرض فيه، في جملة ما عرض، لكتاب ابنه بكتور وامتدح أسلوبه الكتابي وشجعه على الكتابة. فأطلع جبران مسوح ابنَه على ما يعنيه من كلام الزعيم فتأثر الشاب وتـحمّس لاهتمام الزعيم به. وإليك ما ورد في هذا الصدد، في كتاب من جبران مسوح إلى الزعيم مؤرّخ في العاشر من ديسمبر/كانون الأول سنة 1941:

 

«ما كتبتموه عن بكتور كان أحسن مشجّع له وفرح به كثيرًا وقد صرّح لي أنه كان يستغرب كيف لم يجد هذا التشجيع مني من قبل؟ ولـماذا لم يفهمه أبوه كما فهمه معالي الزعيم؟»

 

وهذا يعني بعبارة بسيطة، أنّ عناية الزعيم بأولاد جبران مسوح وروحيتهم وثقافتهم كانت شيئًا لم يجدوه من أبيهم ولا من غيره إلّا الزعيم.

 

وكان بعد كتاب جبران مسوح الـمتقدّم ذكره أنه كتب إلى الزعيم كتابًا آخر بعد مرور خمسة أيام على الكتاب السابق، أي في 15 ديسمبر/كانون الأول 1941 يقول في مطلعه: «أعتقد أن بكتور زاركم لأنه سافر من يومين إلى العاصمة ليرى إذا كان مـمكنًا متابعة دروسه هناك. وهو بالطبع سيعتمد نصيحتكم من كلّ وجه لأنه بعد أن نال البكالوريوس لا يعلم إذا كان يدرس الـحقوق أو الطبّ».

 

وبعد ورود كتاب جبران مسوح قدم ابنه بالفعل ليزور الزعيم ويسترشد برأيه، فاستقبله الزعيم بالترحاب وشمله بعطفه واهتم بـما يقلقه في شأن مستقبله وفحص ميوله ومنازعه النفسية. وفي أثناء الـحديث قال الشاب للزعيم إنه قادم ليبحث إمكانية اختيار أحد فنّين: فنّ الطبّ وفنّ الـحقوق، لأنّ أمّه أشارت عليه بذلك وفضّلت له الطبّ «لأن الطبيب يقدر أن يربح بفنّه أكثر من الـمحامي»، فلما وقف الزعيم على رغباته ونزعاته النفسية أشار عليه بدرس الأدب. ووعده بـمساعدته وإرشاده. وفي اليوم التالي ذهب به إلى كلية الفلسفة والأدب وفحص برنامجها وأخذ يبين ببكتور مسوح الطريق التي يحسن به سلوكها في متعدد الـمواضيع، ويدله على ما يحسن تقديـمه وما يحسن تأخيره. وعلى الأثر عاد ابن جبران مسوح إلى توكومان فورد الزعيم من أبيه كتاب يقول في أوّل فقرة منه:

 

«وصل بيكتور مساء أمس وهو يحمل من إرشاداتكم ما كان له أثر كبير في نفسه وشكر كثيرًا من عنايتكم به، وأعتقد أن هذا اللقاء بكم هذه البرهة الوجيزة علّمه ما هي الأهداف التي يجب أن يضعها الرجال أمامهم في هذه الـحياة». وفي كتابٍ تالٍ مؤرّخ في العاشر من يناير [كانون الثاني] سنة 1942 يقول جبران مسوح للزعيم في صدد ابنه بكتور :

 

«لقد استفاد بكتور كثيرًا من مقابلته لـمعاليكم ومن جملة ما قاله لي: «إن الزعيم جعلني أن أجد نفسي»، ثم قال: «إني كلما كتبت إليه سأقول له «يا أستاذي العظيم». وقد قرّر أن يعمل بنصيحتكم أي درس الفلسفة والأدب. وأنا أساعده وأؤيده ضدّ هجمات أمه وأمين (ابنه الأكبر) التي مفادها وجوب تأمين الرغيف أولًا...»

 

وبعد أن كان انقلب ابنه أمين على الـمبادئ التي اعتنقها وحنث يـمينه خشيةً من تعريض شيء من مادياته لـخطر موهوم، بقي صدر الزعيم رحبًا وعطفه على جبران مسوح وعائلته حتى بعد حوادث إنكار الـجميل من قبله هو وأفراد عائلته، بعد إنقاذ الزعيم وزوجته حياته من الـموت، ظلّ الزعيم يعتني بشؤون عائلة جبران مسوح ويساعد على فلاحها الـمادي أيضًا، وكم من مرّة حدّث جبران مسوح في الـمسائل التي تؤثر على حركة السوق، وكان كلما اطلع على أمرٍ أو قرأ خبرًا له علاقة بـمجرى السوق يرسله إليه. وفي مكتب الزعيم كتبٌ من جبران مسوح تثبِت هذه الـمعاملة السامية بينها كتاب مؤرّخ في الثاني عشر من شهر مايو/ أيار سنة 1943 نـجد فيه هذه العبارة: «القصاصة التي أرسلتموها بشأن الـملاحة بين أسوج والأرجنتين أفادتنا كثيرًا: شكرًا شكرًا يا مولاي».

 

ولنعد الآن إلى مجرى الـحوادث حسب سياقها التدويني:

 

نـجد في مكتب الزعيم كتابًا من جبران مسوح مؤرّخًا في السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1941 يقول صاحبه في مطلعه: «طيه مرسل لـمعاليكم الـمعروض الذي طلبته إدارة البوسطة منكم ومصادق عليه عند القاضي، وأظنّ ذلك يكفي».

 

هذا الـمعروض هو الوثيقة التي أعادت إلى الزعيم حقوقه في ملكية الزوبعة بعد أن بقيت هذه الـملكية في حوزة جبران مسوح سنة!

 

ولكن الزعيم، كما قلنا سابقًا، أراد دائمًا رفع نفسية جبران مسوح، كما أراد دائمًا رفع نفسية جميع الذين يتقرّبون إليه فصفح عنه.

 

وقبل الكتاب الأخير الـمذكور آنفًا بنحو شهر كان جبران مسوح في بوينس أيرس لأشغال تـجارية، على عادته حين كان مستخدمًا في محل ابنه أمين. وكان ينتهز الفرصة بعد الفراغ من أعماله التجارية ليتصل بالزعيم ويكتب مقالات في النهضة القومية يعرضها على الزعيم لينقحها وينشرها في الزوبعة. فأصابه ذات يوم عارض ألم ألزمه الفراش فعاده الزعيم. فقال لهجبران مسوح: «إن مرضي قد عاودني ويجب أن أرجع إلى توكومان وسأسافرفي أول قطار».

 

فأجابه الزعيم مشيرًا عليه بفعل ما يراه مناسبًا. ثم أخذ يسأله عن نوع مرضه فكان يجيب أجوبة عامة مبهمة. والزعيم دقيق الشعور ويعلم دقة هذه الـمواقف فكان يتجنّب زيادة السؤال، ولكنّ امتقاع لون جبران مسوح جعله يقلق على حياته وصحته فأطال السهر عنده ولـما قارب انتصاف الليل أخذ الزعيم يهمّ بالإنصراف إلى منزله، ولكنه كلما فكر في حالة «رفيقه» قلق وتأخّر وأعاد السؤال على مسوح عن علته ومبلغ خطرها، إلى أن ألحّ أخيرًا وقال له إنّه يريد معرفة علّته ليرى ماذا يقدر أن يفعل من أجله، وليرى هل يوافق ذهابه إلى توكومان البعيدة وهو في هذه الـحالة. فحينئذٍ قال مسوح «أصابني نزيف داخلي كان يصيبني أحيانًا”». فسأله الزعيم:«ما علّة النزيف؟» فقال: «يـمكن أن يكون قرحة أو هو من وجود حصى في الـمرارة». فقال له الزعيم: «إن من يكون في مثل حالتك في الداخلية يطلب القدوم إلى بوينس آیرس حيث الـمستشفيات والـمصحّات الـحديثة وأنت تريد أن تفعل العكس، فإني أمنعك من الذهاب إلى أن نرى في علتك ونعرف أن لا خطر عليك». ثم أخذ الزعيم يلومه لعدم البوح بـمرضه قبل هذه الساعة الـمتأخّرة وقال له«غدًا صباحًا آتي إليك وسنرى».

 

عندما وصل الزعيم إلى بيته أطلع زوجته على حالة جبران مسوح، وزوجة الزعيم لها خبرة بالشؤون الصحية والطبية لأنها متخرجة في فنّ التمريض، وكانت لا تزال تتابع العمل بصفة معاونة في التحاليل الكيماوية في أحد مستشفيات الـمدينة (وذلك لكي لا تكلّف الـحزب السوري القومي الاجتماعي وخصوصًا فرع الأرجنتين الـمريض النفسية القيام بنفقة بيت الزعيم)، وتبادل معها الرأي وتقرّر بينهما إبقاء جبران مسوح في بوينس آيرس، نظرًا لـخطورة حالته واستدعاء أحد أمهر الأطباء لفحصه. وفي اليوم التالي خاطبت السيدة جولييت، قرينة الزعيم، الـجراح الـمعروف بليافاني وسألته عيادة جبران مسوح وفحصه بدقة «لأنه شخص عزيز علينا». فاهتم الدكتور بليافاني للأمر وحالـما فرغ من ساعات عمله الـمعينة في الصباح ذهب إلى حيث يقيم جبران مسوح ووافاه الزعيم إلى هناك. وبعد أن أجرى فحصًا مدققًا قال لـجبران مسوح أن لا خطر عليه مستعجل ولكن حالته تستدعي العناية. ثم خرج وشيّعه الزعيم إلى الـخارج فقال الطبيب للزعيم إنّه يؤكد وجود قرحة في الاثني عشري، وأن سفر الـمريض في هذه الـحالة خطر عليه وأنه يشير بأخذ صور جديدة للمرارة والأمعاء لـمعرفة حالة الـحصى في الـمرارة وتعيين موضع القرحة وغير ذلك. وزاد الطبيب قائلًا إنه يرى وجوب إجراء عملية لاستئصال القرحة أولًا لأنها سبب النزيف ومصدر الخطر الـمستعجل في رأيه.

 

أقلق تقرير الطبيب الزعيم وزوجته على صحة «الرفيق القومي الغالي الـمجاهد». وأخبر الزعيم جبران مسوح أنه يجب أن يبقى الآن هنا لـمساعدته بعلاجٍ أوّلي ولإجراء الفحص اللازم. وقال الزعيم إنه إذا كان لا بدّ من إجراء عملية فقد يكون الأفضل إجراؤها الآن قبل أن يحدث شيء مفاجئ يوجب إجراءها في حالة خطرة. فأرسل جبران إلى زوجته في توكومان يخبرها بحالته ويطلب قدومها إليه. فلبّت زوجته الدعوة وقدمت وأرادا العودة إلى سحب صور الأشعة عند الاختصاصي الشهير سراليقي ولكن زوجة الزعيم قالت لهما إنها تقدر أن توفر عليهما ما يتقاضاهما الاختصاصي الـمذكور، وإنّ الأفضل عدم سحب الصور عنده في الوقت الـحاضر لئلّا يظنّ الـجراح أن جبران مسّوح متموّل ويطلب شرفيّة عملية غاليًا. فاقتنع مسوح وزوجته بصواب نظرة زوجة الزعيم وقرّرا العمل برأيها. وكانت قرينة الزعيم تعرف الدكتور صموئيل بوش الـمشهور ومصحّه العصري الـممتاز وكانت لها منزلة وكلمة في ذاك الـمصحّ، فقررت أخذ العليل إليه حيث يـمكن أخذ صورة بالأشعة له، واستشارت الدكتور بوش وغيره من أطباء الـمصحّ.

 

حسب الإرشادات الطبية بعد الـمساعدة التي قدمها الدكتور بليافاني تهيّأ جبران مسوح وأتى الزعيم وقرينته في وقت معيّن وأخذا جبران مسوح وبصحبته زوجته إلى مصحّ الدكتور بوش. وهناك جرى اهتمام كبير بـمطاليب قرينة الزعيم، والـمصوّر الاختصاصي في الـمصحّ أجرى بسرعة كلّ ما يلزم، وأخذت الصور وأكد الاختصاصي وجود الـحصى في الـمرارة ووجود القرحة، ولكنه ارتأى إجراء عملية تنظيف الـمرارة من الـحصى واستئصالها أولًا ومعالـجة القرحة فيما بعد بالأدوية لتشفى. وعرض رأي الاختصاصي بالأشعة على الزعيم فقال بوجوب التروّي ودرس الـمسألة لـمعرفة ما هو الأفضل إجراؤه، هل عملية القرحة أولًا أم عملية الـمرارة أم عملية مزدوجة: القرحة وحصى الـمرارة؟

 

وكان الشيء الأساسي الضروري للتقرير هو استعداد جبران مسوح لإجراء عملية. وظهر أنّ جبران مسوح كان يخاف العملية ويتجنّبها فقال إنه سيعمل بـمشورة الدكتور بليافاني التمهيدية فيسافر إلى توكومان ويعمل على تقوية جسده استعدادًا للعملية، وحين يكمل ذلك يختار الوقت الـمناسب ويأتي إلى بوينس آيرس لإجراء العملية هناك برأي أطباء هذه الـمدينة. فلم يشأ الزعيم الإلـحاح على جبران مسوح في أمر خطر كأمر العملية، فاكتفى وقرينته بالـمساعدة التي أدّياها في هذا الظرف، وبالتأكيد لـجبران مسوح وزوجته اهتمامهما بصحة «الرفيق العزيز جبران» وعدم ادّخار وسع في سبيل إرجاع صحّته ونشاطه إليه. ولـما رأى جبران احترام الأطباء وموظّفي مصحّ الدكتور بوش لقرينة الزعيم وسمع كلام الاختصاصيّ بالأشعة الذي قال له حين سأله عن العملية في الـمصحّ وأكلافها «اعتمد على السيدة التي أتت بك إلى هنا فإنّ لها منزلة في هذا الـمصحّ وكلامها محترم جدًّا عند الدكتور بوش». لـما رأى جبران مسوح كلّ ذلك قال إنه سيذهب للارتياح في توكومان ومتى قرر العملية فإنه سيفضّل مصحّ بوش ويعتمد، في كلّ حال، على إشارة قرينة الزعيم.

 

وغادر جبران مسوح بوينس آيرس ومعه زوجته وكتبت الزوبعة كلمة عن انحراف صحّته واحتمال إجراء عملية له. ووصلت كلمة الزوبعة إلى جميع أوساط القوميين فتلقّوها بالروحية عينها التي كان الزعيم قدوتهم فيها، وبدأت الرسائل والبرقيات تتوارد للسؤال عن صحة «الرفيق الغيور جبران مسوح». ولـما وصل جبران مسوح إلى توكومان أرسل كتابّا مؤرّخًا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1941 قال في بدئه هذه الـجملة «وصلنا بخير وقال في ختامه: «شكري عظيم جدًا للذين ودّعونا في الـمحطة. أمّا عناية السيدة جوليت واهتمامها بي فماذا أقول عنه. غاية ما يستطيع الوصول إليه قلمي هو قولي إنها جديرة بأن تكون زوجة أنطون سعاده». وفي كتابٍ تالٍ منه مؤرّخ في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1941 يقول «وصلتني من بعض الرفاق رسائل وتلغرافات يسألون عن صحّتي والـحقيقة أن هذا الشعور يسرّني من الوجهة القومية لأنه دليل على التضامن والاتّحاد وهذا ما لا يعرفه اللّاقوميون ولن يعرفوه».

 

وظلّ الزعيم يسأل عن صحته، فأجاب جبران مسّوح في كتاب منه مؤرّخ في 2 نوفمبر / تشرين الثاني 1941 يقول: «من جهة صحتي فإني أتوقّى كلّ الوقاية وهذا أفادني جدًا، إذ لا أشعر بشيء أبدًا، وأظنّ أني الآن مثلي قبل الـحمامات (يعني الـحمامات الـمعدنية الـحارة التي هاجت القرحة). أحيانًا يخطر لي أن أقنع بذلك وأترك مسألة العملية من باب «عصفور باليد إلخ)».

 

وهذه العبارة الأخيرة تدلّ على خوفه من العملية وتردّده في إجرائها.

 

                                                                                     للبحث استئناف

 


[1] رواية للأديب الـمصريّ مصطفى لطفي الـمنفلوطي.

 

[2] عنوان الردّ: La Vot Clara dé Saadeh ReFUTA  Aserciones del Mariscal Smuts – LaDeclaracion BALFOUR. وقد تُرجم إلى العربية أيضًا : صوت سعاده الـجليّ يدحض مزاعم الـمارشال سمطس – تصريح بلفور. انظر «الأعمال الكاملة»، ج 4، ص. 304 – 312.

 

[3] سمسط : Jan Christiaan Smuts (1870 – 1950) مستعمر من أصل هولنديّ،  أصبح قائدًا عسكرًّا ثم رئيسًا لوزراء «جنوب إفريقية» خلال الفترة من عام 1919 حتى عام 1924، ثم من عام 1939 حتى عام 1948.

 

[4] الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 32، 15/11/1941.

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro