مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
مذكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى العصبة الأممية سنة 1936
 
 
 
الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 53، 1/10/1942 - العدد 56، 16/11/1942
 

 

بعد الاعتقالات الأولى التي تعرّض لها الـحزب السوري القومي الاجتماعي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1935 وهو لا يزال حزباً سرياً، وقبض فيها على الزعيم وجميع أعضاء مجلس العمد الأُوَل وبعض مأموري منفذية بيروت وبعض الـموظفين الآخرين، وكان من ورائها الـحكم على الزعيم بالسجن ستة أشهر، وعلى أعضاء مجلس العمد أحكاماً تتراوح بين شهر ونصف ونصف شهر مع وقف التنفيذ، عدا عن الغرامات الـمالية على الزعيم ومعاونيه، عادت الاعتقالات مرة ثانية ولـمّا يـمضِ على خروج الزعيم من سجنه الأول سوى أربعين يوماً تقريباً. وكانت الاعتقالات صادرة هذه الـمرّة من الـحكومة اللبنانية التي كان إميل إده رئيس جمهوريتها وأيوب ثابت «أمين سر الدولة» فيها. وكان إميل إده الـمصاب بجنون العظمة وهوس الطغيان يريد أن يبرهن للفرنسيين، في أول عهد عمالته من قبلهم، أنه يقدر أن يُخضع الشعب اللبناني بالسياط و العقارب ويقمع كل حركة ترمي إلى تغيير الـحالة السيئة التي يئن منها الشعب في لبنان، كما في الشام وكما في فلسطين. ويقال إنه كان قد تعهد لسادته أن يقضي على الـحركة السورية القومية الاجتماعية القضاء الـمبرم. يؤيد هذا القول أنّ هذه الاعتقالات الثانية كانت مصحوبة بـموجة اضطهاد قليلة النظر.

 

ابتدأت هذه الاعتقالات في أواسط شهر يونيو/حزيران 1936 بشكل تـحقيق في قضية ضرب الصحافي عارف الغريب صاحب جريدة الـمساء التي كانت تصدر في بيروت في بيته. ثم تطورت هذه القضية وامتدت إلى الـحزب السوري القومي الاجتماعي كله بسبب اكتشاف نسخة من «مرسوم الطوارىء» مع الـمدعو جورج حداد الذي طُرد فيما بعد من الـحزب على أثر اكتشاف دوائر استخباراته وثيقة تُثبت خيانة الـمطرود الـمذكور وعمله لـمصلحة الـجاسوسية الفرنسية. والـمرسوم الـمتقدم ذكره يشتمل على تدبير وإعلان العصيان الـمدني في جميع منطقة الانتداب الفرنسي إذا لم تكفّ الـحكومة اللبنانية عن الاضطهادات التي أخذت توجهها إلى الـحزب السوري القومي الاجتماعي.

 

أدى وقوع هذا الـمرسوم السري في أيدي رجال التحري إلى فتح تـحقيق جديد في قضية الـحزب كله. وهذا كان غرض حملة الاضطهاد في الصحف وفي القرى والـمدن بواسطة رجال التحري والـجندرمة اللبنانية والشرطة وفي دور القضاء. فأخذ رجال التحري ينبثون ويتعقبون الزعيم في حركاته وسكناته ويتحينون الفرص للقبض عليه. وأخيراً بلغ مدير الشرطة أنّ الزعيم في منزله في رأس بيروت، وأنه يـمكن القبض عليه في الـحال. فأمر مدير الشرطة أسعد البستاني بتوجيه قوة من رجال التحري لتأتي بالزعيم وتسلّمه إلى القضاء. فتوجهت حملة مؤلفة من نحو 15 رجلاً من رجال التحري بقيادة الكومسيار فريد شهاب (الـمير) وأحاط معظمها بـمنزل الزعيم وخمسة منها، على رأسهم الكومسيار نفسه، طرقوا باب الـمنزل فلما فُتح لهم دخلوا بدون استئذان. وكان منزل الزعيم محروساً بستة من رجال الـحرس يبيتون في داخله. فلما اقتحم رجال التحري الـمدخل صفَّر حارس الباب فخرج الـحرس الـموجودون من غرفتهم الأمامية واعترضوا رجال التحري الذين كانوا قد صاروا في البهو. فعلت ضجة فخرج الزعيم من غرفته وإذا الـجدل قائم بين رجال الـحرس ورجال التحري، وقد أبدى الشر ناجذه. فسأل الزعيم ما الـخبر فأجابه أحد الـحرس «التحرّي دخلوا بدون استئذان ونحن نحاول إقناعهم بوجوب العودة إلى الـخارج». فسأل الزعيم رجال التحري «من رئيسكم؟» فتقدم الكومسيار وقال إنه مأمور بطلب الزعيم إلى دار القضاء، وإنّ «الشبان» يحاولون اعتراض مهمته، وإنّ التحرّي يريدون إفهامهم أن لا يعترضوهم. فأجاب الزعيم ــــ «لا أحد غيري يأمر في هذا البيت، وهؤلاء الشبان لا يعرفون سلطة غير سلطتي، وإني أنصح لكم بالرجوع إلى الـخارج، وأن لا تدخلوا منزلي من غير استئذان وإلا فأنتم الـمسؤولون عن عواقب عملكم». أدرك رجال التحري أنّ الـموقف حرج جداً، وأنّ الـخطر أصبح أدنى من قاب قوسين. وكان كل واحد من رجال الـحرس قد وضع يده على مسدسه وكلام الزعيم حاسم لا يحتمل أخذاً ورداً. فأسقط في أيديهم ولم يرَ رئيسهم بداً من الإذعان فأمر رجاله بالعودة فخرجوا وبقوا في الشارع.

 

في هذه الأثناء جرت مخابرة مع بعض مراكز الـحزب فجاءت قوة حزبية مسلحة بالـمسدسات ونزلت في منزل قريب من منزل الزعيم. وأخذت قوات حزبية أخرى تتحرك، وجاء قائد القوة الـحزبية يرجو الزعيم باسم الـجنود أن لا يسمح بوضع الـحكومة يدها عليه. فأمر الزعيم الضابط بالعودة إلى موقفه وأن يبلّغ الـمتطوعين سلامه وأمره بالـمحافظة على النظام تـحت جميع الظروف. بعد ذلك أرسل الزعيم فاستدعى أعضاء مجلس العمد فوفدوا عليه، وفي مقدمتهم رئيس مجلس العمد، نعمة ثابت، فتداول الزعيم معهم في الأمر، وبعد درس الـحالة قرر الزعيم التوجه إلى دار القضاء ليضع نفسه تـحت التحقيق ويحول دون حصول اصطدامات دامية تؤول إلى تدخّل القوات الفرنسية، والـحزب لـمّا يستعدّ لهذه الـحرب الدامية. وعلى الأثر وضع الزعيم الـمراسيم بالتدابير الإدارية التي يقتضيها الـموقف وكيفية سير الأمور أثناء غياب الزعيم عن الإدارة وسلّمها إلى الـمختصين. ثم أرسل فبلّغ الـحرس الإذن لكومسيار التحري بالدخول وحده فدخل الـمنزل إلى البهو، وبعد أن صرف الزعيم رئيس مجلس العمد وأعضاء الـمجلس أَذِن للكومسيار بالدخول عليه فدخل فلاطفه الزعيم وشرب معه فنجان قهوة ثم نهض ودعا الكومسيار لـمرافقته إلى دار القضاء. فركب الزعيم سيارة يرافقه الكومسيار، وركب التحري سيارتهم، وركب عدد من القومييين سيارة أحد الرفقاء، وتوجه الـجميع نحو دار القضاء. فأدخل الزعيم على قاضي التحقيق الأول حسن قبلان الذي أخذ إفادته الأولى عن «مرسوم الطوارىء» واستمرار الـحزب السوري القومي الاجتماعي رغم صدور قرار الـحكومة اللبنانية بحلّه.

 

بعد فراغ قاضي التحقيق من أخذ إفادة الزعيم، دخل الـمدعي العام الـمركزي وجيه الـخوري ووجّه إلى الزعيم كلاماً خارجاً عن الأصول فردّ عليه الزعيم بلهجة شديدة. فاضطرب الـمدعي العام وفاه بقول فضح نيّات الـحكومة اللبنانية وهو ــــ «إنّ الـحكومة اللبنانية قد قررت القضاء على الـحزب السوري القومي فإذا أبدى الـحزب أية مقاومة عمدت الـحكومة إلى إجراءات فاصلة. ولا تتأخر الـحكومة، لتحقيق غايتها، عن أن تـحملك على كتابة ورقة تعترف فيها بأنك انتحرت ثم تقتلك». فأجابه الزعيم: «إنك تتكلم بلهجة الـمجرمين وليس بلهجة من هو في مركز الادّعاء العام. وإني أكلفك سؤال كومسيار التحري أتـمكّن هو من الـمجيء بي بالقوة أم أتيت بـمطلق اختياري؟ وأبلغك لتبلّغ حكومتك أنها إذا أسقطت شعرة واحدة من رأسي بدون موافقتي واختياري فلا يبقى من أفرادها وعائلات أفرادها من يخبّر بخبر».

 

يتضح مـما تقدم نوع الـحالة السائدة في صدد اعتقال الزعيم الـمرّة الثانية واضطهاد الـحزب السوري القومي الاجتماعي من قِبل الـحكومة اللبنانية وبإيعاز الـمفوضية الفرنسية. وبعد القبض على الزعيم قبضت الـحكومة على بعض الرجال الـمركزيين، ولكنها لم تتمكن من القبض على الأمين نعمة ثابت الذي كان أبرز رجال الإدارة بعد الزعيم، ولا على الأمين مأمون أياس الذي كان شديد السهر على الأعمال الـحزبية، ولكنها وسّعت أعمال الاضطهاد في جميع أنحاء «الـجمهورية اللبنانية».

 

تـجاه هذه الـحالة رأى الأمين نعمة ثابت بحكم مركزه العالي في نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي وإدارته أن يضع، بالرغم من الظروف الـحرجة الـمحيطة به، مذكرة باسم الـحزب ويوجهها إلى الـجمعية الأمـمية لتكون كبيان بالأسباب الـموجبة لنشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي ووجوده، تبريراً لعمله وموقفه، وتقبيحاً للسياسة العامة الـمتّبعة في سورية وخصوصاً في صدد النهضة القومية الاجتماعية في سورية. فانصرف إلى هذا العمل في مكان أمين في بعض أنحاء جبل لبنان وآزره فيه الأمين فخري معلوف. وكان وضع الـمذكرة باللغة الإنكليزية رأساً التي يجيدها الأمين ثابت إجادة كبرى. ثم صار ترجمتها إلى العربية فظهرت عليها مسحة الترجمة التي لازمت الأصل الإنكليزي. وعلى الرغم من ملاحقات الـحكومة اللبنانية تـمكنت إدارة الـحزب من طبع هذه الـمذكرة بالإنكليزية والعربية. وأرسلت نسخاً منها إلى الـجمعية الأمـمية بواسطة الـمفوضية الفرنسية، وبعد مدة ورد جواب لـجنة الانتدابات في الـجمعية الـمذكورة فنشر في جريدة النهضة في بيروت. ولـما كانت هذه الـمذكرة وجواب العصبة الأمـمية تشكلان وثيقتين تاريخيتين ونظراً لقيمة الدروس السياسية ــــ الاقتصادية ــــ الاجتماعية الواردة في مذكرة الـحزب رأينا نقل الـمذكرة تباعاً إلى أعداد الزوبعة ونقل جواب الـجمعية الأمـمية في آخرها الذي يشهد أهمية الـمذكرة وعلو قيمتها.

 

 

نص الـمذكرة

 

(1) الـمقدمة

 

تـمرُّ على الأمـم في تاريخها فترات تنتشر فيها الفوضى وتطمو عليها موجة من اليأس تتصل حتى بنفوس الطبقة الراقية الـمخلصة من أبناء الأمة فتخمد فيها جذوة الـجهاد لرفع الأمة مـما هي فيه. وفجأة في هذه الـحالة تظهر فيها حركة جديدة تعيد كل أمل بالبعث القومي وتنقذ قواها من خطر الانحلال بفعل النقائص الاجتماعية والسياسية الـمتعددة. ومهما اختلفت هذه الـحركات، حركات البعث القومي، بعضها عن بعض من حيث الدقائق والتفاصيل، فإن هنالك قواعد أساسية عامة متماثلة في جميعها، كأن تثب الأمة في الساعة الـخطرة وثبة حاسمة جريئة تكفل لها حياة حرة راقية.

 

مثل هذا ما يحدث اليوم في سورية، فإنها بعد أن قضت سنين عديدة، إن لم نقل أجيالاً، في جهاد خائب لبلوغ حريتها الـمنشودة، تـجد اليوم ما يبرّر أملها باجتناء ثمار التضحيات الغالية الـمتكررة في النفوس والـماديات التي قدّمتها على مذبح الـحرية. نقول إنّ لهذه الآمال اليوم ما يبرّرها أكثر من أي وقت سابق بفضل الـحركة التي خلقها الـحزب السوري القومي. لنا على ذلك دليل واضح في التعليقات العديدة التي علّقتها عليه الصحافة الوطنية والأجنبية، ودليل أوضح في الـمقاومة الشديدة التي يلاقيها من السلطتين الانتدابية والـمحلية اللتين لم تهملا أية وسيلة من وسائل التضييق والاضطهاد. إنّ هذه الـمعاملة لم تثبط مطلقاً من همّتنا لأنها تدل على حيوية الـحزب فلو لم يكن للحزب قوة جبارة لـما حرّك تقريباً جميع قوى السلطتين القائمتين في هذا البلد. وبعد فلي الشرف أن أبسط في هذه الـمذكرة رأي هذا الـحزب الذي أصبح أمراً واقعاً في حياة الأمة، ليعلم العالم الأسباب الـحقيقية التي تتكاتف من أجلها السلطتان الـمنتدبة والـمحلية على تهديـمه. فإذا كان الـحزب قد حُرم حق الاعتراف الرسمي به فقد دلّت على حقيقة قوّته في الأمة الوسائل المستعملة لـحرمانه من هذا الـحق.

 

لا يتبادر إلى الأذهان أنّ القصد من هذه الـمذكرة إنـما هو رفع الاحتجاج على الـمعاملة التي يلاقيها الـحزب السوري القومي من السلطات، فإن أعضاءه قد تدربوا على فضائل الرجولة والاستعداد لتحمل مسؤوليات أعمالهم، وقد أقاموا الأدلة على هذه الـمزية في مختلف مواقفهم، ولكن القصد منها، وليكن ذلك مفهوماً من البداية، هو إعطاء شرح عام للمشاكل الـمعقدة التي تواجهها بلادنا، والتي لم يزدها نظام الانتداب مدة 14 عاماً إلا تعقيداً ورسوخاً، والتي أنشىء الـحزب بنيّة معالـجتها وإنقاذ الأمة من مخاطرها.

 

إننا، لنكون عمليين في بحثنا، نعترف بالانتداب كأمر واقع ونحمّل عصبة الأمـم مسؤولية كل النتائج غير الـمحمودة التي آل إليها تطبيق هذا النظام، على أننا إذا توسّمنا أي أمل في الأعمـال الـمبنيـة على حسن النية سنكون مستعدين لـمعاونة العصبة في حلّ مسألتنا السورية، على شرط أن نرى من جانب العصبة عطفاً فعلياً على أمانينا القومية التي صمّمنا على تـحقيقها مهما كلفنا الأمر.

 

لو كنا اليوم في السنة 1922 لبحثنا فيما إذا كان صك الانتداب يعطي الضمانات الكافية لتحقيق الانتداب الـمنصوص عليها في الـمادة 22 من دستور عصبة الأمـم، وفيما إذا لم يكن قد تعارض منذ حيثياته الأولى مع الـمادة الـمذكورة، إذ ينص صراحة على قبـول الـحكومة الفـرنسيـة نصـوص الانتداب ولم ينص على مراعاة إرادة الشعب الـمنتدب عليـه كما يفرض البند الرابع من تلك الـمادة. ولكنا نبحث أيضـاً علاقة هذا الصك بـما سبقه من معاهدات ومؤتـمرات استعمارية، كمعاهدة سايكس ــــ بيكو ومؤتـمر سان ريـمو، بشيء كثير من الريبة. غير أننا اليوم في السنة 1936 والانتداب لم يعد مجرّد نظرية جديدة في الشرع الدولي، بل قد تـجسّم في الوقائع والاختبار العملي مدة 14 عاماً.

 

إننا نرتكز على الـمادة 22 من دستور عصبة الأمم وخصوصاً حيث ينص بندها الأول ــــ «إنّ الـمستعمرات والأراضي التي سلخت، بنتيجة الـحرب الأخيرة، عن حكوماتها والتي يقطنها شعوب لـمّا تستطع الوقوف لوحدها في الظروف العصرية القاسية يطبَّق عليها مبدأ أنّ سلامة وتقدم ورقي هذه الشعوب هو وديعة مقدسة بيد الـحضارة، وأنّ تأمين القيام بـمقتضيات هذه الوديعة يجب أن يدمج في صلب هذ الميثاق». وكذلك بندها الرابع، وهو يتعلق بالانتداب من الصنف الأول الـمطبّق في بلادنا ــــ «إنّ بعض الـمجتمعات التي كانت تابعة للامبراطورية التركية قد بلغت في نشوئها مستوى يـمكننا من الآن أن نعترف موقتاً بكيانها كأمـم مستقلة، ولكن تعطى لها استشارة إدارية ومساعدة من دولة منتدبة حتى تصبح قادرة على الوقوف لوحدها. إنّ إرادة هذه الـمجتمعات يجب أن يكون لها اعتبار أساسي في اختيار الدولة الـمنتدبة».

 

نقول إننا نرتكز على هذه الـمادة ونحلل في ضوئها الوقائع العملية التي أتى بها الانتداب والنتائج التي كانت لها في حياة الأمة وحالتها، ولا يهمّنا بعد ذلك أن لا يكون في صك الانتداب ما يدين بعض هذه الوقائع أو جميعها، فإن الـمادة الثانية والعشرين هي الأصل أو بالأحرى إنّ مصلحة الـحياة لأمة بأسرها وحقها بالرقي والتطور اللذين أقرّت بهما هذه الـمادة ونصّت عليهما هو الأصل، والـمفروض أنّ كل ما تفرّع عنه يجب أن يتلاءم معه، فإذا كان صك الانتداب لم يؤمّن تنفيذ روح ومبادىء الانتداب فالـمسؤول هو مجلس العصبة.

 

علينا في هذ الـمبحث أن نـميّز تمييزاً تاماً بين العوامل الـمتعددة من اجتماعية واقتصادية التي كانت تعمل قبل الانتداب، وظلت تعمل، لدرجة ما، بعد الانتداب، وبالرغم منه على تقريب الأمة السورية من الـمستوى القومي، وبين الأعمال والأساليب التي فرضها الانتداب فرضاً عن قصد وتصميم والتي تدلّ جميعها على قصد واحد، كما سنبيّن، هو ــــ مقاومة النشوء القومي لصالح الـمآرب الاستعمارية.

 

إنّ دلائل الـحياة القومية الصحيحة، ومقتضياتها اليوم، هي من الأمور الـمعروفة تـماماً، فلا فائدة من تقريرها في هذه الـمذكرة، ولذلك نتقدم فوراً إلى درس أعمال الانتداب وأثرها في تدريب الأمة وتقدمها نحو الـحياة القومية الـمستقلة، وذلك يتضمن وصفاً للحالة الاقتصادية والسياسية في سورية الناتـجة عن تطبيق نظام الانتداب مدة 14 عاماً.

 

 

وصف إجمالي للحالة الاجتماعية في سورية الـمشمولة بالانتداب الفرنسي

 

إنّ النظام السياسي الـحالي في سورية الداخلية وفي لبنان هو نتيجة الفوضى الاجتماعية والسياسية التي نشأت في عهد الإقطاع والإدارة التركية الفاسدة. إنّ الباحث الذي يعتمد في دراسته على تقارير ووثائق حكومية قد يظن أنّ في قولنا شيئاً من الـمبالغة. فهناك برلـمانات ودساتير وانتخابات، وهنالك أيضاً مدارس وجامعات تقدِّم تهذيباً عاماً، وهنالك الراديو والتلغراف والتلفون والـجرائد اليومية التي تساعد على ترقية الـمجموع وتـجديده وإيقافه على ما يجري في العالم. ولكن كل ذلك لسوء الـحظ لم يساعد على إقامة النظام السياسي على أساس قومي، الأمر الذي كان يجب أن يكون النتيجة الطبيعية لهذه الوسائل والـمستحدثات، غير أنّ هذه الـمؤثرات أدت إلى زوال العادات والتقاليد والعصبيات التي كانت تخلق مجتمعات مختلفة في الأمة الواحدة. كما أنّ الظروف الاقتصادية الصناعية الـحديثة والـمبادىء القومية الناشئة فينا بعامل تنبّه قوانا عملت على هدم الـحواجز بين أجزاء الأمة. فبدأ الـمجتمع السوري الـمتضامن الأجزاء يتبلور. ولكن هذه الإصلاحات هي من نوع التطورات الـخفية التي تقود إليها العوامل الاقتصادية الاضطرارية للحياة الـحديثة دون أن يكون للنظام السياسي أي فضل في إحداثها. والذي نحتاج إليه إنـما هو خطة صريحة مفهومة للحياة القومية الـموحدة تقوم على تفكير إصلاحي جديد.

 

إنّ عدم الاستقرار السياسي الذي تدلّ عليه الاضطرابات، والـحركات الشعبية الكثيرة وروح الاستياء العامة في البلاد، يـمكن أن يعزيا إلى أنّ النظام السياسي لم يكن يتماشى مع الـمطالب المتعددة والاحتياجات الدقيقة في الـحياة القومية الـحديثة ومع الـمستوى الثقافي في سورية، وقد زاد هذه الـحالة حراجة، ولا شك، الأضرار الـمحسوسة الناتـجة عن الاختلال الاقتصادي من جرّاء تقسيم البلاد إلى عدد من الـحكومات الـمنفصلة، واتّباع سياسة منظمة لاستثمار موارد البلاد استثماراً معجلاً بواسطة الرأسمال الأجنبي بقطع النظر عما يحدثه ذلك من عواقب على الـمصالح القومية. إنّ استمرار هذه الإجراءات يقود البلاد حتماً إلى الإفلاس القومي، ويؤدي في النهاية إلى الـخراب السياسي والاجتماعي. إنّ هذه العوارض تظهر جلية للمراقب العادي، ونحن نخشى، إذا درس الأمر درساً دقيقاً، أن نرى أنّ الـمرض قد بلغ منذ الآن حالة صعبة، على أنه بالنظر إلى الدافع الـحالي لوضع هذه الـمذكرة الـمتعلقة بالـمشاكل السياسية الـملحّة نعالج الناحية الاقتصادية من المشاكل القومية بكثير من التحفظ هذه الـمرّة.

 

(2) الـحالة الاقتصادية

 

كثيراً ما تعزى النقائص في النظام الاقتصادي إلى الأزمة العالـمية العامة. إنّ هذا القول لا يـمثّل كل الـحقيقة وقد كان تكراره وسيلة لتهدئة الشعب الـمتذمر بإلقاء اللوم على القضاء والقدر، غير أنّ من يحلل الأمور تـحليلاً دقيقاً يرى أنّ الاضطراب الناشىء هو نتيجة محتمة للنظام الاستعماري الانتهازي الذي يقسّم البلاد إلى عدة وحدات سياسية، تزيد في مصاريف الإدارة ويتغاضى عن إحداث تشريع جديد يشجّع وينظّم ويصون الـمشاريع الـحيوية الـمفيدة، ويتلافى نقائص التشريع الـحالي. سنعتمد في بحثنا على الـمراجع العلمية البحتة حتى يكون انتقادنا وضعياً ما أمكن وحتى لا نقع في أخطاء التغرض.

ـ

ـــ نظام الضرائب ــــ

 

لقد أُصدر منذ مدة وجيزة بحث قيّم عن الـحالة الاقتصادية، داخلاً وساحلاً، جُمع في كتاب بعنوان النظام الاقتصادي في سورية وقف عليه وجمعه السيد سعيد حماده أستاذ علم الاقتصاد في جامعة بيروت الأميركانية. في هذا الكتاب فصل عن نظام الضرائب تظهر منه بجلاء النتائج الـمضرة التي خلقها وجود عدة حكومات سياسية في سورية. وفيما يلي بعض الـمقاطع من نقد كاتب هذا الفصل لنظام الضرائب ــــ «لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظام الضرائب السوري هو ليس نظاماً واحداً متجانساً، ولكن هنالك عدة أنظمة مجموعة معاً، وكما ذكرنا سابقاً هنالك أربعة أنظمة من التشريع الـمالي وخمس موازنات مختلفة في الأراضي الواقعة تـحت الانتداب الإفرنسي، ومع أنّ هذه الأنظمة متشابهة في عدة وجوه فإن اختلافها يجعل الكلام عن الـحالة في البلاد السورية عاماً بحكم الضرورة وناقصاً.. هذا الاختلاف هو في ذاته غير مرغوب فيه ويـمكننا أن نوجه انتقادنا الأول على النظام السوري إلى هذه الناحية فيه، لأنه مهما كانت الأسباب الداعية إلى تقسيم الانتداب الإفرنسي إلى عدة حكومات، فإن الأضرار الناتجة من الناحية الـمالية جسيمة.

 

«كثيراً ما يُحكم على فعالية الإدارة الـحكومية من نـجاحها في جباية الضرائب الـمباشرة. إنّ الـجدول الآتي يرينا عدم الفعالية الـمدهش في الـجمهورية اللبنانية حيث نسبة الـمال الـمجموع للمال الـمطلوب قليلة جداً وإليك البيان.

 

1933

 

الضرائب المقررة

 والرسوم المماثلة

الاعتمادات

الرسوم

المستحقة

المبالغ

المنزلة

المبالغ

المحصلة

البقايا قيد

التحصيل

1ــ ضريبة الأملاك المبنية

435.000

1178.000

55.000

277.000

847.000

2 ــ ضريبة الأملاك غير المبنية

215.000

993.000

23.000

225.000

744.000

3 ــ التمتع

327.000

700.000

111.000

231.000

358.000

4 ــ الأغنام

120.000

205.000

5.000

104.000

92.000

5 ــ الطرق

100.000

552.000

52.000

75.000

443.000

6 ــ الأعشار

130.000

366.000

5.000

29.000

33.000

المجموع

1328.000

4009.000

251.000

948.000

2821.000

 

 

 

 

1934

 

الضرائب المقررة

 والرسوم المماثلة

الاعتمادات

الرسوم

المستحقة

المبالغ

المنزلة

المبالغ

المحصلة

البقايا قيد

التحصيل

1ــ ضريبة الأملاك المبنية

425.000

1141.000

27.000

353.000

1051.000

2 ــ الأراضي الموحدة

366.000

1526.000

16.000

404.000

1106.000

3 ــ التمتع

320.000

737.000

42.000

230.000

466.000

4 ــ الأغنام

120.000

216.000

3.000

120.000

93.000

5 ــ الطرق

100.000

711.000

1.000

91.000

619.000

المجموع

1326.000

4653.000

98.000

1291.000

3335.000

 

 

فيكون نسبة الـمحصّل إلى الـمال الـمستحق لعام 1933، 23.6 في الـمئة ويكون نسبة الـمحصّل إلى الـمال الـمستحق لعام 1934، 26.2 في الـمئة.

 

«وبالطبع لا يسعنا إلا أن نتساءل عن سبب هذا النقص في الـمجموع من أموال الضرائب الـمباشرة. لذلك ثلاثة أسباب:

 

1 ــــ «تـملّص زعماء الإقطاع والتجار الأغنياء ورجال السياسة النافذين وكل من يلوذ بهؤلاء من الـمحاسيب من كل ما يتوجب عليهم أو بعضه.

 

2 ــــ «تـجمّع البواقي بصورة تـجعل التحصيل أمراً محالاً.

 

3 ــــ «فساد أساليب التحصيل.

 

«إنّ هذه الـحالة ليست مجهولة مطلقاً وقد يعتبرها الناس القاعدة لا الشاذ، فالـمجلس النيابي نفسه طلب من مدير الـمالية لائحة بأسماء الذين يتملصون من الدفع، وقد وعد مدير الـمالية بتقديم هذه اللائحة وأكد أنها ستكون طويلة جداً، غير أننا لا نعلم إذا كانت هذه اللائحة قد قُدِّمت لأنه لم يُنشر شيء عن ذلك.

 

«هنالك قانون مرعي الإجراء ينصّ على أنّ الضرائب الـمتأخرة تـحذف بعد خمس سنين، وكذلك لا بدّ من الـملاحظة أنه عند تقرير الضرائب يتمكن الأغنياء النافذون من تقليل الضرائب على أنفسهم بواسطة نفوذهم، وفضلاً عن كل هذه النقائص في فرض وجباية الضرائب، الـمباشرة نرى أنّ عدم العدل في توزيع الضرائب أمر يحتاج إلى عناية خاصة. ولنتمكن من الـحكم على مقدار العدالة في نظام الضرائب السوري علينا أن نقرر أولاً العلاقة بين توزيع الضرائب وتوزيع الـمداخيل. إنّ أنظمة الضرائب تقسم من هذه الـجهة إلى ثلاثة أنواع:

 

«أولها تزيد فيه نسبة الضريبة مع زيادة نسبة الدخل. ثانيها تتناسب فيه الضريبة مع الدخل. وثالثها تقلّ فيه نسبة الضريبة مع زيادة الدخل... سنبحث باختصار الأنظمة السورية الـمختلفة للضرائب لنرى إلى أي من الأنواع الثلاثة الـمذكورة يـمكننا أن ننسبها.

 

«لو أخذنا أولاً الضرائب الـمباشرة لرأينا أن ليس فيها ما تزيد فيه نسبة الضرائب مع زيادة الدخل، ولذلك يبدو لنا لأول وهلة أنّ الضريبة متناسبة دائماً مع الدخل، وليس هذا في الواقع صحيحاً فقد رأينا كيف أنّ نظام الأعشار يحمّل القرى الصغيرة التي يـملكها الفلاحون تكاليف أكثر من تلك التي يـملكها الإقطاعيون، أما فيما يتعلق بـ ويركو الأرض وضريبة الـمسقفات فإن النقص حاصل من كون تقرير قيمة الأملاك حصل من مدة طويلة سنة 1887 لضريبة الأراضي، وسنة 1910 لضريبة الـمسقفات في حكومة الشام، وسنة 1922 في لبنان. منذ ذلك الوقت تغيّرت قيمة الـممتلكات كثيراً خصوصاً في الـمدن حيث التغيّر كان تغيّر زيادة فاحشة. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ هذه الضريبة قد أصبحت من النوع الثالث حيث تقلّ نسبة الضريبة مع زيادة الدخل، لأن الأراضي الكبيرة القيمة التي تفرض عليها الضرائب على أساس قيمة أقل كثيراً هي تلك الـموجودة بـملكية أناس أغنياء.

 

«وكذلك فإن قاعدة ضريبة التمتع هي لـحدٍّ ما من الصنف الثالث، فالضريبة تفرض على إيجار الـمحل حيث يجري العمل، ولكن لا يوجد نسبة معيّنة بين بدل أجار الـمكتب أو الـمحل مثلاً وبين أرباح التاجر والطبيب، وبالعكس فإن الاتـجاه الغالب هو أنّ مدخول الإنسان يزيد بنسبة أعلى بكثير من نسبة زيادة الأجار لـمحل العمل، وهكذا فإن كان الأجار الذي يدفعه تاجر يربح ألف ليرة سورية في السنة هو مائتا ليرة سورية فليس من الـمرجّح أن يدفع التاجر الذي مدخوله عشر آلاف ليرة سورية أجاراً لـمحله مبلغ ألفي ليرة سورية بل أقل، زد على ذلك أنّ هنالك خاصية تـجعل ضريبة التمتع من الصنف الثالث وذلك بعدم فرض الضريبة على الأموال الـموظفة، وبالطبع فإن توظيف الأموال يختص بالطبقة الفقيرة.

 

«أما ضريبة بدل الطريق فهي من الصنف الثالث لدرجة عالية جداً. إنّ كل إنسان يدفع ذات الضريبة بقطع النظر عن دخله». (عن كتاب التنظيم الاقتصادي صفحة 398، 399).

 

لا نشك مطلقاً بأن السلطة الانتدابية تدرك تـماماً نقائص نظام الانتداب ونظام الأراضي والـحاجة الـماسّة إلى الإصلاح، ولكن خوفها من إثارة العناصر ذات النفوذ بإحداث هذه الإصلاحات ومن خلق مشاكل جديدة للانتداب يجعلها تفضل تضحية مصالح الشعب إكراماً لتضامنها الطبيعي مع بقايا الإقطاع.

 

الأضرار الاقتصادية الناتـجة عن التجزئة

 

هنالك ناحية أخرى للتقسيم مضرة تظهر بوضوح في زيادة الـمصاريف التي تقتضيها إدارة الـحكومات الـمنفصلة. وإننا نورد هنا مقطعاً من مقال ظهر في جريدة التايـمز الإنكليزية في أبريل/نيسان 1932 بعنوان «حكومات الشرق الإفرنسي القومية والوحدة» وقد عالج الكاتب هذا الـموضوع بإخلاص ودقة نظر تـحت عنوان ثانوي هو ــــ «نتائج التقسيم» فقال: «.... زد على ذلك أنّ التقسيم يزيد نفقات الإدارة. إنّ أحد أسباب الاستياء الرئيسية في سورية هو الـمكوس الباهظة التي تفرضها الـحكومة لتتمكن من القيام بـمصاريف الـجيوش والـموظفين الفرنسيين. حتى في لبنان نفسه، حيث أسباب الانفصال معقولة أكثر منها في أي مقاطعة أخرى، يوجد شعور متزايد بالأضرار الناتـجة عن التجزئة، وقد يكون الـمارونيون هم الفئة الوحيدة من الشعب التي ما تزال مجمعة على تأييد الانفصال (إذا صح هذا القول سنة 1932 فهو لا يصح اليوم) ذلك لأن الكيان الـمستقل هو من تقاليدهم ولأنهم يعتقدون أنّ هنالك مخاطر تتهددهم إذا أصبحوا أقلية في حكومة محمدية. أما بقية الـمسيحين فليس عندهم كل هذا التخوف، ولكن تراهم يدللون على الصعوبات التي يلقيها النظام الـحالي على البلاد وعلى الفوائد التي يجنيها الشاطىء إذا زادت صلاته مع الداخل وعلى الوفر الذي يحصل في نفقات الإدارة إذا توحدت البلاد». لقد كُتب هذا الـمقال منذ أربع سنوات ونحن نرى اليوم كيف تثبت الـحوادث ما جاء فيه.

 

ـ

ـــ نظام الأراضي ــــ

 

إنّ الواجب الأول لـحكومة مصلحة مسؤولة في بلاد زراعية في الدرجة الأولى كسورية، هو إصلاح نظام الأراضي بواسطة التشريع ليحوّل النظام من شكله الإقطاعي إلى شكل قومي وإدخال الأساليب العلمية في الزراعة.

 

إنّ نظام الأراضي الـحالي فاسد للغاية، فهو يتميز بأملاك كبيرة يـملكها زعماء نصف إقطاعيين، وبنظام استعمال الأراضي يُعرف بنظام الـمزراعة، وهو «بقية من العهد الإقطاعي ويعود إلى القرون الوسطى» كما يصفه كتاب التنظيم الاقتصادي. إنّ نقائص هذا النظام تلخّص بالنقاط الآتية:

 

1 ــــ إنّ أملاك الإقطاعيين واسعة جداً أكثر كثيراً مـما يحتاج هؤلاء لـمعاشهم ولذلك يتركون قسماً كبيراً من أرضهم بدون زراعة.

 

2 ــــ إنّ الفلاحين الـمسـتأجرين أو الـمزارعيـن لا يجـدون ما يدفعهم للإنفاق على الأرض من مالهم وعملهم، وذلك لسببين: أولاً، لأن الـملّاك قد لا يسلّمهم الأرض في السنـة التالية لأن التحسينات التي تكون قد حدثت في الأرض تـجـلب له أجار أفضل. ثانياً إنّ الـملّاك يستفـيد من التحسينات التي يحدثها الـمزارع، بينما الـمعقول أن يستفيد منها الذي بذل الـمال أو العمل وحده.

 

3 ــــ إنّ الـخطر الذي يهدد الـمزارع دائماً وذلك ــــ صرفه بعد وقت الـحصاد يجعله يحاول إجهاد الأرض باستخراج أعظم نتيجة معجلة منها، ونتيجة ذلك نضوب خصب الأرض وقلة إنتاجها.

 

ـ

ـــ التشريع الاقتصادي ــــ

 

نرى في البلدان الراقية أنّ الظروف الاقتصادية والصناعية الـحديثة قد أدت إلى تشريع جديد ينظم التشابك الـمتزايد في الشؤون الاقتصادية ويضبط مسألة تصادم الـمصالح التي تزداد خطورة في العصر الـحديث على أساس عادل يضمن للمجتمع شكلاً راقياً من العدل الاجتماعي. وتُدعم هذه الـخطة عادة بتشريع يشجع الـمشاريع الـمفيدة ذات الأهمية الـحيوية للبلاد، وبإصلاح القوانين التي لا تتفق مع مصالح الأمة بحسب مقتضيات الاقتصاد القومي الـحديث.

 

أما في سورية فإن التشريع في الاقتصاد القومي لم يحقق شيئاً مـما تقتضيه ظروف الاقتصاد الـحديثة، فضلاً عن أنه في كثير من الـحالات معدوم الوجود. يقول السيد سعيد حماده في كتابه النظام الاقتصادي في سورية: «إنّ حالة العمال قد أدت إلى شيء من الاضطراب في الطبقة العاملة»، وبعد أن يورد عدة حوادث إضراب قام بها العمال يتابع حديثه فيقول: «لم يكن هناك نقابات للعمال تدير أمور الإضراب لأن مثل هذه الـمؤسسات لا توجد في سورية. فقد كان الإضراب يبتدىء من تلقاء ذاته مبرهناً على قوة الروح التعاونية بين العمال. لقد أظهرت بعض الفئات العاملة رغبتها مراراً في التنظيم، ولكن الـحواجز الرسمية كانت تـحول دائماً دون نـجاح هذه الـمحاولات، فالسلطات الـحكومية، وخصوصاً حكومة لبنان، قد برهنت على أنها تعاكس بصلابة مؤسسات العمال إما بحلّ ما وجد منها عند أقل إخلال وإما برفض إعطاء جوازات لـمؤسسات جديدة».

 

إنّ التقدم الاقتصادي في الوقت الـحاضر يجب أن يُراقب بدقة بسبب الـمشاكل الاقتصادية والاجتماعـية العديدة التي تنشأ عنه، وسيحـدث عند اشتـداد الـحركة في الـمسـتـقـبل نتائج بعيدة الأثر في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. إنّ الدرس العلمي والضبط الـمنظم للحالة الصناعية هو الطريقة الوحيدة التي تضمن الصناعة بأقل ما يـمكن من التلف في الـموارد الاقتصادية والتصادم الاجتماعي والاضطراب في الطبقات العاملة في كل البلاد.

ـ

ـــ النظام النقدي ــــ

 

ها نحن نأتي إلى انتقاد من أهم الانتقادات التي يـمكن توجيهها للانتداب، وذلك يتعلق بفرض نظام نقدي على قاعدة الفرنك. وفي هذا الصدد نرجع إلى كـتاب الأستاذ سعيد حماده حول هذا الـموضوع وعنوانه النظام النقدي والصيرفي في سورية.

 

يقول الكاتب في معرض بحث وضع النظام النقدي على قاعدة الفرنك: «... لم يكن من صالح سورية إحداث النقد الـمالي على أساس عملة خارجية كانت دائماً معرّضة لتقلبات عظيمة، إنّ مصلحة سورية تقتضي نقداً ثابتاً، وقد كان من الـممكن الرجوع إلى أساس الذهب لوجود كمية كبيرة من هذا الـمعدن في البلاد، ولكن مصلحة سورية لم تتفق مع مصلحة السلطة الانتدابية.

 

«إنّ القاعدة على أساس الفرنك تظل ثابتة ما دامت الظروف في فرنسة حيث يحفظ الاحتياطي عادية، ولكن ليس هنالك ما يكفل أنّ الـحالة ستظل كذلك. يـمكن لفرنسة أن تدخل في حرب ونقدها يـمكن أن يهبط، ويـمكنها أيضاً أن تعلن موراتوريوم أو تتحكم بالنقد الـخارجي حتى تهبط قيمـة الديون والأمانات الـمودوعة هناك ولا تقبض إلا بعاقة طويلة وتضحيات عظيمة.

 

(قد تـمت جميع هذه التقديرات الدالة على بعد نظر الـخبراء السوريين في الـمسائل الاقتصادية ومنهم بعض السوريين القوميين الاجتماعيين الـمشتركين في تأليف كتاب الأستاذ سعيد حماده كالأستاذ جورج حكيم والرفيق ألبرت بدر ــــ الزوبعة).

 

لقد كان اختبارنا الأخير مع قاعدة الفرنك مثالاً رائعاً لـما يـمكن أن يحدث في مثل هذه الأحوال، فالصعوبة الـمالية في فرنسة أنتجت هبوطاً عظيماً ونقصاً دائماً في قيمة الفرنك. وقد تعرضت الليرة السورية لكل التقلبات التي مرّ عليها النقد الفرنسي، وكان من نتيجة ذلك تأخر الـحالة الاقتصادية في البلاد فلا الشعب ولا الـحكومة الـمحلية كان لهما أي حكم على النقد.

 

كما نرى في جدول 22 (وجه 115 من كتاب النظام النقدي والصيرفي في سورية): إنّ أكثر الاحتياطي مودع فرنسة، وهذا الـحال هو تسليم قومي مطلق، فهو يجعل سورية مرتبطة بفرنسة ارتباطاً تاماً، فكما ذكرنا سابقاً إنّ أية زعزعة يـمكن أن تـحدث في فرنسة ناتـجة عن أزمة اقتصادية أو أية أزمة نقدية تـحدث في فرنسة من جراء دخول الـحكومة الفرنسية في حرب يـمكنها أن تعدم قيمة الليرة السورية، وقد أدركت لـجنة الانتدابات الدائمة هذا الـخطر وأيَّدت رأيها بأن سياسة الانتداب النقدية تؤخر استعداد الأراضي السورية للاستقلال، النتيجة التي لا يـمكن أن نتصورها بدون الاستقلال في الشؤون الـمالية والنقدية([1]) فضلاً عن أنّ الليرة السورية ليست مكفولة من قِبل الـحكومة الإفرنسية ولا من قِبل بنك فرنسة.

ـ

ـــ نظام البنوك ــــ

 

نأتي الآن إلى حقل البنوك والتسليف، مـما لا يحتمل الـجدل أنّ معاملات التسليف في الأعمال العصرية إذا تُركت على قاعدة إرخاء الـحبل تقود إلى نتائج مضرة بالتجارة والصناعة معاً، وقد كان من نتائج زيادة الضبط في أنظمة البنوك أنّ الـحكومات في أغلب البلدان تفرض على أصحاب البنوك تقديم تقارير سنوية ونصف سنوية تعيّن الـحكومة على أساسها ضريبة الدخل، وتستعين بها على ضبط الأمور والـمراقبة العامة. أما عندنا فإن السيد حماده يقول في فصل «النظام الـحالي والصيرفي» في كتابه الـمذكور آنفاً «ليس من الـممكن أن نعلم مدى هذه الـمعاملات في البنوك لأن لوائحها توحّد مع لوائح البنوك الرئيسية (الأجنبية)، ولا ينشر حساب خاص عن أعمالها في سورية، كما أنهم يرفضون إعطاء التعليمات الضرورية للقيام بـمثل هذا التحليل، وكذلك فإن لوائح الـمؤسسات الفرعية غامضة جداً ولا تعطي إلا معلومات ضئيلة، ثم إنّ لكل بنك طريقة خاصة لتحضير ميزانيته يـمكنه أن يعدّلها متى شاء».

 

وهنا مقطع آخر من ذات الفصل يعطينا عدة انتقادات خطيرة على حالة البنوك الوطنية في سورية «لقد ظلت البنوك الوطنية في نظام لا مركزي يشمل عدة بنوك يلبي كل منها الاحتياجات الـمالية في منطقته الـخاصة ويـمكننا أن نعزو فَقْدَ التنظيم النقابي في حقول العمل من مالية وغيرها إلى ثلاثة أسباب:

 

1 ــــ «فَقْدُ الثقة العامة بالـحكومة وعدلها.

 

2 ــــ «الإبهام والنقص في القوانين الـمالية الـمتعلقة بأحوال العمل الـحديثة.

 

3 ــــ «عدم الـملاءمة في قوانين النقابات».

 

ثم يشرح الكاتب تـحت عنوان «الصعوبات الـخارجيـة التي تعترض تقـدم البنوك التجارية» كيف يتقيد التسليف بالقوانين التجارية الـمعمول بها حالياً يقول: «... ثالثاً القضايا التجارية تتأجل كثيراً في الـمحاكم. لقد حادث الـمؤلف عدداً من أصحاب البنوك فاتفقوا جميعاً على أنّ هذا من الأسباب الرئيسية لـمنع التسليف.. في كثير من الـحالات يقبض الدائنون جزءاً يسيراً من صافي مال الـمفلس إذ يكون الباقي من نصيب السنديك... ليس عجيباً بعد ذلك أن نشاهد الانحطاط في الأخلاق التجارية، حتى أنّ البنوك الـمحافظة تتحسب كثيراً قبل فتح التسليفات، بينما البنوك الأقل تـحفظاً تطلب عليها فوائد باهظة».

 

(3) الـحالة السياسية

 

«مقطع من خطبة فكتور بيرار»

 

«ومـما لا شك فيه أننا طبقنا في سورية نظرياً وعمليا مبدأ فرّق تسد. فقد جزّأنا سورية إلى عدد من الدول التي لا مبرر لوجودها، وقد أوجدنا من السكان جبهات متصادمة، وأحيينا العصبيات الـمذهبية لدرجة لم تكن معروفة قبلاً. إسألوا من شئتم من السوريين عن الـحالة، يـمكنني أن آتي إليكـم بـمسيحيين ورسـوليين وماسون ويهود وحتى اليسوعيين لتثقوا بأن الـجميع متفقون على أنّ وجودنا في سورية قد أتى بنتائج فظيعة وبأننا قد هجنا البغض».

 

هكذا وصف الشيخ فكتور بيرار السياسة الإفرنسية في سورية في مجلس الشيوخ الإفرنسي بتاريخ 5 يونيو/حزيران 1922.

 

إنه فضلاً عن الأضرار الـمتعددة التي تصيب البلاد من جراء التقسيم في الناحية الاقتصادية، فإن هنالك أضراراً من حيث النضج القومي والسياسي لا تقل عنها أهمية. فلو فرضنا جدلاً أنّ البلاد لم تكن مستعدة من الناحية القومية للاندماج في دولة واحدة مستقلة على أثر الـحرب، فلا يـمكننا أن نسلّم بأن مثل هذا النظام كان صعباً في ظل الانتداب. إنّ خلق الكيانات الـمستقلة في البلاد السورية وربط كل منها بـمصالح طبقة قليلة من السكان مثل طبقة رجال الدين وزعماء الإقطاع قد عاد على تطور البلاد القومي بنتيجة سيئة جداً. لنسمع جريدة التايـمس تتساءل في مقالتها الـمذكورة آنفاً فتقول: «يـمكننا أن نتساءل هل لم يكن أجزل فائدة لو أنّ الفرنسيين، في تطبيقهم للانتداب، عوّدوا الـمسيحيين والـمحمديين أن يحيوا معاً بوفاق في وطن واحد عوضاً عن أن يتبعوا سياسة تفريق الأديان والطوائف.. إنّ تقسيم البلاد ينمّي في نفس السكان نظرة محلية ضيقة في الأمور، ويحرمهم من التأثير التهذيبي الذي ينتج عن الاشتراك في إدارة وطن كبير يلامس أراضي غريبة على كل حدوده والعمل على حل قضاياه».

 

وهنا نسـأل عن مقدار نـجاح الدولة الـمنتدبة في تدريب الشعب على الـحياة الديـموقراطية وفي إيجاد الأساليب التي تكفل تـمثيل الشعب تـمثيلاً صحيحاً. إنه لأمر اعتيادي أن نطالع في الصحف اليومية عن الـمفاوضات السياسية التي تـجري بين رجال السياسة الفرنسيين من جهة ورجال الدين السوريين بصفتهم الدينية من الـجهة الأخرى، وعن الـمطالب التي يدّعي أصحابها أنها قومية وتقدم بصورة مستمرة من الـمراجع الدينية وبتلك الصفة عينها، وقد يكون عند لـجنة الانتدابات الشيء الكثير من هذا النوع. من السهل جداً على رجال الدين أو الزعيم الإقطاعي أن يسافر إلى فرنسة على نفقته الـخاصة ليقوم بـمفاوضات سياسية باسم الشعب، ولكن الطريقة الوحيدة التي يـمكن فيها للطبقات الشعبية والعناصر القومية مثل طبقة العمال والفلاحين والشبيبة الـمثقّفة الـمسؤولة، أن تـمثّل تـمثيلاً صحيحاً هي التنظيم الشعبي ضمن الأحزاب القومية والنقابات.

 

أما مسألة التنظيم النقابي فقد ذكرنا عنه بعض الشيء في كلامنا عن الـحالة الاقتصادية. وأما مسألة الأضرار القومية فإن موقف الـحكومة من الـحزب السوري القومي أبلغ جواب عليها. إنّ الـحكومة لم تكتفِ بحلّ الـحزب ومحاكمة أركانه بل لم تترفع عن أية وسيلة للضغط على أعضائه ومعتنقي مبادئه. إنّ بيدنا الآن رسالتين تدلان على بعض أساليب الـحكومة في هذا الشأن:

 

ـ

ـــ الرسالة الأولى ــــ

 

برمانا 7 مارس/أذار سنة 1936

 

صديقي العزيز

 

آسف جداً بأن أُعلـمكم أني تلقيت أوامر من الـحكومة الـفرنسية والـحكومة اللبنانية لكي أرجوكم أن لا تعودوا تدرّسوا في الـمدرسة الفرنسية ــــ اللبنانية الكائنة في برمانا. ومنذ اليوم لم نعد نعتبرك أستاذاً عندنا. ولا أزال لـحدّ الآن خادمك.

 

                                                                                               كاتبه الـمخلص

 

                                                             يوسف عون اللازارست مدير المدرسة

ـ

ـــ الرسالة الثانية ــــ

 

عدد 251

 

حضرة الفاضل السيد إلياس زينون معلم الـمدرسة الأرثوذكسية في جل الديب الـمحترم.

 

بركة ودعاء. وبعد، لقد وردتنا قبلاً كتابة تـحت رقم 282 من مقام الـمحافظة الـجليلة بوجوب فصلكم من التعليم في الـمدرسة لأسباب أنتم أدرى الناس بها. واليوم وردت الكتابة رقم 444 مشددة بفصلكم دون تأخير. لذلك نوعز إليكم بلزوم مغادرة الـمدرسة وإلا تقعون تـحت المسؤولية. وإننا نسأل الله أن يلهمكم لـما به خيركم ويـمنحكم النعمة والتوفيق ودمتم.

 

                                                                  الـحدث 12 يونيو/حزيران 1936

 

                                                                                           الداعي لبنوتكم

 

                                                                    مطران جبيل والبترون وما يليهما

 

                                                                                                          إيليا

 

نتيجـة ذلك إنّ الأحزاب ذات الأهداف القومية الصريحة أصبحت معدومة الوجود كأحزاب معترف بها رسمياً. إنّ الـحكومة كانت تعترف بالأحزاب التي هي من هذا النوع بعدما تصبح أمراً واقعاً في حياة الشعب وذات قوة مادية تهدد كيانها، فالوفد السوري الـمفاوض اليوم في باريس كان أعضاؤه منذ بضعة أشهر في نظر الـحكومة مشاغبين يحرّضون الشعب على الإخلال بالأمن العام كما تدل بصراحة البيانات الـمتكررة التي كان يصدرها الـمفوض السامي الفرنسي أثناء الاضطرابات الأخيرة في الشام، غير أنه عندما أصبحت الثورة على الأبواب اعترفت الـحكومة بهم كزعماء شعبيين.

 

أمّا أن يكون وجد من وقت إلى آخر بعض أحزاب اعترف بها، فلأنها كانت عادة ذات أهداف صغيرة أو كانت من الفئات الـموالية للحكومة. ومع هذا فإن الاختبار يعلّمنا أنه حتى هذه الأحزاب لم تتمتع إلا بحياة قصيرة جداً لأن العناصر القومية كانت دائماً تتسرب إلى هذه الـمؤسسات فتحوّلها عن أهدافها الأولى.

 

ليس غريباً أن نرى بعد ذلك أنّ الـمجالس النيابية (والتمثيل فيها لا يزال على أساس طائفي) تُـمثِّل على الأغلب العناصر الرجعية في الأمة. إذا لا يـمكن أن يكون النائب مرتبطاً بـمبادىء قومية وأن يصان الانتخاب من الـمؤثرات غير الـمشروعة وسيطرة العناصر غير القومية إلا بإباحة تأليف الأحزاب. غير غريب أنه حتى هذه الـمجالس كانت دائماً معرضة للحل لأنها بتأثير الرأي العام الـخارجي ما كانت تستطيع مسايرة السياسة الاستعمارية في كل شيء.

 

أما التشريع الـمتعلق بحريّة إبداء الرأي فإن مطالعة قانون الـمطبوعات وقراره (115) الصادر بتاريخ 12 أغسطس/آب سنة 1932، فضلاً عن قانون الـجزاء العثماني، الذي كان يطبّق في عهد السلطات العثمانية ولا يزال اليوم مرعي الإجراء، يعطينا فكرة عن الـحالة التي يحيا فيها الرأي العام في ظل الانتداب.

ـ

ـــ الإدارة الـحكومية ــــ

 

لعلّ أوضح ظاهرة في الأوساط الشعبية هي الاستياء العام من الإدارة الـحكومية. تستطيع الـحكومة أن تـمنع الشعب، ولو موقتاً، من الشعور بالـمسائل العامة ذات الـمسائل العميقة في حياة الأمة السياسية والاقتصادية بواسطة التضييق على حرية الكتابـة والاجتماع وتأليف الأحزاب. ولكنها لا تستطيع مطلقاً أن تـمنع الاحتكاك الدائم بين أفراد الشعب النابه مع ما كان عليه ذلك العهد من الفساد إنّ الصفات البارزة في الإدارة الـحكومية والتي تسبب استياء الشعب هي ــــ أولاً كثرة عدد الـموظفين بالنسبة لـحاجة البلاد. وثانياً ندرة ذوي الكفاءة والاختصاص بين الـموظفين.

 

إنّ الـمال الـمصروف على الإدارة والقضاء في جميع الأراضي الـمشمولة بالانتداب الفرنسي من سنة 1927 ــــ 1932 تبلغ 29 في الـمئة من الـموازنة العامة، والـمال الـمصروف على الناحية التجارية والتحسين الاقتصادي، وهي تشمل ترقية الزراعة والدوائر الاقتصادية والنافعة والبوسطة والتلغراف، يبلغ في الـمدة ذاتها 22 في الـمئة. بينما نرى أنّ الـمال الـمصروف في الـمدة ذاتها على الناحية الاجتماعية وهي تشمل الصحة والإسعاف العام والتعليم والعاديات، لا تزيد على 8 في الـمئة. فتظهر من ذلك نسبة الـمصروف على الإدارة عالية جداً بعكس الـمال الـمصروف على الناحية الاجتماعية ومن ضمنها التعليم.

 

(الزوبعة ــــ وقد جاءت موازنة «الـجمهورية اللبنانية» لسنة 1942، التي ننشرها في مكان آخر من هذا العدد، مصداقاً جديداً لهذا الكلام. ويلاحظ في هذه الـموازنة أنّ زيادة النفقات كان معظمها في الوظائف الإدارية وتـحسين حالة الـموظفين على حساب الثقافة والاجتماع).

 

نعود للبحث عن أسباب هذا التضخم وعدم الفاعلية في النظام الـحكومي فإذا بنا نصطدم مثل كل مرة بسياسة التقسيم وبالطائفية. أما أثر البلاد بزيادة عدد الـموظفين فقد ذكرناه سابقاً، وأما الطائفية فهي لا تزال تلعب دوراً خطيراً في خلق الوظائف وإشغالها بينما نرى أنه في البلدان الراقية لا يرعى في ذلك غير الـمصلحة العامة. لقد وصفت ذلك جريدة التايـمز الإنكليزية سنة 1922 بقولها: «إنّ من أسباب زيادة الوظائف محاولة إرضاء جميع الـمذاهب في الـجمهورية. ينص الدستور على أنّ الأديان تعامل بالـمثل. وقد فسر هذا النص بأن لكل طائفة الـحق بأن تـمثّل في الإدارة بعدد يتناسب مع عددها. فلو مات أو أحيل على التقاعد قاضٍ أرثوذكسي أو مفتش من الصحة على طائفة أرمنية ولم يعوّض عنه بشخص من طائفته لـحدثت أزمة سياسية. وكثيراً ما يكون الـحل لهذه الصعوبة بإحداث عدة وظائف جديدة». وقد أيّدت الـحوادث ما جاء في هذا الـمقال بعد مدة وجيزة إذ عُلّق الدستور اللبناني في 9 مايو/أيار سنة 1932 وقام في البلاد حكم فردي، فضح كثيراً من الفساد الإداري وسوء الائتمان، ووضع الـمصلحة الـخاصة فوق الـمصلحة العامة في جميع دوائر الـحكومة تقريباً. وقد وجّه الناس لومهم على الأفراد، كما هو شأنهم دائماً، غير أنّ الـمدقق يرى أنّ الفساد هو في ذات النظام، فالعلة ليست من العلل الـجراحية ولكن الـمرض مرض دستوري.

 

الدفاع القومي والأمن العام

 

لا نعجب بعدما علمنا من تعارض النظام القائم مع الـمصالح والأماني القومية إذا رأينا أنّ نفقات الـجيش تبلغ نحو 22 مليون ليرة سورية تدفع منها الـحكومة الفرنسية نحو الثلثين. غير أننا لا نلبث أن نسأل عما فعله الانتداب لإعداد البلاد للإستقلال من ناحية الدفاع القومي والأمن العام. لقد أعطى الـحزب السوري القومي برهاناً ساطعاً على استعداد الشعب للخدمة العسكرية، فقد أقسم كل عضو من أعضائه على استعداده لأن يكون جندياً في جيش الأمة، ولقد كان بإمكان الانتداب أن يعلن التجنيد الإجباري فيدرب الأمة في ناحية من أهم نواحي الاستقلال القومي، غير أنّ الانتداب لم يفعل ذلك.

 

 (4) حركة الـحزب السوري القومي وأثرها

 

إنّ إنشاء دولة قومية منظمة في البلاد السورية وخلق الروحية التي تضمن استمرار ذلك لهو من الأمور التي تعود على الـحضارة والنظام العالـميين بأعظم الفوائد. فمركز البلاد السورية الذي يجعل من سورية الرابط الطبيعي بين الدول الأوروبية وشعوب الشرقين الأدنى والأوسط، وكذلك الـميزات الاجتماعية والعمرانية التي اتصف بها الشعب السوري في تاريخه يدلّان على ما سيكون للأمة السورية من أثر فعّال في إقرار النظام الـمتمدن في الشرق وتأمين العلاقات الصحيحة بينه وبين الـحضارة الأوروبية.

 

إنّ الأمة السورية، التي اعتبرتها الـمادة الثانية والعشرون من دستور عصبة الأمـم وديعة بيَد الـمدنية، هي اليوم في حالة من الفقر والوهن قلّما سجّل تاريخها مثيلاً لها، كما أبنّا في وصف حالتيها الاقتصادية والسياسية، ومن الطبيعي أن تعجز الأمة في هذه الظروف، وما ينتج عنها من سوء استثمار موارد البلاد وقلة السكان، عن القيام بقسطها في بناء الـحضارة العالـمية. وإننا نترك لدول من الـحضارة الـممثلة في عصبة الأمـم تقدير ما تخسره التجارة والصناعة الأوروبية من جراء وجود البلاد السورية في هذه الـحالة من الفقر والتشويش. إنّ القضية السورية التي تعتبرها أكثر الدول في درجة ثانوية من الأهمية بالنظر إلى حالة سورية الـحاضرة تصبح ذات أهمية أولية إذ اعتبرنا إمكانياتها من وجهة نظر التمدن العامة.

 

لقد أخذت جامعة الأمـم باعتبارات شتى منعتها عن إعطاء الأمة السورية حقها في الـحياة القومية الـمستقلة فوراً بعد الـحرب. ولكنها مع ذلك لم تـحرمها حقها بالتقدم الطبيعي نحو تلك الغاية كما يستفاد من روح الـمادة الثانية والعشرين من دستور العصبة وعن تطبيق الانتداب من صنف (أ) على البلاد السورية. غير أنّ الأساليب التي اتّبعتها الدولة الـمنتدبة في تطبيق الانتداب، والنتائج التي أدت إليها تلك الأساليب في حياة الشعب وحالته الاجتماعية من اقتصادية وسياسية وغير ذلك، قد تركت في السوريين شعوراً عاماً بأن السلطة الـمنتدبة ما كانت تستوحي في تطبيق الانتداب مصلحة الأمة السورية أو مصلحة الـحضارة العامة التي سلّمها إياها الانتداب، بل كانت في الغالب تتبع مصالـحها الاستثمارية الـمعجلة. لقد كانت عوامل الـمدنية الـحديثة ومؤثراتها تعمل منذ أواخر القرن الـماضي على تهديـم ما كان لا يزال باقياً في حياة الأمة السورية من العوامل اللاقومية، فزالت السلطات الإقطاعية أو كادت، وبدأت الـمبادىء القومية تتبلور وتستقل عن العصبيات الطائفية، وقد كان من الطبيعي والـمنتظر أن تستمر هذه الاتـجاهات القومية بعد الـحرب العالـمية، كما كان قبلها أو بصورة أسرع، غير أنّ الـمصالح الاستثمارية التي ظللها الانتداب كانت ترى أنّ حياتها تتوقف على دوام هذا النظام، وهذا بدوره يقوم على أساس وجود نقائص في الأمة تعوقها عن الـحياة الـمستقلة. ولذلك كان نظام الانتداب وما يشتمل عليه من مصالح يناضل في سبيل الـحياة بتغذية العوامل اللاقومية في الأمة. وفي النتيجة نرى أنه بعد مرور مدة أربعة عشر عاماً من الانتداب لا تزال السلطات الدينية هي التي تستشار وتخاطب في قضايا البلاد القومية، ونظام الـحكومة بأسره يقوم على أساس طائفي ويتمّ تـمثيل الشعب الدستوري دون أن يباح للشعب تأسيس أحزاب قومية حتى يظل للسلطات اللاقومية يد طولى في إحداث التأثيرات غير الـمشروعة على نتائج التمثيل الشعبي. هذه الـمؤثرات النفسية أوجدت عند شبان سورية شعوراً بالـحاجة إلى حياة قومية صحيحة آلت إلى نشوء حركة الـحزب السوري القومي. ولقد دلَّ انتشار هذا الـحزب في مختلف طبقات الأمة وطوائفها برغم ما أقيم في سبيله من عقبات على أنّ الفكرة القومية أصبحت ناضجة عند السوريين، وأنّ تأخر ظهورها وتـجسمها في نظام حكومي قومي إنـما هو ناتـج عن ضغط مؤثرات مصطنعة ليس لها مبرر من وجهة نظر الأمة، وقد أعطى هذا الـحزب للسلطة الانتدابية فرصة جديدة لاستعادة ثقة الشعب بحسن قصدها، فمبادىء الـحزب تنطبق انطباقاً تاماً على روح الانتداب، والشعب يُظهر استعدادا لاعتناقها، واعتناق الشعب لهذه الـمبادىء معناه بلوغ الأمة للحالة التي تُـمكّنها من حكم نفسها بنفسها وذلك هدف الانتداب الأوحد، فقد كان عليها أن تـمد الـحركة الناشئة وتـمهد أمامها سبيل العمل وتشجعها. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وعوضاً عنه فقد قبضت السلطات على أركان الـحزب، وهم يـمثّلون الطبقة الراقية من الأمة، فحكمت عليهم أحكاماً مختلفة، وحلّت حزبهم، ولم تدّخر أية وسيلة في مطاردة معتنقي الـمبادىء القومية والتضييق عليهم، وليس بوسع السلطات أن تبرر موقفها من الـحزب بدعوى أنه يغذي عصبيات جنسية ضد الأجانب، فشبان الـحزب يدركون تـماماً مقتضيات الـحضارة الـحديثة، والنظام الـمتمدن وما يتطلبه من تعاون بين الأمـم الراقية يقوم على تبادل الـمصلحة. وقد صرح زعيمنا في خطاب ألقاه في 1 يونيو/حزيران سنة 1935 قال: «إننا نعترف بأن هنالك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بين سورية والدول الأجنبية وخصوصاً الأوروبية، ولكننا لا نعترف بـمبدأ الدعاية الأجنبية. يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً، أما بشأن الـمصالح الـمشتركة فنحن مستعدون لـمصافحة الأيدي التي تـمتد إلينا بنيّة حسنة صريحة في موقف التفاهم والاتفاق». وقد كان هذا الـخطاب من أولى الوثائق التي وقعت بيد الـحكومة عن الـحزب وحاكمته بـموجبها.

 

فيما يلي نص لـمبادىء الـحزب السوري القومي الأساسية والإصلاحية وهي الـمبادىء التي يدرسها طالبو الانضمام ويقسمون عليها حتى يصبحوا أعضاء في الـحزب:

 

الـمبادىء الأساسية

 

1 ــــ سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.

 

2 ــــ القضية السورية قضية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.

 

3 ــــ القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.

 

4 ــــ الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري الـمتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الـجلي.

 

5 ــــ الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، وهي ذات حدود جغرافية تـميزها عما سواها، تـمتد من جبال طوروس في الشمال إلى قناة السويس في الـجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب إلى الصحراء في الشرق حتى الالتقاء بدجلة.

 

6 ــــ الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة.

 

7 ــــ تستمد النهضة السورية القومية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها القومي والسياسي.

 

8 ــــ مصلحة سورية فوق كل مصلحة.

 

الـمبادىء الإصلاحية

 

1 ــــ فصل الدين عن الدولة.

 

2 ــــ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.

 

3 ــــ إزالة الـحواجز بن مختلف الطوائف والـمذاهب.

 

4 ــــ إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة الأمة والدولة.

 

5 ــــ إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.

 

ولقد كان لهذه الـمبادىء الصريحة الواضحة أثرها في بلورة الـمبادىء القومية عند الشبيبة السورية، وإزالة كل ما يحيط بها من إبهام وغموض، وما يلتبس بها من عصبيات ونزعات لا قومية، وقد ساعدت أيضاً على توحيد التفكير والأهداف القومية وبثّت في النشء روح الوطنية الصحيحة وجعلت لهم مثالاً عالياً ترتفع إليه نفـوسهم وتسمو أخلاقهم، وبعد أن كاد اليأس يقضي على بقية الأخلاق والرجولة في الشعب.

 

وفضلاً عن الـمـبادىء وأثرها فإن تطبيق نظام الـحزب عملياً قد بث روح النظام والـجندية لتكون الأمة مستعدة في حال إنهاء الانتداب لتحمل مسؤوليات الاستقلال، وكذلك فقد أحدث الـحزب في الأمة مسألة التنظيم الشعبي الذي يقضي على الأنظمة الإقطاعية والطائفية في الـمسائل القومية.

 

إنّ الأمـم الراقية التي مرت في نشوئها على حالات تشبه الـحالة التي نحن فيها يـمكنها أن تشعر مع الأمة السورية وتقدّر لها نضالها في سبيل تـحقيق هذه الـمبادىء التي أصبحت تـمثّل لها مصلحة الـحياة وهي أيضاً مصلحة التمدن والعدل.

 

 (5) اقتراح الـحل

 

إنّ قضيـة القومية السورية هي أمر واقع لا يـمكن إنكاره بعد درس العوامل والروابط الـجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية. وهذا يعني أنّ إنشاء أكثر من حكومة واحدة ذات سيادة على الوحدة الـجغرافية السورية بسبب وجود بعض نقائص في الـحالة الاجتماعية والسياسية، هو عمل غير معقول فضلاً عن كونه منافياً للمصلحة القومية، فالضرورة تقضي إذن بإيجاد نظـام يراعى الصعوبات الاجتماعية والسياسية التي تقاسيها الأمة، وبذات الوقت يفسح الـمجال للنشوء و التقدم الطبيعيين نحو الوحدة القومية التامة. لذلك وبالنظر للحالة الـمشوشة التي خلقها نظام الانتداب نقترح إنشاء حكومة اتـحاد سوري في جميع الأراضي السورية الواقعة تـحت الانتداب الفرنسي. لقد بيّن العالِم لي كوك فائدة نظام الاتـحاد بقوله: «... إنّ ميزة نظام الاتـحاد الـخاصة هي في روح التوفيق التي يشتمل عليها». إنّ النظام الـمركزي الـموحد هو النتيجة الطبيعية للكيان القومي الصحيح. وهذا لسوء الـحظ ما لم يساعد نظام الانتداب على إنـمائه، وهكذا فإنه بعد كل ما قيل وصنع نـجد أنّ نظام الاتـحاد هو أفضل نظام يتيح للقومية السورية النشوء والتحقيق دون أن يحدث عند بعض فئات الشعب في الوقت الـحالي هزة بدون داعٍ.

 

إننا لـحدّ الآن نرى أنّ الـمباحثات الأولية التي جرت بين وزارة الـخارجية الفرنسية بشخص وكيل وزيرها السيد فيانو من جانب ورئيس الـجمهورية اللبنانية من الـجانب الآخر تعاكس كل الـمعاكسة الـمصلحة القومية في سورية، وبالتالي ثبات السياسة الإفرنسية ومصالـحها في الشرق الأدنى. لقد اعتبرت عصبة الأمـم، كما يدل صك الانتداب، أنّ لبنان دولة مستقلة كل الاستقلال عن سورية. وفي ذلك خطر كبير حتى على مصالح لبنان الاستقلالية والاقتصادية. إنّ الأسباب التي دعت لهذا الاعتبار قد أصبحت اليوم معروفة عند الـجميع، وهي حماية الأقليات التي فضلاً عن كونها لا تشكل قواعد قومية لإنشاء دولة فهي أيضاً غير موجودة كأسباب رئيسية، لأن ظروف الـحياة العصرية قد قللت كثيراً من الـحماس في شأن الـمعتقدات الدينية بين مختلف الطوائف.

 

أبنّا فيما سبق كيف أنّ تقسيم الأراضي الـمشمولة بالانتداب الفرنسي إلى أكثر من حكومة واحدة قد عاد بنتائج معاكسة لنشوء القومية السورية، وقد تأيدت هذه الـحقيقة بوقائع مادية ملموسة. ولا نظن أنّ العصبة تـجهل الثورات والإضرابات الـمتعددة التي كانت تنبثق من تلقاء ذاتها، في الأربع عشرة سنة الأخيرة، بسبب سياسة الانتداب. غير أنه علينا أن ندرك اليوم أنّ الـمقاومة لهذه السياسة قد أكسبتها تعاليم الـحزب السوري القومي القومية قوة جديدة.

 

فمبادىء الـحزب تعبّر أصدق تعبير عن الرغبات الروحية والـمادية للأمة السورية. إنّ الصبغة الروحية الـجديدة للحركة ستكسبها شدة ووضوحاً وتعطيها حيوية لم تكن لها في الـماضي. إنّ سبب النضال لن يكون فيما بعد لـمجرّد التأثر من ضريبة أو معاملة سيئة لفئة من الشعب أو أي مطلب آخر يـمكن أن يجاب بحل فرعي. إنّ النضال اليوم تدعو إليه اعتبارات أساسية عامة هي ظهور مبادىء قومية تعبّر عنها عناصر قومية، هي إرادة الـحياة لأمة تاريخية تـحسّ برسالتها الثقافية وتقدماتها التي لا تُقدّر بثمن للحضارة العامة، وتريد أن توحد قواها.

 

إننا نأمل أنّ عصبة الأمـم ستعتبر بتجارب أربعة عشر عاماً من نظام الانتداب عند إقدامها على أي تدبير جديد، وإنها تـميّز بوضوح بين مطالب العناصر الرجعية والعناصر التقدمية. لقد أصبح واضحاً أنه ليس هنالك أي مبرر من الوجهة القومية لفصل لبنان عن باقي سورية على أساس السيادة القومية، فلو سلّمنا جدلاً بالأساس الطائفي للانفصال لواجهتنا مشاكل حتى في هذا الاعتبار لا تكفل مطلقاً الثبات الداخلي لهذه الـجمهورية الـمصغرة.

 

لا نكران أنّ الـمسيحيين يؤلفون الأكثرية في الـجمهورية اللبنانية بـموجب الإحصاء الأخير، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الـحد، فقد يكون في هذا ما يرضي البطاركة والـمطارين والذين أصبح لهم مصالح خاصة في الانفصال، غير أنّ السؤال الذي لا بدّ من إلقائه هو هذا ــــ هل يصح أن يكون مجرّد كون الإنسان مسيحياً كافياً لعدِّه مع طلاب الانفصال؟ إنّ التاجر ودافع الضرائب تهمّه الـمبالغ التي تنفق في سبيل الـمحافظة على هذه الـحكومة الصغيرة أكثر من كل الهواجس الوهمية العتيقة عند رجال الدين.

 

فضلاً عن كل ذلك فإن انفصال لبنان هو انتحار له إذا نظرنا في مشكلة زيادة السكان، فكثافة السكان في لبنان لا تقل عن 92.91 للكيلومتر الـمربع وهي كثافة عالية جداً بالنسبة للموارد الـمحدودة في هذا الـجبل، أما في حكومة الشام فالكثافة لا تقل عن 8.79 للكيلومتر الـمربع وهي كثافة قليلة جداً. لقد كانت مشكلة زيادة السكان في لبنان تـُحلّ في الـماضي بواسطة الـمهاجرة الـمستمرة، خصوصاً إلى العالم الـجديد، أما الآن فبفضل التشديدات العديدة في قوانين الهجرة في الأميركتين نرى أنّ الـمشكل أصبح خطيراً يحتاج إلى الدرس والاعتبار.

 

إنّ نظام الاتـحاد الذي نقترحه يعطي أفضل حل لـمشكلة زيادة السكان الذي يهدد لبنان إذ يصبح له منفذ في السهول الفسيحة القليلة السكان في الداخل.

 

وبالاختصار فإن نظام الاتـحاد، حيث يعطي للحكومة الـمركزية سلطة محدودة في الـمسائل الإدارية التشريعية على باقي الأجزاء، يساعد مع ذلك كما يقول العالِم «لي كوك» على خلق حكومة واحدة تـجمع قوى الأجزاء في الدفاع الدولي وفي الـمسائل ذات الصبغة العامة دون أن يضحي كل قسم بحياته وتـحسساته السياسية الـخاصة.

 

والآن قد أزيح الستـار عن هذا الـمشهد الـمريع من النضال الـمتلف، النضال الـخالي من التسابق بين الأمـم في سبيل التفوق، ولكنه نضال بين أمة حديثة تعتزم إنشاء حياة راقية وبين عدد من الرأسماليين والاستعماريين الذين وإن كانوا من طبقة قد حُكم عليها بالزوال، فإنهم ما زالوا يتمكنون من توجيه قوى حكومتهم لصدّ تقدم الأمـم الضعيفة وإحداث الأضرار الـجسيمة بالـحضارة العامة.

 

لئن كان الشعب الإفرنسي يتوق للتخلص من نير جماعة الرأسماليين التي لا تشمل أكثر من مئتي عائلة، فإن أمام الشعب السوري أيضاً بضع عشرات من الـمستثمرين عليه أن يتخلص من سيطرتهم حتى يتمكن من متابعة سيره النشوئي. إنّ الشعب السوري كان دائماً يتمنى أحسن العلاقات الودّية مع الشعب الفرنسي، أما والـحكم اليوم بيَد الـجبهة الشعبية فإن الشعور العام هو أنّ التأثير غير الـمشروع الذي كان يسيّر الأمور بواسطة الـحكومة الـمترأسة من جماعة أصحاب الـمصالح الـمادية في سورية قد تناقص اليوم، وأعطى بذلك فرصة سانحة للشعبين لإنشاء العلاقات الصحيحة بينهما.

 

«إنّ الـمبادىء الصحيحة لا تنفّذ في أزمات التاريخ الـخطيرة، إلا إذا دعمتها بعض القوى الـمادية. لأن الـمبادىء الـمناقبية الـمجرّدة لا تسيّر التاريخ».

 

                                                                                                رينولد نيبور

 

                                                                           ولتحيى سورية وليحيى سعاده

 

                                                                                     عميد الداخلية سابقاً

 

                                                                                       نعمة قسطنطين ثابت

 


[1] تقرير لجنة الانتدابات الدائمة إلى مجلس عصبة الأمم عن أعمال الجلسة الثامنة (جلسة فوق العادة) المنعقدة في رومة من 16 فبراير /شباط إلى 6 مارس /آذار سنة 1926 وجه 8.     

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro