مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ملحق رقم 6 من رسالة الأمين عبد الله سعاده موجهة إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين
 
 
 
 

 

 

 

 

القواعد الأساسية للنهضة السورية القومية الاجتماعية:

 

المدرحية :

 

ليس الزعيم أول من قال بأن للوجود الإنساني ناحيتين أساسيتين: الناحية المادية والناحية الروحية. فالإنسان منذ وجوده البدائي عني بالمادة لتأمين حاجات بقائه الفردي واستمرار جنسه البشري. وكذلك الإنسان منذ وجوده الاجتماعي، منذ نشوء الجماعة، ظهرت فيه حاجات النفس والمطالب الروحية الكامنة التي فرضت ذاتها على الجماعات البشرية بشكل نهائي. فلم تخل جماعة في التاريخ البشري من المعاناة النفسية والتأمل الروحي اللذين نتج عنهما التراث الروحي عبر التاريخ في أساطير الجماعات الإنسانية وقيمها ومثلها ودياناتها. وقد كان لأمتنا قصبُ السبق في هذا الميدان الراقي. إن أساطيرنا الخالدة وآلهتنا الرائدة سجلت تململ النفس السورية في توقها الروحي الراقي. ومنها انطلقت الأسس الدينية السماوية التي تجسدت في الرسالتين الدينيتين الخالدتين: المسيحية والمحمدية.

 

وأمتنا وإن كانت منبع الرسالات الروحية الدينية السماوية، إلا أن حضارتها المادية كانت سابقة ومرافقة لهذا التطور الروحي السامي. ففيها ابتدأت أسس الحضارة المادية الإنسانية، وأسس الفكر الإنساني. فالدولة، والشرع، والأبجدية، والتعدين، والشراع، والصناعة، والمستعمرات تنشر العمران على شواطئ بحرنا السوري، كلها دليل على حضارة مادية راقية مهَّدت للتطور الروحي ورافقته وجسدته يوم كان العالم الغربي لا يزال في معاناته المادية الروحية البدائية.

 

والإنسانية عبر تطورها المستمر عانت صراعاً دائماً بين الشأن الروحي فيها والشأن المادي وتفاضلاً بينهما أدبياً إلى اختلال الأنظمة الاجتماعية وتخبطها في تناقضات ومضاعفات مخرِّبة. وهي اليوم تهدد الإنسانية ومدنيتها العلمية الجبارة بكارثة قد تقضي على الإنسان وعلى مدنيته.

 

كثيرون قبل سعادة دعوا إلى ضرورة إقامة التوازن بين الشأن الروحي والشأن المادي في الحياة الإنسانية، وبخاصة بعد تطور القوميات وبداية الحروب العالمية المدمرة. غير ان نظرتهم كانت تقوم على مبدأ ضرورة التعايش بين شأنين متناقضين أو مستقلين لا تستغني الإنسانية عن أيهما ولا يمكنها أن تسير وترتقي بسيطرة أحدهما الكلية على الآخر.

 

الإنسانية عانت من العقلية الروحية الغيبية وتسلطها في الدولة الدينية ما عطل الإنسان في الإنسان. ذلك ان القيمين على تنفيذ السلطان الروحي ورعاياهم ليسوا ملائكة روحيين بل بشراً من مادة وروح. فعطلت مطلقاتهم وحتمياتهم الغيبية وشريعتهم السرمدية حرية العقل المسؤول. فغدت الانطلاقة الدينية التقدمية اغلالاً للإنسان تمنع تقدمه وتؤخر ارتقاءه وتحوله إلى كائن غيبي مستسلم لا يرى في الحياة إلا وهماً. ولكنه وهم لا بد منه للعبور إلى الحياة المثلى الآتية. وعادت الحياة المفرغة من معنى الحياة تعكس فراغها على الشأن الروحي فغدا طقوساً وطلاسم وكهانة وطائفية كادت تفرغ الدين من جوهره الحي وتجرِّدُهُ من مثله وقيمه وفضائله الراقية.

 

والنظام الرأسمالي المادي الجشع، وإن أدعى الهوية الدينية الروحية، إلا انه نظام مادي طاغ. مارس ويمارس أبشع أنواع الإستغلال والمتاجرة بالشأن الروحي، وأشنع أنواع التحقير لإنسانية الإنسان وحقوقه النفسية. يقول سعاده: «ان نظـام الطبقات الرأسمالي نتجت عنه مشاكل اقتصادية اجتماعية سببت وتسبب تشنجات واضطرابات شديدة تحفز العقـل إلى ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني يزيل تلك التشنجات والاضطرابات ويفسح المجال لتفاعل ينمي الحيـاة ويقويها ويجعلها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية. إن للإنسان حاجاته الروحية والمادية كما له قواه الروحية وقواته المادية».

 

والنظام الماركسي المادي بدأت تعاني منه الدول الشيوعية، وبخاصة روسيا وأوروبا الشرقية، تناقضات فلسفته الجزئية المادية المتنكرة للروح والمطالب النفسية. لقد سجلت المادية الماركسية تطويراً مادياً مذهلاً في روسيا السوفياتية لانصبابها كلياً عـلى الشأن المادي في نظامية ثورية مؤمنة شكلت ديناً مادياً. ولكن الدول الماركسية، بعد أن أمَّنَتْ مستوى الاكتفاء المادي الضروري لتَفَتُّقِ النفس البشرية عـلى كوامنها، وتفتحها على مطالبها الروحية الراقية، بدأت تظهر فيها تناقضات الفلسفة الجزئية المتنافية مع طبيعة الإنسان. وبدأت تعاني الدول الشيوعية من حاجات النفس ما يحملها تدريجياً على الانفتاح عليها والسماح بممارستها ونشوء عقلية روحية وقيم نفسية إلى جانب النظام المادي. ان هذه الظاهرة توضح بعض الخلاف بين شيوعية روسيا وشيوعية الصين. فالصينيون، وهم في مطلع ثورتهم المادية، لا يزالون خاضعين للظاها، وفي مرحلة تأمين الحاجات المادية الضرورية التي يجب ان يؤمنها الإنسان قبل تفتحه الراقي على كوامن نفسه وادراك مطالبها الروحية. ان مطالب الحياة المادية حادَّة فلا يمكن للمطالب النفسية ان تتألق إلا بعد تأمينها في مستوى معقول. ولا يشكل بعض الأفراد الذين يخرجون عـلى هـذه القاعدة الطبيعية إلا الشواذ النادر.

 

أما سعاده فإنه لا ينظر للشأن المادي كنقيض للشأن الروحي، ولا يرى الشأن الروحي نقيضاً للشأن المادي يتعارض معه وإن احتاجه حاجة النقيض للنقيض.

 

إن سعاده في عبقريته وعقليته العلمية أدرك أن الوجود الإنساني هو الوجود المادي – الروحي الموَّحد في كيان عضوي واحد. فالوجود المادي بذاته ليس إنسانياً. إنه وجود الأشياء وربما العجماوات. والوجود الروحي بذاته ليس إنسانياً. أنه وجود الملائكة أو وجود الله أو وجود الأفكار المطلقة. الإنسان الإنسان هو المادة اكسبتها الروح المندمجة معنى وإدراكاً وغاية. وهو الروح أكسبتها المادة المندمجة تجسيداً واقعياً وقدرة على الفعل. فالمادة والروح ليسا نقيضين. بل هما عنصران متمم واحدهما للآخر ومحقق واحدهما للآخر في أسمى وجود على الأرض – الإنسان –. فالمدرحية ليست قضية جمع بين الفلسفة المادية والفلسفة الروحية كضرورتين للحياة والتوازن، هي ليست جمع مصلحة. بل هي القول بوحدة الروح والمادة في مندمج كياني عضوي. مندمج أشمل من الروح ومن المادة تحققت كينونته الراقية في الإنسان.

 

يقول المعلم: «آمنت بكم .. أمة داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده. والاقلاع عن اعتبار العالم، ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية. وإلى التسليم معنا بأن أساس الإرتقاء الإنساني هو أساس روحي - مادي (مدرحي). وان الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه... إن العالم يحتاج إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط الفلسفات الجزئية وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم - فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية – هي الفلسفة التي تقول بها نهضتكم».

 

ولم يقف سعاده في تفسيره الوجود الإنساني تفسيراً مدرحياً عند حدود البحث الفلسفي المطلق. بل أرسى النهضة السورية القومية الاجتماعية ونظامها الجديد على هذه القاعدة الفلسفية الدقيقة. أنه هدف إلى تأمين الإنسجام الفكري الاجتماعي في المجتمع السوري المنشود وتخليصه من هـدر الطاقات وبعثرت القوى في حرب جاهلية بين القوى الروحية والقوات المادية. وذهب الي ابعد من السلبية بتوضيحه أن الارتقاء المادي لا يستطيع أن يصل إلى الأوج المؤهلة له الإنسانية ويؤدي اغراضه الراقية إلا اذا استند إلى رقي روحي متواز يحفز إلى الأسمى والأكمل والأجمل. وكذلك الارتقاء الروحي لا يمكن أن يصل إلى ذروته المؤهلة لها الإنسانية إلا إذا تأمن الارتقاء المادي الموازي والذي يتيح للنفس ان تنصرف إلى معالجة قضاياها وممارسة مثلها وقيمها في مناخ مرتاح من إلحاح الحاجات المادية وسيطرتها الطاغية. لأنه إذا لم يتأمن التناسق بين مقومي الوجود الإنساني يصبح الوجود الإنساني مسخاً مشوهاً.. فإما تعملق مادي وتقزم روحي. وإما تقزم مادي وضياع روحي قـد يحسبه دعاة الفلسفات الجزئية تجلياً، وإما تقزم كلي مادي روحي يبقى على تخلفه وجوداً طبيعياً بدائياً غير مشوّه.

 

والزعيم قد أولى الشؤون الروحية في كتاباته وتعاليمه إهتماماً مباشراً وجعلها في صلب مبادىء النهضة. فالمبدأ الأساسي السابع يعتبر الثقافة السورية المادية - الروحية المنبع الذي تستمد منه النهضة روحها واتجاهها النفسي الذاتي وتبني عليه استقلالها الروحي الرامي إلى تحقيق وجود سالم جميل في هذه الحياة وإلى استمرارها حياة جميلة. ويقول في شرح المبدأ الإصلاحي «كل أمة تريد أن تحيا حياة حرة مستقلة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون لها وحدة روحية متينة» ويتبنى في شرح المبدأ الإصلاحي الأول ما قاله والده الدكتور خليل سعاده «إن الدين من حيث ناحيته الروحية وجد لتشريف الحياة والسمو بها من مرتبتها الحيوانية إلى مرتبة روحية تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بينه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».

 

إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يحارب علانية فكرة السلطة الزمنية للدين، أي الوجهة الدنيا من الدين، التي حاولت تحسين الحياة في عهود الرسالة الأولى. وقد حسنتها بالفعل. ولكنها عصت بعدها كل تحسين تطلبه الحياة المتطورة. وحربه هذه تقف دون الناحية الدينية من الدين. فيقول الزعيم «هذه الوجهة - الوجهة الدنيا - التي يحاربها الحزب السوري القومي الاجتماعي لا الأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية المتعلقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادة» ويقول في شرح المبدأ الاصلاحي الثاني «إذا منعنا رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة ساعدناهم على رفع منزلة الدين وعلى احترامه.»

 

ان سعاده في إرساء نهضته على الفلسفة المدرحية يخلص المجتمع السوري من التخبط في تناقضات مزمنة ويدفعه في دروب القوة والغنى المادي ورحاب التسامي النفسي والتألق في قيم الحق والخير والجمال والعدالة وترقية الحياة وتحسينها بفعل العقل وهداية القيم والمثل العليا وروح المسؤولية الإنسانية. كما يفتح أمام المجتمع السوري أبواب التفاعل الواثق مع الإنسانية جمعاء من أجل التعاون في بناء المدنية الإنسانية الشاملة.

 

القومية الاجتماعية:

 

إذا كانت المدرحية هي المرتكز الفلسفي لنهضتنا الرائدة فالقومية الاجتماعية هي عقيدتنا العلمية التي تجسدهـا مبادىء النهضة ونظامها. وعقيدتنا كما يدل اسمها «هي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي». وهي اجتماعية لأنها تعتمد الواقع الاجتماعي أساساً لنشوء الامة وتحديدها «ولأن غايتها المجتمع الإنساني، المجتمع وحقيقته ونموه وحياته المثلى».

 

يختلف المفكرون في تحديد الأمة وتتباين آراؤهم بشأنها مما أدى ويؤدي إلى التخبط في مضاعفات كانت لها يد أساسية في حالات عدم الإستقرار والنكسات التي انتابت وتنتاب الأمم في نشوئها وتكوينها وسيرها وتفتتها. وبخاصة الأمم التي خسرت سيادتها على نفسها وخضعت لإرادات اجنبية تعمل فيها قطعاً ووصلاً حسب منافعها وأهوائها. فالباحثون في نشوء الامم وتحديدها التبست عليهم النتائج بالأسباب. فراحوا يعددون النتائج الحاصله من وجود الأمة، من وجود المجتمع، وكأنها هي الأساس المسبب لنشوئها وتكوينها، فاعتبروا مثلاً الدين واللغة العاملين الأساسيين في نشوء الامم بينما هما نتيجة لوجود الأمة وحصيلة نموها وتفاعلها الحي. وبعضهم نظر إلى الامة نظرة تتخطى الواقع الجغرافي والاجتماعي فاعتبر الارادات والآمال العاطفية المنبثقة من عصبيات دينية أو عرقية دموية كافية لإنشاء الامم، فهدروا جهود الجماعات المتلمسة هويتها وعزتها القوميتين في نضال متعثر يصطدم مع الواقع القاسي. وبعضهم اعتبر الكيانات السياسية كافياً لبناء الأمة وكأن الأمة شأن اعتباطي تقرره المعاهدات والظروف السياسية ومصاحباتها الغريبة. وبعضهم راح يجمع العوامل المسببة والناشئة والمصاحبة للأمم في عمليات جمع وطرح حسابية، فيختار ما يوافق هواه ونظرته، ويهمل ما لا يتوافق معها؛ ويدبج مقالات ونظريات مطولة محاولاً ان يجعل منها عقائد تصلح لبناء الأمم وسيرها وحياتها. وإذا ما تغيرت الظروف أو تعدلت العلاقات السياسية فإنه يغير ويعدل في نظريته، معتبراً هذا التغيير والتعديل تطويراً يشير إلى حياة النظرية وقابليتها لمرافقة التطور الإنساني في إطار التاريخ الحي.

 

سبب هذه البلبلة في تقييم الأمم وعوامل نشوئها وتطورها إخضاع الأمم للشؤون السياسية ورغباتها، والنظرة إلى الامة وكأنها مجموعة عناصر وخصائص وظواهر ومميزات، متى تيسر وجود عدد كاف منها في جماعة من البشر تمت لهم مقومات نشوء الامة ووجودها.

 

إن الامة شيء أعمق وأشمل من مجموع العناصر والخصائص والظواهر والمميزات المادية والنفسية التي تنشأ في الجماعات البشرية. إنها كل عضوي حي. فيه تنشأ الخصائص والمميزات وفيه تجد معناها وغايتها. أنها كل عضوي انساني طبيعي أمثل. «انها واقع اجتماعي يجد أساسه قبل كل شيء في وحدة ارضية معينة، تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها». تشتبك في تفاعلها المادي والنفسي وتتحد بالاشتراك في دورة الحياة الطبيعية الكبرى الواحدة: فتنشأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية التي هي الامة. وهذا التحديد العلمي الواقعي الذي ينظر إلى الكل العضوي في وجوده الاجتماعي الطبيعي الحي الفاعل يضع حداً لأشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام المضللة والافتراضات التعسفية.

 

استناداً إلى هذا التحديد العلمي الطبيعي الاجتماعي المبدئي الذي شرحه المعلم وعلّله في كتاب نشوء الأمم؛ هذا التحديد الحي الواقعي؛ هذا التحديد البسيط في وضوحه العميق في نظرته؛ تمت لدينا القناعة بوجود الامة السورية وحقيقتها القومية. «وقد كانت هذه الحقيقة قبل نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي حقيقة كامنة، واصبحت بعد تأسيس الحزب حقيقة بالفعل». اصبحت قيمة «لأن الحقيقة تظل في ذاتها حقيقة ولكنها في ذاتها ليست قيمة. فهي لا تكون قيمة إلا بالمعرفة. فالحقيقة من حيث هي قيمة انسانية قطبان: الوجود والمعرفة. الوجود بلا معرفة ليس قيمة. والمعرفة بلا وجود هي مجرد افتراض. انها ليست معرفة صحيحة مهما عظم الوهم انها كذلك. فالأمة السورية كانت موجودة بذاتها قبل الحزب. وكانت موجودة في إدراك الجماعة في تاريخها القديم. فالأصول السورية المشتركة يشكل وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية على أساس اثني نفسي تاريخي؛ اشتركت في دورة الحياة الطبيعية الكبرى في بيئة الهلال الخصيب الطبيعية التي تشكل وحدة اقتصادية زراعية استراتيجية. وتاريخ الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والآمورية تدل كلها على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لهذه البيئة الطبيعية المميزة والتي يشكل البحر والصحراء والجبال حدودها الطبيعية الفاصلة. وهي هذه الحدود الواضحة الطبيعية الفاصلة التي جعلت الإمتزاج وتكوين الشعب السوري العظيم ممكناً. حاصلاً بالواقع. فهي قد دفعت الأصول السورية إلى التمازج وانشاء نسيج شعبي واحد بقدر ما منعت التمازج ما وراءها. كما قدمت له الامكانيات الطبيعية المتنوعة من مناخ وسهول وجبال وانهار ومعادن مكنت الشعب السوري ان ينمو وينشيء ثقافته وتمدنه اللذين وجها الثقافة والتمدن في العالم كله».

 

غير ان فقدان الأمة السورية سيادتها على نفسها ووطنها بعامل الفتوحات الخارجية الكبرى وإخضاعها لسيادات خارجية، عرّض البلاد إلى انقطاع تاريخها القومي وأدى إلى تجزئتها وضياع هويتهـا القومية. فخضوع سورية القديمة للسيادتين الخارجيتين: بيزنطية في سورية الغربية، وفارس في سورية الشرقية (إيراه. ومنه كانت اللفظة المعربة عراق)؛ وكذلك خضوعها في التاريخ الحديث للاستعمارين الفرنسي والبريطاني، أديا إلى قيام الكيانات المرتجلة والتسميات السياسية المجزأة. فكانت فلسطين وشرق الاردن والشام والإسكندريون ولبنان والعراق والكويت؛ كما كانت سورية قـد خسرت كيليكية لتركية وقبرص لليونان وسيناء لمصر وأخيراً فلسطين «لإسرائيل». إن سورية الطبيعية تشمل جميع هذه المناطق التي لا يستطع أي انسان مسؤول ان ينكر وحدتها الجغرافية الزراعية الاقتصادية الاستراتيجية الاجتماعية القائمة بالقوة. وعلى النهضة السورية القومية الاجتماعية أن تعمل لقيامها بالفعل في وجدان المجتمع السوري كله. لأن انتصار النهضة القومية الاجتماعيـة وقيمها وعزتها لا يمكن ان تتم بدون اكتمالها .

 

هذا هو الوضع الفكري بالنسبة إلى مفهوم الامة عموماً وبالنسبة إلى امتنا السورية بالتخصيص.

 

أما النظرة إلى القومية بالذات، التي هي التعبير الروحي عن شخصية الأمة والولاء لها، فقد تباينت الآراء في شأنها وفي تقييمها، وتطورت مفاهيمها من العصبية السلبية (الشوفينية) إلى رفض القومية واعتبارها ردّة رجعية تتنافى مع خط التطور الإنساني السائر إلى صهر الإنسانية كلها في اخوة روحية حضارية شاملة. أو على حد قول الماركسية المادية النظرية، في وحدة طبقية عمالية عالمية (يا صعاليك العالم اتحدوا) تلغي الطبقات الاقتصادية وتقضي بذلك على القوميات ومبرراتها.

 

أما نهضتنا فإنها لا تنظر إلى القومية من زاوية الشوفينية السلبية التي تفصل المبدأ القومي عن المبدأ الإنساني، والتي لا تستطيع ان تفسر الولاء القومي إلا كرهاً للأجانب وطمعاً بهم واستغلالاً وتحقيراً لهم.

 

ولا تنظر إلى القومية من زاوية الماركسية المادية النظرية التي تجرها فلسفتها الجزئية وحتميتها المادية التاريخية إلى حصر تفسير التطور الإنساني في العلاقات المادية الاقتصادية، فتهمل القيم القومية الايجابية الإنسانية وتتخطى كل العوامل النفسية والثقافية في بناء الأمم ونشوء نظرتها إلى الحياة والكون والفن.

 

إن عقيدتنا القومية الاجتماعية تنظر إلى القومية من زاوية الحقيقة الإنسانية الاجتماعية. انها نظرة ايجابية لا سلبية. انها فعل لا ردة فعل، فالنظرة القومية السلبية الشوفينية ليست انسانية لأنها تحقر الإنسان. تحقر الإنسان الذي تضطهد وتستغل وتستعبد فتجرده من حريته وسيادته وثروته. تجرده من انسانیته قسراً، ولكنها تحقر أكثر الإنسان الذي يمارس عمليات الاضطهاد والاستغلال والاستعباد، وتقتل فيه الإنسان. تقتل فيه الفضائل والقيم الراقية والمثل الإنسانية. انها تحقر ذاتها. تكسب العالم وتخسر نفسها.

 

والنظرة «الإنسانية الروحية» ليست فعلاً. انها ردة فعل لمآسي القومية السلبية وويلاتها وعاهاتها الروحية. وهي نظرة جزئية إلى الحياة الإنسانية. هي نظرة روحية تتجاهل الحياة في واقعها الاجتماعي المادي الروحي .

 

والنظرة الماركسية المادية ليست فعلاً مهما تعللت بالعلمية والموضوعية والفلسفة. هي ردة فعل فلسفية للفلسفة الروحية الغيبية ومتاجراتها. وهي ردة فعل انسانية لنظام الطبقات الرأسمالي البشع. ونضالها الإنساني في سبيل تحرير الطبقـة الكادحة المستغلة ملك عليها قدرتها على الرؤية الشاملة فلم تستطع ان تخرج عن إطار العلاقات الاقتصادية.

 

والعدالة الاقتصادية مهما تسامت في سلم القيم فإنها تبقى أحد وجوه التعبير عن العدالة الإنسانية، وأحد ميادين تجسيدها. فالعدالة الاقتصادية تحقيق مادي، أو محاولة تحقيق، في حقل الاقتصاد لقيمة إنسانية نفسية اجتماعية هي قيمة العدالة. فهي بذاتها ليست القيمة الكلية إنها أحد وجوهها. وحصر النظرة إلى العدالة في هذا الوجه بالذات اجتزاء للقيمة وحصر لها. وحصر النظرة إلى الإنسان والإنسانية في زاوية الوجه الاقتصادي المادي وحده اجتزاء للإنسانية وحصر لها. وهذا يعرض الإنسانية وقيمها، ومن بينها العدالة، والعدالة الاقتصادية ذاتها، إلى الجمود والتقلص وعدم القدرة على الحركة والفعل والنمو. فلا يستطيع جذر واحد - جذر الاقتصاد - مها كبرت قيمته ان يؤمّن التطور والنمو الصحيحين للمجتمع في كل مجالاته النفسية والمادية.

 

أما القومية الاجتماعية فإنها تقول بالقومية من زاوية القول بالأمة، من زاوية القول بالمجتمع الإنساني الأمثل الذي هو الأمة. ومن زأوية الولاء لهذا المجتمع الإنساني الذي «هو متجه القيم الإنسانية كلها ومصدرها وغايتها وضامن استمرارها» لأن القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية. والاجتماع ليس شيئاً مقرراً بالاختيار من قبل الإفراد ينشأون خارج المجتمع ويقررون بإرادتهم الانتماء إليه .

 

ليس للفرد وجود «إنساني» خارج المجتمع. الوجود خارج الجماعة هو وجود «الوحوش» أو وجود «الآلهة» (أرسطو). الإنسان الإنسان هو بالضرورة كائن اجتماعي. ولا نعني بقولنا «كائناً اجتماعياً» انه يعيش في المجتمع. يؤمّن فيه عيشه وأمنه وسلامته وإستمراره البيولوجي. بل نعني ان كينونته الإنسانية، وجوده الإنساني، حضارته، قيمه، مثله، غايته، لا تكون إلا باجتماعيته. لقد مرت ألوف القرون عـلى الكائن البشري وهو في حالته البدائية الوحشية. يعيش بغريزته ويعيش لها. فلم ينشىء حضارة. لم يتأنسن. بدأت حضارته وبدأت إنسانيته فقط في المرحلة الاجتماعية من تاريخه الطويل. في الجماعة التي لا يزيد تقدير تاريخها على بضع مئات من القرون. وسرعة نمو حضارته، نموه الإنساني، تزداد كلما زاد التلاحم العضوي والتفاعل في الجماعة. إن تطور حضارته وانسانيته مرافق لتطور اجتماعيته وتلاحمها واكتمالها.

 

حتى «الفردانية» - كقيمة يدعيها دعاتها ـ لا وجود لها في هذا المعنى إلا في الجماعة. فالفردانية، إن افترضنا أنها قيمة، هي بالضرورة قيمة اجتماعية. خارج المجتمع لا يدرك الفرد شخصيته الفردية فلسفياً. يدركها فقط غريزياً وبيولوجياً.

 

يقول «كانط»: «الإنسانية هي الموضوع والغاية وليست وسيلة لأي شيء. والشخص الإنساني هو الأول والمتقدم منطقياً وخلقياً. وهو في ذاته المنطلق والغاية». ويردد الفردانيون هذا القول معتبرينه غاية الإرتقاء والتحرر. هـذا قول يحمل خطأه في نصه. أجل ان الإنسانية هي الموضوع والغاية، ولا يجوز ان تكون وسيلة لأي شيء سواها. ولكن هل الإنسانية هي الفرد بذاته. الفرد في محدوديته. وهل للفرد بذاته إنسانية خارج الجماعة. أو ليست الإنسانية ذاتها، التي تعطي الفرد قيمة ومعنى، أو ليست هي قيمة اجتماعية كلياً ولا وجود لها إلا في الجماعة؟

 

قد يعتقد البعض ان في هذا القول محاولة ضمنية لشخصنة المجتمع باستقلال عن الأفراد. والمجتمع في ذاته لا وجود له. نعم، لا مجتمع دون أفراد. المجتمع لا يقوم ولا يكون إلا بالأفراد في تعاقبهم وتتاليهم. وكذلك أيضاً لا أفراد «إنسانيين» دون مجتمع. لا إنسانية دون مجتمع. لذلك فالفصل بين الفرد – الإنسان والمجتمع وكأنهما كائنان منفصلان قول خاطئ. لا يمكن ان يستقل أو ينفصل الواحد عن الآخر ويبقى. والنظر إلى الفرد – الإنسان والمجتمع وكأنهما نقيضان في صراع قول خاطئ أيضاً.

 

النظرة السليمة هي الوحدة العضوية الحية التي تجمع الفرد - الإنسان في مندمج إنساني حضاري مدرحي راقٍ. هو إنسان سعاده. الإنسان - المجتمع. «الذي يرفع الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في امكانياتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون» انه نظرة سعاده إلى الإنسان أسمى وأرقى من النظرة الفردانية الخاطئة». لأن الفرد في حد ذاته وضمن ذلك الحد هو مجرد امكانية إنسانية». ولا تصبح الامكانية فعلاً، لا تحقق ذاتها، إلا بالجماعة. ولا تحقق ذاتها بأمثل ما يكون إلا بالجماعة المثلى، في المجتمع الأمثل.

 

وما هو المجتمع الأمثل؟ ماذا يقرره؟ ماذا يحدده؟ هل يضيق إلى حد المتحد العائلي، أم يتسع ليشمل الوجود الإنساني العالمي؟

 

ان أمراً في مثل هذه الخطورة لا يجوز ان تقرره الأقوال الاستبدادية المطلقة. لا يجوز ان تقرره إلا الحياة ذاتها. الحياة في تطورها وخطها الاجتماعي. فالمجتمع الأمثل هو الذي تقرره وحدة الحياة الاجتماعية الطبيعية الكاملة المنفتحة على الإنسانية والمنطلقة من المتحد العائلي. فلا تضيق حتى تخسر مقومات البقاء والتقدم والإرتقاء. ولا تتسع وتنفلش حتى تنعدم الصلات الحياتية والروحية بين الجماعة. وهذه الوحدة الحياتية المنطلقة من العائلة والمنفتحة على الإنسانية هي الأمة في تحديد سعاده. فالأمة هي الوسط الأكمل الذي تتحقق فيه إنسانية الإنسان على أرقاها. من هنا ولاؤنا القومي للأمة وحياتنا لها واستعدادنا للموت في سبيـل صيانتها وسيادتها وحريتها وعزتها.

 

من هنا قولنا «أمة واحدة مجتمع واحد». وعلى هـذه القاعدة الاجتماعية، قاعدة وحدة المجتمع تقوم وحدة المصالح، ووحدة الحياة، وعضوية الدولة، وتساوي الحقوق لأبناء الأمة. على هذه القاعدة فقط تقوم المصلحة العامة الصحيحة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات أو مواثيق وطنية.

 

على أساسها تقوم قاعدة العدل الاجتماعي الحقوقي التي تساوي بين المواطنين والتي تنقـذ الأمة من تنافر العصبيات الدموية والمذهبية والطبقية فتنتفي عوامل التجزئة، وتزول الأحقاد، ويمحي الاستغلال وتسود المحبة القومية؛ فتنتفي مسهلات دخول الارادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

 

على أساسها تقوم قاعدة العدل الاقتصادي الحقوقي بين جميع المشتركين في الانتاج القومي. وكل انتاج في الأمة هو انتاج قومي، المصلحة فيه للشعب، للمجتمع وليس للأفراد كأفراد. «إن ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة».

 

ان النظرة الاجتماعية في نهضتنا لا تنحصر في وجه من وجوه الحياة القومية بل تشمل كل نواحي الحياة الإنسانية في المجتمع القومي. «وغايتها الأخيرة هي الحياة وجمالها وخيرها وعزها. هي المثل العليا والقيم الإنسانية. هي الفضائل والمناقب والأخلاق المتينة». وعلى هذه الغاية تلتقي مع الوحدات الاجتماعية في العالم، تتفاعل معها باحترام وثقة. وتتساند بمحبة إنسانية لبناء المدنية الإنسانية الشاملة.

 

أيها الرفقاء الأعزاء:

 

يبدو لنا بوضوح ان سعاده بإرسائه النهضة السورية القومية الاجتماعية على الفلسفة المدرحية وعلى العقيدة القومية الاجتماعية استند إلى الواقع الاجتماعي في إطاره التاريخي، وإلى حكم العلم وسلطان العقل. فلم يتوجه إلى عواطف المواطنين وغرائزهم وأوهامهم، بل توجه إلى عقلهم باحترام منه للعقل الإنساني أساساً وللعقل السوري بالتحديد. فيجدر بنا ان نتوقف عند عقلانية النهضة نستشرف معالمها ومركزها.

 

العقلانية :

 

يقول مؤسس الحركة القومية الاجتماعية «العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي، هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة. فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والادراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً.

 

ان اعتبار العقل الإنساني الشرع الأساسي والأعلى في الحياة، وضع حداً في حزبنا للاتكالية القدرية والعقلية الغيبية في معالجة شؤون الحياة القومية الاجتماعية. ونقلنا دفعة واحدة من الركود والاستسلام للقدر، والأحكام للأبدية السرمدية، وللإرادات الغريبة، إلى تسلم أمورنا بنفسنا وتقرير قَدرَنا في الحياة بإرادتنا. فانتقلنا من جماعة مسيّرة بجميع أصناف الأوهام الموروثة والارادات الغريبة، إلى جماعة مخيرة فاعلة، تقرر بنفسها وبعقلها، بنضالها وجهادها، مصيرها ومصير وريثها في هذه الحياة.

 

وبما أن العقل هو ميزة الإنسان الاساسية، فاعتماد العقل إذن تجسيد لإنسانية الإنسان وتحقيق لها. وإذا كان العقل موهبة الله الأولى «فليس معقولاً إذن أن يعطل الله هذه القوة بشرع أبدي أزلي» فلم يبق عند القومي الاجتماعي أمر من أمور الطبيعة والحياة محرماً على العقل. بل أصبحت كل أمور الحياة الطبيعية والاجتماعية خاضعة لسلطان العقل المطلق.

 

من هنا كان رفض الحزب للدولة الدينية وعقليتها وترسباتها، والإصرار على دولة الإنسان. دولة العقل. الدولة العلمانية التي لا سلطان فيها إلا للعقل الإنساني الحر الواثق بنفسه والممارس القوة التي منحه إياها الله ليستعملها. والعلمانية شرط أساسي لأية نهضة تعتبر نفسها تقدمية ثورية. لأن الارتباط بمبدأ التشريع الديني المتحجر في شؤون الحياة يلغي التقدمية والثورية من الأساس، ويربط الدولة بالعقلية الرجعية الجامدة مهما حاولت أن تقتبس من الشعارات الثورية والإنجازات العلمية في حقول الاقتصاد والاجتماع وسواهما.

 

لكي يستطيع الإنسان أن يمارس انجازات العلم والعقل بنجاح وتقدم، عليه أن يؤمن بالعقل والعلم، ويسلم بسلطانهما لكي تنسجم نفسيته مـع الانجازات العلمية التي يمارس في حياته الاجتماعية والمادية، ولكي تصبح له القدرة على الخلق .

 

ان هذا الموقف لا يعني اطلاقاً التنكر للدين كشأن روحي وجداني يهتم بما وراء المادة. إن الدين من أهم تراثات أمتنا. والحركة القومية الاجتماعية تفتخر بهذا التراث الروحي الرائد «وتقول بوجوب تأمين المؤمنين على معتقداتهم واحترام عقائدهم، وبإيجاد مبدأ المحبة والوئام القوميين لتسهيل تفاعل الأفكار والعقائد ضمن وحدة الأمة وسيادتها».

 

ان اعتماد شرعة العقل يصون النهضة من الجمود والدوغماتية المطلقة، ويبقي لها قدرتها على النمو، من ضمن قواعدهـا الأساسية، والاستجابة لتحديات العصر ومطالب الحياة المتطورة. ليس كافياً أن تنبثق مبادىء النهضة عن تأملات العقل وسلطان العلم وتتحول بعدها إلى صنم يحط العقل رحاله عند قدميه بنفسية المتعبد المستسلم. فتنقلب النهضة إلى كابوس يعطـل نمو العقل ويمنع التقدم ويقف بالنهضة عند مستوى الانطلاقة الأولى، التي مهما تكن رائعة، إلا أنها تبقى متأثرة بالزمان والمكان اللذين نمت في نطاقهما. ان القوميين الاجتماعيين مستعدون لتحمل كل أصناف العذاب المادي والنفسي في سبيل نصرة مبادئهم التي أقرها العقل والتي تبقى، من ضمن قواعدها، منفتحة على العقل يفعل فيها توضيحاً وتطويراً وإنماءً بالاستناد إلى معطيات الحياة الجديدة المتغيرة. ولكن من ضمن قاعدة نظام الفكر والنهج الذي يصونها من الخروج عن قاعدتها الاجتماعية الاساسية، قاعدة نظام الجماعة العقائدية، التي لها وحدها يعود حق تقييم الاجتهادات الفردية وقولها أو رفضها استناداً إلى نظام دقيق يقيها من البلبلة الفردية والأثرة الشخصية ويحفظها من التفسخ والأنهيار .

 

وبما أن النهضة القومية الاجتماعية تعتمد على شرعـة العقل، لذلك فقد اعتمدت في دعوتها ونشر مبادئها على عنصري الفهم والمعرفة. ان الحزب يطلب من اعضائه الولاء الكلي للنهضـة ولكنه لا يريد هذا الولاء على أساس عاطفي أو شخصي أو أي أساس غير أساس الايمان المبني على الفهم والمعرفة. يقول المعلم «إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والقضايا التي تواجهها، لم نكن قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى لتحقيقه» إذ ما نفع العقل إذا لم يستعمله الإنسان للمعرفة والفهم؟ والفهم والمعرفة يتنوعان بالنسبة إلى كفاءات الأفراد. فإذا لم يستطع الأفراد فهم جميـع قواعد الحركة ومنطلقاتها الفكرية، فإن من واجبهم، لكي يكونوا قوميين اجتماعيين، أن يفهموا على قدر طاقاتهم العقلية والعلمية، وأن يتجاوزوا الحد الأدنى الذي هو فهم مبادىء الحركة وغايتها وأخلاقها.

 

قد يحتاج هذا البناء الدقيق وقتاً طويلاً. ان من طبيعة القضايا الكبيرة أن تحتاج إلى وقت طويل. يقول المعلم «أن النهضة لا تبنى إلا على أساس متين. مهما استغرق وضع الأساس فلا بد من وضع الأساس. نحفر في الارض إلى ان نصل إلى الصخور المثبتة التي يمكن أن نؤسس عليها البناء المتين الذي نتصور. إننا لا نضيع وقتاً في هذا العمل. غيرنا يبني على سطح الارض. يجمع أكواماً من الرجال في برهة وجيزة وكيفما اتفق. من الرجال المتعددي النفسيات يظن أنها تقدر على عمل يمكن أن يسمى فتحاً أو انتصاراً، والسير بها جماهير لا أول لها ولا آخر. وحالما تصل هذه الجيوش إلى مواجهة الخطوط الأولى يظهر ضعفها، وتفسخ نفسياتها، وتشوش عقليتها، وتضارب أفعالها وخططها، فترتطم وتصدم وترتد أمام الأعمال النظامية التي يقوم بها الأعداء. فتضمحل واذا هي لا شيء. تطير هذه الجيوش أمام قوة قد تكون أقل منها بكثير»

 

ليس هذا القول نبوءة وإن صّور منذ عشرين عاماً حالة جيوشنا السورية والعربية في الهزيمة الأخيرة أصدق تصوير. إنه قول رجل عبقري، منظم العقل، علمي المنهج، واسع الاطلاع، يقرأ بعين التاريخ الثاقبة تتالي الأحداث في ضـوء العلم وهداية العقل، إنه قول قائد مسؤول. إنه قول ثائر صحيح الثورية، إنه قول معلم .

 

رفقائي الطلبة:

 

افهموا عقيدتكم، آمنوا بعقولكم، مارسوا نظامكم، احيوا مناقبكم، انشروا نهضتكم، تابعوا نضالكم، مارسوا بطولتكم، تحققوا وجودكم وتنتصر ثورتكم.

 

اسلموا للحياة

 

ولتحي سورية وليحي سعاده

 

الأمين عبدالله سعاده

 

سجن القلعة في 22 تشرين أول 1967

 

ملاحظة: جميع المقتبسات الموضوعة بين اهلّة هي للزعيم

 

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro