مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
المقالات الأدبية أدب الكتب وأدب الحياة
 
 
 
الـمجلة، بيروت، المجلد 8، العدد ،2 1933/4/1
 

 

مـما لا شك فيه أنّ أهم صفة لازمت حياتنا الأدبية، في العقد الأخير، ولا تزال تلازمنا في معظم ما نكتب أو نقول، هي صفة الـجدة الأدبية والنزاع بيـن الـحديث والقديـم. وقد أصبحت هذه الصفة »لازمة« لا بد من العودة إليها في كل موضوع أدبي، وهي ظاهرة من ظواهر »هذا الصراع الصامت الـمحتدم« الذي يشير إليه صاحب الـمجلة في العدد السابق. ومع علمي أنّ الكتّاب السورييـن والـمصرييـن قد قتلوا الـموضوع درساً وتـحليلاً في عمومياته، فقد رأيت أن أخص هذا الـمقال بناحية مستقلة من نواحي أدبنا، هي ناحية الإنتاج الأدبي ومجرى الفكر فيها.

 

في مكاتب بيروت ودمشق طائفة غير قليلة من الدواوين الشعرية لعدد من »فحول« الشعراء، أو الـمرشحيـن »للفحولة«. والصفة الغالبة في قصائد هؤلاء الشعراء هي صفة النسج على منوال فحول الشعراء السالفيـن، أي صفة التقليد في نسج بردة القصيدة واستهلالها وختامها، حتى تأتي شديدة الشبه بقصائد الأوليـن، مضارعة لها في الـمتانة وحسن السبك وجزالة الألفاظ وجمال الغزل ولطافة النسيب، وتكاد تكون في أكثر الأحاييـن »فكسميله« أو نسخة طبق الأصل عنها، لولا بعض الأغراض الهزيلة أو الـجليلة التي تشغل أبيات القصيدة القريبة العهد وليس لها ذكر في القصائد القديـمة. وقليلاً ما أبدل شعراؤنا الـماضون والـحاضرون الـمنوال القديـم وقليلاً ما غيّروا طريقة النسج ومادته، ذلك أنهم خرجوا إلى الـحياة شعراء مولعيـن بالصورة الشعرية الأولى التي انطبعت على أدمغتهم، وهي صورة نوع واحد من الشعر في نوع واحد من الكتب الشعرية. والصورة الـمذكورة كثيراً ما تـمثّل الشعور الـجامح (الـحماسة والفخر)، والإحساس الـمنفعل تـحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبيب)، وقلّما تـمثل العاطفة الصحيحة النامية نحو طلب مثال أعلى في الـجمال الـجسدي والنفسي والطبيعي، وندر أن ترينا الفكر الهادىء الـمتأمل في الـحياة وحوادثها. لذلك فهي أقرب إلى التعبير عن الغريزة العضوية والطبع الـحيواني منها إلى ترجمة النفسية الإنسانية، خصوصاً لأن اختبارات هؤلاء الشعراء في الـحياة لم تكن من النوع الذي يزيد فيهم الثروة النفسية، وما أذهب بعيداً إذا قلت إنهم خالون من مطلب أعلى يجذبهم إليه وليس في حياتهم اختبارات تهذب نفسيتهم إلا نادراً جداً.

 

أكاد أكون موقناً أنّ تسعة وتسعيـن من مائة مـمن مالوا إلى قرض الشعر لم يكن لهم دافع إلى النظم سوى أحد أمرين: إما الرغبة في محاكاة الشعراء الذين درسوهم في الـمدرسة، وإما حب الظهور بـمظهر الشعراء. ومن البديهي أنّ أحد هذين الأمرين لا يـمكن أن يكون مصدراً لشاعرية عالية مـملوءة حياة. وبالاستناد إلى هذه الـحقيقة أجرؤ على القول: إنّ معظم الشعر الـموجود بيـن أيدينا خالٍ من الـحياة.

 

وما يقال في الشعر والشعراء من هذا القبيل يقال أيضاً في الإنشاء الأدبي والـمنشئيـن. فقليلون هم الكتّاب الذين استطاعوا أن يتحفونا بـما يستحق أن يعيش أكثر من عقد واحد من السنيـن. وأعتقد أني لو اقترحت على القرّاء والـمهتميـن بالأدب أن يسمّوا لنا الكتب الأدبية التي يجب أن لا تخلو منها مكتبة سوري، لوجد الـمقترح عليهم صعوبة كبيرة في تعيينها. ولـماذا أذهب بعيداً وأطلب الأدب الـخالد؟ فيكفي الإنسان الراقي ما يعانيه في البحث عن كتب يشعر أنها من الـحياة وأنّ لها مساساً بحياته: بعواطفه وأفكاره وأمياله وآماله.

 

إنّ نقص الـحياة والأساس الـحياتي في أدبنا لأمر رائع ونتيجة مؤسفة جداً لأنها تضرب بيننا وبيـن الـمثل العليا حجاباً كثيفاً، ولا تـمدُّنا إلا بـما ابتذل من الألفاظ وهزل من الـمعاني وأقفر من الـمبادىء. وإذا كانت الأسباب الـمباشرة لهذا الفقر الـمدقع في الأدب ما ذكرت في الكلام على الشعراء من إسراعهم إلى قرض الشعر لـما يجدونه من السهولة في اقتباس الـمعاني الـمحدودة عن الشعر القديـم الذي بيـن أيديهم، وإقبال الشبان على الكتابة الإنشائية البحتة وليس لهم من العدة سوى الـمنطق اللغوي. وإذا كان كثيرون من الذين حاولوا وضع الروايات والقصص لم يرموا إلى غرض غير الشهرة الشخصية ولم يتناولوا من الأفكار إلا ما هو عادي، فما توفقوا إلى اكتشاف شيء جديد في الشؤون النفسية، فالأسباب الكامنة وراء عقلية الشعراء والكتّاب هي الـحياة التي يحيونها في محيطهم وبيئتهم وهي جزء من حياة الـمحيط كله. فإذا درسنا الـحياة الـحبية في محيطنا، وهي أهم عوامل الشعر، وجدنا أنها لم ترتفع إلى الدرجة التي تنهض بالنفس إلى الـمطالب العليا الباعثة على الإقدام والشجاعة والكرامة وتنقية النفس من الشوائب وعقد العزيـمة على منهاج معيـّن. فإن تقاليدنا الـمتوارثة كانت تـمنع الاتصال النفسي والـحب الـحقيقي القائم على الانتخاب الطبيعي والنفسي ولا تـجيز إلا الـحب الـجسدي، فكان يكفي الطالب أن يقال له إنّ الفتاة التي انتخبوها له جميلة الـملامح، صفة صدرها كذا وخصرها كذا وعيناها كذا إلى آخر ما هنالك من أوصاف تعمل في شهوته أو أن يراها في زيارة أو زيارتيـن ليتحقق من أنّ جمالها الـجسدي يوافق رغباته الـجنسية. أما الفتاة فقليلاً ما كان يؤبه لرغباتها هي وإرادتها. وعلى هذا الأساس قام الارتباط العائلي عندنا وهو لا يزال الـمعوّل عليه في معظم مجموعنا إلى هذه الساعة.

 

ومن هذا النوع من الـحياة الـحبية الـجامدة استمد شعراؤنا وكتّابنا الروح الشعرية أو الروائية التي أظهروها لنا في غزلهم وتشبيبهم وفي شباك رواياتهم القليلة، فلم تكن روحاً ساذجة فطرية تـميل إليها لصفائها وخلوصها، ولم تكن روحاً عميقة القرار غنية بالعوامل النفسية والتصورات العقلية تشعر بجمالها وجلالها.

 

والـذين اتصلوا باللغات الأجنبية من شعرائنا وكتّابنا أدركوا الفرق بيـن دقة مواضيع أدباء الغرب وبساطة مواضيع من تقدمهم من أدبائنا، وشغفوا بالأدب الغربي شغفاً حملهم على محاكاته وإعطائنا الكثير من صوره ومعانيه كما صدرت عن واضعيها، وقبل أن تصبح أصيلة فيهم، فجاءت شيئاً جديداً غريباً لا يـمكن عامتنا، ولا القسم الأعظم من خاصتنا، فهمه وتقديره وتذوّق حلاوته، لأن الـحياة الصادر عنها هي حياة جديدة غريبة لهم، بل إنها غريبة للشعراء والكتّاب أنفسهم. وهؤلاء يؤلفون نوع الأدباء الذين جاؤونا بشيء جديد لا هم فقهوه ولا نحن فقهناه.

 

أضف إلى ذلك أنّ الفريق الأكبر من أدبائنا ينفق شبابه في أدوار غرامية لا تختلف كثيراً عن أدوار عامة الشباب في بلادنا. ولا يـمكنّي أن أضع هذه الأدوار في جملة العوامل التي توجه القوة الفكرية والعاطفة النفسية نحو مثال أعلى تنعكس صورته على صفحات الكتب الأدبية. ولذلك نرى الصور الوحشية غالبة في شعر ونثر الذين لم يتصلوا بالأدب الغربي الـمستمد من نوع آخر من الـحياة. فالقدود والـخدود والنهود تؤلف العامل الأقوى في شعور الشاعر ومخيلة الروائي، ومصطحباتها هي عادة من النوع الـمبتذل، كبروز الشهوة القوية الطالبة بلوغ إربها الـحيواني بأسرع ما يـمكن، فإذا لم تتمكن من بلوغه ابتدأت تتذمر وتتململ وتئن وتشكو، ولا يندر أن تسترسل في البكاء والعويل. وهذه الظاهرة النفسية تـمثّل العامل الأساسي في أكثر دواويننا الشعرية وكتبنا الأدبية الـمستمدة من الأدب العربي الـمرتكز على الأدب الـجاهلي. وهي أقرب ظواهر النفسية الإنسانية إلى ظواهر النفسية الـحيوانية، فإذا أنت وضعت أمام كلب أو قطة أو قرد جاذباً يوقظ رغبته، وجعلت بينه وبيـن ذلك الـجاذب حاجزاً من أسلاك مشبكة، فأول ما يبدو من الـحيوان حينئذٍ هو أنه يهجم لفوره على الـجاذب حتى إذا صدّه الـحاجز في محاولاته أخذ يتحرق ويعول بشدة. وهذه هي النفسية التي يـمثّلها لنا كثير من شعرائنا وكتّابنا في منظوماتهم ومنثوراتهم، فإنهم يرون جاذباً قوياً: امرأة جميلة. فيطلبون الوصال فتصدّهم العادات الاجتماعية أو الـمرأة نفسها، فيتلهفون ويتحرقون و»يذوبون صبابة« وينادون ويسترحمون ويبكون ويعولون. والقلائل الذين بحثوا في منظوماتهم ومنثوراتهم عن »نفس الـمرأة« ورغبات قلبها، وعن الآمال والأميال التي تربط عواطفها الـحبية بعواطف الرجل، هم من الذين توسعوا في الأدب الغربي واختبروا الـحياة بعقول وقلوب متجددة.

 

إنّ الأديب الكبير الذي خَبِرَ أنواعاً من الـحياة أرقى من النوع أو الأنواع الـمعروفة عندنا، وتـمكن من إيجاد أدب جديد لـحياة جديدة، وأنشأ مدرسة أعطت نتائج غنية بالـجمال النفسي، وأثّرت على البيئة التي خرج منها، وامتد تأثيره إلى جميع الأمـم التي يحيط بها نطاق اللغة العربية، إنّ هذا الأديب الكبير هو جبران خليل جبران الذي، على ما في مناحي أدبه من نقط ضعف، تـمكن من أن يهز قلوب مواطنيه بألفاظ موسيقية ومعان أشربتها النفوس. ولقد أعطت الأمة السورية أدب اللغة العربية غير منشىء الـمدرسة الـجبرانية. أعطته عدداً غير يسير من الشعراء والأدباء النازليـن، أو الذين نزلوا سابقاً بيـن الأمـم الغربية. ولولا ما نراه من نـمو أدبنا في الوقت الـحاضر نـمواً يثبت حياته لـما كنت وجدت من الـمستحسن أن أعرض لهذا الـموضوع الـخطير الآن.

 

الذي أريد أن أقوله، في ختام هذه العجالة، هو أنّ أصول الأدب يجب أن تكون في الـحياة لتتمكن من إعطاء ثمار تغذي الأحياء. فالأدباء الذين طالعوا كثيراً في الأدب، ولكنهم لم يختبروا شؤون النفس الإنسانية وأنواع الـحياة الراقية، لا يـمكنهم أن يوقّعوا أنغاماً جديدة تسترعي أسماعنا وتـملك قلوبنا، بل هم يندفعون في تكرار اللحن الوحيد القديـم. ومهما كان ذلك اللحن جميلاً فهو لتكراره، قد أصبح وقراً في الأسماع. وكل أدب لا يعرف الـحياة لا يحيا.

 

                                                                           »مفكر حر«

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro