مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
تخبط وفوضى
 
 
 
الزوبعة، بوينُس آيرس،العام الثالث، العدد 50 (15/8/1942) ص 1 - 3
 

 

تقديـم البحـث في الزوبعــة[1]

 

نشرت مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، في عددها الصادر في فبراير/شباط سنة 1935 ثلاثة كتب تدور على ديوان الأحلام للشاعر شفيق معلوف نزيل سان باولو، البرازيل، وقد لفت نظري الاحتكاك والتصادم الفكريان في الشعر وأغراضه اللذان أثارهما ظهور الأحلام ورأيت أنهما يفتحان الباب لبحث يجب أن يحيا ويجد اهتماماً كبيراً في دوائر التواقين إلى الـمعرفة والفهم والراغبين في الارتقاء الثقافي الذي يـمكّن الأمـم من إبراز أفضل مواهبها والصعود إلى قنة مجدها. وإلى القارىء الكتب الـمذكورة وتعليق الشاعر الأخير عليها حين سلّمها للنشر، كما وردت في مجلة العصبة المحتجبة:

 

- 1 -

 

من كتــاب الريحــاني

 

عن الفريكة في 12 نيسان/أبريل 1926

 

عزيزي شفيق المعلوف حفظه الله

 

أشهد أنك شاعر. ولكنك في الأحلام بعيد عن كنه الـحياة والـمقاصد الكبرى فيهـا. قـد كـانـت هـذه اللهجـة - لهجـة الكآبـة والـحـزن - «موضة» فـي زمن

 

بيرون وميسه. وهي في الشرق، خصوصاً فينا نحن السوريين، داء دفين. فما فضل الشاعر وهو يبكي ويئن مثل عامة الناس؟

 

أمّا من النظر الفني ففي «أحلامك» كثير من بديع التصور، وجميل الـخيال ورقّة التعبير، ونعومة الديباجة. ولكنك مقلد يا صديقي. ولا أقول مقلد لـجبران وهو مثلك في دموعه من الـمقلدين - اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته - إذا كان لا بد من العود - بدل أن تـحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميسه وبيرون.

 

ليس الشاعر «زنبقة في جمجمة» إنّ في ذا التصور غلواً فيه سقم وليس فيه شيء من الـحقيقة والـجمال. إنّ فيه تـحقيراً للجنس الإنساني، وأنا وأنت وجبران منه والـحمد لله. وإنّ في الكون وفي الـحياة جمالاً أسمى وأبهى وأعظم وأجلّ من جمال الزنبقة اللطيف الـمحدود، وأنت وأنا وجبران، والشمس والقمر والـمجرّة، لـمعات مجسدة من ذلك الـجمال والـحمد لله.

 

أما الشاعر فهو من الناس، من صميم الناس. وليس من ظن نفسه فوق الناس بابن عم لإبن عم أصغر الشعراء. إنـما الشاعر الـحقيقي مرآة الـجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الـملمات، وسيف في النكبات. الشاعر الـحقيقي يشيّد للأمـم قصوراً من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل. كفكفوا دموعكم سلمكم الله. وارفعوا لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور، فيه أمل، فيه صحة وعافية. وإنّ في الصحة حياة جديدة.

 

                                                                    صديقك

 

                                                                                             أمين الريحـاني

 

- 2 -

 

من كتــاب صاحــب الأيــام

 

عن نيويورك في 14 تموز/يوليو 1926

 

عزيزي شفيق

 

... وددت لو يسمح لي الوقت بإبداء بعض ملاحظاتي مطولاً في ديوانك، ولكن ما أريده لا يتاح لي فنحن هنا عبيد أوقاتنا، غير أنّ ذلك لا يـمنعني من إبداء رأيي في أشياء جوهرية أريدك أن تعيرها جانب الاهتمام.

 

إعتن في مؤلفاتك الـمقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام الـمشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة الـمرء في الـحياة وقبل كل شيء أترك الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة. واطرق أبداً الـمواضيع الـحيوية والعمـرانيـة وشهِّر تشهيراً لا تخشى معه لوم اللوام مواضع الضعف في الأمة، مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها، على سبيل حب الإصلاح الـمجرّد ليس إلا، وأن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنـواح على الطلول البالية والآثار الـخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين ولا سيما الشعراء منهم، بل كن ذاك الرجل الـمفكر في الـحياة وما تتطلبه الـحياة من عوامل الرقي وأسباب العمران، ولا تكن شرقياً في خيالك وعملك، بل الـمس بيدك أبداً حقائق الوجود، واسع إلى العمل بها دائماً وفي كل حين، لأن فضاء الشرق مـمتاز عن كل فضاء، كله خيال بخيال، يوحي إلى الـمرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود، فمنه أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعداد منازعها وكثرة معتقداتها، فكان شراً في الـحياة على نفسه وعلى غيره - فكن يا شفيق إذاً رجلاً يؤخذ بالـحقيقة لا يضلّه الـخيال...

 

                                                                                           عمــك

 

                                                                                       يوسف نعمـان معلـوف

 

 

- 3 -

 

جــواب صاحــب الأحــلام

 

عن زحلة في 15 أيلول/سبتمبر سنة 1926

 

سيدي العم الفاضل

 

... أما ما ذكرتـموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزّلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام الـمشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تـجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولـجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبـراز صـورة عالـجهـا من قبله آخـرون فاستحدث لها ألواناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟

 

أمّا أن أترك في شعري «الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق الـمواضيع الـحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريـم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته - في أحايين كثيرة - منفعة يصيبها الـمرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالـمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الـخالد.

 

إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم الـمرهفة وقرائحهم الـمشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الـحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الـجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.

 

أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى الـمواضيع الـحيوية العمرانية، ولكن هذه الـمواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريـم، وأنا من هواة الشعر الـخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة...

 

                                                                                               الـمخلص

 

                                                                                               شفيق معلوف

 

- 4 -

 

حاشية - في 22 شباط/فبراير سنة 1935

 

مضـى على هـذه الكتب الثلاث زمن غير قصير، ولو طلب إليّ الآن رأيي في ما أنكره عليّ الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى في قصيدة الأحلام، لأنكرت معهما على نفسي ذلك الأسلوب، لو أنّ الأحلام كانت من منتوج العهد الـحاضر. أمّا وهي قد نظمت في زمن لم أكـن قد جاوزت فيه الثامنة عشرة من العمر، تـحت تـأثير طـور الفتـوة الـمكتنـف بالظلمات والـحيرة وقلق النفس، فإنني أراها صورة حقيقية لنفسيتي في ذلك الـحين، كما يصح أن تكون صورة لنفسية معظم الفتيان، وهذا ما يحببها إليّ ويجعل لها قيمتها في نظري.

 

                                                                                             شفيق معلوف

 

أعتقـد أنّ الـموضـوع الـذي طرقتـه الكتب الثلاث لا يجوز أن يبقى في هذه الـحدود الأولية التي ورد فيها، فالـمعاني فيها كلها نتف مقتضبة لا تسد حاجة ولا تشفي غليلاً. وإذا كان يشفع في اقتضابها أنها كتب خصوصية فلا يشفع شيء بالـمرور بها دون تناولها بالدرس وتـمحيص الأفكار الواردة فيها. ولا أعتقد الـحاشية التي ضمّنها الشاعر تعليقه على كتابي منتقدي ديوانه بالغة الغاية التي يـمكن أن تطمئن إليها نفسُ من لا يقنع من عظمة البحر بوشل ولا من سعة الأفق بحيّز حدده الـمستوى الداني الـماضي.

 

لا أطمح إلى قول كل ما أود قوله في الأدب وفي الفن في أبعد ما أمكن ويـمكن النظرة الإنسانية العليا بلوغه، وجميع ما ينطوي تـحت ذلك من أشكال وألوان، في عجالة أكتبها في صحيفة تلح عليها الـمطاليب السياسية وحاجات التفكير القومي في القضايا الاجتماعية - الاقتصادية، تـحت ضغط الظروف الـحاضرة التي تـحمّلني من أعبائها ما لو زاد أكثر من نسبة قشة التبن إلى الوقر لأرهقني وأرزحني. ولكني لم أجد بدّاً من قول شيء في الـموضوع لإبقائه حياً ولترغيب الأدباء في الإقبال عليه، ولا مندوحة عن إبداء بعض ملاحظات خطرت لي فور قراءتي الكتب الـمثبتة آنفاً.

 

أبدأ بكتاب الريحاني. إنّ فيه مواضع تـحتاج إلى تدقيق كثير. وألاحظ أنّ في هذا الكتاب تعميماً وإطلاقاً يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الـحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصاً كبيراً بدونها، ويظل الفكر قلقاً لا يجد استقراراً واطمئناناً إلا بوجودها وجلائها.

 

نظر الريحاني في الأحلام فوجده ديواناً تسوده «لهجة الكآبة والـحزن» ووصف هذه «اللهجة» بأنها كانت «موضة» في أيام بيرن وميساه. وليس ديوان الأحلام في متناول يدي لأقابل هذا الوصف عليه وأجد كم فيه من تدقيق. ولكني أذكر أني قرأت هذا الديوان قراءة مستعجلة من نحو أربع عشرة سنة، أو يزيد، وأذكر أنّ التأثير الذي أحدثه فيَّ هو تأثير نبضات الإحساس الأول وقد انقشعت حجب الـمراهقة عن قزحية الشـبـاب فتمـازجت فيها الأشـواق والرغبـات التي اتخـذت صـوراً من الـجمـال قوية ولاذعة أحياناً، ولكنها صور ظهرت فيها شاعرية جديرة بأن تـحل موضعاً مكيناً في النفـوس وفي الأجيال. ومع ذلك فلا بد من القول إنّ تعبير «لهجة الكآبة والـحزن» الذي أطلقه الريحاني هو من التعميمات التي لا تفيد كثيراً في دراسة معينة أو مختصة بـموضوع معين. وهو بعيد كل البعد عن تناول الوجهة النفسية وأسبابها.

 

ومن هذا القبيل انتقاله من مخاطبة صاحب الأحلام إلى مخاطبة جميع الشعراء السوريين فيقول لهم «اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته بدل أن تـحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميساه وبيرن.» ولو كان قيل هذا الكلام في غير معرض النظر في ديوان الأحلام لكان إطلاقه هذا الإطلاق غير الـمحدود يجد موضعاً أمنع من موضعه الـحاضر، لأنه يكون حينئذٍ كلاماً عمومياً يفهم منه من شاء ما يشاء، أما في موضعه الـمذكور فهو قليل الـمحصل. ولا يزيد الـمحصل من كلام الريحاني قوله،

 

إنّ الشاعر ليس «زنبقة في جمجمة»، ولا قوله: «إنـما الشاعر الـحقيقي مرآة الـجماعات ومصباح في الظلمات وعون في الـملمات وسيف في النكبات. الشاعر الـحقيقي يشيد للأمـم قصوراً من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل.»

 

هذا الكلام الأخير الذي يحاول الريحاني أن يخرج به من السلبية الصكراتية (السقراطية) إلى النظرة الإيجابية يزيد التعميمات السابقة تعميماً. ويـمكن أن يحسب من قبيل الـمعميات وليس فيه أدنى اقتراب من شجون الـموضوع التي لكل شجن منها اتـجاه خاص.

 

الـحقيقة أنّ هذا الكلام لا يتعلق بديوان الأحلام بقدر ما يتعلق بالشعر والشاعر على الإطلاق. وهو مرسل إرسالاً لا تـحقيق فيه ولا تدقيق، وليست فيه حقيقة أساسية واحدة يصح اعتمادها «لتشييد قصور من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل» للأمـم التي تهدمت قصورها أو لم يكن لها قصور. فإني لا أعتقد أنّ شعراء سورية يصيرون غير ما هم بقراءة سفر أشعيا وترك قراءة سفر إرميا. والعودة إلى شكسبير وغوته وحدها لا تفيد كثيراً إذا لم تكن هنالك ثقافة واعية فاهمة تتبع خطط النفس السورية. وماذا استفاد أدب اللغة العربية كله من عودة الشاعر الـمصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والـمسخ والتقليد الذي لم يضف إلى ثروة الأدب العالـمي مقدار حبة خردل؟

 

أما قـول الريحاني «الشاعر الـحقيقي مرآة الـجماعات ومصباح في الظلمات» فقلـت إنه من قبيـل الـمعميات ولم يصعـد بـنا درجـة واحـدة فوق قول جبران «الشاعر زنبقـة في جمجمـة» فمرآة الـجماعـات لا يكـونها الشـاعر وحـده أو كل شاعر، وقد قال الدكتور خليل سعاده: «صحافة كل أمة مقياس ارتقائها، وصورة أخلاقها، ومظهر شعورها، وعنوان مجدها، فهي الـمرآة التي ترى بها الأمة نفسها»، ومصباح الظلمات يكونه الفيلسوف والفنان والأديب والشاعر والقائد والعالِم، وكذلك «عون في الـملمات وسيف في النكبات.» ويكونه كل واحد من هؤلاء بطريقة خاصة. وفي هذه الـحقيقة يكمن سر لا يجلوه كتاب الريحاني ولا شيء مـما كتب الريحاني. فقد عاد الريحاني إلى هذا الـموضوع في كراس عنوانه أنتم الشعراء قبّح فيه البكاء والعويل تقبيحاً كثيراً، ولكنه لم يعطِ الشعراء درساً واحداً يوجههم توجيهاً جديداً، لأن كلامه كان كله من هذا النوع الغامض الـمشوش الذي يشبه دعوة الداعين إلى الاتـحاد القومي من غير فهم أو تعيين لـما هي القومية وما هي مقوماتها.

 

أترك كتاب الريحاني عند هذا الـحد، وأنتقل إلى كتاب السيد يوسف نعمان معلوف. والذي أراه في هذا الكتاب أنه يشتمل على آراء فجة، أو مبتسرة، مستمدة من الـحياة الأميركانية العملية ذات الطابع الأنكلوسكسوني، وليس فيه شيء من العمق لـخلوه من النظرة الفلسفية أو التاريخية. وهذه الآراء الواردة فيه هي مزيج من نزعة فردية ورغائب عملية وأحكام عامة استبدادية، كقوله «فمنه (الشرق) أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعدد منازعها وكثرة معتقداتها، فكان شراً في الـحياة على نفسه وعلى غيره.»

 

تظهر النزعة الفردية بجلاء في قوله:

 

«إعتنِ في مؤلفاتك الـمقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام الـمشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة الـمرء.»

 

فكأن الشهرة الفردية صارت الغاية الأخيرة الـمتوخاة من الفكر أو العمل، وكأن أهم شيء في طبيعة الفكر أو العمل أن يكون الـمرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعاً. وهي قـاعـدة فـرديـة بحتة لعل الدافع إليها أنّ الـمتكلم عم الـمخاطب ويهمه أمره الشخصي، استمساكاً بعروة القرابة الدموية التي تنزع إلى الـمباهاة والـمفاخرة، كما هو مشهور في قبائل العرب. ومع أنّ الـمخاطب، وهو الشاعر الـمنتقد، قبل هذه الفكرة الفردية في جوابه إلى عمه فهو لم يتقيد بها كل التقيد الظاهر في كلام عمه فألقى عليه هذا السؤال: «ولئن طرقت باباً ولـجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟» وهو سؤال يكاد يصل إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد، ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. ولكنها خطوة أو قفزة تفصل بين عالـمين وقد تشبه نوعاً القفز فوق العارضة العالية أو السور بالاستعانة بعكاز طويلة خاصة بهذا الغرض.

 

والرغـائب العملية هي التي تـجعل عم الشاعر يقول له هذا القول: «وقبل كل شيء أترك الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة واطرق أبداً الـمواضيع الـحيوية والعمرانية، الخ.» فمحصل كلامه أنّ الـخيال هو دائماً لا روح ولا حقيقة فيه، وأنّ الشعر هو كله خيال. وهنا يتحول انتقاده الشاعر إلى نوع من تقبيح الشعر والإشارة على نسيبه بوجوب تركه والانتقال إلى طرق «الـمواضيع الـحيوية والعمرانية... ومواضع الضعف في الأمة مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها.» وكل ذلك لا دخل له في الشعر والشعراء ولا يختص إلا بعلماء الاجتماع والنفس والسياسة. ولولا هذا التخصيص التوجيهي لكان أمكن التساهل في عبارة الـمنتقد السابقة واعتبارها مفيدة ترك نوع الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة من أجل الأخذ بنوع من الـخيال فيه روح وحقيقة. وقد أصاب الشاعر في الرد على هذا الكلام من وجهة الشعر، خصوصاً قوله:

 

«إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم الـمرهفة وقرائحهم الـمشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الـحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء فهذا ما لا أسلم به، إذ ليس الشاعر، في عرفي، من ضج له الـجيل الواحد، حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال»

 

فهذا كلام من يشعر برسالة الشاعر الأسمى والفنان الذي من أهم صفاته الإبداع عن طريق التصور (الـخيال)، وهو أقوى كثيراً من قوله إنّ مهمة الشاعر هي «تصوير نفوس الناس للناس» الذي هو مرادف لقول الريحاني إنّ الشاعر «هو مرآة الـجماعات» وقد يكون متأثراً به. ولكنه مخالف له عند التفصيل، لأن «مرآة الـجماعة» قد تعني «نفس الـجماعة»، أما «نفوس الناس» فيرجح أنها تعني نفوس الأفراد. والعبارتان ضمن الـحدود التي قيلتـا فيها، ضعيفتـان لأنهمـا لا تشتمـلان على أيـة قضية نفسية علمية أو فلسفية أو على إدراك مضبوط لنفس الـجماعة ونفس الفرد والفرق بينهما. والعبارة الثانية، من هذا القبيل، أضعف من الأولى لأنها أكثر تعميماً وهي لذلك أكثر غموضاً. ولكن إذا أخذنا هذه العبارة على وجه التدقيق ونظرنا إليها، نظرنا إلى معنى مقصود بعينه وجدنا أنها أقوى، في ذاتها، من عبارة الريحاني، لأنها أبرزت لفظة «النفس» التي تدل، سواء أكانت مفردة أو مجموعة، على أقوى وأسمى ما في الإنسان، بينما عبارة الريحاني لا توجب الدخول في الـمسائل النفسية وقد تعني إبراز شؤون الـجماعة وعاداتها.

 

من الغريب أنّ الشاعر الذي قال القول القوي الـمذكور آنفاً، في صدد الشاعر ورسالته، لم يجد بعد مضي تسع سنوات ونيف، ما يزيده عليه أو يكون شبه استمرار له، وأنه اكتفى بالقول في تعليقه الأخير على كتابي منتقديه أنه لو طلب إليه رأيه الآن لكان «أنكر على نفسه ما أنكره عليه الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى.»

 

                                                                           هاني بعل[2]

 

لا يقتصر[3] التضارب والتخبط في حقيقة الشعر وصفته، اللذان دللت عليهما في ما تقدم من هذا البحث، على الأدباء الثلاثة السوريين الـمذكورين آنفاً، بل هما يشملان أكثر الأدباء اللامعين، إن لم يكن كلهم، في العالم العربي. فقد كان من حسن حظي وأنا في هذه البلاد التي قضت الظروف أن تتوقف فيها رحلتي الـمرسومة، أني تسلمت هدية كتبية من أحد الرفقاء الغيورين فيها بعض مجموعات الهلال، وبينما أنا أقلب صفحات بعض أعداد 1933، بعد كتابة الـحلقة السابقة، وقع نظري على رأي للدكتور محمد حسين هيكل بك، أحد كبار أدباء مصر، في عدد يونيو/حزيران من السنة الـمذكورة. فأقبلت على الـمقال ووجدت أنه حلقة أخرى من حلقات التخبط في دائرة مغلقة على الأدب، إذ فيه من التعميمات والـمطلقات ما لا محصل إيجابي وراءه. إليك بعض عباراته:

 

«إني أفهم أن يكون التجديد هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً مـمثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير بحيث يكون شاعر القرن الرابع عشر الهجري أو كاتب القرن الرابع عشر (القرن العشرين) له شخصية خاصة تخالف شخصية الشاعر أو الكاتب الذي ظـهـر في القرون السـابقة مع الـمحافظـة على قـواعد اللغـة وحـدودهـا»، «ولـست أقصد بالصفات الـخاصة أن يعمد شعراء العصر الـحاضر إلى استخدام ألفاظ الـمخترعات الـحديثة في شعرهم أو يتناولوا هذه الـمخترعات فيصفوها، ويسمّوا ذلك تـجديداً، فإذا كان القدماء وصفوا الناقة أو السيف وصفوا هم القطار أو الطيارة أو الـمدفع. وإذا كان القدماء استعملوا في أشعارهم هند وليلى ودعد، استعملوا هم سوسو وسوسن ومرغريت وماري إلى آخره. بل أقصد بالصفات الـخاصـة إبراز كـل ما يقع تـحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الـحياة التي تـحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها وتـجعل لها صبغة خاصة بحيث يعدّ الـخروج عن هذه الصبغة خروجاً عن تلك البيئة. فأنت تستطيع في الوقت الـحاضر وفي البيئة التي تعيش فيها أن تصف الناقة أو السيف أو غيرهما، مـما تناوله القدماء بأسلوب يتفق وشعور العصر الذي تعيش فيه والـحياة العقلية السائدة في هذا العصر وحينئذٍ يقال إنك وصفت هذه الأشياء بأسلوب جديد.»

 

وحسين هيكل يرى أنه لا يوجد «شعر معبّر عن العصر الذي نحن فيه وليس لنا شعراء يـمتازون بصفات تخالف الصفات التي كان عليها بعض الشعراء في العصور الـماضية»، ويزيد قائلاً:

 

«وأنـا علـى يقين من أنّ مــؤرخ الأدب العربـي في الأجيـال القـادمـة، لو قـدمت إليه قصـيدة من قصائـد العصر الـتحاضر قد حذف ما فيها من أعلام، لا يستطيع أن يعيّن العصر أو الـجيل الذي قيلت فيه»

 

ولكنه يعتـرف بأن النثر «قـد امتاز بقوته واتـجاهه نحو النهوض ورقي الـحياة العقلية فيه وخصبها وتشعبها وإنتاجها.»

 

هذا الرأي شديد الإبهام وكثير التخبط. أنظر في غموض التعابير الآتية:

 

«بل أقصد بالصفات الـخاصة إبراز كل ما يقع تـحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الـحياة التي تـحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها، الخ.»

 

فماذا يفهم القارىء الـجيد الإدراك من هذه الأوصاف التي لا تزيد الـموصوف إلا غموضاً؟ ما هو الشعور بحكم البيئة وكيف يكون؟ وما هي «الـحياة التي تـحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها»؟

 

في عدد نوفمبر/تشرين الثاني من السنة الـمذكورة رأي في التجديد في الشعر للشاعر السوري الـمتمصر خليل مطران. إنه أدق من رأي حسين هيكل. وهو يخالفه في رأيه القائل إنه لم يحدث تـجدد في الشعر. فقد حدّث مطران عن نفسه:

 

«أردت التجديد في الشعر منذ نعومة أظفاري ولقيت دونه ما لقيت من عنت ومناوأة... أردت التجديد في الشعر وبذلت فيه ما بذلت من جهد عن عقيدة راسخة في نفسي وهي أنه في الشعر، كما في النثر، شرط لبقاء اللغة حية نامية. على أنني اضطررت، مراعاة للأحوال التي حفّت بها نشأتي، ألا أفاجىء الناس بكل ما كان يجيش بخاطري، وخصوصاً ألا أفاجئهم بالصورة التي كنت أوثرها للتعبير لو كنت طليقاً، فجاريت العتيق في الصورة بقدر ما وسعه جهدي وتضلعي من الأصول واطلاعي على مخلفات الفصحاء، وتـحررت منه، وأنا في الظاهر أتابعه، بنوع خاص من الوصف والتصوير ومتابعة الغرض، إلخ.»

 

وبعد أن يعطي وصفاً مجتزءاً لـحاجة اللغة إلى ضروب التعبير السليم، الواضح، الدقيق قاطبة، يصل إلى نتيجة لا تبعد كثيراً عن النتيجة الهائمة التي وصل إليها الريحاني ويوسف معلوف وحسين هيكل، وإليك قوله:

 

«أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه. أريد كما تغيّر كل شيء في الدنيا، أن يتغير شعرنا، مع بقائه شرقياً، مع بقائه عربياً، مع بقائه مصرياً. وهذا ليس بإعجاز.»

 

في عدد الهلال عينه، الذي ورد فيه رأي خليل مطران في التجديد في الشعر، مقال لـحسين هيكل في «الفنون الرفيعة وأثرها في حياة شرقنا العربي.» في هذا الـمقال يلخّص هيكـل وجهـة نظـر الريحاني في حملته على الأدب الباكي عن طريق نقده لقصيدة بشارة الـخوري التي مطلعها «الهوى والشباب والأمل الـمنشود توحي فتبعث الشعر حياً»، ووجهة نظر بشارة الـخوري في رده على الريحاني التي لا تختلف كثيراً عن وجهة نظر شفيق معلوف في رده على عمه في كتابه إليه الـمثبت آنفاً. وقد حاول هيكل أن يكون في هذا الـمقال أدق منه في رأيه السابق الـمذكور فوق. فقال إنّ الرأيين (رأي الريحاني ورأي الـخوري) هما في طبيعة الوجود. وعلّل منشأ الـجدل بأنه من نتائج «ما يصيب الشرق العربي من هوان سياسي وانحلال اجتماعي»، ثم انتقل إلى محاولة إيضاح أشد رسوخاً وذي صفة إيجابية فقال:

 

«وقد أصيبت الفنون بـما أصيبت به تبعاً لظروف الـحياة التي يخضع لها الشرق العربي والتي تخضع الإنسانية من بعد الـحرب لها. ولا يكون علاجها بإنكار ما للدموع وما للشجن من أثر في الـحياة. وإنـما يكون علاجها بأن تبعث الدموع، وأن يبعث الشجن النفسي، إلى التماس الـمثل الأعلى، كما تدفعها الـحماسة وتدفعها النجدة والـمروءة إلى التماسه. ولو أنّ أرباب الفن في الأدب والغناء والنقش وسائر الفنون الرفيعة وضعوا هذا الـمثل أمام أنظارهم لأرجعوا إلى الفن حياة أقوى بكثير من حياته اليوم، ولـما كان الـجدل الذي ثار في هذا الصيف الأخير بين أمين الريحاني وبشارة الـخوري.»

 

بعد الكلام الـمتقدم يحاول هيكل أن يخطو خطوة فاصلة فيقول:

 

«ماذا عسى أن يكون الـمثل الأعلى؟ أعتقد أنّ الشرق قد ضل طريقه في هذه العصور الأخيرة متأثراً بتعاليم الغرب، فأصبح مثله الأعلى مادياً، يحسب الـحرية التي تسمو بها النفس إلى الـمكان الأرفع، أن ينال الـجسم وأن تنال الشهوات كل مبتغاها. وقد يكون للبيئة الطبيعية في الغرب، ما يدفع إلى التطلع إلى مثل هذا الـمثل الأعلى. لكن بيئة الشرق الطبيعية وتاريخه منذ العصور الأولى، وتاريخه بنوع خاص منذ انتشرت الـحضارة الإسلامية (الـمحمدية) في ربوعه، يجعل هذا الـمثل الأعلى الذي يتخذه الغرب أمامه دون ما تتطلع إليه النفس الشرقية. فهذه النفس تؤمن بوحدة الوجود وترى في هذه الوحدة والاتصال بها والفناء الروحي فيها غاية ما ترجوه، ولذلك كانت أمثال هذا الشرق تـجري: «بأن من اعتز بغير الله ذل. ومن افتقر لغير الله هان». ولا تعرف شيئاً في الـحياة يعادل تقوى الله. أفيمكن أن يصور الفن هذه الـمعاني وأن يصل بها من درجات السمو إلى ما يجب أن يصل إليه الفن؟»

 

هي أول محـاولـة للانتقـال من الغمـوض إلى الـوضـوح، ومن التعميم إلى التخصيص، ومن السلبية إلى الإيجابية، ولكنها محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة، مستبدة. ففيها ينظر هيكل إلى الفن من زاوية «الشرق والغرب»، ويحدد الشرق بكلام لا تـحقيق فيه لتاريخ «الشرق» الذي يذكره ولا لفلسفة ذلك التاريخ ولا للمحمدية نفسها التي يطبعها، استبداداً، بهذا الطابع الـجزئي، وكان الأفضل أن لا يحاول تـجريدها من خصائصها العملية في مادية حياة البيئة التي نشأت فيها. أما تـحديده الـمثال الأعلى للشرق كله، مدخلاً فيه العالم العربي كله، فهو من التحديدات الاستبدادية الضيقة، التي تكون أكثر قبولاً عند عامة الـمتعلمين وعند قليلي التعمق من خاصتهم، نظراً لبساطتها وقلة ما تطلبه من إنعام نظر وجهد في التفكير، ولكنها ليست مـما يـمكن العقل الفلسفي الأساسي الاطمئنان إليه وقبوله مستقراً لتفكيره وشعوره. وكم يخالف هذا التفكير السطحي الـمتمركز في تـحديد التصور بالأمر الواقع رأي الدكتور خليل سعاده في روحية الشرق الدينية إذ قال:

 

«الدين في الشرقي قطعة من حياته. فهو يحسب الـحياة وسيلة لتشريف الدين (تقوى الله والفناء الروحي في وحدة الوجود) لا الدين وسيلة لتشريف الـحياة والسمـو بهـا من مرتبتها الـحيوانية إلى مرتبة روحانية تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بينه وبين أخيه في الوطنية والبشرية»

 

(الـمجلة، السنة الأولى، العدد 13، بوينُس آيرس في 15 ديسمبر/كانون الأول  1915).

 

إني موقن كل اليقين بفساد ذاك التقسيم السطحي الذي يعدّ الشرق كله روحياً والغرب كله مادياً ويحسب طلب مبتغيات الـجسد وشهواته من «التأثر بتعاليم الغرب.» ولكني أعتقد أنّ توقف سير الـحضارة في الشرق عند حد هو ما جعل النفس الشرقية تعمد إلى الفناء في الشؤون الـخفية من الـمسائل النفسية، فصارت مسائل اللاهيولى أو ماوراء الـمادة الـمسائل الوحيدة التي تتجه إليها النفس التي اضطرت لهذا النهج بسبب ترك النظر في الـمسائل الوجودية، الهيولية، الـحسية. وحيثما انعدمت أسباب التقدم العمراني انعداماً يكاد يكون كلياً، صارت مطالب ماوراء الـمادة نفسها مادية في معظمها، فصارت الـجنة جنة حلى وملابس وعطور وما شاكل. وأعتقد أنّ اطراد سير الـحضارة في الـمتوسط والغرب، ابتداء من سورية، جعل للمسائل النفسية، الوجودية، الهيولية، الـحسية النصيب الأوفر من انشغال النفس. أما الـمادية والروحية فهما من نصيب الشرق والغرب كليهما. ويصعب كثيراً، من وجهة نظر الـحياة، حسبان قسم كبير من الـمسائل النفسية الـخفية التي تعنى بها شعوب «النفسية الشرقية» مسائل روحية بالـمعنى الـحيوي. ويدخل في هذا القياس، الـمسائل الـخفية الشائعة في الغرب كالروحانية والصوفية وغيرهما، وكما وجدت الـمادية في الغرب كذلك وجدت في الشرق، فمسائل الـحب الـمادي والشهوات الـجسدية نشأت نشوءاً مستقلاً في الشرق كما في الغرب. وفي الفنون الـمعبرة عن النفسية الشرقية أحسن تعبير نـجد الـموسيقى التي يسمونهـا «العربية» أو الشرقية قد اتخذت وجهة مادية من الشهوات الـحادة، في حين أنّ الـموسيقى الغربية انتصرت على الـمادية انتصاراً رائعاً وارتفعت فوق فضاء الشهوات الـجسدية ارتفاعاً عظيماً. فللشرق مادية قوية وروحية منعكفة على الـمسائل الـخفية التي لا تبرز إلى الـحياة أو الوجود، وللغرب مادية قوية وروحية تعنى بالوجود وبتسامي الـحياة ضمن الوجود الإنساني، وهي على عكس روحية الشرق التي طلبت التسامي وراء الوجود (الوجود الإنساني).ولذلك أرى من أشد الـخطأ حسبان التسامي وراء الوجود وحده «روحية» والتسامي ضمن الوجود «مادية».

 

إذا كان الشرق الـمتسكع في قيود الـمادة قد رأى، في أرقى فلسفاته الهندية والصينية، أنّ الطريقة الوحيدة لانتصاره على الـمادة هي إهمال قضايا الـمادة وثقافتها، فإن العقل السوري الذي خطط للمتوسط والغرب قواعد ثقافته الـمادية والروحية رأى أنّ الانتصار على الـمادة يكون بـمعالجتها والقبض عليها وتسخيرها للغايات النفسية الـجميلة التي تـجعل الوجود الإنساني جميلاً، صريحاً، نيّراً.

 

إنّ تـحديد الـمثال الأعلى في عبارة حسين هيكل: «من اعتز بغير الله ذل ومن افتقر لغير الله هان» هو تـجميد لا قوة له لغلب الـمادية في الـحياة الروحية وشؤونها في الوجود. وهو ليس مبدأً روحياً إلا إذا حسبنا الروحيات قاصرة على الغيب.

 

إنها نظرة مصرية شرقية هذه النظرة التي تضع الـمثال الأعلى في هذه العلبة الـمطرزة الـخفيفة الـحمل يحملها الـمرء في جيبه وينتقل بها من مكان إلى مكان، وكلما عنّ له النظر في الـمثال الأعلى فتح العلبة وأخرجه منها ونظر إليه بإعجاب وشهق شهقة الفرح ثم أعاده إلى موضعه واستمر في حاله من حله وترحاله. «الفناء الروحي في وحدة الوجود» إذا كان مثالاً أعلى فهو مثال عدمي أو فنائي لا وجودي، والروحية الـموافقة له هي روحية كسيحة، مريضة تتجه نحو الغيب الذي تـجعله مستقراً للوجود وتشيح بوجهها عن الوجود الإنساني الذي لا تـحسبه إلا عبّارة إلى الغيب وواسطة للفناء فيه.

 

هـذه النظـرة التي يثبت بها الأدب الـمصري نفسيته الشرقية هي نظرة منافية لـخطط النفس السورية في سياق التاريخ. وعدم أخذ السوريين بهذه النظرة هو من الأدلة على ما ذهَبْتُ إليه حين أعلنت: أنّ سورية ليست أمة شرقية وأنها ليست ذات نفسية شرقية. وإذا كان السوريون أولعوا بالتغني «بالـمزايا الشرقية» التي وصلت إليهم في مزيج من أدب الهند والفرس والعرب فما ذلك إلا لتلاشي نظرتهم إلى الـحياة وضيـاع مثلهـم العليا في تعاقب الفتوحات واضطراب مجرى الـحياة السورية الاجتماعية والروحية. وهذه الـحقيقة هي التي جعلت ميخائيل نعيمه يسبق حسين هيكل إلى حسبان نفسه شرقياً وتفضيله النظرة «الشرقية» التي يزعم أنها تقول مع محمد: «ولا غالب إلا الله» على النظرة التي يزعم أنّ الغرب يعبّر عنها بقوله: «ولا غالب إلا أنا» (أنظر فتاوى كبار الكُتَّاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية ونهضة الشرق العربي. طبع «الهلال» مصر، سنة 1923) فهو قد جعل الغرب كأنه يقول: «ولا غالب إلا أنا» وهو يقصـد بقـوله الـمقابلـة بين موقـف الشـرق وموقف الغرب من الوجهة السياسية والعمرانية قبل كل شيء. وقد أخذ حسين هيكل فكرة نعيمه في التعبير عن موقف الشرق وجعلها مثالاً أعلى للنفسية الشرقية.

 

لنتابع تفكير نعيمه قليلاً. إنه يقول في مقالته التي أجاب بها على استفتاء مجلة الهلال إنّ الفرق بين الشرق والغرب منحصر في نقطة واحدة جوهرية هي:

 

«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب بقوته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الـخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذه يجرد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى. أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعلل نفسه بالفوز. وعندما يدركه الموت يوصي بمطامحه لذريته.»

 

وفي اعتقـاد نعيمـه: «إنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الـخاملة» يحوي من الـجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».»

 

هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تـجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الـحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مرسح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تـحسين الـخليقة» كما حاول الغرب «تـحسينها» من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الـخليقة. وقد «حسنت» الأديان الـخليقة تحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تـحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بـمعرفة جديدة إلا مكرَهين. وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «الـمنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس»، ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سنّة الـمسيح ولا في سنّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يـمنع «تـحسين الـخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذه ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تـحسين الـخليقة»، ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح الـمادية بنظرة إلى الـحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الإفتراضية الـمستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تـحديدات متباينة جعلت الـخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالـحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».

 

إختار ميخائيل نعيمه التكلم على «الـخليقة» و«تـحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح. وكلامه كلام أديب، لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان، وها الصين تترك اليوم «جوهر» الـخمول لتأخذ «بعرض» النهوض. وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالـحة من تعاليم لاوتسو.

 

مـما لا شكّ فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل الـمثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربيـة، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية التي لا تقبل بـما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالـمواهب التي أعطاهم.

 

إنّ صوفية نعيمه الهدامة التي أبرزها في أحد خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله إنّ القوة هي في الأمـم العاجزة «الـمستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً)، وإنّ الضعف هو في الأمـم الـمستكثرة من آلات الـحرب، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها. أما في مصر فقد تـجد تربة جيدة لنموها وازدهارها كما يظهر من اقتباس حسين هيكل مثاله الأعلى من عبارة ميخائيل نعيمه الواردة في مقابلته بين الشرق والغرب، ومن أقوال غيره كمصطفى صادق الرافعي.

 

ولم يخرج من دائرة التخبط في موضوع النهضة الأدبية غير من ذكرت من كبار الأدبـاء. طه حسين نفسه الذي يعدّ في مقدمة مفكري مصر وفي طليعة كبار أدبائها كتب مقالة في عدد الهلال الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1933 بعنوان «نهضتنا الأدبيـة ومـا ينقصها» قال فيها إنّ الأدب في اللغة العربية قد سار مرحلة كبيرة وإنه لا تزال تنقصه أشياء، وخلاصة الـمقالة أنّ مواضع الضعف «في نهضتنا» هي: 1 - إتصالنا بأدبنا القديـم ضعيف لم يبلغ ما ينبغي له من القوة. 2 - ثقافة أدبائنا من الأدب الأجنبي ثقافة محدودة. 3 - أدباؤنا لا يحسنون الآداب الأجنبية القديـمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الـحديث. 4 - لا يحفل أدباؤنا بالعلم ولا يأخذون أنفسهم بدرسه والإلـمام بطائفة منه. وفي رأي طه حسين أنه إذا أزيل هذا الضعف من «أدبائنا» فنهضتنا الأدبية تستكمل شروط ارتقائها إلى ذروتها. والـحقيقة أنّ هذا الكلام يدخل في ما عبّر عنه طه حسين نفسه في مقالته الـمشار إليها «بالطول والعرض»، أي بالـخلو من العمق. إنه كلام شكلي لا أساسي، كما سيتضح فيما يلي:

 

وعباس محمود العقاد، كاتب مصري آخر كبير ذو شهرة، أجاب في عدد الهلال الـمذكور فوق على سؤال: هل يصبح لنا أدب عالـمي؟ وفي جوابه يقول:

 

«فالأدب العالـمي ليس مرتبة من مراتب السمو يرتفع إليها الكتاب والكاتب، ولكنهـا حـالـة من الـحـالات تتيـسر أسبـابهـا فتظهـر وتخطئها هــذه الأسباب فيخطئها الظهـور»

 

والظاهر أنه يعني بالأدب العالـمي انتشار الكتب بواسطة الترجمة والطبع في مختلف اللغات لا قيمة الأدب العالـمية. فيأخذ يبحث عن الظروف والأسباب العملية التي تذيع الكتاب، كالغرابة عند الـمترجَم إليهم، ووجود الـمترجِم، وحسن الطباعة، ووجود شركات النشر، ونسبة عدد القُراء، وغير ذلك من الأمور السطحية والعملية التي لا يـمكن أن يقوم عليها أدب عالـمي لأمّة من الأمـم على نسبة إرتقاء الـمثال الأعلى والفكر والفن.

 

والـخلاصة أنك لو جمعت جميع الأقوال والآراء الـمتقدمة وأمثالها لـما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتت في الشعور يحرمانك إدراك حقيقة الأدب عموماً والشعر خصوصاً، ورسالة الفن.

 


[1]كـانـت كـل من الـحلقـات الثمان الواردة في الـزوبعة تُعَنْوَن "الصراع الفكري في الأدب السوري" ثم يليها عنوان فرعي:"ثلاثة كتب وتعليق في ديوان".     

 

[2] ورد إسـم "هاني بعل" في آخر الحلقة الأولى فقط.       

 

[3]الزوبعة، بوينُس آيرس، العام الثالث، العدد 51، (1/9/1942 ) ص4 - 5    

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro