إذا قست شفيق معلوف بالـمقياس الذي وضعته للشاعر وهو: «الشاعر هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة» وجدته شاعراً شاعراً. فهو ارتقى بـموضوعه إلى أعلى علوه ضمن حيّز الفكر والشعور الذي لازمه، وهو حيّز نظرة قصيرة، قديـمة، جامدة.
إنّ فهم الـحب كما ورد في عبقر ليس نظرة خاصة بشفيق معلوف، بل مشتركة بين جميع شعراء اللغة العربية الذين ورثوا خطط الأدب العربي. فالـحب الـمادي الـمتخذ شكلاً، في اللذائذ الـجسدية، هو الـمطلب الأعلى في الأدب العربي كله. ضمن هذا الـحيّز الروحي نشأ شعراء اللغة العربية، وضمنه أنشأ شفيق معلوف عبقر لتكون نصباً فخماً جميلاً لنظرة الـحياة الباطلة الفانية، فأجاد إجادة كبيرة وأبدع التصور والتصوير. فذهب في فن الشعر إلى أبعد ما سمح له حيّز النظرة إلى الـحياة والكون والفن الـمذكور آنفاً. وهذا شاهد آخر، على أنه لا يـمكن رفع مستوى الأدب، إلا باعتناق نظرة إلى الـحياة أساسية، جديدة توحي عالـماً جديداً من الفهم والـمطالب والغايات، وليس كما يقول طه حسين بزيادة الاطلاع في الأدب القديـم وفي الآداب الأجنبية القديـمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الـحديث. فشفيق معلوف يكشف في عبقر عن اتصال وثيق بالأدب العربي القديـم وبشؤون النفسية العربية وخيالاتها ومثلها. وقد أحدث في القصيدة الـمذكورة أشكالاً هي غاية في الإبداع والابتكار في الأسلوب. وإذا كان الـمقصود من تـجديد الأدب ارتقاء أساليبه وإحداث أنواع من الـمجاز جديدة فقط، مع بقاء النظرة إلى الـحياة على حالها، فـ عبقر تعتبر تـجديداً هاماً. ولكني أرى الـمقصود من طلب أدب جديد هو الوصول، عن طريقه، إلى فهم جديد للحياة يرفع الأنفس إلى مستوى أعلى، ويـمكّنها من إدراك حيّز جديد من النظر النفسي مشتمل على مثل عليا جديدة تتبلور فيها أماني الـحياة وأشواقها الـمنبعثة من خصائص نفسيتها الأصلية، وإلا فكل تـجديد شكلي لا يحمل تـجديداً في الأساس، هو من قبيل اللهو الباطل واللذات الزائلة التي لا بقاء ولا استمرار لها إلا استمرار تكرارها الـممل.
إنّ في عبقر ابتكـاراً جمـيلاً في الشكل أو الأسلوب، ولكن هل حملت إلى الأنفس اتـجاهاً جديداً أعلى مطلباً وأرقى غاية وأسمى نهاية؟ كلا.
قلت فيما سبق إنّ التنـاقض بين غاية «تـمثيل العصر»، التي طلبها كبار أدباء العصر الـخالي من نظرة جديدة إلى الـحياة، والـحاجة إلى التجديد هو في بُعد الأدباء الذين عالـجوا الـموضوع حتى الآن عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحتة.
إنّ في سورية حاجة إلى التجديد الأدبي، ليس لـمجرّد التجديد وتغيير الأساليب وإظهار أشباح جديدة، بل للوصول إلى التعبير عن نظرة إلى الـحياة والكون والفن جديدة، قادرة على استيعاب الـمطالب والـمطامح النفسية الـمنطبقة على خطط النفس السورية. كل تـجديد غير هذا التجديد يزيد في هيام النفس السورية وظلمتها التي اكتنفتها منذ شذّت عن محورها الأصلي بعامل الفتوحات البربرية، التي قطعت بين أدب سورية وخططها النفسية. وإنّ من شروط النظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن، الصالـحة لتقدم الـحياة الإنسانية وارتقائها، أن تكون نظرة ذات «أصل» وإلا كانت عارضاً من العوارض التي تلغي الشخصية والنفسية وخصائصهما فتضلّ النفس وتـحار لا تدري ما هي حقيقتها ولا ما هي أوهامها كقول شاعر عبقر:
مــا الفـرق في نـومـي وفـي يـقـظتـي
وكـل ما في يقظـاتي رؤَى؟ (ص 146)
لا تـجـد النفس السـوريـة شيئاً من خصائصها وأصولها في ابتكارات عبقر الشعرية الـمشتملة على طائفة من الـخرافات العربية الـخالية من الـمغزى الفلسفي ومن العلاقات بـمجرى الفكر والشعور الإنسانيين الراقيين، كما ترسمه الأساطير السورية التي جاءت النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الـحياة والكون والفن تزيل الطبقات التـي تـراكـمت عليها ودفنتهـا، وتـوجد الاستمرار الفلسفي بين السوري القديـم والسوري القومي الاجتماعي الـجديد. ويظهر الفرق العظيم في النتائج الروحية بين الاهتمام بالـخرافات والـمواضيع الغريبة، بدون نظرة واضحة، أساسية إلى الـحياة والكـون والفن، والعناية بالأساطير الأصلية ذات الـمغزى الفلسفي في الوجود الإنساني، بوعي لنظرة أساسية إلى الـحياة والكون والفن، من إيراد بعض الأمثلة:
ليست قصة أدون أو أدونيس مجهولة. وكل متأمل فيها يجد لها مغزى وعلاقة وثيقة بـمجرى الـحياة. وهذه ليست القصة الأسطورية الوحيدة. ففي اكتشافات رأس شمرا، قرب اللاذقية، التي ورد ذكرها فوق، ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخيّل السوري والتفكير السوري في الـحياة وقضاياها الكبرى. وهذه الـحقائق لا تُعلن شيئاً أقل من هذا الواقع: إنّ أهم الأساطير اليونانية وأهم قصص اليهود الأساسية الـمثبتة في التوراة مأخوذ عن أصول سورية، كُشِف عن قسم كبير منها في روايات وقصائد وجدت في تنقيبات رأس شمرا بين 1929 و1932، كما كان قد كُشف عن قسم هام منها في نينوى وآشور ونـمرود وبابل وسواها.
في سنة 1929 اكتشفت بعثة التنقيبات في رأس شمرا، التي رئسها كلود ف. أ. شيفر، شكلاً قديـماً من الـحروف الهجائية لم يكن معروفاً من قبل. الشكل هو أقدم ما عرف، وهو أيضاً فينيقي (كنعاني) إلا أنّ الـحروف ذات خصائص مسمارية. وهذا دليل جديد قاطع على نشوء الـحروف الهجائية في سورية، التي حاول عدد غير يسير من الـمؤرخين الـمغرضين حرمانها من فخر اختراعها. بناءً على أهمية هذا الاكتشاف العظيم وما جلاه من الـحقائق العلمية الرائعة، سأل معهد النقوش في باريس ومتحف اللوفر ودائرة التهذيب العمومي الفرنسية، بالاشتراك فيما بينها، السيد شيفر، بين سنة 1930 وسنة 1932 قيادة بعثة جديدة إلى رأس شمرا للبحث عن أصول حرفية غير التي اكتشفت أولاً وعن بقايا أركيولوجية. ويقول رئيس البعثة في مقالة عن أعمالها نشرتها مجلة ناشنل جيوغرافك ماكزين الأميركانية في عددها الصادر في يوليو 1933: «إنّ نتائج هذه الـحفريات الـجديدة فاقت جميع التكهنات وجعلت رأس شمرا من أهم الرسوم الأركيولوجية في الشرق القديـم.»
ما يعنينا في هذا الـموضوع، من اكتشافات رأس شمرا، هو القصائد والـملاحم الرائعة، التي تثبت بدون شك، أنّ الشعر الكلاسيكي ابتدأ في سورية وعنه نقل الإغريق، الذين تعاونوا هم والرومان على غمط سورية حقها في الإبداع الفني وقيادة الفكر الإنساني. يقول الـمكتشف:
«لم تكن خطورة أوغاريت (يرجح الـمكتشف أنّ رأس شمرا هي التي كانت تعرف في الـمدونات القديمـة الـمكتشفة في مصر باسم أوغاريت) قائمة على التجارة والسياسة فحسب. ففيها حَيِيَ مؤلفون وفلاسفة عظام لثلاثة آلاف وثلاث مئة سنة خلت. وقد وجدنا فصولاً كاملة من مخلفاتهم في مكتبة الهيكل في رأس شمرا. هم أيضاً كتبوا بالعلامات الـمسمارية للأحرف على ألواح كبيرة فوق الـمعتاد، قاسمين كتاباتهم إلى أعمدة متعددة.
«كثيراً ما كان يحدث للمؤلف أن لا يقدّر تقديراً صحيحاً طول الكتاب الآخذ في كتابته فيضيق مجال الفصول الأخيرة. فيضطر إلى تقريب السطور الأخيرة بعضها من بعض، كما يفعل الكاتبون العصريون على الآلة الكاتبة حين يستعملون «الفسحة الـمفردة الدرجة»، وإلى تصغير حروف هذه السطور. وقد تـجمع لدينا عدة فصول من مؤلف واحد تزيد على ألف كلمة، ويحتمل أن يكون عدد عبارات الـمؤلف كله أكثر من ثلاثة آلاف بيت. وهذا الـمؤلف هو ملحمة بطولية.
«قـبـل إلـيـاذة هـوميـرس الـخالـدة بـزمـان طـويـل، أنشأ الـمؤلفون الفينيقيون (الكنعانيون) في أوغاريت الـملاحم في مغامرات غريبة لبطل أسطوري يدعى طافن (أو طافون). كان هذا البطل هو الـمصطفى عند بعض الآلهة الذين كانوا كثراً في دار الآلهة الفينيقية. ونص رأس شمرا الـمكتشف يروي أنه كان هنالك لا أقل من خمسين إلهاً وخمس وعشرين إلهة. فلم يكن طافون يقدر أن يتجنب جلب عداوة بعضهم على نفسه بسبب تـحيزه في مشاحناتهم. هذه الآلهة الفينيقية تظهر بروح حربية منتقمة وقاسية.
«إيل (أو ال - يعني الإله)، أب الآلهة الكبير جداً، الذي يسميه الـمؤلف «ملك السوم»، ملك أو مولوخ، أي «ملك السنة» يبذل الـجهد عبثاً لـحفظ السلام بين وُلده. وهو، مع ذلك، ليس كلي القدرة، لأنه كثيراً ما يضطر لقبول رغائب زوجته الإلهية عشيرة أو أشرة، إلهة البحر، التي لها سبعون ولداً تُفضِّل بعضهم على بعض. هذا التخصيص هو سبب الـمشاحنات في مـملكة الآلهة.
«الـمقاوم الأكبر والألد لإيل هو بعل، الـمستبد منذ ولادته، الطامح إلى الـملكية الـمطلقة. ورواية العراك بين ملك السنة، الشيخ العادل، وبعل هي رواية ذات جاذبية نادرة وغنية بالـمواقف الـمثيرة الشعور. وبعل ينتصر في الأخير والشباب بكل قسوته وظلمه يغلب حرمة السن. وهذه هي العبرة التي يريد الـمؤلف إبرازها.
«القتال بين معط وعلين»
«على لوح آخر من ألواح رأس شمرا مدوّن وصف للقتال بين «معط» الرامز إلى الطبيعة الـمثمرة و «علين» الذي يـملك على الغيث والريح.
«قتل معط علين فصار الناس يشكون إلى الآلهة. فقد جفّت الأرض بسبب قتله وأمست السباع تطوف بالـمدن. فتنهض الآلهة أناة (أو عناة)، أخت إله الغيث الـمقتول، لـمناقشة معط الـحساب على ما جنت يداه. فينكر هذا فعلته ويعد بتحويل الصحاري إلى مروج خضراء (بالنيابة عن علين)، ولكنه يخفق وتذهب سدى جميع التقدمات التي تقدمها إليه البشرية رجاء أن يعطيها الغيث.
«حينئذٍ ينفد صبر أناة فتأخذ منجلاً وتضرب به معطياً فتقتله. ثم تـحرق جثته. وقد تأكل بعضها، وتذري البقية في الـحقول. وهكذا يتحول معط إلى الإنتاج أو الـحصاد الذي يسقط تـحت الـمنجل ليعطي الـخبز للإنسانية.
«بعد انتقام أناة يُبعث علين ويعود الـمطر إلى السقوط.
«يدخل في هذه الـحكاية أشخاص آلهة آخرون. ولكل منهم رسالة يؤديها: الـحكمة، إله الـحكمة الذي يذكّر الناس بالصبر ويدعوهم إلى التسليم للقدر. وأدون، أدونيس الفينيقي الكلاسيكي الذي يـملأ نفوسهم بالـجذل والـحماسة للجمال والـحب. ثم الآلهة أماة، خادمة أشرة القوية، أم الآلهة، التي تُري الناس كيف يصنعون الآجر من الطين لبناء بيوتهم.
«وبعل نفسه (رمز الشباب) يعقد عزيـمته ويُقدم على قتال الأفعى ذات السبعة رؤوس، التي كان البشر يخافونها خوفاً شديداً. إسم هذه الأفعى في نص مؤلف رأس شمرا «لتن». وفي أشعيا 27: 1 والمزامير 73: 14 من التوراة نرى الـحية تـحمل الاسم عينه «لتن» بتحوير قليل في اللفظ «لويتان» أو التنين. أشعيا: في ذلك اليوم يفتقد الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لويتان الـحية الـمقومة ولويتان الـحية الـمتلوية ويقتل التنين الذي في البحر. الـمزامير: أنت رضضت رؤوس لويتان. جعلته مأكلاً لزمر القفار. هنا نلمس أنباء ذات خطورة مهيجة وثوروية.
«جميعنا نتذكر دانيال، الذي كان، مع نوح وأيوب، من أتقى أهل زمانه. دانيال يظهر في أحد نصوص رأس شمرا باسم دين - إيل، الذي يجب أن يترجم: دين أو دينونة الله.»
هنـالك حقائق أخرى غاية في الـخطورة وردت في مقالة مكتشف آثار رأس شمـرا ولكنها ذات علاقة قليلة بـموضوع هذا البحث فلا أعرض لها الآن. أما ما ترجمته آنفاً من مقالة الـمكتشف وأختص بالناحية الأدبية فهو شيء يحرك أعماق نفس كل سوري وكل إنسان محب للفلسفة والفن.
إنها صورة مختصرة، ناقصة، سقيمة هذه الصورة التي يقدمها لنا كلود ف. أ. شيفر في مقالة إخبارية، مقتضبة، جامدة لا روح فيها ولا فن. وهي، مع ذلك، تشتمل على ملامح شخصية نفسية أصلية ذات سناء وبهاء. وقضاياها تبدو وضاءة، غضة، كأنها أنشئت أمس أو اليوم. فترى فيها التصور السوري قد عرض لقضايا الـحياة بأسبابها وأشكالها، فتناول الشيخوخة والشباب والأبوّة والبنوّة والـحب والبغض والـحكمة والإقـدام والعـدل والظـلم والطمـوح والقنـاعة. تـرى الشباب فيها غير نابض بثورة الشهوات والـحب البيولوجي، بل تراه في مطامح السؤدد وفي محاربة لويتان أو تنين الرذائل الذي كان ولا يزال يخيف النوع الإنساني. وترى إله الـحكمة يعظ بالتسليم للقضاء والقدر ولكن دوره جزء من أدوار غيره وهو ليس أقواها ولعله أضعفها.
ولا ننسَ ملحمة جلغاس [غلغامش] البابلية الـمختومة بقصة الطوفان الرائعة، الـمكتشفة في مكتبة الـملك الآشوري العظيم أشور باني بال، التي نقلها اليهود برمّتها إلى توراتهم، مع بعض تغيير سطحي في بعض حوادثها الـجزئية البسيطة.
كم مُجّد الـمؤرخون والدارسون اليونان من أجل عظمة أساطيرهم التي يعود معظمها أو أهمها إلى سورية. فحكاية انتقام أناة من معط بالـمنجل، وذرّ بقاياه في الـحقول لينبت الزرع ويسقط تـحت الـمنجل، وأساطير كثيرة غيرها منقولة بحذافيرها تقريباً إلى الأساطير الإغريقية والعالم يعيّرنا بأننا نحن الذين نقلنا عن الإغريق. والعالم مديون لنا بفلسفات جليلة ويقول إننا جميعاً مديونون لليونان فقط.
متى أخذ الأدباء السوريون، الـموهوبون، الـمدركون سمو النظرة السورية القوميـة الاجتماعية إلى الـحياة والكـون والفن، يطّلعون على هـذه الكنوز الروحية الثمينة، ازدادوا يقيناً بحقيقة نظرتهم وعظمة أسبابها وبقوة الـموحيات الفلسفية والفنية الأصلية في طبيعة أمتهم، التي يؤهلهم فهمها لإنشاء أدب فخم، جميل، خالد.
في مثل هذا الأدب، الـخارج من صميم حياتنا السورية، الـمؤسس على النظرة الـجديدة الأصلية إلى الـحياة والكون والفن، نـجد التجديد النفسي والأدبي والفني الذي نشتاق ونحنّ إليه بكل جوارحنا.
إلى مقام الآلهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الـحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور.
الآن أخاطب، أنا، جميع شعراء سورية قائلاً:
تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور حقيقتنا وأمل إرادتنا وصحة حياتنا. تعالوا نشيد لأمتنا قصوراً من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل بـمواد تاريخ أمتنا السورية ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها الـمتناولة قضايا الـحياة الإنسانية الكبرى. تعالوا نأخذ بنظرة إلى الـحياة والكون والفن نقدر، على ضوئها، أن نبعث حقيقتنا الـجميلة العظيمة من مرقدها - حقيقتنا، التي لا ترى الـحب خدوداً ونهوداً وقدوداً دونها القتاد والقض، ولا ترى الشباب أفواهاً ملصقة بأفواه وشرراً محتدماً في الـمقل وثغوراً لاهبة تضطرم فيها شعلات القبل، بل ترى الـحب نفوساً جميلة في مطالب عليا عظيمة تـحمل النفوس في سبيلها الـمشقات الهائلة، التي يذللها اتـحاد النفوس في وحدة الشعور والـمطلب - الـحب الذي إذا قرّب فماً إلى فم سكب نفساً في نفس، وكل واحدة تقول للأخرى: إني معك في النصر والاستشهاد من أجـل ما تأبى نفسانا إلاّه ولا تستعظمان أمراً ولا تضحية يكون بهما بلوغه والاحتفاظ به. وترى الشباب، كما تـمثله الأساطير السورية في شخص بعل، قوة عظيمة غرضها قتل لويتان الرذائل والـخسائس والقبائح. وبهذا الـمعنى الـجميل، الراسخ في أصول الـحياة السورية وتقاليدها، يجب أن نفهم قول الشاعر السوري الـخالد، المعري:
إنّ الشــبــيـبــة نــار، إن أردت بـهــا
أمـراً فـبـادره، إنّ الـدهـر مـطـفئـهـا
تعالوا نأخذ بنظرة جديدة إلى الـحياة والكون والفن، وبفهم جديد للوجود وقضاياه، نـجد فيهما حقيقة نفسيتنا ومطامحنا ومثلنا العليا، تعالوا إلى الـحرية والواجب والنظام والقوة، ليس لأنها شعار حزب سياسي اجتماعي، بل لأنها رمز فكرنا وشعورنا في الـحياة ولذلك صارت شعار حركة البعث القومي، التي وضعنا فيها كل رجائنا وكل قوتنا وكل إرادتنا.
تعالوا نقيم أدباً صحيحاً له أصول حقيقية في نفوسنا وفي تاريخنا. تعالوا نفهم أنفسنا وتاريخنا على ضوء نظرتنا الأصلية إلى الـحياة والكون والفن. بهذه الطريقة نوجد أدباً حياً جديراً بتقدير العالم وبالـخلود.