مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ملحق رقم 1 نظرة سعاده إلى الأدب أسوأ مصائب صناعة الأدب هؤلاء الكويتبيون العامدون إلى تجميل ألفاظهم بدلاً من تقوية حججهم
 
 
 
مجلة البناء- العدد 1033/87 - 1972/11/18 بقلم عزت علواني
 

 

هذه محاولة أردناها تعريفاً أولياً بنظرية سعاده في موضوع الأدب، وذلك لـجهة مضمونه واتـجاهه وقضية النقد والتجديد فيه. ولكي تكون محاولتنا ناجعة فيتحقق القصد الـمرسوم على أفضل وجهه مـمكن رأينا أن نعتمد الطريقة الاستقرائيةالتاريخية للوثائق متتبعين الـمقالات والأبحاث التي كتبها سعاده منذ فتوته في الأعوام 1925 و1926 لـما كان في أوائل العشرينات من عمره إلى تـمام نضجه وهو زعيم للحزب السوري القومي الاجتماعي منذ عام 1932 حتى استشهاده في 8 تموز 1949.

 

 

»رباعيات فرحات«:

 

سرقة من المعري

 

في 12 أيلول عام 1926 ينشر سعاده الفتى مقالاً في جريدة»القلم الـحديدي«(1) يتناول بالنقد والتحليل»رباعيات فرحات«التي كان كاتب مقدمتها السيد توفيق ضعون قد جعلها في مرتبة شعر أبي العلاء الـمعري وعمر الـخيام أو أعلى. وقد أظهر سعاده في مقاله ذاك أن هذ الإدعاء باطل وأن حقيقة العلاقة بين شعر فرحات وشعر أبي العلاء ليست إلا علاقة تقليدية، وأن الـمشابهة بينهما ليست إلا مشابهة ظاهرة فقط. ويسوق سعاده إثباتاً لنظريته أمثلة مستقاة من كتاب أبي العلاء »لزوم ما لا يلزم«يـمتحن بها رباعيات فرحات خالصاً من هذه الـمقابلة العلمية الدقيقة إلى نتيجة فادحة مفادها أن فرحات كان مقلداً للمعري ومعيباً عليه أن لا يذكر ذلك مجحفاً حق الـمعري وجارحاً مبدأ الأمانة في النقل . يقول :

 

»لا بل أن فرحات قد نقل كثيراً من أشعار أبي العلاء الـمعري نقلاً مع تـحوير في السبك وأخذ عنه كثيراً من الـمعاني دون أن ينسبها اليه، ولا ندري لـماذا خصه بهذا الإجحاف «(2) . 

 

ومن الأمثلة الهامة التي يسوقهـا في هـذا الـمجال ما يلي:

 

في الصفحة التاسعة من رباعيات فرحات ورد:

 

ودعت ديني وجنسي مذ رأيت بني

                 الدنيـا فريسة اديـان واجناس

 

ورحت اذكر شر الناس معتبراً

                 وليس ذاكر شر الناس كالناسي

 

قربي من الناس فيه وحشتي وعلى

                 هذا القياس أرى في البعد ايناسي

 

يعلق سعاده على فكرة هذه الأبيات فيقول أنها كثيرة الورود في لزوميات أبي العلاء، ويكاد يكون النقل حرفياً عن قول أبي العلاء التالي :

 

وزهدني في الخلق معرفتي بهم

                 وعلمي بأن العالمين هباء )3(

 

وقوله:

 

بعدي من الناس برء من سقامهم

                 وقربهم للحجى والدین أدواء(4 (

 

وفي الصفحة الرابعة والعشرين من الرباعيات ورد:

 

نتلو أساطیر أسلاف الوری فنری

                 جهلاً غريباً وخلطاً في الديانات

 

والجهل والخلط ما زالا كما عرفا

                 منذ الوجود سوى بعض اختلافات

 

وهذا الـمعنى يتفق مع معنى الأبيات التالية لأبي العلاء:

دين وكفر وانباء تقص وفرقان

 

          ينص وتوراة وانجيل 5)(

في كل جيل اباطيل يدان بها

          فهل تفرد يوماً بالهدى جيل

 

وغير ذلك من الأمثلة كثير يستخرجها سعاده لينتهي الى الـخلاصة التالية: أن نقل بعض الـمعاني الفلسفية لا تـحول شاعراً كفرحات الى شاعر فيلسوف كأبي العلاء ولو كان ذا ذكاء فطري يـمكنه من التقاط هذه الـمعاني، ذلك لأن الـمعري شاعر الفلسفة الوحيد

 

الشعر الفلسفي يحتاج الى ثقافة في العلوم دقيقة وعميقـة وخاصة العلوم الإنسانية - الإجتماعية و النفسية. أن افتقار فرحات الى مثل هذه العلوم جعل تقليده لأبي العلاء الشاعر الفيلسوف تقليداً»على غير تناسب (6).

 

وفي هذه الـمقالة النقدية التحليلية أيضاً يقدم سعاده الفتى رأيه في الشعر العربي عموماً فيقول:

 

»وأول ما نريد أن نثبته بهذا الصدد هـو أن الشعر العربي في العصر الـحاضر شعر ترنـم لا شعر فلسفة إلا فيما ندر، وقل أن ترى فيه شعراً فنياً ذلك لأن معظم شعرائنا يعمدون إلـى قرض الشعر عند أول مؤانستهم مـن أنفسهم ميلاً إلى الترنم بقصائد الشعراء السالفين لا عندما تـمسهم الـحياة بلذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها. والفرق بينهم وبين الشعراء الفلاسفة والفنيين أن شعور هؤلاء بحالات الدنيا العرضية وظواهرها الـمتنوعة يحملهم على الشعور بأمور مستترة يجب البحث عنها والعكف على تعليلها وتـحليلها كل حسب تأثره وميله من حيث الفلسفة أو الفن، وأن أولئك تغلب عليهم نغمة الترنـم فهـم لا يحملون أنفسهم من جهد البحث والتفكير إلا نادراً جداً. وإذا وجد بين شعرائنا الـحاليين من أجاد بعض الشعر الفني فليس بينهم من وضع شعراً فلسفياً بالـمعنى العصري، والشاعر الوحيد بين شعرائنا الـماضين والـحاضرين الذي خص شعره فضلاً عن نثره بالفلسفة هـو أبو العلاء الـمعري فخر شعراء اللغة العربية وفلاسفتها« 7).(

 

الكويتبيون مجمعو الألفاظ

 

بعد هذا الكلام الأساسي ما هو مصير كاتب مقدمة رباعيات فرحات السيد ضعون الذي كان من قوله في الأمقدمة التعليم التالي:

 

» أعلم شيئاً واحداً هو أن الشعر لا يقوم بضبط أوزانه وقوافيه بل بعذوبة ألفاظه ومتانة مبانيه وسمو معانيه، ومـن هـذه الـجهة أراني فخوراً بتقديـم رباعيات فرحات إليك لأن انفلات هذا الشاعر من قيود التقليد أبعده عن التعقيد فجاء شعره سهلاً مـمتنعاً يزري بسواه من الشعر الـموزون على سنن الفصاحة والبلاغة«. (8)

 

مصير هذا القول مصير أمثاله مـن الأقوال التعميمية الـمبهمة غير الـمسؤولة الـمعتمدة علـى الانفعال بالصداقات الـخصوصية القائمة علـى الـمبالغات العاطفية التي تبلغ حد التزوير بلا ضابط من عقل موضوعي مـمحص ولا حقيقة أساسية ترتفع فوق الأشخاص وخصوصياتهم ولا وجدان مناقبي امين للحق والـخير والـجماليقول سعاده :

 

»أن من أسوأ معائب صناعة الأدب هؤلاء الكويتبيون الذين تراهم يلقون الكلام على عواهنه عامدين إلى تـجميل ألفاظهم بدلاً من تقوية حججهم ظانين أن النسق الـجميل يغني عن الـحقيقة الـمنشودة أو يعطون أنفسهم حق الـحكم في مسائل قصر ادراكهم واطلاعهم عنها مغترين بشرف تناول الـمواضيع العالية الدقة مبرزين لأنفسهم الـخوض فيهـا لـمجرد معرفتهم أسماءها أو إلـمامهم بطرف صغير من منازعها ومواضيعها ومذاهبها فيضعون أنفسهم موضع الخبيرين والثقـات عابثين بالأمانة لأنفسهم ولجمهور القراء« )(9.

 

قبل هذه الـحادثة بعام تقريباً يكتب سعاده الفتى نفسه في مجلة والده»الـمجلة«في عـام 1925 مقالة نقدية تـحليلية أيضاً يعالج فيها بحثاً كتبه السيد توفيق قربان في مجلة»الكلية«التي كانت تصدر عن الـجامعة الأميركانية ببيروت والذي كان عنوانه »اللغة العربية والألفاظ الإفرنـجية« )10. (يصف سعاده اولاً موضوع البحث بقوله أنه محاولة»لايجاد تفاهم بين اللغة العربية واللغات الإفرنـجية. وبصورة أكثر دقة يقول أن ذلك البحث»فرع من الترجمة«التي عن سبيلها يتم تفاهم عقليات الأمـم. ويقول سعاده أن صاحب البحث يطرح الـمشكلة على النحو التالي، يقول: أن ثمة نقصاً كبيراً يجب تداركه حالاً وسريعاً منعاً »للفوضى«مرده عدم إمكان كتابة الألفاظ الإفرنـجية بحروف عربية كتابة تضبط التلفظ بها إذ تـجعله كما هو في اللغة الأصلية الـمنقولة.

 

ضد تـحوير اللغة العربية

 

أما اقتراحه لـحل هذه الـمشكلة الـخطيرة في رأيه، فخلاصته إدخال علامات على اللغة العربية تستعمل في عملية ضبط الألفاظ الإفرنـجية ووضع نظام لها في كتيب يدرس فيه الأحداث ليصبحوا قادرين على تـجنب الغلط. فلا نعود نسمع مثلاً العبارة البرتغالية

 

ومعناها «جنابك تقدر» بالشكل التالي:

 

أي»جنابك تيس« ! (11)

 

ومن التحوير الذي يطلبه السيد قربان ادخال حرفي P و V  وعلامات أمالة لكي يتمكن أبناء اللغة العربية من تـمثيل أحرف العلة الـجرمانيـة والفرنسية والانكليزية واللاتينية الـمتنوعة الدقيقة. (12)

 

نظرية سعاده الفتى في هذه الـمسألة، بعـد إقراره بأهمية القصد الـمنشود وهو منع الفوضى في النقل إلى العربية، تتلخص »بإيجاد قاعدة لترجمة يتقيد بها الـمترجمون فقط «رافضاً مبدأ إدخال تـحوير على اللغة العربية . وذلك للأسباب التالية (13):

 

أولاً: يقول، لقد استغنت اللغة العربية عن التحوير والإصلاح فـي تـجارب التلفظ بأسماء أفلاطون وأرسطوطاليس وشيشرون مثلاً فالتحوير غير ضروري.

 

ثانياً: إن إدخال تـحوير على اللغة العربية مبدأ عقيم من الناحية العملية لأنه يتطلب كما ذكر الكاتب وضع نظام علامات وآمالات وكتيب وسيتطلب مدربين مختصين إفرنـج أو تدريب مدرسین من أهل اللغة العربية ثم تعليم الأحداث بعد ذلك مـما لا غناء فيه ولا تكون نتيجته باللغة الاقتصادية إلا هدر الـجهد فـي قضية طائلها قليل جداً ويـمكن معالـجتها بطرق أخرى . إن مبدأ اعتراض سعاده هنا يقارن الـمبدأ الشهير الذي عرف في تاريخ الفكر الفلسفي بـمبضع أوكام وفحواه : إذا كنا نستطيع شيئاً بالقليل فلماذا الكثير.

 

مـما تقدم نلاحظ نوع العقلية الإصلاحية التي عالـجت قضية ترجمة الألفاظ الإفرنـجية بالذهاب إلى التعرض إلى اللغة العربية بالاصلاح والتحوير لنكتشف بعضاً من خصائصها، نعني:

 

عدم الشعور بالـمسؤولية القومية عن صيانة اللغة العربية الناجم عن الشعور بقصور أبجديتها تـجاه اللغات الإفرنجية، البحث عن الـحلول الباهظة الأثمان والتي لا تتحقق عملياً، أي البحث عن الـمحال، ثم عدم ایجاد نسبة بيـن حجم الـمشكلة وحجم الـحل الـمطلوب. فلنتصـور مثلاً أننا لكي نتفاهم مع الأجانب علينا أن نحور لغتنا ونقاربها من لغة الأجانب. وقياسياً علـى هذا الـمبدأ، لنتصور أننا لكي تكون حياتنا مـمكنة بين أمـم أجنبية أن نتخلى عن قوميتنا و أساسنا ونصير أفرنسيين أو أتراكاً أو إنكليز. أن الـمبدأ الذي يطعن به سعاده في معرض نقده لبحث السيد قربان هو مبدأ العقلية القديـمة اللامسؤولة العاجزة عن إدراك قيمنا التي لا يجوز العبث بها بأي حال من الأحوال، والقاصرة عن التمييز بين ما يخصنا وما يخص غيرنا، والـمخفقة فـي طلب الـحلول الواقعية الناجعة بدل الضياع وراء المحال.

 

الاربعينات وأدب الحياة

 

بعد الـمثلين اللذين قدمناهما فيما تقدم عن نوعية الأدب السوري الذي كان رائجاً في العشرينات وقضاياه وعقلية العاملين في صناعته نسوق الآن أمثلة عن الأدب السوري.

 

في الأربعينات أي أبان الـحرب العالـمية الثانية وكان سعاده إذ ذاك قد أسس الـحزب السوري القومي الإجتماعي منذ عام 1932 وأطلق في الأمة روحاً جديداً تـجلت في مقالات العاملين في صفوف النهضة القومية الإجتماعية وكتاباتهم وخطبهم وشعر شعرائهم وأبحاث مناظريهم. فظهر فـي ساحة الأدب تيار جديد يبغي إنشاء لا تقليداً وتعميراً لا تدميراً. في هذا الـمناخ الـجديد بدأ أدباء العهود الرجعية القديـمة يتجمع جمهورهم لـمحاربة النهضة بالطرق الـمداورة عن طريق الدس على زعيمها وقذف اتـجاهاتها السياسية بحض التهمة الـمغرضة والطعن بأهميتها للأمة ثم إيقاظ العصبيات الـمذهبية وتغذيتها إذ جرى اعتقاد أولئك الأدباء الرجعيين أن حرب العقيدة الاجتماعية الـموحد للشعب لا تنجح إلا بإثارة النعرات الـمفرقة ولو جاء معها هلاك الشعب كله. لقد كانت حربهم حرب موت الشعب في حين كانت حرب القومية الإجتماعية حرب حياته وفلاحه وتقدمه. لقد أراد أدباء العهود الإنحطاطية إبقاء الشعب مادة لتجارتهم الأدبية ووسيلة لرفع أمجادهم الـخصوصية الأنانية بغية ما سماه سعاده إرضاء عقدة»جنون الـخلود«وعندما ظهرت الـحركة القومية الإجتماعية ونبهت الشعب إلى حقيقته ورفعت الأمة غاية كل فكر وعمل أدرك أدباء الرجعة أن أجالهم قد انتهت لأن النصر الذي أراده سعاده أراده حاسماً إذ رفض مبدأ التسوية بين عقليتين لأنها رجاء الـخيبة بابقاء الشعب خاضعاً لألاعيب تـجار الأدب والسياسة والدين.

 

وقد اكتشف سعاده أن العقلية الرجعية التي وجدها في عشريناته التي شيمتها الانفعالية واللامسؤولية والـمثالب الإنحطاطية هي ذاتها التي واجهت نهضة أمته في الأربعينات ولكنها هذه الـمرة كانت تواجه حربها الأخيرة.

 

ومن أبطال العقلية الرجعية في الأربعينات الـمدعو رشيد سليم الـخوري وهو الـمعـروف»بالشاعر القروي«وفيما يلي سنقدم تـحليلاً لرأي سعاده في أدب هذا الرجل، شعره ونثره.

 

یـميز سعاده بین منشد وشاعر حيث الـمنشد عنده أميل إلى الترنـم من الشاعر الذي سيعرفه فيما بعد بأنه ذلك الذي يهتم»بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيز من فكر وشعور أو مادة«(14)  وهو يرى استناداً إلى هذا التمييز أن رشيد الـخوري ليس إلا منشداً، ويذكرلنا من إنشاده الـجيد الـمقاطع الثلاثة التالية من نشيد»الـحنين إلى الأوطان«:

 

للـــه تلـك الـجبــــال تلك الذرى

 

ذاك الـمعيـــن الزلال لـما جـــرى

 

تلك الربــى والتلال تلك القـــرى

 

صنين ظهــر القضيــب تلك القنن

 

سهل البقــاع الـخصيب نبـع اللبن

 

لله ذاك الغـديـــــر مــــا أعــذبــــا

 

للـــه تلك الــزهـــور مــــا أطيبـــا

 

للــــه تلك الطيـــور مــــا اطربــــا

 

من كل شاد عجيب ينفي الشجن

 

في شــدوه للقلـــوب سلوى ومن

 

أيـــاك يهـــوى الفـــؤاد يــا امنـــا

 

مـــن دون كــل الــبلاد انت المنى

 

هل يــــا تـــرى من معــاد يوماً لنا

 

يا حســـن يــوم تؤوب فينا السفن

 

نشتـــم قبل الغــروب ريح الوطن

 

ويصف سعاده هذه الـمقاطع الثلاثة التي تقع في الـجزء الأول من ديوان»الرشيديات»«بالصدق في الشعور والإحساس بالـحياة والـجمال«. (15)

 

ولكن الإعتراض الرئيسي الذي يوجهه سعاده إلى الـخوري هو اعتراضه على الرأي الذي ساد في أوساط أصدقاء الـخوري القائل بأنه شاعر كبير ومن فحول الشعراء، في حين لم يجد سعاده في منظوماته إلا التقليد والتكلف في النظم والإستمرار في الـمثل الدنيا للزمن العتيق. من هذه الـمثل الدنيا الـمادية الـمفرقة في الـخصوصيات والأنانية والـجمود عند مرتبة الـحاجات الـحيوانية. فالغزل والتشبيب وهما من الفنون القديـمة التي تعلق بهما الـخوري هما في نظر سعاده»مدار الشعوب غير المثقفة« 6)  .(1ومن الأمثلة التي يضربها على مستوى القضايا التي تؤلف شخصية الـخوري الـمنظمية ما يلي، يقول الـخوري في إحدى قصائده في»الرشيديات« (17):

 

ثـــم ارتـمينا فـــوق أغصـان الربي

 

ثملين في الغـض الندي كجسمك

 

وغـــدوت كالعقد النثير على الثرى

 

أعجـــزت البق شــــاعر عن نظمك

 

يـــا نحلـــــة دون الازاهـــر هجتها

 

من ذاق شهدك لم يخف من سمك

 

فـــرنـــوت مغضبـــة إلي فصابنــــي

 

سهـــم فـــوا شــوق الفؤاد لسهمك

 

لابـــدع أن جــددت لي عهد الصبا

 

برضـــاك عنــي تـــارة وبرغمـــــك

 

وكان تعليق سعاده على هذه القصيدة قوله أنها:

 

»كلها تصور شخصي لـحالة خصوصية تتعلق بالناظم وحده، وكان يجب أن تبقى من خصوصياته الداخلية التي لا لزوم لاطلاع غيره عليها، لأنها لا تـمثل شيئاً يهم غيره من الـحادثة التي يصفها«. (18)

 

 

الشعر»الوطني «والندرة في القبح

 

القصائد الوطنية للخوري ظهرت في ديوانـه»الأعاصير«. في هذا الديوان يكتشف سعاده بعداً جديداً في شخصية القروي النظمية أنه بعده الـمناقبي ـ الوطني الذي تـجلى في رمي شعبه بكل حقارة وأهانته أمته كما لا يفعل الـخونة. يقول الـخوري في قصيدة»تـحية الأندلس«التي حلى بها جيد دیوانه واعتبرها من عيون قصائده في الـحماسة الوطنية، والتي استوحى موضوعها من حفلة تكريـمية للشاعر الإسباني فرنسيسكو بليااسيسه في سان باولو - البرازيل بـمناسبة زيارته لهذه الـمدينة والقائه محاضرات فيها نوه في بعضها بأعمال العرب في أسبانية وادعى أنه من أصل عربي، يقول الـخوري في هذه القصيدة التي مثل فيها سورية واقفة خاشعة أمام الأندلس ما يلي مخاطباً الأندلس(19(:

 

خبـــرينا كيــف نقــريك السلامــــا

 

طيــــب النشر كأنفــاس الـــخزامى

 

والشــذا الـمحيي بسوريــــا الفطاما

 

غــــادر الشـــام وبيروت وهــامــــا

 

في بــــلاد حـــرة لم تــحن هامـــــا

 

وانــــوف لـــم يقبلــن الرغـــامـــــا

 

خبرينـــا كيف نقريــك السلامــــــا

 

ويعلق سعاده على الوجهة الـمناقبية لهذا الـمقطع بقوله:»هذا هو الـمقطع الأول من هذه القصيدة النادرة. وندورها ليس في جمالها بل في قبحها ولا عزها بل في ذلها. فقلما وقف إنسان يـمثل أمته تـجاه أمة غريبة وفاه بـمثل هذا القول الـمخزي«. (20)

 

ويتابع الـخوري قائلاً (21) :

 

أمـن الـميماس حيث العلج رافع

 

رايــة حمراء تــحميها الـــمدافع

 

أم من الشام وطرف الشام دامع

 

أم من الأرز وليث الأرز خاضع

 

أم من الاردن والاردن ضـــارع

 

خــاشـــع الرأس ذليلاً يتــــرامى

 

أمـــن العبــدان ترضين السلامــا

 

فالـمعنى الذي يريده الناظم واضح أنه يقول أن أمته أمة عبيد وليس لأمة العبيد أن تـحي الأندلس مدللاً بذلك عن ثقافة »وطنية«عز نظيرها وثقافة تاريخية غابت عن العلماء، يقول سعاده أن الشعر قيمة نفسية سامية، ولكن أنى لنظامي الرجمة الـمثقفين على مثل العهود الإنحطاطية ومثالب العيش الذليل أن يـمثلوا السمو الروحي في قصائدهم البائسة؟

ولكن رشيد سليم الـخوري ليس فقط شاعراً من الفحول كما أظهرته أوساط الرجعة فـي الـجاليات السورية في الـمغترب الاميركي، أنه أيضاً عالم كبير محاضر في شؤون الإجتماع الفلسفية والدينية. لقد جمع الـخوري الـمجد من أطرافه ما دامت ساحة النقاد الـمؤهلين خالية إلاّ من أرباب الأدب الرجعي اللامناقبي اللامسؤول، الذين لعمق ثقافتهم ودقة شعورهم بالـمسؤوليـة يخلطون بين السمو والانحطاط والعز والذل فيسمون الأشياء بأضادها فإذا بالناظم الـمقلـد شاعراً فحلاً واذا بالـجاهل أستاذاً في العلوم. وحده كان سعاده يصارع في ساحة النقد الأدبي الـمزدحمة بأفواج الدجالين والكتبة الفريسيين وخونة النهوض والتقدم والارتقاء.

 

حارضة الخوري والجهل بطبيعة الاديان

 

في محاضرته الـمشهورة عن الـمسيحية والـمحمدية والتي يسميها سعاده»حارضة«لا محاضرة(22) لأنها تـحرض أبناء الشعب على الفتنة الدينية ولـخلوها من كل شروط الـمحاضرة العلمية، يخترع الـخوري العالم الأديب الفكرة الهامة التالية:

 

أن الدين الـمسيحي دين مذلة وعزوف عن الـحياة الدنيا في حين أن الدين الـمحمدي دين القوة و النشاط والدعوة إلى الاهتمام بالـحياة الدينوية الـمادية ثم يعلن تفضيله للدين الـمحمدي على الدين الـمسيحي.

 

وقد رد سعاده على»محاضرة«الـخوري ببحث نقدي تـحليلي طويل عميق يكاد يكون الدراسة الوحيدة الـمثلى للدينين الـمسيحي والـمحمدي، وأننا نكتفي بإبراز النقاط التالية التي تفي بالقصد:

 

أولاً: يقول سعاده أن تفضيل الـخوري للدين الـمحمدي على الدين الـمسيحي إنـما هو نطق بالكفر، وذلك استناداً إلى الآيات التالية من سورة النساء:

 

»أن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقـوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً«. وغيرها من آيات الكتاب الكثيرة وخاصة في سورة البقرة. ((23

 

ثانياً: ويقول سعاده أن الـخوري قذ دلل بكلامه على أنه لا يفقه طبيعة الأديان عندما يتحدث عن»الناحية الدينية البحتة«في الإسلام مجرداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والـجنة والنار التي هي ما يـميز الـمعرفة الدينية عـن غيرها من دوائر الـمعرفة كالفلسفة والعلوم.

 

ثالثاً: يصف الـخوري الإنـجيل بقوله أنه»كتاب روحاني يعنى بالآخرة فحسب ولا يعلم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الـجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لـما وراء الـمنظور وهو يقتل الـمواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح فلا مجد عنده إلا مجد الـخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بهـا هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقـاً مدى الـحياة تسام الـخسف والهوان والـجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الـموت حياة ثانية تثاب فيها على خضوعك واستسلامك وصبرك علـى الظلم «. (24)

 

ثم يقابل رأيه هذا في الـمسيحية برأيه التالي في الإسلام قائلاً: »لقد فسح الإسلام لـمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له بقوله: )أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً(«.

 

يعلق الزعيم على هذا الكلام بوصفه بالـجهل في كل الشؤون الدينية والانسانية الاجتماعية والتاريخية، وأنه كلام مضطرب غامض مشوش مضر. ثم أن تفضيل الـخوري للاسلام الـمحمدي لـمجرد ناحيته الـمادية يكشف عن نوع النفسية التي لهذا الأديب الذي مثاله الاعلـى السعي وراء الـمكاسب الـمادية واغفال أهمية الفضائل النفسية الـمميزة للانسان الراقي ).(25

 

رابعاً: بعد تفنيده»لـمحاضرة«

 

الـخوري يعقد سعاده دراسة فلسفية اجتماعية هي مثال للأدب العلمي التحليلي تدور حول فكرة أساسية هي أن الإسلام دين واحد له رسالتان: الـمسيحية والـمحمدية. فتكون النتيجة الهامة التالية وهي: أننا كلنا مسلمون لرب العالـمين منا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالانـجيل ومنا من أسلم بالـحكمة.

 

وهذه النتيجة تتفق مع أرقى قواعد التفسير الديني أعني القاعدة التي تقول بأن يستخرج الدارس من كل آية أفضل ما فيها. كما تتفق مع فلسفة سعاده القومية الاجتماعية التوحيدية.

 

أن كتاب سعـاده»الإسلام في رسالتيه: الـمسيحية والـمحمدية«يظل دعوة لكل إنسان مهتم بالأدب الرفيع والفكر الفلسفي العالي، وفيـه يتكشف للإنسان الفرق الـحاسم بين عقلية النهوض الاجتماعي وعقلية الانحطاط والسفول الأنانية التي تتجلى عند أدباء الرجعة.

 

 

الأدب التجاري في الصحافة

 

الصحافيون الـمتربعون في ساحة الادب الصحافي لم يكونوا أحسن حـالاً من نظرائهم النظامين والـمحاضرين. وسعاده لـم يتركهم دون درس لظاهرتهم التي لا تختلف بخصائصها عن الظاهرة الرجعية الانحطاطية عموماً. وسعاده كما نعـرف كان صحافياً بالاضافة الى عمله الانشائي التعميري العظيم كزعيم للحزب السوري القومي الاجتماعي وقد بدأ يعمل في الصحافة مع والده منذ فتوته الاولى سواء في جريدة»الـجريدة«أو مجلة»الـمجلة«اللتين كان يصدرهما والده في الـمغترب البرازيلي والارجنتيني.

 

من أدباء الصحافة الذين تعرض سعاده لنقدهم نذكر السيد عبد الـمسيح حداد صاحب جريدة»السائح«النيويوركية )وهي صحيفة»الرابطة القلمية«في أيام جبران خليل جبران(، كمـا نذكر الشاعر الصحافي ايليا ابي ماضي صاحب جريدة»السمير«النيويوركية أيضاً. ويقـدم سعاده مثالاً عن الأدب الصحافي لهذين الكاتبين النموذج التالي:

 

كتب صاحب»السائح«في عدد جريدته الـمؤرخ في 19 من اذار 1942 في باب»رسائل الـجوالي«معلقاً على نعي وصله بوفاة شاب، مقالة يقول فيها:

 

»صعقت الـجالية هنا والـجوالي السورية العديدة للفاجعة الـمحرقة التي ألّـمت بعائلة السيد لويس ناصيف التاجر الكبير في هويلن، وست فرجينيا. فقد نقل اليه البرق من دائرة الـجنود البحريين في مدينة باريس، وست كارولينا أن وحيده الشاب النجيب والبطل الـحبيب لويس قد خر صريعاً في حادثة فجائية حربية.

 

وقد نقل إلينا هذا الـخبر الذي أشعل النار في أفئدتنا بالتلفون مساء أمس فلم نحصل على أكثر من هذه التفاصيل.. الخ..« ) (26.

 

وفي الفقرة الأخيرة من هذا التعليق يقـول الـحداد: »أنه لـخطب جلل أنها لـمصيبـة لاتـحتمل«  (27).

 

وكان صاحب»السمير«قد سبق»السائح«الى إعلان الـخبر إذ نشر في عدد جريدته الصادر في 18 آذار في باب »أخبار محلية «وتـحت عنوان»فقيد الصبا، يا للفجيعة«تعليقاً يقول فـي مستهله:

 

»روعنا البرق في هذا الصباح بخبر وقع علينا وقوع الصاعقة فزلزل منا القوى، وهو وفاة الفتى الذي كنا نتوقع له مستقبلاً باهراً في عالم الـجندية لذكائه وبراعته وحماسته وتفوقه في ضروب الرماية والـمسابقة، وهو الـمأسوف علـى شبابه النضير وأدبه الوفير الـمرحوم لويس ناصيف»جونيور«، نـجل صديقنا التاجر البارز في هويلن، وست فرجينيا لويس ناصيف وقرينته الـمهذبة السيدة شهربان، الذي مات في الـمعسكر الخ .. « .(28) 

 

وبعد أن تـحدث عن كيفية تطوع الفقيد في الـجندية وهو وحيد والديه ينتهي الى الوصف التالي في مجال نعيه:

 

»هذا هو الـخبر الذي نكتبه بيد مرتـجفة ونفس حزينة مضطربة... وأننا لا ندري بأي الكلمات نقدر أن نعزي أبويه وجديه، فان هذا الـخطب من الـخطوب التي تعقل الألسن والأقلام وتترك الـمرء كالـمصعوق«. (29) 

 

هذا الـموضوع كتب على عدة أعمدة من عدة أعداد في الصحيفتين الـمذكورتين كما نشر فيهما رسم الشاب الفقيد أكثر مـن مـرة وامتازت»السمير «بنشر الرسم ثانية مكبراً. (30)

 

وقد علق سعاده على هذه الظاهرة بوصفها أنها ظاهرة الأدب الذي صار تـجارة بغيضة. ويلاحظ أن تعليقي الصحيفتين متفقان في الأسلوب متجانسان في الغاية. فالأسلوب أدبي تقليدي لا شعور حي فيه، والغاية تزلف إلى»التاجر الكبير«والد الفقيد. (31)

 

و الـحقيقة أن حرب سعاده للأدب التقليدي قد اتسعت أثناء وجوده القسري في الـمغترب الأميركي الـجنوبي أبان الـحرب العالـمية الثانية وبعدها بقليل )أي ما بين 1939 و1947)، حتى شملت جميع أعضاء»الرابطة القلمية«من شعراء و أدباء وغيرهم، فلم تقتصر على السيدين حداد وأبي ماضي.

 

 

»الرابطة القلمية«جيفة

 

وهو يحمل أدباء الـمهجر الذين يسميهم بأدباء»الهفت والبهت«(32) الـمسؤولية الرئيسية في بقاء الـمستوى الروحي - الـمناقبي للجاليات السورية منحطاً قوامه النعرات الـمذهبية والنزاعات الفئوية والـخصوصية. وهو يقول أن أعظـم أسباب انحلال الروابط القومية والاجتماعية، وابتعاد أبناء السوريين الـمولودين في الـمهاجر عن لغتنا العربية القومية وكرههم الإنتساب لأمتهم، إنـما صدر عن تلك الطائفة من الكتاب الذين اندفعوا وراء طلب»جنون الـخلود«الأناني بديل النهوض بشعبهـم والارتقاء بحياة الأجيال الصاعدة. (33)

 

وهو يأسف أن تكون»الرابطة القلمية«التي تألقت شمسها أيام جبران قد انتهت الى»جيفة منتنة«(34). وأن يكون »الشوق العظيم الى حقيقة أساسية وعهد جديد، الذي أحيا الرابطة القلمية وشحذ أقلام أركانها وفي مقدمتهم جبران، قد خبا منذ عدل جبران عن لغته القومية إلى الإنكليزية، وطلق نعيمة النقد ليصير مقلداً صوفياً، وغادر الريحاني روحية»الريحانيات«ليسيح في العربة بالإتفاق مع الإنكليز« . (35)

 

ويقول سعاده أن مبدأ»الرابطة القلمية«السلبي الذي قال بالإنعتاق من العالم القديم الهالك والتفتيش عن الـجديد الـمحيي قد خرج عنه جميع»القلميين«وظل من حظ جبران وحده . (36)

 

كما يـميز سعاده في كتاباته الفلسفية - الإجتماعية - الـمناقبية بين العيش والـحياة، كذلك نـجده يـميز بين نوعين من الأدب، الأول أدب الكتب والثاني أدب الـحياة. في كتاباته الفلسفية يقول أن العيش لا يفرق بين الـذل والعز في حين أن الـحياة لا تكون إلا في العز. وهذا معناه في لغة سعاده القومية الإجتماعية أن أهل العيش عبارة عن قطعان بشرية، شأنهم شأن السائمة وحاجاتهم حاجات غريزية، فهم مفتقرون الى دافع العمران والثقافة. أما أبناء الـحياة فهويتهم أمة ناهضة نحو أجمل الـمثل العليا التي تستطيع النفس الإنسانية العاقلة الـمدركة أن ترسمها وتطلبها. أن العيش شيمة الـجماعة الـمنهارة في حين أن الـحياة شيمة الـمجتمع الـموحد الـمتقدم بخطى ثابتة نحو غايته الـمثلى. الفرق بين العيش والـحياة عند سعاده يوازي تـماماً الفرق بين ما هو عدم وجمود وما هو بعث ووجود أو الفرق بين السعي الى مثل دنيا والسعي نحو مثل عليا.

 

ما علاقة هذا التمييز بين العيش والـحياة بالتمييز الذي أنشأه سعاده بين أدب الكتب وأدب الـحياة؟

 

 

نقص الأساس الـحياتي في الأدب

 

يقول سعاده : »أن نقص الـحياة والأساس الـحياتي في أدبنا لأمر رائع ونتيجة مؤسفة جداً لأنها تضرب بيننا وبين الـمثل العليا حجاباً كثيفاً.

 

ولا تـمدنا إلا بـما ابتذل من الألفاظ وهزل من المعاني والفقر من المبادىء« (37).

 

ويعدد سعاده الأسباب الـمباشرة لهذا الفقر في إسراع الشعراء الى قرض الشعر تقليداً للقديم القريب، وإقبال الأدباء على الكتابة وليس لهم من عدة إلا عدة اللغة.(38)

 

أما الأسباب العميقة البعيدة لشيوع أدب الكتب في مجتمعنا فيراها سعاده كأمنة في نـمط الـحياة في بيئتهم، وهو النمط الرجعي الانحطاطي الذي يسميه سعاده عيشاً لا يفرق بين الذل والعز وبين القبح والـجمال.

 

ويضرب سعاده على ذلك مثال الـحياة الـحبية في محيطنا التي هي من أهم عوامل الشعر، فيقول أن القدود والـخدود والنهود، أي الـمؤثرات الـجسدية، هي العامل الأقوى في إثارة شعور الشاعر ونشاط مخيلة الأديب في حين أن الـحياة الـحبية الراقية هي نهوض نحو»الـمطالب العليا الباعثة على الإقدام والشجاعة والكرامة وتنقية النفس مـن الشوائب على منهاج معين«. (39)وفي مناسبة أخرى يصف قضية الـحب بأنها»اتـحاد فكر وشعور، واشتراك نفوس في فهم جمال الـحياة وتـحقيـق مطالبها العليا«. (40)

 

ويختتم سعاده كلامه عن أدب الـحياة بقوله: «الذي أريد أن أقوله في ختام هذه العجالة هو أن أصول الأدب يجب أن تكون في الـحياة لتتمكن من أعطاء ثمار تغذي الأحياء. (41) فكثرة الإطلاع الأدبي دون اختبار الـحياة السامية لا تصنع أدباً ولا أديباً يبقيان، لان»كل أدب لا يعرف الـحياة لا يحيا«. (42)

 

الصراع الفكري في الادب السوري

 

في بوانس أيرس عام 1943 يظهر لسعاده كتاب بعنوان»الصراع الفكري في الأدب السوري«، فيه يعود الى بحث قضية الادب عموماً ومسألة التجديد الأدبي خصوصاً بحثاً فلسفياً دقيقاً. وقد كانت مناسبة هذا البحث كما يقول في الـمقدمة ما لاحظه من»احتكاك وتصادم فكريين«في النظر الى الشعر وأغراضه عند اثنين من كبار أدباء ذلك الزمان بـمناسبة تعليقهم على ديوان»الأحلام«للشاعر شفيق الـمعلوف.

 

وقد نشرت آراء هذين الأديبين الواردة في رسالتيهما إلى الشاعر مع تعليق للشاعر في مجلة»العصبة«التي كانت تصدر في سان باولو، وذلك في عدد شباط 1935 (43) .

 

كان أهم ما ورد في رأي الريحاني وصفه للشاعر الـحقيقي بأنه»مرآة الـجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الـملمات، وسيف فـي النكبات. الشاعر الـحقيقي يشيد للأمـم قصوراً من الـحب والـحكمة والـجمال والاأمل«  (44) .

 

أما عم الشاعر السيد يوسف نعمان معلوف فقد حرص في الدرجة الأولى على تعليم ابن أخيه وارشاده في مثل قوله: »اعتن في مؤلفاتك الـمقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع اليه سواء كان بالفكر أو بالعمل وأن تكون مقلداً لا مقلداً فـي سائر أعمالك لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة الـمرء في الـحياة، وقبل كل شيء أترك الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة«.(45)

 

في تعليقه على رسالة عمه يقول شفيق الـمعلوف محدداً الشعر ما يلي: »فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته - في أحايين كثيرة - منفعة يصيبها الـمرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية«. 46) .(ثم يضيف قائلاً:»وقد أكون على خطأ من الوجه العملي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الـخالد«.(47) ويختم كلامه بقوله:»وأنا من هواة الشعر الـخالد الذي لا يرتبط بالازمنة«. (48).

 

وتـجدر الـملاحظة أن الرسائل الثلاث التي نشرت عام 1935 كانت كتبت عام 1926. كما تـجدر الـملاحظة كلا الريحاني وعم الشاعر اتفقا في توجيه الشاعر إلى الإبتعاد عن شعر البكاء والنواح مـما دفع الشاعر الى إضافة حاشية ظهرت في مجلة»العصبة«عام 1935 يعلن فيها انكاره أسلوب البكاء والشكوى الذي ظهر في قصيدته»الأحلام«ولكنه يبرر انتحاءه ذلك النحو إلى عامل السن الذي نظم فيه القصيدة عندما لم يكن قد جاوز الثامنة عشرة وهي سن الفتوة والقلق والـحيرة. (49) 

 

لندرس الآن تعليق سعاده على الآراء الـمتقدمة في الشعر والشاعر.أن الـمآخذ التي يسجلها سعاده على رأي الريحاني تتلخص في وصفه كلام الاخير بأنه كلام»غامض مشوش«لا تـحديد حقيقي فيه ولا وضوح لان ما ذكره من أن الشاعر »مرآة الـجماعات...« ينطبق على الصحافي والفيلسوف والعالم والقائد وغيرهم من العظماء الذين كانوا»مصباح الظلمات«و»سيف النكبات« (50). ثم أن إنكار الريحاني على شفيق الـمعلوف نواحه وبكاءه وتقبيحه أن يجري الشاعر في هذا الـمجرى يظل كلاماً لا طائل تـحته.أن الناقد الـحقيقي يجب أن يكون كلامه منتجاً دروساً في الـخروج بالشعر والشعراء من عهود التفجع على الإطلال إلى عهد جديد فيه كل الرجاء والايـمان والارتقاء. وهذا ما لم يفعله الريحاني فظل كلامه وعظاً لفظياً لا غناء فيه.(51)

 

أما ارشادات عم الشاعر فتمتاز بأنها دعوة الى النزعة الفردية عن طريق طلب الشهـرة الفردية وجعلها غاية الفكر والـمسعى،»كأن أهم شيء في طبيعة الفكر والعمل أن يكون الـمرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعاً«(52)

 

من أجل فهم القضية الادبية

 

ویری سعاده أن حالة التشويش والتخبط في فهم القضية الأدبية عموماً والشعر خصوصاً لا تقتصر على الأدباء السوريين الثلاثة الـمذكورين آنفاً، بل هي حالة تشمل أكثر الأدباء اللامعين في العالم العربي. وهنا يقدم لنا نـموذجاً هو أحد كبار أدباء مصر، الدكتور محمد حسين هيكل بك الذي كتب في»هلال«عام 1933، عدد حزیران، كلاماً يقول فيه : »أني أفهم أن يكون التجديد هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه ويعبر عن ذلك تعبيراً صادقاً مـمثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير« (53) .ثم يحاول أن يحدد الصفات الـخاصة التي على الشاعر ابرازها فيقول أنها: »كل ما يقع تـحت الشعور بحكم البيئة، والتعبير تعبيراً صادقاً عن الـحياة التي تـحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها وتـجعل لها صبغة خاصة بحيث يعد الـخروج عن هذه الصبغة خروجاً عن تلك البيئة«. (54)

 

هذا مثل آخر عن حالة الفوضى السائدة في عالم الأدب. فالنظر في القضية الأدبية والتجديد الأدبي يجري كلاماً في كلام، فما هو الشعور بحكم البيئة وكيف يكون؟ وما هي الـحياة التي تـحيط بهذه البيئة والظروف التي تلابسها؟ وغيرها من الأسئلة التي يثيرها الدكتور هيكل فيوجه من يقرأ كتابته الغامضة الـمشوشة الـمضطربة . (55)

 

نتحول الآن إلى شرح نظرية سعاده نفسه في الأدب وفي التجديد الأدبي. يعرف سعاده الأدب قبل كل شيء فيقول: »أن الأدب، نثره ونظمه، هو»صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الـجمال«. (56). يفهم من ذلك أن الأدب ليس الفكر بالذات وليس الشعور بالذات، بل هـو معتمد عليهما. معنى ذلك أن الأدب لا يـمكنه أن يحدث تـجديداً من تلقاء نفسه. ومعناه أن التجديد الأدبي ليس قضية أدبية بحت. (57)

 

التجديد في الأدب

 

والتجديد في الروح

 

التجديد في الأدب يتبع التجديد في الفكر والشعور كما تتبع النتيجة علتها. ولكن التجديد في الفكر والشعور غير ممكن دون حصول نظرة جديدة إلى الـحياة.أو كما يحب سعاده أن يقـول: الأدب»نتيجة حصول ثورة روحية مادية، اجتماعية سياسية تغير حياة شعب بأسره وأوضاع حياته وتفتح أفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعورومناحيه« (58).

 

وكما أن التجديد الأدبي ليس قضية أدبية بحت كذلك ليس هو قضية سياسية. فالأحداث السياسية، خلافاً لآراء مؤرخي الأدب، يراها سعاده نتيجة لابتداء تغير النظرة إلى الـحياة في شعب أي نتيجة لـحصول معتقدات جديدة ومثل عليا روحية - مادية جديدة وليست سبباً في التجديد الأدبي. (59) 

 

وبكلمة أخرى نقول أن الأدب والسياسة يتجددان يتجدد الإنسان. فما دام الإنسان قديـماً في عقليته، رجعياً في نظرته إلى الحياة ظل الأدب والسياسة رجعيين. وعندما يتكون إنسان جديد على مبادىء وتعاليم حياتية جديدة يبدأ في الأدب وفي السياسة عهود جديدة، على طراز الـمجتمع الإنساني الـجديد. والله لا يبدل ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

 

على هذا الأساس الفلسفي العميق، لا يعود التجديد الأدبي كلاماً في التجديد الأدبي هو الهفت بعينه، بل تصبح القضية دعوة الى جميـع الأدباء، ناثريهم وناظميهم، إلى نبذ عقلية العهود الرجعية الإنحطاطية وبناء نفوسهم فـي مطلب حياة جديدة ومثل عليا تتفق مع متطلبات النهوض الـحقيقي والتقدم الـحقيقي.

 

 

إنشاء الـحياة الـجديدة في الـحزب

 

إن القاعدة الفلسفية العميقة التي وضعها سعاده لـحصول التجديد فـي الأدب لم يبقها مجرد قاعدة نظرية بل أنه أجاب على السؤال الـخطير الذي يحول هذه القاعدة النظرية إلى واقع ملموس، أعني: كيف يـمكن تغيير الـحياة السورية؟ وكان جوابه ماثلاً في إنشائه الـحزب السوري القومي الإجتماعي على قاعدة نظرة جديدة للحياة الإنسانية تعتبر الأمة مجتمعاً واحداً وتعتبر أساس التقدم والارتقاء أساساً مادياً ـ روحياً.

 

في النهضة القومية الإجتماعية تغير الإنسان، تـجدد، وفيها وحدها صار التجديد الأدبي والسياسي حقيقة حيّة ظاهرة في إنتاج القوميين الإجتماعيين الأدبي وفي مهماتهم الإجتماعيةالسياسية.

 

نعود الآن إلى تـجديد سعاده للأدب لنفهم منه شيئاً جديداً هو أن مهمة الأدب والأديب إبراز الفكر والشعور في صورة الـجمال. أو نقول أنه مهمة الأديب هي التجميل. لأن الـجمال وفقاً لفلسفة سعادة الصراعية النهضوية ليس شيئاً ستاتيكيا. إنّـما الـجمال هو التجميل مثلما الـحق هو التحقيق والـخير نشر الـخير ليعم الأمة.

 

ومن هنا نستطيع أن نفهم معنی اعتبار سعاده كل عضو في الدولة القومية الإجتماعية عاملاً منتجاً بطريقة من الطرق، ومعنى اعتباره الأمة كلها جيشاً من العمال الـمنتجين في بيانه في أول أيار 1948 عندما خاطب أمته بقوله:»أيها الـمنتجون غلالاً وصناعة وفكراً«.

 

فهناك إذن عمال فكريون منهم الأدباء الذين مهمتهم إبراز الفكر في أجمل الصور الـمجازية أوالـخيالية وأسماها وأدقها، وكذلك الشعـور والعواطف، دون مفارقة الـحقيقة الإنسانية ومثلها العليا. (60)

 

إستناداً إلى هذا الإعتبار يـمكننا أن ندرك الآن أهمية حرب سعاده للرجعيين من الأدباء لأنه رأى أن انتاجهم لا يخدم الأمة بل يغلبها على أمرها بـما يثيرونه في أدبهم من النعرات الـمذهبية و الفئوية والـخصوصية. لقد كان هؤلاء الأدباء خونة الأمة على صعيد روحيتها مثلما هم الرسماليون البرجوازيون خونة الأمة في ميدان حياتها الـمادية، فالـحرب على الـخونة يجب أن تستمر حتى يسلموا للأمة أو تسحقهم أجيال الأمة الصاعدة.

 

ثمة أذن أدبان في ساحة الصراع، أدب قديم تـمثيلي من حيث أنه يـمثل الـجمود والتقليد والغموض والفوضى والذل والشك والانحطاط، وأدب جديد تعبيري يريد النهوض للشعب كله ويطلب العز للأمة والفلاح والتقدم. وقد دعا سعاده أكثر من مرة أدباء سورية إلى فلسفة الأدب الـجديد القومية الإجتماعية ليكتشفوا فيها نفوسهم التواقة إلى الإبداع والـمثل العليا لعالم إنساني جديد فيه كل أسباب القوة والـجمال والسعادة. والدعوة ما زالت قائمة.

 

مراجع البحث

 

(1) –(2) جريدة القلم الـحديدي ، العدد 215 ، سان باولو ، 12 أيلـــول 1936 ، كذلك في جريدة البناء ، العدد 32– 1033 ، بيروت ، 28 آب،1971

(3  أبو العلاء الـمعري ، لزوم ما لا يلزم ، طبعة 1925 الـمصرية ، ص 30 .

(4) الـمرجع السابق ، ص 35

(5) الـمرجع السابق ، ص 155

(6) -(9)  الـمرجع المذكور في (1)نفسه

–  (13)(10) مجلة»الـمجلة«، الـجزء الثالث، سان باولو، نیسان 1925

 كذلك في جريدة البناء ، العدد 44 – 1033، 20 تشرين الثاني 1971

 (14) أنطون سعاده، الآثار الكاملة، الـمجلد 1، بيروت، 1960، ص 58

(15) الـمرجع السابق ، ص 82 – 83

 كذلك في النظام الـجديد، الـحلقة 16، آذار 1951 م 16، 17

(16)-(18)  الآثار الكاملة، المجلد 1، ص 83 - 84

وكذلك النظام الجديد، الحلقة 16، ص 17

(21)-(19) المرجع السابق ، ص 98 – 99

(22) أنطون سعاده ، الإسلام في رسالتيه ، الطبعة 3 ، بيروت،1958 ،ص 5.

(23) المرجع السابق ، ص 6

(24) المرجع السابق ، ص 14

(25) المرجع السابق، ص 17

(31)(26)- جريدة»الزوبعة«، العدد 45 ، 1 حزيران 1942 ، ص 5 - 6

(32) جريدة»الزوبعة« ، العدد 43 ، السنة 2 ، 1 آيار 1942 ، ص ، من مقال»تـجار الادب في المهجر«

) 33)المرجع السابق ، ص 3

(36)-(34) المرجع السابق ، ص 5.

(37) - (38) الآثار الكاملة ، المجلد 2 ، ص 208 – 209 ، مـقال»أدب الكتب وأدب الـحياة«.

 وكذلك في»الـمجلة « ، العدد 2 ، المجلد 8 ، بیروت ، نیسان 1933

(39) المرجع السابق ، ص 209 – 210

(40) المرجع السابق ، ص 67 ، بحث»الصراع الفكري في الادب السوري«

(42)(41) -المرجع السابق ، ص 211

(43) المرجع السابق ، ص 9

(44) المرجع السابق ، ص 10

(45)  المرجع السابق ، ص 11

(46)ـ (49) المرجع السابق ، ص 12

50 - (51) (المرجع السابق ، ص 15 ، 17

(50) المرجع السابق ، ص 16

 (54)-(53)المرجع السابق ، ص18

(55) المرجع السابق ، 19

(56)-(57)المرجع السابق ، ص 29 ، ص 28

(58) المرجع السابق ، ص 28 – 29

(59)المرجع السابق ، ص 29 ، 30

(60)المرجع السابق ، ص 32

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro