مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ملحق رقم 9 جنوب وجنوب شرق الأناضول..لنا!
 
 
 
 

علي حمية*

 

في مقال سابق تـحت عنوان »العقبة وتبوك وعرعر... لنا« (»الأخبار«، 21 كانون الثاني 2016) عرضت بالتفصيل كيف استولى آل سعود، في غفلة عن السوريين، وبتزكية من الإنكليز، على مناطق واسعة وغنية من الأراضي السورية الواقعة إلى الـجنوب الشرقي من سورية، في ما يُعرف بـ»بادية الشام«، تُقدّر بأكثر من 000.250 ألف كلم2، وأظهرت أن عوامل عديدة، داخلية وخارجية، حربية وسياسية، أدّت إلى سيطرة قبائل عربية بأمرة السعوديين الوهابيين على تلك الـمناطق التي كانت قد تـحرّرت، إبان الـحرب العالـمية الأولى، من النير العثماني.

 

في الفترة نفسها، وفي مرحلة ما بين الـحربين العالـميتين، استولى الأتراك، في الشمال، على منطقة كيليكية ولواء الإسكندرون. وقد بارك الفرنسيون الـمنتدبون على سورية هذه الغنيمة الثمينة التي فاز بها الأتراك مع أنهم خسروا، كدولة منتدبة، جزءاً لا يُستهان به من »حصّتهم« في البلاد السورية التي كانوا قد تقاسموها سراً مع الأنكليز بـموجب إتفاق »سايكس - بيكو« الذي عُقد بين الطرفين سنة 1916.

 

بين تركيا البيئة الـجغرافية الطبيعية وتركيا الـجمهورية السياسية الناشئة حديثاً بعد الـحرب العالـمية الأولى بون شاسع سواء في الـمساحة أو السكان أو الـموارد الطبيعية. فتركيا الـجغرافية الطبيعية تتألف من هضبة الأناضول التي تقع بين جبال طوروس الـحد الفاصل، جنوباً، بينها وبين سورية والبحر الأسود شمالاً، أما تركيا السياسية (تركية الـحالية) فتشمل، بالإضافة إلى الأناضول، مناطق سورية واسعة تـمتاز بغنى أراضيها وتدفق أنهارها وتنوع مواردها الطبيعية والبشرية وتصل مساحتها، في تقديرات غير نهائية، إلى حوالى 250.000 ألف كلم2 ويقطنها حوالى 25 مليون سوري من أصول آشورية وكردية وعربية وصابئة وأرمن... الخ. وكانت تركيا العثمانية فتركيا »الكمالية« (نسبة إلى كمال أتاتورك) قد ضمّت، على مراحل متتالية، هذه الـمناطق إلى بيئتها الـجغرافية الأصلية في الأناضول، حيث بدأت تُعرف في الاستعمال السياسي الـجاري، بـ»جنوب الأناضول« و»جنوب شرق الأناضول«.

 

وفي التفاصيل، أنه بعد قرون من التسلط العثماني على سورية فقدت خلالها سيادتها على وطنها ومواردها، وقعت البلاد السورية، مجدداً، تـحت الإحتلال الأجنبي وتمّ تقسيمها، بـموجب إتفاقية سايكس- بيكو، إلى منطقتي نفوذ: واحدة فرنسية وثانية بريطانية، فاغتنم الأتراك الصراع الناشب، يومها، بين دول »الـمحور« والدول الـمدعوة »ديـموقراطية«، واستولوا في العشرينيات من القرن الـماضي على كيليكية الـمحاذية، من جهة الشمال، لـجبال طوروس الغربية. كما استولوا، في نهاية الثلاثينيات من القرن نفسه، على منطقة الإسكندرون ومدينة أنطاكية التاريخية. وكانوا قد استولوا إبان الـحقبة العثمانية، بوصفهم دولة الـخلافة الإسلامية، على منطقة أعالي دجلة والفرات الغنية بـمياهها وجبالها وأنهارها وبحيراتها وطبيعتها الـخلابة. ولا تزال حلب والـموصل ومنطقة »الـجزيرة« العليا والشمال السوري كله، حتى اليوم، مهدّدة بتوسع تركي جديد، يتّخذ من التطورات الـجارية ذريعة للتدخل والإحتلال وتـحقيق الأطماع الطورانية التاريخية في بلاد سوراقية (الشام والعراق)، ولنا من السيطرة التركية، بالتنسيق مع الولايات الـمتحدة ودول أوروبية عديدة و»اسرائيل«، على مدينة إدلب ومنطقة غرب الفرات، أسطع دليل على الأطماع التركية التي لا تعرف حدوداً في سورية. فهل سيؤدي الصراع الدائر، اليوم، بين سورية ودول الـجوار، من مستعربين وعثمانيين جدد ومتصهينين، إلى إعادة فتح ملف الـمناطق السورية الـمحتلة فيبدأ العمل لاستعادتها وتـحريرها من نير الإحتلال التركي، أم أن هذا الـملف سيُطوى، مرة ثانية، ويتم الصفح عن أخطاء »الكتلة الوطنية« التي تنازلت، في الـماضي، عن لواء الإسكندرونة كما كانت مستعدة للتنازل عن حلب والـجزيرة، لو استمرّت في الـحكم؟

 

إن احتلال تركيا لهذه الـمناطق الواسعة من سورية قد تمّ، بالتدريج وعلى مراحل، من دون أن تتحرك حكومة أو هيئة سورية للدفاع عنها، كأنها أراضِ مهجورة أو كأن أحداً لا ينتمي إليها!

 

في الـمرحلة الأولى حيث ظهرت الإمبراطورية العثمانية على الـمسرح السياسي العالـمي كقوة مرهوبة الـجانب في مواجهة جارتيها: الإمبراطورية الفارسية الصفوية والإمبراطورية الروسية القيصرية، قضمت الإمبراطورية الـجديدة معظم مرتفعات أعالي دجلة والفرات الواقعة في شرق الأناضول والـمحاذية لكل من إيران وبلاد ما بين النهرين وأرمينية، حيث يتفجّر هذان النهران الكبيران في الـمنحنى الكبير ما بين جبال البختياري وطوروس، وتربض بالقرب من منابعهما بحيرة »وان« (3765 كلم2) فبحيرة »نـمرود« الـمشهورة بـمنتجعاتها ومياهها العذبة وبحيرة »أورمية« (7000 كلم2) التي تتبع حالياً إيران. كذلك، ضمّت »الدولة العلية« إلى مـمتلكاتها، في الفترة نفسها، منطقة ديار بكر التي تـمتد بين أعالي دجلة والفرات من جهة وجنوب الأناضول، من جهة ثانية. وتشمل هذه الـمنطقة عدداً من الـمدن أهمها:

 

*ديار بكر، وهي مدينة قديـمة جداً، مشهورة بقلعتها، وخاناتها، وأسواقها القديمة، وأصبحت بدءاً من عام 1232 عاصمة للملوك الأيوبيين قبل سقوطها بيد العثمانيين في عام 1516.

 

 *سميساط التي كانت، لفترة، عاصمة الكوماجين- ديار بكر، اليوم، اشتُهر من أعلامها الكاتب والـمؤرخ والناقد السوري لوقيان السميساطي.

 

*أورفة (الرها) التي أدّت وجارتها سميساط دوراً ثقافياً رائداً في شمالي سورية وما بين النهرين، في الألفية الأولى للميلاد. وعنتاب. آل عزيز أو خربوط، قديـماً. وملاطيه الـمدينة التاريخية، التي كانت معبراً إلى بلاد ما بين النهرين وهي، الآن، كبيرة وحديثة.

 

*ماردين، الـمدينة القديـمة الـمبنية فوق الـجبل تشتهر بقلعتها، وأسواقها ومراكزها الدينية، وفيها الأديرة النسطورية القديـمة، وما زالت مركزاً دينياً مهماً؛ بيوتها مبنية من حجر الـجبل، ومن ضواحيها الـمهمة والتاريخية مديات وكان فيها عدة كنائس وأبرشية. وحرّان، الـمدينة التاريخية الـمشهورة بـمركزها الديني والثقافي الـمتميّز على امتداد القرون الأولى للمسيحية.

 

الـمرحلة الثانية بدأت إبان الفترة الكمالية في تركية حيث أعلن أتاتورك رسمياً، سنة 1925، سقوط الـخلافة العثمانية وإعلان الـجمهورية التركية الـحديثة. وبينما كانت سورية تتخبط في قضاياها الـجزئية، من دينية ومذهبية وإثنية، كانت تركية الـحديثة، الـموحدة الروحية والعصبية القومية، تتحفز للنهوض من سقطتها في الـحرب الكبرى. وما أن أحدث مصطفى كمال ثورته حتى وجّه اهتمامه إلى منطقة كيليكية التي هي من أغنى مناطق سورية. فلم يطل الأمر حتى سلم الفرنسيون للأتراك تلك الـمنطقة بأكملها من أنطاليا، في الغرب، حتى تخوم لواء الإسكندرون، في الشرق، بحجة أن فيها عدداً قليلاً من الأتراك. وكيليكية هذه تقع جنوب غرب جبال طوروس، وعُرفت، تاريخياً، بـ»بواباتها« الاستراتيجية الشهيرة، أي بالمداخل التي لا بدّ لأي جيش قادم من جهة الأناضول في اتجاه الجنوب (سورية) من محاولة العبور منها. وتحتضن كيليكية نهري جيحون (أو جيحان) وسيحون (أو سيحان ) اللذين يرويان الأراضي الـخصبة ما بين أفسس ومرعش وأضنة وطرسوس ومرسين الـمحتلة أيضاً. هذان النهران لا يـمتان بصلة لنهرين آخرين يحملان الاسم نفسه وورد ذكرهما في مراجع إسلامية قديـمة وبأنهما ينتميان، من حيث الـمنبع والـمجرى والـمصب، إلى آسية الوسطى: نواحي سمرقند، وبخارى، وطشقند، وبحر خوارزم (مجلة التراث العربي، العددان 5/ 6، دمشق). ومن مدن كيليكية الـمهمة، أيضاً، نذكر أنطالية، قونية، قيصرية والبستان. استعملها الـجيش الآشوري، مدة من الزمن، قاعدة ينطلق منها إلى جبال طوروس. ونظراً لأهميتها الاستراتيجية، فإن كيليكية كانت وتبقى موقعاً ضرورياً جداً لسلامة سورية الطبيعية كلها، وليس فقط لسلامة منطقة أضنة - مرعش ومنطقة الإسكندرونة - حلب.
 

 

في الـمرحلة الثالثة التي سبقت الـحرب العالـمية الثانية بأشهر معدودة، تـمّت لتركية السيطرة الكاملة على منطقة جنوب وجنوب شرق الأناضول باحتلالها لواء الإسكندرون ومدينة أنطاكية، مستغلة ضعف فرنسا وبريطانيا أمام دول الـمحور: ألـمانيا وإيطاليا، من جهة وانشغال حكومة الشام والساسة السوريين، من جهة أخرى، بقضايا تافهة لا تتعدى مسألة التزاحم على الـحكم. يتألف لواء الإسكندرون الذي يلتف حول خليج الإسكندرونة البديع، من مدينة الإسكندرونة، والـميناء، ومدينة بيلان التي تقع على سفح جبل اللكام (الأمانوس) والتي تطوّرت مع الزمان من قرية حتى صارت مصيفاً لأهل الإسكندرونة، وفي عام 1939 تمّ سلخها عن سورية حين منحتها فرنسا إلى تركية كبقية مدن اللواء السليب. أما أنطاكية درّة اللواء السليب، وعاصمة سورية في العهد السلوقي، ومركز البطريركية الـمشرقية للطوائف الـمسيحية كافة، فقد سمّاها الـمؤرخ أميانوس مارسيلينوس الأنطاكي بـ»تاج الشرق الـجميل«كونها أبدع مدن العالم الـمتحضّر آنذاك فلم تكن تُضاهيها في الشرق، من حيث اتساع الرقعة والـجمال، إلا مدينتا الإسكندرية والقسطنطينية. احتلها الصليبيون سنة 1098 فكانت أول مدينة سورية تـُحتل من قبلهم أثناء حملتهم الأولى، وأسّسوا فيها (إمارة أنطاكية الصليبية). ثم احتلها العثمانيون سنة 1516، وسُلخت عن وطنها- الأم، نهائياً، حين منحتها فرنسا، الدولة الـمنتدبة على سورية، لتركيا سنة 1939.

 

يقول سعاده، صاحب الدعوة إلى القومية السورية، عن هذه الـمرحلة الأليمة من تاريخ سورية الـحديث: »اغتنم الأتراك ضعف فرنسا الـخارجة من الـحرب منهوكة القوى، وضعف سورية الذي كان نتيجة تسلطهم، واستولوا على كيليكية التي هي الـجزء الشمالي الأعلى من سورية. ثم استولوا على منطقة الإسكندرونة الهامة ومدينة أنطاكية التاريخية التي كانت العاصمة السورية في عهد الآمبراطورية السورية، حقبة البيت السلوقي. ولا تزال حلب ومنطقة »الـجزيرة« العليا مهدّدة بتوسع تركي جديد« (سعاده، الأعمال الكاملة، م 8، ص 63). والسائح في تلك الـجهات، وفي تلك الفترة بالذات، يشعر بفعل الدعاوات التركية الـمستمر بينما »الـحكومة الكتلوية« في الشام غارقة في الـمنازعات الداخلية على الأساس الـحزبي الضيق، ينقل إلينا الرواة من مؤرخين وصحافيين وسياسيين معاصرين لتلك الـحقبة.

 

وقد أمكن لتركيا العثمانية وتركيا الـجمهورية الـحديثة السيطرة على هذه الـمناطق، دون حصول ردات فعل جديرة بالإهتمام، بسبب عوامل عديدة أهمها:

 

ــ خضوع سورية لقرون طويلة للتسلط الأجنبي حيث لم تكن فيها نهضة قومية تقاوم خطط التسلط والإستعمار. فما كادت تعود إلى إثبات شخصيتها على عهد الأمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) حتى جاءها الفتح العربي الذي اقتضى تغيير لغتها، ثمّ جاء فتح الـمغول الذي نكب البلاد وهدم دمشق، ثم عقبه الفتح التركي القاهر الذي تمّ فيه احتلال معظم مناطقها الشمالية والشمالية الشرقية الـمحاذية للأناضول. هذه الـحوادث الـمتعاقبة التي تكوّن حروب الفرنـجة (الصليبية) فصلاً هاماً من فصولها، قطعت الـمجرى الثقافي القومي الذي كان سائرا: ساكناً حيناً، وخلاقاً أحياناً، متوتراً تارة، ومبدعاً أطواراً، وأوجدت حالة، على امتداد الـجغرافية السورية، سادت فيها الفوضى الإجتماعية والإقتصادية.

 

في هذه الـحقبة، حقبة التسلط الأجنبي، عرفت سورية استعبادين: الـخضوع للإقطاعي «الوطني» الـمتحكم في رقاب الفلاحين، وخضوع مجموع الأمة للطاغية الأجنبي. تـحت هذا النير الـمزدوج: الداخلي والـخارجي معاً، وقفت الثقافة السورية عند الـحدّ الذي كانت قد بلغته لـحظة خضوعها للأجنبي، فلم يحدث أي تطور جديد، لا في العمران ولا في الاقتصاد ولا في السياسة، لا في الثقافة الـمادية ولا في الثقافة النفسية، بشكل عام. وظلت الـحياة تـجري ضمن مؤسسات الـمذاهب الدينية والإقطاع ومشيخة العشائر في بعض الأنحاء، فلا يفتح سوري عينيه إلا على طائفته أو عشيرته أو سيده (سعاده، الأعمال الكاملة، م7، ص 344)

 

 ــ التركيبة الديـموغرافية متعدّدة الأديان والـمذاهب والإثنيات (42 طائفة وإثنية) التي حالت، في أغلب الأحيان، دون تبلور موقف سوري قومي جامع، يوحد رؤيتها وبالتالي موقفها من الأخطار الـخارجية والداخلية الـمتربصة بها. فبقي الـمسلم مسلماً والـمسيحي مسيحياً، والكردي كردياً، والآشوري آشورياً، والشركسي شركسياً... الخ. الأمر الذي أتاح لتركيا والدول الإستعمارية الأخرى، في ما بعد، حرية الـحركة والـمناورة فدكّت إسفين الـحقد والفتنة بين عناصر هذه الـمكونات قاطبة، عاملة على تـمزيقها وتفتيتها وبثّ الدعاوى الـمضللة بينها.

ــ التعصب الديني بين عثمانيين ذوي أكثرية سنيّة يحكمون سورية الغربية (البيزنطية) وصفويين ذوي أكثرية شيعية يُسيطرون على سورية الشرقية (العراق). هذا التعصّب، في حقيقته، إخفى صراعاً تركياً - فارسياً على السيطرة والنفوذ في إقليم الهلال الـخصيب، تعصباً تلجأ إليه الدول، أحياناً، لتحافظ على استقلالها الروحي فلا تخضع لأمة أخرى. هكذا، لـجأ الفرس إلى الشيعة، في القرون الـمتأخرة، ليُحدثوا انقساماً مذهبياً يتخلصون فيه من سيطرة سورية »العثمانية« السنيّة، لتصبح السيطرة فيهم، وتـمسّكت سورية، من جهتها، بالـمذهب السنّي مـمالئة العثمانيين لكي لا تخضع للفرس (سعاده، نشوء الأمـم، ص 162). الأمر الذي جعل كل سوري متعصّباً لـمذهبه، عاداً أتباعه إخوة له في الدين، ولو كانوا محتلين لبلاده أو طامعين فيها. ما أدّى إلى إطالة أمد النفوذ التركي والفارسي في الإقليم الـجغرافي السوري إلى نهاية الـحرب العالـمية الأولى، بعد أن تـمكن الأتراك والإيرانيون، برضى الفرنسيين والبريطانيين، من الفوز بغنائم كبيرة من هذا الإقليم.

 

إن التمدّد التركي في اتـجاه الهلال الـخصيب حصل، إذاً، بالتتابع، في عهد الـخلافة العثمانية والعهد التركي الـحديث. فإذا كانت »الرابطة العثمانية« وبالتالي »الـخلافة الإسلامية« قد لعبت، كل منهما، دوراً محورياً في رضوخ السوريين (باعتبارهم »رعايا عثمانيين« ومسلمين في غالبيتهم) للهيمنة العثمانية حوالى أربعة قرون متتالية وبالتالي، سكوتهم، عن سيطرة تركيا العثمانية على أعالي دجلة والفرات، حيث منبع هذين النهرين العظيمين وعدد كبير من البحيرات الـحلوة، فإن الـحكومات السورية »الوطنية« إبان الفترة الإنتدابية والفترة الإستقلالية تتحمل الـمسؤولية كاملة في قضم تركيا »الكمالية« لـمزيد من الأراضي السورية الشمالية، لا سيّما منطقة كيليكية ولواء الإسكندرون، في فترة ما بين الـحربين العالـميتين.

 

ففي مسألة الإسكندرون، مثلاً، تـمكنت تركيا، كما سبقت الإشارة، من توليد ضغط كاف على فرنسة وبريطانية الدولتين الـمنتدبتين على سورية لـحملهما على الإقتناع بأن انتصار الـمطامع التركية في سورية يُقرّب بين مصالح تركية ومصالـحهما. وساعد تركيا على اغتنام هذه الفرصة خلو سورية مدة طويلة من الزمن من الـمنظمات القومية الـحديثة، ذات الأهداف الـمحدّدة والـخطط الواضحة، التي ترفع مبدأ السيادة القومية هدفاً لها، فلم يُقابل مناوراتها شيء مثلها من الـجانب السوري. فتمكنت تركية من إقناع فرنسة بالتنازل عن لواء الإسكندرون وضمّه إلى أراضيها. أما سورية - تذكر الـمراجع- فقد اكتفت بأن هاجت فيها الـخواطر لهذا الـحادث الأليم، ولكن الأمر وقف عند هذا الـحدّ لأن حكومة دمشق الـمعنية قبل غيرها بالدفاع عن مصالح الأمة وحقوقها كانت نظاماً مشلولاً بليداً لا يصلح لأي شيء.

 

والأنكى من ذلك، أن رجال الـحكم في الشام اعتبروا أن نفاذ الأتراك إلى الـمنطقة الـجبلية الوحيدة الباقية لتحصين الدولة (السورية) في الشمال هي شيء لا يُفيد الأتراك كثيراً ولا يُحسب خسارة للسوريين. ففي نظر هؤلاء السياسيين الـخنفشاريين، فإن هضاب أنطاكية والأمانوس لا تصلح لإستحكامات الدفاع عن الأرض السورية، وأن الأتراك، باحتلالهم تلك الهضاب، جلبوا لأنفسهم الـمشاكل. هكذا كان العقم «الكتلوي» الباهر يُقارب القضايا القومية الـخطيرة باللامبالاة!
ولا يكتفي الأتراك بـما احتلوه من أراض سورية في الـماضي، بل هم يتطلعون الآن إلى ما بعد الإسكندرون، إلى حلب والـموصل والـجزيرة الفراتية كلها. وحجتهم في ذلك كانت، دائماً، في وجود جماعات من أصول تركمانية موالية، على زعمهم، لتركية، وأخرى كردية »تُقلق« راحتهم على الـحدود. ولو لم يكن هنالك أكراد أو تركمان لـما عدمت الـحكومة التركية عذراً أو حجة.

 

لكن، كما لم يكن للكتلة الوطنية، في الـماضي، من حقّ في التنازل عن أي شبر من الأرض السورية، لأي سبب كان، كذلك ليس من حق، حزب أو نظام آخر، اليوم، التنازل عن أي حبة تراب من الوطن القومي مهما كانت قيمتها، في نظره، وضيعة. فـ» الوطن يقول سعاده- ملك عام لا يجوز، حتى ولا لأفراد سوريين، التصرف بشبر من أرضه تصرفاً يلغي، أو يـمكن أن يلغي، فكرة الوطن الواحد وسلامة وحدة هذا الوطن الضرورية لسلامة وحدة الأمة السورية» (سعاده، الأعمال الكاملة، م 7، ص 313).

في التوطئة لهذا البحث، ذكرت أن «السعوديين» والأتراك استولوا، في مرحلة انعدام السيادة السورية القومية، وفي ظل تآمر دولي فرنسي وبريطاني، على مناطق واسعة وغنية من سورية الـجغرافية قاربت ثلث مساحتها تقريباً. فسورية كانت صيداً ثميناً لكلا الطرفين اللذين لم يقفا عند الـحدّ الذي بلغاه من اقتطاع هذا الكم الهائل من الأراضي السورية، فأطماعهما بالـمزيد منها ما يزالان يُداعبان مخيّلة الـحكام في كل من أنقرة والرياض. إن الـخطر التركي الذي كان كامناً، لفترة طويلة، هو الآن خطر مداهم، بل مهاجم: لقد ابتدأ بكيليكية والإسكندرونة وديار بكر، في الشمال، وفي أهدافه أن يستولي على الـموصل وحلب ومنطقة الـجزيرة العليا، وأن ينتهي في صنين، في أعالي جبال لبنان. وكذلك الأمر بالنسبة لآل سعود الذين تدغدغ مخيلتهم أيضاً غزوة كربلاء في جنوبي العراق، في أواخر القرن الثامن عشر، وغزوة العقبة وشرقي الأردن في ثلاثينيات القرن الـماضي، حيث اضطروا إلى التراجع عنهما، خائبين، مكرهين!

 

 

الـمراجع

 

1ــ داوني، جلانفيل: أنطاكية في عهد ثيودوسيوس الكبير، مؤسسة فرنكلين، نيويورك، 1968.

 

2 ــ سعاده، أنطون: الأعمال الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، بيروت 2001.

 

3 ـ أحمد، أحمد محمد: التاريخ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي للأكراد في الدولة العثمانية (1880 - 1923)، أطروحة دكتوراة في التاريخ، الـجامعة اللبنانية، العام الـجامعي 2005 - 2006.

 

كاتب وأستاذ جامعي

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro