مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
دراسة عصام المحايري لدستور الشام مطالباً بفصل الدين عن الدولة عام 1953
 
 
 
في معارضة الدستور الشامي 1953
 

 

عصام الـمحايري: لـماذا نرفض النص على دين الدولة؟

 

في بلادنا، وفي كل قطر من أقطار العالم العربي والإسلامي، دعوة ملحاح لـجوج، دعوة تطالب في إصرار وعناد وتقوى بتطبيق الشريعة الإسلامية وقوانينها.

 

وليس من ينكر أن وراء هذه الدعوة يربض إيـمان وتقوى وصلاح بل أن إداركنا لهذه الـحقيقة، حقيقة التقوى والإيـمان والصلاح، توجه الـمطالبين وتـحفزهم على هذه الدعوة. أن إدراكنا يـمنعنا من أن نواجه التقوى والإيـمان والصلاح بالإهمال والتجاهل والاكتفاء بالتسفيه وإنـما يحتم علينا أن نواجه الـمطالبين، بالصراحة والصدق والإخلاص والتقوى نفسها، برأينا في دعوتهم، تبين لهم فيه ما تشكله من أوجه الـخطر القومي ومن أوجه الضلالة في فهم الدين على هذه الصورة وتلك الكيفية.

 

لذلك كله نقلنا الفصول الطوال لآراء عالم ديني موقر وزعيم قومي جليل في ثلاثة أعداد مضت حول هذا الـموضوع. ولذلك نستمر في معالـجة هذه الناحية على الرغم من معرفتنا لـمقدار وعورتها ولـمقدار ما يـمكن أن تـجر علينا  من محاولات الإيذاء وتشويه حقيقتنا واتـجاهاتنا.

 

لقد عبرت الدعوة عن نفسها، أول ما عبرت، بـمطالبة الـمؤمنين بها بوجوب النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام. وحجة الـمطالبين بهذا النص، أن الإسلام دين وتشريع وأنه قد أثبت صلاحه كنظام حين جعل امبراطورية الإسلام تسود العالم وتـحكمه. وأن شرعة السماء أجلّ وأسمى في معالـجة شؤون البشر من شرعة وضعية، وأن تقاليدنا وآدابنا وإيـماننا الديني تـحتم علينا كلها تطبيق أحكام الشريعة فيما يعرض لنا من أمور وفيما يواجهنا من مشكلات.

 

ولقد حاولنا أن نتبين، في كل ما كتب الداعون وما خطبوا، والـمقصود من دين الدولة الـمرتكزات التي يريدوننا بها أن نأخذ بدعوتهم، فلم نـجد معالـجة علمية موضوعية تبحث بحثاً رصيناً هادئاً في مقصود هذه الدعوة وضروراتها سوى كلمات عاطفية وتـحريضات حماسية دينية لا تخرج عن اعتبار كل إغفال للنص على دين الدولة والإسلام، تشجيعاً للإلـحاد ومساهمة لنشر الرذيلة والفساد.

 

ولقد وقعنا مؤخراً، في مجلة روز اليوسف، في عددها الأخير، على رأي الأستاذ عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان الـمسلمين وعضو لـجنة الدستور في مصر، حين سئل عن رأيه في أن ينص الدستور الـمصري الـجديد على أن الإسلام هو دين الدولة، نرى أن ننشره ونـمحصه لعله أن يفيدنا في معرفة معنى الدعوة لدين الدولة وضروراتها.

 

يقول الأستاذ عودة: «أن النص على أن دين الدولة هو الإسلام نص في صياغته ركاكة لأن الدولة شخصيتها معنوية لا حقيقية، والشخصيات المعنوية لا تتدين! وقد أردف يقول: «...والإسلام مجموعة أنظمة، فهو نظام ديني ونظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وما يتعلق بالدين خاص بالـمسلمين وحدهم ولا ينطبق على غيرهم. وما عدا ذلك فينطبق على الـجماعة كلها باعتباره تشريعاً أو نظاماً دنيوياً.

 

«...وأنظمة الإسلام الاقتصادية والاجتماعية والسياسة، هي خير ما عرفه العصر الـحديث. فإذا نصّ في الدستور الـجديد على أن مصر دولة إسلامية أو دولة يقوم نظامها على الإسلام، فليس في ذلك ما يـمس عقائد غير الـمسلمين. وهو في الوقت نفسه يرضي الـمسلمين باعتبارهم أغلبية، من حقها، طبقاً للأنظمة الديـمقراطية، أن تأخذ بالنظام الذي تراه».

 

إذن، فإقامة نظام الدولة على الإسلام هو الـمقصود من النص على أن دين الدولة هو الإسلام هذا النص الذي يرفضه وكيل جماعة الإخوان الـمسلمين في مصر. لأنه يرى فيه ركاكة باعتبار أن الدولة شخصيتها معنوية لا حقيقية والشخصيات الـمعنوية لا تتدين، فيطالب بالنص على أن نظام الدولة يقوم على الإسلام، ليستقيم الـمعنى الـمقصود من النص على دين الدولة.

 

أما وقد فهمنا الـمقصود من النص على دين الدولة فيمكن القول أن النص على اعتبار الفقد الإسلامي مصدراً للتشريع يؤدي بدوره الـمعنى الـمقصود من دين الدولة أو من نظام الدولة القائم على الإسلام.

 

فإذا صح هذا، كان لنا أن نستغرب اعتراض، بل استنكار، الـمؤمنين بضرورة النص على دين الدولة لـما ورد بدلاً عنه في مشروع الدستور وهو النص الذي جاء في دستور عام 1950 بالـحرف، من أن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع. إلا أن كان القصد من دين الدولة أمراً يختلف عما ذهب إليه وكيل جماعة الإخوان الـمسلمين في مصر.

 

فإذا كان ما ذهب إليه وكيل الإخوان الـمسلمين هو الصحيح وهو الـمقصود من دين الدولة لم يعني لاعتراضات الساخطين من الـمؤمنين بضرورة النص على دين الدولة بل تبقى اعتراضات الذين يرفضون إيراد هذا النص وحدها قائمة...

 

 

لـماذا نرفض النص على دين الدولة

 

أو كل ما هو في معناه:

 

الإسلام دين وتشريع.

 

أما الدين فهو الأصول الثابتة وأما التشريع فهو الأحكام العملية القائمة على أساس العقل والاجتهاد والتي تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر.

 

ولا يـمكن أن يكون قصد دعاة النص على دين الدولة الزام الـمواطنين جميعاً، محمدييهم ومسيحييهم، الإيـمان بأصول الدين الثابتة.

 

بل لا يـمكن لهؤلاء الداعين أن يسمحوا لأنفسهم بالتنكر لـحرية العقيدة والعبادة ومـمارسة الشعائر بالنسبة للمحمديين أنفسهم، وقد قال الله عز وجل:«لا إكراه في الدين».

 

فإذا كان يدور في ربوع البعض أن النص على دين الدولة يعني حمل الـمواطنين أو حمل الـمحمديين تـحت طائلة العقاب على القيام بشعائر الدين وأداء فروضه، فقد ضل هؤلاء في فهم الدين الاسلامي ضلالاً بعيداً، فالدين يقوم على أساس الـحرية والإرادة، ولا إكراه فيه.

 

يبقى أمر التشريع أو النظام.

 

إن النص على دين الدولة، أو على ما هو في معناه، كجعل الفقه الإسلامي مصدر التشريع، هو إعلان على أن نظام الدولة يقوم على الإسلام وتشريعاتها مصدرها الفقه الإسلامي.

 

فهل في مثل هذا النص ما يـمكن أن يفيد؟

 

كأني بهولاء الداعين يجهلون أخطار التفرقة القومية، وكأني بهم لم يتعظوا فيما مر على أمتنا من التجارب،والـمحن، فهم يتجاهلون أن الأجنبي دخل بلادنا ومزقها ونحن في ركود وعينا القومي، وفي غمرة تيقظ مشاعرنا الطائفية بفعل ألاعيبه ومداخلاته وتوجيهاته، إنـما دخلها ومزقها تـحت ستار حماية الأقليات من تـحكم الأكثرية.

 

وما زالت بلادنا حتى اليوم مـمزقة الأوصال، وما زال العامل الأساسي في استمرار تـمزقها وتشتتها هو العامل الطائفي دون سواه.

 

وإذا كان الأجنبي قد جلا عن بعض أجزاء بلادنا فما نخال أحداً يجهل أنه قد ترك، بـما لقن وبـما غرس وبـما زرع أسافين تدق وحدة الشعب وتهيء لكل طامع مستقل، سبيل النفاذ بواسطتها إلى صميم كياننا تعمل فيه فتكاً وتـمزيقاً.

 

قد يقول قائل أن الوحدة القومية لا يجوز أن تـمس من جراء الأخذ بنظام تشريعي معين ما دام هذا النظام التشريعي تدين بجدواه الكثرية  التي من حقها طبقاً للأنظمة الديـمقراطية أن تأخذ بالنظام الذي تراه.

 

هؤلاء يجهلون أن القوانين هي السياج الذي يحفظ وحدة الأمة ويرعاها وأن القانون الذي هو في الأصل حامي وحدة الأمة حين يشعر فريق أنه لا يلبي احتياجاته بقدر ما هو مفروض عليه يصبح، من جراء هذا الفرض. مصدر قلق وتوجس لهذا الفريق لا يلبث بالتالي أن يؤدي إلى تفكك صفوف الأمة وتصدع مشاعرها وتفكيرها وكيانها.

 

وإذا كانت وظيفة القانون الأساسية هي أن يشد الناس بأسباب متينة إلى الـحياة التي يريدها لهم فإنه لينأى عن هذه الغاية نأياً بعيداً إذا لم يكن موضع ثقتهم وارتياحهم إلى أنه انبثق عن احتياجاتهم ونبع عن أوضاعهم. ولن يكون موضع هذه الثقة إلا إذا حلّق فوق الـخلافات الدينية والنزاعات الطائفية. ومتى بطل الناس أن يشعروا أنهم أعضاء في هيئة اجتماعية واحدة تخضع كلها لوحدة الاتـجاه والـمصير، ومتى انتفى شعورهم بأن القوانين إنـما تهدف إلى تنظيم علاقاتهم بعضهم ببعض بوصفهم أعضاء في هذه الهيئة الاجتماعية الواحدة بقطع النظر عن اختلاف طوائفهم وتباين معتقداتهم الدينية ومتى بطل أن يكون التشريع قومياً يلبي حاجات الناس تلبية تضاعف من إحساسهم بوحدة كيانهم وتؤازرهم على التكتل والانصباب في قومية لا يأتيها الشقاق من بين يديها، ولا من خلفها، متى بطل هذا كله، تبدد الشعور بالوحدة القومية ليحل محله الشعور «بالكيانات» الطائفية وبالصراع الـمذهبي. وفي هذا ما فيه من طاقة كبرى على الأمة ومصيرها.

 

«أن الوحدة القومية لا يـمكن أن تتم على أساس جعل الدولة القومية دولة دينية، لأن الـحقوق والـمصالح تظل حقوقاً ومصالح دينية، أي حقوق ومصالح الـجماعة الدينية الـمسيطرة، وحيث تكون الـمصالح والـحقوق مصالح حقوق الـجماعة الدينية تنفي الـحقوق والـمصالح القومية التي تعتبر أبناء الأمة مشتركين في مصلحة واحدة وحقوق واحدة. وبدون وحدة الـمصالح ووحدة الـحقوق لا يـمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية.

 

أن الشريعة الإسلامية إنـما ترتكز في أساسها على الـمصلحة العامة وتأمينها، ولقد أعطى عمر رضي الله عنه الـمثال الأعلى على رعايته الـمصلحة العامة وتقديـمه لها فترك النصوص الدينية الـمقدسة من القرآن والسنّة عندما دعته لذلك الـمصلحة.

 

فإذا تـمكنا بـمصلحتنا العامة ورفضنا كل ما يعرض بها إلى الـخطر فلا نكون قد خرجنا عن قواعد الشريعة الاسلامية، وأن مصلحتنا القومية تـحتم علينا أن نرفض كل ما يؤول إلى تفكك وحدتنا وكل ما يهدد صميم كياننا بالتجزئة والتمزيق.

 

إذا عمل أبناء أمتنا في اتـجاه ديني فقط وصاروا يبحثون عن الـجماعات التي تربطهم بها رابطة الدين فقط أي الـمسيحية للمسيحيين والاسلام للمسلمين، إذا فعلوا ذلك لم يـمكن أن يصلوا إلى وحدة حياة ووحدة اتـجاه مع الفئات الدينية الأخرى من شعبهم، التي يحيون معها في وطن واحد والتي هي وهم وحدة حياة، ووحدة إثنية واجتماعية في الأصل وفي الـحياة.

 

أن اتـجاههم في نظرة الرابطة الدينية وكونهم فئة قليلة يجعلهم تـحت رحمة الايعازات التي تأتي من الـمجامع الدينية الكبرى خارج بلادنا والتي ربطوا أنفسهم بـمصالحها لا بـمصالح أمتهم.

 

وأننا لنرفض كل تـجزئة لوحدتنا على هذا الوجه ونرفض نصاً لا يؤدي إلا إلى تفرقتنا وتـمزيقنا.

 

على أن رفض النص على دين الدولة أو على أي شيء بـمعناه بدافع الـمصلحة القومية لا يـمكن أن يعني ضرباً بأحكام الشريعة الإسلامية عرض الـحائط.

 

وإذا كنا نحرص على عدم صبغ قوانينا بصبغة دينية معينة فليس يعني ذلك أننا نريد أن نعزل عن مجرى تفكيرنا وتقنيننا لأنفسنا تيار الشريعة الإسلامية.

 

كلا وألف كلا، فنحن مـمن يعتزون بتراثنا الـحقوقي الإسلامي وقد ساهمنا فيه بنصيب الأسد، ولن نكون أقل إكباراً للشريعة الإسلامية واستمساكاً بها كمصدر لتشريعنا من مؤتـمر القانون الـمقارن الـمنعقد في «لاهاي» عام 1938 والذي قرر أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع وأنها حية متطورة.

 

ولكننا ندرك أن الشريعة الإسلامية، وهي في تسع أعشارها من عمل الاجتهاد والعقل، وأن الإسلام الذي بايع العقل يوم كان محروماً من وسائل الـمعرفة التي جهزه بها العلم الـحديث فاعتبر اجتهاد العقل فقهه وتشريعه، أولى به أن يبايع العقل اليوم وقد تزود بـما يكفل له صحته الاتـجاه وتـحقيق أغراض الإسلام الكبرى التي هي الـحق والعدل، ويعتبر تقنيننا لأنفسنا من ضمن تـحقيق الـحق والعدل اجتهاداً هو من صميم الإسلام وروحه.

 

أننا نؤمن بأن أنظمة الإسلام الصالـحة أنظمة تتطور مع الزمن، والإسلام يؤمن بالتطور وبتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ولذلك نؤمن أن الأنظمة التي نستمدها من عمل عقلنا وبدافع مصلحتنا ستبقى أنظمة إسلامية ما دام الإسلام يهدف إلى تـحقيق الـمصالح الهامة وما دامت هذه الـمصالح لا تتجمد ولا يـمكن أن تتجمد، وما دامت وسائلها التي هي الأنظمة التشريعية هي أيضاً أبعد الأشياء عن الـجمود.

 

وكأني بـمن يقولون بوجوب الأخذ بالأنظمة الإسلامية الاجتماعية الاقتصادية التي تثبت صلاحها، عن طريق النص على دين الدولة أو نظام الدولة الإسلامي، يتوهمون وجوب أخذ الأنظمة كما صلحت في الأزمنة التي انقضت ويغفلون عن حقيقة عبر بها الإسلام عن مرونته وإنفساحه لتطور الـمصالح والأوضاع حقيقة أن الأحكام تتبدل بتبدل الأزمان.

 

فإذا لم يكن الـمقصود الأخذ بنفس الأنظمة كما ثبت صلاحها في الـماضي وكانت طبيعة الإسلام وطبيعة الاجتماع تـحتم تطويرها بـما يلائم الـحاجات والظروف الراهنة، لم يعد ثمة موجب للإستمساك بأي نص، بل يبقى عمل العقل واجتهاده وتطويره للأنظمة حسب اتـجاهاته، عملاً من صميم الإسلام، ومن صميم أنظمته.

 

أن النص على أن الفقه الإسلامي هو مصدر للتشريع يعني أن الذين وضعوه لا يثقون بالعقل الإنساني، وهو يعني بالتالي أن هؤلاء يريدون منا الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي حسب ملاءمتها للظروف والأوضاع التي نـمت في ظلها دون مراعاة ضرورة أعمال العقل لـملائمة الأحكام مع الظروف والأوضاع الـحالية.

 

«أن العقل الإنساني لم يوجد عبثاً.

 

«أنه لم يوجد ليتقيد وينشل: أنه وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الأهداف، وليفعل في الوجود».

 

ولولا العقل لـما كان ثمة فقه إسلامي كما هو اليوم. وأننا لنأبى أن نعطل قوة العقل الأساسية لأننا نأبى أن نعطل جوهر الإسلامي وقوامه. وما دام الاعتماد يبقى على العقل الإنساني، وتبصره، وما دام لهذا العقل له أن يكيف الأحكام ويبدلها بتبدل الأزمان، فإن النص على أن الفقه الاسلامي هو مصدر للتشريع، يبقى ذو فائدة بل يعود فقط بالضرر القومي على الأمة والشعب.

 

لهذا نحن نحارب هذا النص دون أن يعني هذا أننا نتخلى عن العمل بموجبه ما دام العمل يعني جعل العقل نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي.

 

 

كل تـحديد لدين رئيس الدولة

 

هو انتقاص من وحدة الإرادة القومية

 

أشرنا حين تـحدثنا عن الـحريات الأساسية للمواطنين كما وردت في مشروع الدستور كدستور عام 1950، لم يأت خلواً من التناقض.

 

وإذا كنا نحرص على تبيان مواطن هذا التناقض، فليس لأن بالإمكان تلافي التناقض الآن. بل لأن إيـماننا بحقيقة كون الدستور- تعبيراً عن إرادة الشعب. يحتم علينا تنبيه الشعب إلى مواطن الـخلل في دستوره، فتعمل إرادته، في عملنا لإيقاظ الوعي فيها، على تقويم الاضطراب والـخطأ وإزالة معالـمها.

 

أن كون الدستور- تعبيراً عن الإرادة الشعبية، يعني أن الأخاء في الدستور، أي دستور، لا تـمتنع عن تقويـم الإرادة الشعبية لها حين يصح عزم الإرادة الشعبية على هذا التقويـم.

 

وما على العاملين الذين يتلمسون مواطن الـخطأ والتناقض في الدستور إلا أن يعملوا في حقل الإرادة الشعبية لدفعها إلى تصحيح الـخطأ وإزالة معالم التناقض. فليست الأخطاء بحد ذاتها هي التي تخيف. وإنـما ما يجب أن يخيف ويقلق هو أن يـمتنع على الإرادة الشعبية تقويـم أي أمر مهما كان شأنه، إذا ما تبين للإرادة الشعبية خلاله، أو بـمعنى آخر أن ما يجب أن يخيف ويقلق هو أن يضع الدستور قواعد وأحكاماً يضفي عليها قدسية تـمتنع على التجريح. ويحرم بالتالي على الإرادة الشعبية أن تـمسها بتعديل أو تطوير.

 

لهذا كانت حرية الرأي وحرية الإعراب عنه مصونة ومكفولة في كل دستور يقوم على الإرادة الشعبية، ويؤمن بها وحدها موجهاً ومخططاً وبانياً للدستور. بل أن مقياس كل دستور، في مدى اعتباره معبراً عن الإرادة الشعبية. هو في مقدار احترامه لـحريات الـمواطنين في بناء دستورهم وتغيير قواعده وتطوير أحكامه على الشكل الذي يفرضه تطور وعيهم وتفتحهم.

 

وإذا كان مشروع الدستور، لم يقيد حرية الرأي بأي قيد يحد من فاعليته، أيا كان شأن هذا القيد، فإن الأخطاء الواردة فيه، مهما اختلف الرأي حولها تبقى أخطاء قابلة للتصحيح والتقويـم، خاضعة لتطور الإرادة الشعبية في النظر إليها والعمل على إصلاحها.

 

وإن ادراكنا لهذه الـحقيقة، هو الذي يفرض علينا أن نقوم بواجبنا في تنوير الإرادة الشعبية لتقتنع قناعتنا، وتؤمن إيـماننا، فتقوم بالتصحيح والتقويـم في الاتـجاه الذي نؤمن به ونقتنع.

 

أما الذين يتهربون من تنوير الرأي العام، أما الذين يلجأون فقط إلى وسائل الشتم أو إلى أسلوب «التكفير» يطعنون بذلك آراء مخالفيهم في الرأي، أما هؤلاء فيدللون أكثر فأكثر على أنهم لا يقيمون حرمة للدستور بل لا يفقهون معنى الدستور، فهم يريدون أن تكون أراؤهم الـخاصة دستوراً للشعب ويأبون أن يثقفوا الشعب بـمبررات هذه الآراء الـخاصة، مكتفين بدعوته إلى هذه الآراء أو تلك مع الـحملة على أصحاب الآراء الـمخالفة متهمين إياهم تارة بالـخروج على الوطنية وأخرى بالـمروق من الدين، ويعلم الله أنهم وحدهم، في تـحقيرهم الإرادة القومية، يستحقون اعتبارهم خارجين على الإرادة القومية وخارجين بالتالي على إرادة الله.

 

والآن ننتقل إلى تبيان أوجه التناقض في مشروع الدستور:

 

1.نصّت الفقرة الأولى من مشروع الدستور على أن دين رئيس الـجمهورية الإسلام. إن هذه الفقرة لا تتناقض فقط مع الـمادتين الثامنة والتاسعة اللتين تنصان على أن الـمواطنين متساوون أمام القانون في الـحقوق والواجبات، وعلى أن الدولة تكفل الـحرية والطمأنينة وتكافؤ الفرص لـجميع الـمواطنين، حين حرمت فريقاً من الـمواطنين من حق حصرته بفريق آخر، فأخلت بـمبدأ الـمساواة في الـحقوق كما ضربت عرض الـحائط بـمبدأ تكافؤ الفرص.

 

ولكن هذه الـمادة تتناقض مع جوهر الدستور ومعناه.

 

أنها تتناقض مع اعتبار الإرادة القومية وحدها مصدر كل سلطة، الأمر الذي هو في أساس كل شعور بل هو كل معنى الدستور.

 

فإذا كانت الإرادة القومية وحدها مصدر كل سلطة، فليس بالتالي، يجوز فرض قيود على هذه الإرادة القومية في مـمارستها لسلطتها. وأن كل قيد يفرض على الإرادة القومية ويريد لها أن تعبر عن نفسها في قالب دون آخر، أن كل قيد هذا شأنه هو امتهان للإرادة القومية وعبث بحريتها.

 

ولم يكن يجوز للدستور أن يتضمن في نصوصه قيداً يحد من فاعلية الإرادة القومية أو يقيدها بأشكال وقوالب واتـجاهات معينة.

 

إن الشعب وحده مصدر كل سلطة وللشعب أن يعبر عن إرادته بـملء الـحرية والطلاقة. فنحن لسنا نعيب على هذه الفقرة كونها فرقت بين الـمواطنين واتخذت من مذهب البعض سبباً لـحرمانه من حق الـخدمة في كل مجال، ولكننا نعيب على هذه الفقرة خروجها على معنى الدستور وجوهره، في التعبير عن نفسها حسب ما تراه من مقتضيات مصلحتها.

 

 

الفقرة الثانية من الـمادة الثالثة:

 

«الفقه الإسلامي هو الـمصدر الرئيسي للتشريع».

 

لسنا نريد هنا، أن نكرر رأينا في جدوى هذه الفقرة وفائدتها، فقد أظهرنا، انعدام جدواها إذا ما فهمت كما ينبغي أن تفهم على أساس العمل بقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، كما بينا مدى ما تلحقه بوحدة الشعب من أضرار التفسخ والتجزئة والتفريق.

 

أما إذا كان القصد من هذه الفقرة، التمسك بحرفية الفقه الاسلامي كما وردنا حتى اليوم، وعدم تطويره والعمل بقاعدته الأساسية التي هي تبديل الأحكام بتبديل الأزمان. فليسمح لنا السادة الأجلاء الـمتمسكون بهذا النص أن نسألهم في صراحة وصدق وكلنا أمل أن يتعطفوا علينا- لا بحملة سباب وتكفير- بل ببيان صريح واضح لهم علينا نشره في صدر صفحات الـجريدة- ليسمح لنا هؤلاء الذين قابلوا أبحاثنا العلمية التي نتوخى منها تنوير شعبنا وتبصيره في أمور تتعلق بـمصيره وترسم مستقبله، بحملة ليخرجونا بها عن ديننا وإيـماننا وعقيدتنا، أن نسألهم وأن ننتظر منهم الـجواب، إذا كانوا حقاً يحترمون الشعب ويحرصون حرصنا على تنويره وإفهامه.

 

(أن الفقه الإسلامي بحرفيته يقوم النظام السياسي فيه على قواعد لا يـمكن اعتبار شكل الـحكم الذي ورد في دستور عام 1950 ولا شكل الـحكم الوارد في مشروع الدستور الـجديد منطبقاً عليها.

 

فكيف يجوز لهم أن يتناقضوا مع أنفسهم حين يقبلون بوضع دستور يخرج عن قواعد الفقه الاسلامي بحرفيتها مكتفين فقط بالـمطالبة بالنص على دين الدولة أو على ما هو في معنى دين الدولة؟

 

ألم يكن أولى بهم وأكثر انسجاماً في دعوتهم أن يصروا على اعتبار القرآن الكريـم والفقه الاسلامي وحدهما دستوراً للشعب؟

 

أما إذا كانوا يقرون معنا بأن الفقه الاسلامي في مرونته وانفساحه يقوم على قاعدة أساسية هي ضمان الـمصلحة العامة وتبديل الأحكام بتبديل الأزمان وأن النظام الدستوري سواء في دستور 1950 أو في مشروع الدستور الـجديد يـمكن اعتباره نظاماً إسلامياً ما دام يقوم على الشورى بعد أعمال العقل والاجتهاد لـجعله ملائماً لظروفنا وأوضاعنا، فما بالهم يقيمون علينا النكير ويتهموننا بـما لا نكلف أنفسنا عناء تكذيبه، حين نرى نحن أن أعمال العقل في الاجتهاد والتطوير يعني تطبيق الشريعة الاسلامية ولو لم ينص الدستور على دين الدولة أو على ما هو في معناه؟

 

إننا نسجل على مشروع دستورنا في الفقرة الثانية من الـمادة الثالثة تناقضاً أو حشوا لا مبرر له، )فأما التناقض فلأنه إذا كان يريد منا التمسك بأحكام الفقه كما وردتنا حتى الآن دون تطوير أو تبديل يكون هو بجملته مخالفاً لأحكام هذا الفقه الإسلامي الـمتجمد. وأما الـحشو فلأنه إذا كان يقصد أعمال العقل والاجتهاد في أحكام الفقه الإسلامي، فإن عدم إيراده هذا النص لا يغير من قصده وتبقى تشاريعنا وأحكامنا اسلامية تـماماً ما دام العقل موجهاً لـمصلحة رائدها والـحق والعدل وجهتها وغايتها وهدفها).

 

 

الفقرة الرابعة من الـمادة الثالثة:

 

الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.

 

لعل الذين لا يريدون أن يقتنعوا بضرر الفقرة الثانية من الـمادة الثالثة، يشتركون معنا في القناعة حين يرون أن الفقرة الرابعة من الـمادة الثالثة، إنـما نص عليها كتعويض عن النص على الفقرة الثانية بالرغم مـما تلحقه بالأمة من أضرار.

 

لقد وضع الدستور هذه الفقرة ليطمئن الذين يخشون من الفقرة الثانية على عقائدهم إلى أن أحوالهم الشخصية ستبقى خاضعة لـمحاكمهم الـخاصة ولقوانينهم الـمذهبية الـخاصة وأن جعل الفقه الاسلامي مصدر التشريع لا يعني اخضاعهم لأحكام الاسلام فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية.

 

ومعنى هذا بالقلم العريض أن الطائفية قد تـحجرت قواعدها في بلادنا وامتنعت على الـمعالجة والإصلاح.

 

إن معنى هذا أن دولتنا لن تتمتع بوحدة تشريع ووحدة قضاء بحيث تسري على الـمواطنين الأحكام الواحدة والاتـجاهات الواحدة.

 

بل ستبقى اسافين تعدد القضاء وتعدد القواعد التشريعية تـمزق وحدة الأمة وتـحجر «الكيانات» الطائفية فيها.

 

ولـماذا هذا كله؟ لأننا حرصنا على نص لا يفيدنا ولا يقدم من أمرنا شيئاً ولا يفيد الإسلام في جوهره وحقيقته شيئاً، فكان أن أبقينا على الطائفية في بلادنا تشعر كل فريق من أبناء أمتنا أنه دولة ضمن الدولة وكيان ضمن الكيان تسري عليه الأحكام الـخاصة ويخضع لـمحاكم خاصة ليس للدولة عليها مجال التوحيد.

 

أما ما نأخذه على الدستور في هذه الفقرة فهو تناقضها مع معنى الدستور القائم على سيادة الشعب التي تتمثل بوحدة القضاء ووحدة التشريع ولـجوؤه إلى تـجزئة السيادة حين جزأ القضاء وعدده وجزأ التشريع وعدده.

 

 

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro