مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
إستغلال العقائد «يفتون بالشقاق ويدّعون الوطنية»
 
 
 
جريدة الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 67، 1943/10/1
 

 

«إنّ الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون، فيُفتون برأيهم فيُضِلّون ويُضَلّون.»                   

                                                                                               [محمد[1]]

 

متى تـحولت العقائد الدينية الـخالصة، الرامية إلى تقوية نفسية الإنسان وتقريبه إلى عمل الـخير لنفسه ولأبناء مجتمعه ومن تـحصل له علاقة وثيقة بهم، إلى تعليم يزرع البغض بين أبناء الـجنس والوطن، وينمي الـحقد ويرمي إلى سيادة بعض أبناء الأمة الاجتماعية على حساب عبودية البعض الآخر من أبنائها، فقد فسد الدين واختلت العقائد، واحتاج الـمجتمع الذي أصيب بهذه البلبلة إلى هداية جديدة وإصلاح نفسي واسع.

 

لا يوجد في العصر الـحاضر مجتمع من مجتمعات العالم الـمتمدن أشد نكبة بفساد الدين واختلال العقائد من الـمجتمع السوري، الذي نهشت قلبه الأحقاد الدينية الـمتنوعة، وأفسد دمه مكروب الإفتاء الـمظلّل، حتى عميت البصائر وذهبت الفضائل من الكرامة والوفاء والعز القومي، وحلّت محلها الرذائل من الـمكر والـخديعة والغدر، فتمزقت العصبة السورية واستولى الأجانب على وطنها وأكلوا حقوقها، والـمفتون الـجهال لا يفتأون كلما نامت فتنة أيقظوا فتنة أخرى يرمون قومهم في نارها، تهلك من هذه الفئة تارة وطوراً تهلك من تلك الفئة، وكلما هلك فريق هلل الفريق الآخر أو كبَّر، وما يهللون أو يكبَّرون إلا لـخراب وطنهم وذهاب عزهم وتسلط الأجنبي عليهم.

 

جاءت الـمسيحية بتعليم الـمحبـة والتساهل، وتقريب الإنسان من أخيه الإنسان،

 

وإقناع كل واحد إقناعاً لا إكراه فيه، مع وجوب مجاهدة الذين يقاومون التعليم الـجديد مجاهدة لا تبلغ حدّ الإكراه والإذلال، لأن الـمسيحية نشأت في بيئة عريقة في التمدن، كانت اليهودية تـحاول وقف سيرها التمدني بتعاليمها وشرائعها الـجامدة.

 

وجاءت الـمحمدية بتعليم القضاء على عبادة الأصنام، وبتشريع يرفع الناس من عادات وحشية الـجاهلية، وبالدعوة إلى الله واعتبار حق الرسالة واستعمال الإقناع مع أهل التمدن (الذين وصفوا «بأهل الكتاب» الذين جاءت فيهم الآية «وجادلهم بالتي هي أحسن»[2] من غير إكراه ولا إذلال، واستعمال العنف والقوة مع أهل التوحش والأصنام ومع «أهل الكتاب» الذين أخذوا عادات التوحش في بيئة بعيدة عن التمدن، خصوصاً اليهود الذين لم تصل تعاليم دينهم إلى تـمدن صحيح مطرد، فقاموا ينافقون مع محمد ويحالفون سراً على إهلاكه وإبطال دعوته بالقوة الوحشية التي لا وازع لها من حق أو شرع.

 

هذا هو شأن هذين الدينين العظيمين الـخالص. ولكن التحمس يدفع إلى الغلو. فبعد أن انتصر الإسلام الـمحمدي على أعدائه في العُربة وأمن الـخطر الـخارجي، بعد خضد شوكة الفرس والروم واتصال الـمحمديين بالبيئات الـمتمدنة في سورية وفارس والأندلس، لم تعد موجودة الأسباب التي نزلت فيها آيات الإكراه والقتل، ولم يبقَ غير الأسباب التي أوجبت الدعوة إلى الـمجادلة بالتي هي أحسن، واعتبار أنّ محمداً والـمسيح «يقومان من قبر واحد». والـمسيحية بعد أن انتصرت بالإقناع والتساهل والتضحية في البيئات الـمتمدنة وأتـمّت رسالتها فيها، لم يكن لها أن تنظر إلى الرسالة الـمحمدية نظرة الكره لأن هذه الرسالة اضطرت لإخضاع الوحشية الـمنافية لـحكم العقل والضوابط الشرعية بالقوة والإكراه. ولكن الغلو في الـمسيحية وفي الـمحمدية سبَّب انتزاع العلم وأوجد ناساً جهالاً يستفتون فيُفتون برأيهم فيُضِلّون ويُضَلّون.

 

لم يقتصر أهل الإفتاء الـمضلّ في الـمسيحية على إحداث الكره وتنمية البغض والـحقد ضد أصحاب الـملل الأخرى، بل تناول الـمسيحيين أنفسهم. فصار الكاثوليك يرمون الأرثوذكس والبروتستنـت واليعاقبـة بالبـدع والهرطقـة، لأن هـؤلاء الطوائف لم يجـدوا أنّ من أساس الإيـمان الاعتـراف بخلافـة البابا وأنّ الرسول بطـرس عيّنه الـمسيح رئيسـاً على الـرسـل يقـوم لـه خليفـة بعـد موتـه، ولأن بعض هذه الطوائف رأت أن تفهم الـمسيـح على غيـر ما فهمـه الكـاثوليـك. وصـار الأرثـوذكس يفعلـون مثـل ذلك تـجاه الكاثوليك والبروتستنت واليعاقبة لـمثل هذه الأسباب. وكذلك البروتستنت والنساطرة واليعاقبة. وقام أهل الإفتاء من هذه الـمذاهب يوغرون الصدور ويحرضون على العداء، ولولا خوفهم من أن يُرموا بالـخروج الظاهر على أقوى التعاليم الـمسيحية لطلبوا إعلان الـحرب والأخذ بالإكراه في الدين، كما حدث لهم في حرب البروتستنت والكاثوليك في ألـمانية، وفي حرب الكاثوليك والهوكونوت في فرنسة. ولولا أنّ تعاليم جديدة قومية ووطنية واجتماعية نشأت في أمـم أوروبة الـمسيحية، مـمتدة إليها من منشآت الفكر السوري العظيم، وأوجدت فهماً جديداً لأحوال العالم ونظامه، لكانت الـحروب الدينية الـمسيحية استفحلت أيـما استفحال. وإلى هذه التعاليم الوطنية والقومية يعود الفضل في عدم نـجاح تعاليم الفتن الدينية، وفي حصر التحريض الديني الـمسيحي ضمن نطاق لا يتعداه.

 

لم يقتصر أهل الإفتاء الـمضلّ في الـمحمدية على إحداث الغلّ والكره والـحقد ضد عابدي الأصنام، ولا ضد أبناء الـملل الأخرى، بل تناول الـمحمديين أنفسهم. فصار أهل السنَّة يرمون أهل الشيعة بالبدع والـمروق من الدين، وقامت السنّة والشيعة على الـمعتزلة، وطعنت الشيعة في صحة مذاهب السنّة، وناهضت الـجبرية القدرية. واختلفت الشافعية والـمالكية والـحنبلية والـحنيفية في الفروع، وجرت في بغداد وأماكن أخرى مواقع دموية في أيام العباسيين، وما بعدهم، بسبب هذه الاختلافات. وقام أهل الإفتاء من هذه الـمذاهب يوغرون الصدور ويحرضون على العداء، ولولا خوفهم من أن يرتد كيدهم في نحورهم لـما اقتصروا على إيغار الصدور والتحريض على الكره والعداء، بل لطلبوا إعلان الـحرب والإيقاع بأبناء ملّتهم. على أنه إذا فات أولئك الـمفتين بجهل إيقاد نار الفتنة من جديد بين الـمحمديين أنفسهم وفضلوا إبقاء هذه النار خامدة موقتاً، فلم يفتهم أن يتمسكوا بنصوص وأحاديث وجدت لـمعالـجة أهل الـجاهلية الوحشية ليوقدوا نار الفتنة الدينية الـملعونة ضد أبناء أوطانهم. إنّ الإقناع أمر مختص بالـجماعات البشرية الراقية، الـمتمدنة فلا سبيل له في الـجماعات الـمتوحشة. بل إنّ من فطرة هذه الـجماعات وطرق تفكيرها الإكراه والغزو والسبي والسلب. فلما عرضت عليها دعوة أرقى من مستوى تفكيرها أرادت مقاومتها بالقوة والوحشية فاضطرت الرسالة لـمقاومة القوة بالقوة والوحشية بالوحشية. ولكن الرسالة نفسها لم تكن رسالة وحشية بل رسالة ارتقاء وتثقيف. وإذا كانت قد استعملت مع الـمتوحشين اللغة التي يحسنها هؤلاء فإنها، لاتصالها بالفكر الـمتمدن، قررت أساليب متمدنة لـمخاطبة الـمتمدنين. ولكن الـجهال الذين يدّعون العلم لم يقدروا أن يـميزوا بين لغة الوحشية ولغة التمدن، ولا بين الأساليب التي تعالج بها الوحشية والأساليب التي تليق بالتمدن، فخلطوا بين تلك وهذه، واستعملوا تلك حيث يجب أن تستعمل هذه، وجعلوا الدين وقفاً على السياسة، وجعلوا السياسة وقفاً على الـمآرب الـخصوصية والـمنافع الفردية.

 

أشارت الزوبعة في عدد سابق إلى جهالة ذلك السياسي الـمسيحي في لبنان الذي وقف في الـمجلس النيابي، منذ نحو عشرين سنة وقال: «إذا كان الـمسلمون (الـمحمديون) لا يرضون بهذه الدولة فليتركوا البلاد وإلا أخرجناهم على رؤوس الـحراب.»

 

ولا بد لنا من الإشارة إلى جهالة عدد من السياسيين الـمحمديين، ومن الذين يدّعون العلم بالدين منهم، الذين يعلّمون بتجريد أبناء وطنهم الـمسيحيين من حقوقهم الـمدنية والسياسية، ولا يزالون يحرضون البسطاء من العامة على كره أبناء وطنهم الذين هم على غير مذهبهم الديني. وقد بلغنا أنّ أحد هؤلاء الـجهال الـمدعو سيف الدين رحال يجلس في القهوات ويقول: «نحن (أي الـمحمديين) وحدنا أصحاب الـحق في تقرير مصير البلاد، وعلى الـمسيحيين أن يخضعوا لـمشيئتنا.» وهذا الـجاهل والذين على شاكلته لا يرون أنّ مصيبة الـمسيحيين والـمحمديين على السواء، هي منهم، وأنهم هم علَّة التفرقة التي يستغلها الأجنبي، كما يستغلون هم البسطاء بها ليصلوا إلى شهواتهم.

 

هؤلاء هم الذين يقول محمد فيهم إنهم يبقون بعد أن يأخذ الله العلماء بعلمهم يُستفتون فيُفتون برأيهم الـجاهل فيُضلّون الناس ويُضَلّون هم أنفسهم أيضاً.

 

إنّ الإصلاح القومي أنقذ الأمـم الـمسيحية الـمذهب من العداوات والأحقاد الدينية. والإصلاح القومي، الذي جاءت به الرسالة القومية الاجتماعية إلى سورية، وسائر الأقطار العربية، هو الذي يتكفَّل بإنقاذ الأمة السورية، وأمـم العالم العربي الـمحمدية طراً، من دعاوات الـحقد والتعصب الـمذهبي، التي ينشرها الـمفتون برأيهم الـجاهل، فتحلّ سكينة الـمحبة والإخاء القومي محل فتن التعصبات الدينية العمياء الذميمة، ولا تبقي لهذه الفتن محلاً ولا سبيلاً.

 

الهداية الـجديدة قد أعلنت نفسها باسم النهضة القومية الاجتماعية، ومبادئها ستقضي على إفتاء الـجهال.

 


[1] صحيح البخاري، علم 41: وصحيح مسلم، علم 14،13.

 

[2] سورة النحل رقم 16 الآية 125.     

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro