مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
رأي النهضة مسائل السياسة القومية الرد على خطاب البطريرك الماروني
 
 
 
جريدة النهضة،بيروت،العدد58، - 1937/12/21 العدد61، 1937/12/24 وملحق العدد 61، 1937/12/25
 

1 - تـمهيد

 

في السادس من الـجاري ألقى غبطة البطريرك الـماروني خطاباً تناول فيه السياسة اللبنانية ومسائلها وعالـجها بالطريقة البطريركية التقليدية فجاء خطابه أمراً هاماً وحادثاً خطيراً في السياسة اللبنانية لا يـمكن أن يـمر، كما مر الكثير من خطابات الغبطة البطريركية السابقة، بدون تعليق يوضح مجاري الفكر السياسي الـحديثة ويضع الأمور الهامة في الأماكن اللائقة بها، خصوصاً وأنّ غبطته قد خص الـحزب السوري القومي ومبادئه بعناية دقيقة توجب مقابلتها بعناية مثلها.

 

وقد كنا ننتظر أن ينجم عن خطاب البطريرك مسائل واتـجاهات تكمل ذلك الـخطاب ذا الـمرامي السياسية ولكن الأمور التي تلته لم تكن ذات علاقة وثيقة به ولا معبّرة عنه، بل مناورات سياسية استغلالية أرادت أن تستغل موقف البطريرك ونفوذه.

 

وقبل البدء بـمعالجة خطاب الغبطة، لا بد من قول كلمة في شخصية البطريرك الـحالي السياسية، الظاهرة من مواقف متعددة وقفها. فقد وقف البطريرك عريضة موقفاً محموداً بصدد الوحدة الشعبية فيما بين لبنان والشام وظهر أنه يقترب كثيراً من مجرى النهضة القومية. ووقف من تقرير احتكار زراعة وصناعة التبغ في لبنان موقفاً شديداً ولكنه كان موقفاً غير موفق لأنه جاء بعد فوات الأوان.

 

وإذا كان لغبطة البطريرك عريضة هذان الـموقفان وغيرهما من الـمواقف الـحميدة فإن له كذلك مواقف غير حميدة كموقفه من محاولات اليهود التسرب إلى لبنان، حتى قال فيه الـمطران مبارك: «نحن إنـما انتخبناك بطريركاً للموارنة لا بطريركاً لليهود.»

 

ولسنا نذكر عبارة الـمطران مبارك للمفاضلة والـمقابلة فالـمطران الذي قال هذا القول عاد فتبع سيده وصار مطراناً لليهود.

 

نرى من مواقف البطريرك عريضة السابقة أنه من الوجهة الشخصية، ليس ذا اتـجاه معيّن متزن ولا ذا مذهب سياسي خاص. وإنّ أعماله السياسية هي هبّات تثيرها العوامل العارضة وتوجهها الـمؤثرات الشخصية الـخاصة التي يتعرض لها البطريرك بواسطة الـمتصلين به، وبعض هذه الـمؤثرات أو أكثرها شخصي مبني في أكثر الأحيان على آراء أولية وفهم غير ناضج للقضايا الـمطلوب معالـجتها.

 

ولا يشذ عن هذه القاعدة موقف غبطة البطريرك في السادس من هذا الشهر، الذي ألقى فيه خطابه الآتي تشريحه.

 

ففي هذا الـخطاب ينزل البطريرك عند الرغبات الـملحّة ويباشر معالـجة مسألة مضى وقت الفائدة من معالـجتها. فموقفه من مسألة الـحكم في لبنان أشبه بـموقفه من مسألة احتكار التبغ، لأنه مبني على القاعدة عينها: النظر في الكوارث بعد وقوعها، ورؤية الأغلاط بعد صدورها، والتأثر بالنظريات التي تعرض على صاحب الغبطة مكبرة ومحسنة، مهما كانت بعيدة عن إدراك أسس القضايا وفهم طبيعة عواملها الأصلية والفرعية. فتعالج الفروع معالـجة الأصول وتعالج الأصول معالـجة الفروع. فيبدو نـجاحاً باهراً ما هو فشل باهر ويختلط الصواب بالغلط فيسمع الشعب فيفرح ويجرّب الشعب فيحزن. وتستمر الـمعالـجة فيتكرر السمع والـحزن.

 

وبديهي أن تؤدي الأسباب عينها إلى النتائج عينها، وأن ينتج عكس العلاج وأساليبه عكس النتائج التي تكون حاجة الشعب وأشواقه وآماله. فمعالـجة رجال الدين اليوم مسائل الأمـم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كمعالـجة رجال الدين في الأزمان الغابرة الأمراض الـجسدية والنفسية (العقلية) حين كان الكاهن ذا سلطة خفية، مستمدة من جهل تلك الأجيال السحيقة، على الروح والـمادة. وكما أدى ارتقاء فن الطب إلى استحالة حلول الكاهن الساحر محل الطبيب العالِم، كذلك أدى ارتقاء علم الاجتماع وفن السياسة إلى استحالة حلول مطران أو بطريرك محل العالِم الاجتماعي أو الـخبير السياسي أو الثقة في الاقتصاد. وكما يؤدي تدخّل رجل الدين، من حيث هو رجل دين، في معالـجة مريض إلى إفساد عمل الطبيب وعلاجه، كذلك يؤدي تدخّل رجل الدين، من حيث هو رجل دين، في معالـجة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى إفساد عمل الـخبير بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلاجه.

 

ولقد أدركنا من اختبارنا البطريرك عريضة أنه، شخصياً، ليس سوى رجل دين. فقد يكون تقياً وقد يكون ورعاً وقد يكون محباً للخير العام وقد يكون صالـحاً أمام الرب يسوع بنزاهته وتـجرده. قد يكون كل ذلك ولكنه مع كل ذلك ليس خبيراً بالاجتماع أو بالاقتصاد أو بالسياسة، حتى ولو عاونه بعض من يثق بجدارتهم لبحث شؤون هذه الفنون وإعطاء الآراء الصائبة فيها.

 

تبقى، إذن، مسألة الـمقام البطريركي ذي التقاليد الـمستمدة من الأزمنة الـمتطاولة في القدم، من أزمنة الثقافة الـحجرية أو من أزمنة الثقافة الـمعدنية الأولى، من قبل عصر الآلة وقبل عصر الـحديد، من قبل عصر الثقافة الصناعية والزراعية الـحديثة ثقافة الـمعرفة والعلم والاختصاص، من أزمنة الـجهل الـمطبق والـخوف الـمغلق.

 

ولا بد لنا من الاعتراف بأن الـمقام البطريركي كان في مدارج تلك الأزمنة ذا مصلحة أولية في النظر في شؤون الـجماعة الدينية الـمنقادة لرعايته. وكانت الـجماعة الدينية لذلك العهد ذات شأن خاص ومطالب خاصة وكانت لها صفة الوحدة السياسية. فكان تـمثيلها السياسي تـمثيلاً دينياً وكان تـمثيلها الديني تـمثيلاً سياسياً، فإذا أرادت دولة أن تعرف موقف الـجماعة الدينية السياسي كانت تلجأ إلى رئيس تلك الـجماعة الديني فكان يتكلم باسمها وكانت تـجتمع حوله وتؤيده. ولم يكن ذلك التمثيل قط مبنياً على أساس فهم عام ثابت لعلاقة الروح بالـجسد وتفوّق تلك على هذا الذي يرمز إليه بسيادة الرئيس الديني على جسم الـمجموع.

 

وكان معقولاً نوعاً في ذلك العهد أن يلجأ إلى اعتبار الـممثل الديني الـممثل السياسي للجماعة الدينية بسبب الصفة السياسية لهذه الـجماعة وبسبب ظروفها السياسية والاجتماعية، فاكتسب الـمقام البطريركي ذلك النفوذ الدنيوي السياسي الذي استمر إلى هذه الأيام. وكان ذا شأن خطير في إقرار مسائلنا القومية والسياسية وذا مسؤولية أصلية في إقرار الـحالة الراهنة، التي نختبر الآن نتائجها.

 

ومـما لا شك فيه أنّ الـمقام البطريركي عمل في ظروف كثيرة ماضية على حفظ مصلحة الـجماعة الدينية وإيجاد أسباب بقائها. وكانت له في هذا السبيل أعمال كبيرة بلغت إلى غاية بعيدة. وإلى هذه الـحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها، يعزى استمرار نفوذ الـمقام البطريركي السياسي حتى هذه الأيام. فمنذ تلك الأزمنة القديـمة إلى اليوم سار التطور سيره الطبيعي وفعل فعله فتغيّرت الظروف وتغيّرت الأوضاع واختلفت الاعتبارات. ولكن الشعب بطبيعته بطيء إلى إدراك التغيّرات الاجتماعية والسياسية إدراكاً جلياً، فظلت عامة الـجماعة الدينية تتجه اتـجاه الـجماعة السياسية في حين لم تعد الظروف توجب أو تسمح ببقائها جماعة سياسية. وفعلت قوة الاستمرار فعلها في الـمقام البطريركي الـماروني، فتدخّل بعد الـحرب باسم الـجماعة الـمارونية لإقرار مسائل سورية وفاقـاً للاعتبارات الدينية، وكان تدخّله ابتداء الـمسألة اللبنانية الـحديثة التي بلغت بالشعب اللبناني إلى موقفه الـحاضر. وإلى هذا التأخر في الإدراك العام تعزى خطورة الـمواقف البطريركية السياسية. وفي هذا التأخر في الإدراك العام نـجد أسباب امتداد نفوذ رجال الدين السياسي إلى هذه الأيام، والعامل الأساسي في بقاء هذا النفوذ ذا شأن هام في تقرير مصير القضايا القومية والسياسية.

 

هذه هي العوامل التي تكسب خطاب البطريرك عريضة خطورة ما كانت تكون له لولاها، فالـخطاب بسيط مضطرب عام لم يتناول من الـمسائل الـمعينة سوى الـحملة على الـحزب السوري القومي وعلى الـحزب الشيوعي وفيما سوى ذلك فالكلام عمومي وفي بعض الأماكن يعرض لـمبادىء لا يصح السكوت عليها كما سيجيء.

 

 

2 - التوفيق الـمضطرب

 

يبتدىء غبطة البطريرك خطابه، بعد الترحيب بالوفود القادمة بحجة تهنئته بانتقاله إلى الـمقر الشتوي، بإعلان أسفه للحوادث الـمكدرة التي اكتنفت حل منظمات الشباب اللبناني. فالـحوادث الـمذكورة دعت إلى أسف جميع العاملين لـمصلحة الأمة ولم يكن غبطته أول الآسفين.

 

ويبدي غبطة البطريرك أسفه «لـما أشيع من أقاويل النقد عن انتخابات مجلس النواب» ثم يتنصل من كل تدخّل في «تلك الانتخابات» معلناً أنه ترك الأمر «لأربابه» أي «الشعب والـحكومة». والسبب في عدم تدخّل غبطته أنّ الكل أحباؤه وأعزاؤه فلا يـمكن غبطته أن يتحيز لفريق دون آخر، إذ هو بكليته للكل ويحب «أن يضم الـجميع تـحت حمايته».

 

وبينا غبطته يعلن في فقرة واحدة من خطابه أنه يترك أمراً هاماً كالانتخابات لأربابه «الشعب والـحكومة» وأنه يحب أن يضم الـجميع تـحت حمايته إذا به ينتقل فوراً إلى تأييد تدخّل الرؤساء الروحيين في «الأمور الزمنية» ثم يدعم هذا الـموقف في سبيل السلطة الزمنية بهذا التصريح الـجريء الـخطير:

 

«ثم إنّ الشعب على اختلاف نزعاته يكلفنا وينتظر منا أن نهتم، ليس بأموره الروحية فقط، بل بأموره الزمنية أيضاً ونحامي عنه ونسعى لـخيره، فالشعب الذي ولى الـحكام أمره ووكل إليهم الاهتمام بأموره الزمنية هو ذاته يرجو منا أن نشارف على أموره الزمنية، إلخ.»

 

فإذا كانت هذه الدعوة تشتمل على حقيقة وكان الشعب ينتظر من غبطة البطريرك «أن يحامي عنه»، فكيف يوفق غبطته بين ترك أمور الانتخابات «لأربابها» وبين قيامه على شؤون الشعب الزمنية وحمايته له؟

 

إننا نريد أن نصدق أنه لم يكن لغبطته رأي في الانتخابات ولا «تدخل»، ولكنه لا بد لنا من البحث في الأسباب التي دعته إلى عدم التدخل وهو «الـمكلف من الشعب على اختلاف نزعاته» بالاهتمام بأموره الزمنية وحمايته من الضيم والإجحاف بحقوقه. فهل السبب إهمال غبطته الاهتمام بالشؤون الزمنية الـمكلف من الشعب بالقيام عليها؟ أم السبب عدم توقع غبطته حصول ما حصل مـما أدى إلى «أقاويل النقد» الـمأسوف لها كثيراً؟ أم السبب هو الكائن في نظرية الـحزب السوري القومي ومبدأه الإصلاحي القائل بفصل الدين عن الدولة ليتسنى لأهل الدين أن يتمموا واجباتهم الدينية على أفضل وجه وليتمكن أهل الدولة من تدبير شؤون دولتهم من غير أن يتعرضوا للاصطدام بتدخل رجال الدين واشتغالهم بالأمور الزمنية؟

 

أجل، كيف يوفق غبطته بين تركه شؤون الانتخابات الزمنية وعبارته التالية:

 

«وواقع الـحال أنّ الشعب اللبناني خاصة ينظر إلى الـمقام البطريركي الـماروني وإلى رئيسه نظره إلى أب له ووكيل عنه مفوض إليه منه تفويضاً مطلقاً الاهتمام بـمصالحه العامة والـخاصة والـمدافعة عن حقوقه، حتى إذا تقاعد عن ذلك لامه ونسب إليه التقصير، إذ له ملء الثقة به وهو كان دائماً مرجعاً للشعب بكل أموره.»

 

إذا كان غبطة البطريرك يعترف بتقاعده وتقصيره فلا بد من التسليم بأن هذا الاعتراف ينقض تعليمه القائل بصلاح تدخله في الشؤون الزمنية لـمصلحة الشعب. وإذا كان يعترف بعدم توقع النتائج الـمؤسفة وبالتالي بعدم الـخبرة في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيكون قد اعترف بخيبة الشعب اللبناني في نظره إلى الـمقام البطريركي الـماروني وإلى رئيسه. وإذا كان لا يعترف بذلك ولا بهذا فلا بد، إذن، من التسليم بـمبادىء الـحزب السوري القومي فلا تصطدم الروحيات بالزمنيات ولا تصطدم الزمنيات بالروحيات.

 

وإذا كان غبطته يظن أنه يـمكن التوفيق بين الوجهتين الـمتضاربتين في دعواه وموقفه بعبارته «ونحن نحب أن نضم الـجميع تـحت حمايتنا» فما أبعد هذه العبارة عن إيجاد التوفيق الـمطلوب!

 

 

3 - الشعب اللبناني والـمقام البطريركي

 

الـحقيقة أننا قد تساهلنا كثيراً في الـجدل في موقف غبطة البطريرك من بعض الشؤون الزمنية بناءً على مجاراتنا غبطته، جدلاً، في اعتبار ما سماه «واقع الـحال».

 

يقول غبطته: «إنّ الشعب اللبناني على اختلاف نزعاته يكلفنا وينتظر منا أن نهتم، ليس بأموره الروحية فقط، بل بأموره الزمنية أيضاً ونحامي عنه، الخ.» وفي موضع آخر: «وواقع الـحال أنّ الشعب اللبناني خاصة ينظر إلى الـمقام البطريركي الـماروني وإلى رئيسه نظره إلى أب له ووكيل عنه مفوض إليه منه تفويضاً مطلقاً الاهتمام بـمصالـحه العامة والـخاصة والـمدافعة عن حقوقه، إلخ.»

 

لا نعتقد إلا أنّ غبطته عنى بقوله «الشعب اللبناني على اختلاف نزعاته يكلفنا» أنّ أفراداً من مختلف النزعات كانوا يكلفون غبطته التدخل في بعض الأمور الإدارية أو غيرها لـمصلحتهم الـمتسترة بستار الـمصلحة العامة. وإنّ غبطته قد أجاز لنفسه اعتبار هؤلاء الأفراد «الشعب اللبناني» من باب إطلاق البعض على الكل ولا وجه صحيحاً لإجازة هذا الإطلاق؛ إذ إنّ الأفراد، مهما كثر عديدهم، لا يـمكن أن يسمّوا «الشعب على اختلاف نزعاته» إلا بترك الواقع والـمنطق جانباً وبإحلال اللاهوت محلهما. ولا نعتقد أنّ غبطته أراد إدخالنا دائرة اللاهوت حين صرّح هذا التصريح.

 

إننا نؤكد لغبطته أنّ ألوف القوميين في الـجمهورية اللبنانية لا يصدعون غبطته، لا جمهوراً ولا أفراداً، بتكليفه الاهتمام بأمورهم الزمنية. وإننا نشك كثيراً في أنّ الـجماعات الدينية غير الـمارونية في الـجمهورية اللبنانية تنظر إلى غبطته نظرها إلى «أب لها ووكيل عنها مفوض إليه منها تفويضاً مطلقاً الاهتمام بـمصالـحها العامة والـخاصة.»

 

وإذا كان غبطته يعني «بالشعب اللبناني خاصة» الـموارنة فقط ففضلاً عن التناقض بين هذا الافتراض وقول غبطته «الشعب على اختلاف نزعاته» نؤكد لغبطته أنّ القوميين من «اللبنانيين الصرف»، وكثيراً من الـموارنة الـمثقفين الذين لم يتسنَّ لهم دخول الـحزب القومي، لا يدخلون ضمن أحد التعبيرين الـمتقدمين.

 

 

4 - السلطة الروحية والسلطة الزمنية

 

نعتقد، من العناية الشديدة التي تناول بها الـحزب السوري القومي، أنّ غبطته يوجه الكلام إلى الـحزب القومي خصيصاً حين يقول: «إعترض علينا البعض أننا، ونحن الرئيس الروحي، نتدخل بالأمور الزمنية.» فنشكر لغبطته هذا الاهتمام باعتراضنا الذي دفعه إلى جوابه وفسح لنا الـمجال للجواب بدورنا على جواب غبطته وإيضاح ما لا بد من إيضاحه في هذا الصدد.

 

إليك أيها القارىء العزيز، جواب غبطته:

 

«إنّ الأمور الروحية، وإن كانت غايتها خلاص النفوس بحفظ الإيـمان والشرائع الإلهية، فلها مساس عظيم بالـجسد، لأن الإنسان ليس هو روحاً بسيطة كالـملاك ولا جسداً مستقلاً، بل هو مزيج من الاثنين. والـجسد، إذ هو الـجزء الأدنى، يجب أن يخضع للنفس، لأنها الـجزء الأشرف من الإنسان وهو ليس إلا آلة تستعملها النفس لأغراضها. والأعمال الروحية إنـما تتم بواسطة الـجسد. ولـمّا كان أساس الدين الـمسيحي قائماً بالـمحبة لله تعالى وللقريب توجب على الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور، روحية كانت أم زمنية، التي تعود لـخيره الروحي أو الزمني.»

 

يقسم جواب غبطته إلى قسمين: قسم من شؤون اللاهوت البحت، وقسم من شؤون نظر اللاهوتيين في الأوضاع الزمنية. فالقسم الأول هو ما تعلق بالروح والـجسد، والقسم الثاني هو ما تعلق بواجب الرئيس الروحي تـجاه الأحوال الزمنية.

 

لا نريد أن ندخل هنا في أي بحث لاهوتي صرف، باعتبار أنّ الروح من عند الله وأنّ الـجسد من التراب وأنّ الاثنين مستقلان الواحد عن الآخر في الأصل، ولا في مناقشة علمية لهذه الاعتبارات اللاهوتية، بل نريد أن نقبل، جدلاً، هذا الترتيب اللاهوتي لعلاقة الروح بالـجسد. ثم نناقش النظرية اللاهوتية بعد حصول الـمزيج من الروح والـجسد وحصول الإنسان الذي لا يكوّن كيانه الـجسماني سوى آلة تستعملها النفس لأغراضها، إذ «الأعمال الروحية إنـما تتم بواسطة الـجسد.»

 

كل إنسان، إذن، يولد مستكملاً الشرطين العلوي والسفلي: الروح والـجسد. وبحصول الـمزيج يصبح الإنسان تاماً، روحاً وجسداً. ونصرف النظر هنا عن شروح علم النفس وعن التحليل النفسي وعن التفاعل بين النفس والـجسد أو بين ما هو سيكولوجي وما هو فسيولوجي، ونـجيب على نظرية غبطة البطريرك اللاهوتية من كلامه عينه فنقول إنه لـمّا كان «مساس الأمور الروحية العظيم» مستمداً من علاقة الروح بالـجسد، ولـمّا كان كل إنسان ذا روح بعينها وذا جسد بعينه، فكل إنسان له روح تهتم بتصريف شؤون جسدها.

 

ولـمّا كانت غاية الأمور الروحية «خلاص النفوس بحفظ الإيـمان والشرائع الإلهية»، فمهما كان مساسها بالـجسد عظيماً يجب ألا تخرج من دائرة الروح إلى دائرة الـجسد. فتثقيف النفوس في «حفظ الإيـمان والشرائع الإلهية» هو أمر ديني من أمور الروح يجب ألا يتعدى هذا الـحد إلى الأجساد، لأنه إن تعداها أبطل ذاتية الروح الـخاصة واستقلال الفرد وحريته في تصريف شؤون جسده وفاقاً «للإيـمان والشرائع الإلهية»، فواجب الرئيس الروحي أو الـمعلم الروحي أن يقتصر على تعليم الإنسان أموره الروحية، حتى إذا كمل تعليمه «الإيـمان والشرائع الإلهية» أصبح قادراً، من تلقاء نفسه، على السير في أحكام الإيـمان والشرائع الإلهية مع الاحتفاظ باستقلاله عن رئيسه الروحي في الشؤون الزمنية التي تتطلب معرفة الزمنيات الـمعقدة، من علوم وفنون اختصاصية تـحتاج إلى ثقافة أخرى مبنية على العلوم والفنون الزمنية لا يـمكن أن تغني عنها «الشرائع الإلهية» التي غايتها «خلاص النفوس»، لكيلا تذهب بعد الـموت إلى جهنم. فالـمعلم الروحي يـمكنه أن يعلّم «الشرائع الإلهية» ويرشد إلى الصلاح النفسي وفاقاً لهذه «الشرائع»، ولكنه هو نفسه الـمختص بالروحيات لا يـمكنه أن يعلّم العلوم الـمالية وفن الإحصائيات وعلوم الطب والكيمياء والهندسة والاقتصاد وما تنطوي عليه من علوم ومسائل فرعية، لأن هذه الأمور ليست موجودة في «الشرائع الإلهية» الثابتة وهي أمور تتطور وترتقي بالاكتشافات والاختراعات، بينما تظل «الشرائع الإلهية» ثابتة جامدة بطبيعة النقل.

 

نقول إنه واجب الرئيس الروحي ألا يتعدى دائرة الروح إلى دائرة الـجسد لئلا يقع في ما يوجبه هذا التعدي من تطبيق أحكام الدائرة الـجسدية عليه هو نفسه فيصبح «كواحد من الناس»، لأنه متى خرج إنسان الروحيات من دائرة الروحيات إلى دائرة الزمنيات أصبح الـمقياس الذي يقاس به: مبلغ معرفته وخبرته العلوم والأحوال الزمنية، لا مبلغ حفظه «الإيـمان والشرائع الإلهية».

 

أما الاستنتاج من علاقة الروح بالـجسد اللاهوتية أنه بـما أنّ الـجسد خاضع للروح فالأجساد يجب أن تخضع لسلطة زمنية للرئيس الروحي، فهو استنتاج لو حصل لكان ضلالاً بعيداً عن شؤون الروح والـجسد معاً، لأنه لا يعني خضوع الـجسد للروح فقط، بل يعني خضوع كل الأجساد لروح واحدة تعطل مواهب الأرواح الأخرى وتنقض غرض الروح الـمرسلة من عند الله. فإذا كانت الروح مسؤولة عن الـخضوع «للإيـمان والشرائع الالهية» فهي ليست مسؤولة عن ترك شؤون جسدها الزمنية لروح واحدة هي روح الرئيس الروحي.

 

الروح نفسها غير مسؤولة عن الـخضوع للرئيس الروحي، إذ هي مسؤولة عن «حفظ الإيـمان والشرائع الإلهية» فقط، فكم بالـحري الـجسد الذي هو «آلة تستعملها النفس». وأما قول غبطته: «ولـمّا كان أساس الدين الـمسيحي قائماً بالـمحبة لله تعالى وللقريب توجّب على الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور التي تعود لـخيره الروحي أو الزمني، روحية كانت أو زمنية» فينقصه شرط بقاء الـمعاونة ضمن دائرة اختصاص الرئيس الروحي التي غايتها «حفظ الإيـمان والشرائع الإلهية» فلا تتعدى إلى إدارة الدولة وسياستها وإلى تصريف الشؤون الزمنية، التي تـحتاج أموراً أخرى غير «حفظ الإيـمان والشرائع الإلهية».

 

وأما التشبث بالسلطة الزمنية فكلام مبني على التقاليد الكنسية، لا على حاجة الـحياة ومطالب الـحياة الزمنية.

 

 

5 - سياسة الروحية الزمنية

 

لا اعتراض على اهتمام غبطة البطريرك بـمصلحة البطريركية في الشؤون التي يكون منها نفع أو ضرر. فالشؤون البطريركية عائدة إلى غبطته يسهر عليها ويصرّفها بحكمته ودرايته. أما أن تكون مصلحة البطريركية أساساً أو أحد الأسس التي يقوم عليها ادعاء وجوب التدخل الديني في شؤون الدولة، فمما لا مندوحة عن الاعتراض عليه.

 

ولسنا نتمكن من تصور أنه قد يخفى على غبطته ما في التشبث بجعل الرئيس الروحي مرجعاً للشؤون الزمنية من الـخطر على سير الأمور الزمنية التي تصبح في هذه الـحالة معرضاً لتنازع السلطات الروحية السلطة الزمنية أو الشؤون الزمنية، إذ ليس للشعب سلطة روحية واحدة، بل سلطات يؤيدها التعصب الديني والطائفي الذي يعترف غبطة البطريرك في خطابه بوجوده عند أكثر الناس في لبنان. كما وأنّ الاستمرار في تأييد كون الـممثل الديني مـمثلاً سياسياً لا يفيد سوى تأييد الاستمرار في اعتبار الـجماعة الدينية جماعة سياسية، فيظل الشعب مقسماً إلى جماعات دينية تقسيماً يـمنعه من الأخذ بالقومية التي هي وحدها تؤمن وحدته السياسية والاقتصادية.

 

بعد الفراغ من إعطاء الـمبررات اللاهوتية لتدخّل غبطته في شؤون الدولة الزمنية ومن الكلام على وكالة رئيس الـمقام البطريركي الـماروني عن الشعب، التي نظرنا آنفاً في مبلغ أهميتها، يتقدم غبطته إلى معالـجة الشؤون الزمنية فيقسم حاجات الشعب إلى ثمانية مواضيع: منها ما هو أصلي كالاستقلال والاقتصاد، ومنها ما هو فرعي، كالأمن العام والـمحاكم.

 

ولـمّا كان غبطة البطريرك قد ابتدأ بـمعالـجة الاستقلال رأينا أن نتابعه في ترتيبه وننظر في ما بدأ غبطته بـمعالـجته.

 

يقول غبطته في باب الاستقلال: «من أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب الاستقلال» فيعدّ الاستقلال من جملة أمور هي أهم ما تتطلبه الشعوب، لا أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب على الإطلاق. أي أنّ غبطته لا يعدُّ الاستقلال شرطاً أساسياً لكل مطلب قومي أو شعبي أو الـحالة السابقة الـمفترضة لكل مطلب قومي، التي لا يصح بدونها افتراض مطالب قومية أو شعبية. وهكذا نرى أنّ غبطة البطريرك يعالج الاستقلال الأصلي معالـجة الـمسائل الفرعية.

 

ويتابع غبطته الكلام في الاستقلال فيقول إنه كان للبنان «شبه استقلال» أما الآن «فقد مُنِح الاستقلال التام بعناية جامعة الأمـم وفضل الدولة الكريـمة فرنسة الـمحبوبة.»

 

هنا يقرّ غبطته مبدأ «منح الاستقلال» من قبل صاحب سيادة مستمدة من بعض الاتفاقات الإنترناسيونية حلّت، بحكم الظروف السياسية، محل السيادة الأصلية العائدة إلى الشعب نفسه. ولا يرى غبطته في «منح الاستقلال» عدم حصول الاستقلال الصحيح، وأنّ الـمنحة لا تقوم مقام الـحق الأصلي، وأنّ ما يجيء منحة قد يذهب منحة وقد يتعرض لإنكار أنه حق أصلي وللنزاع.

 

ثم إنّ غبطته يفترض أنّ الـمعاهدة التي منحت للبنان ولا تزال معلقة على القبول أو الرفض من قبل الـجانب الـمانح وجمعية الأمـم قد صارت «استقلالاً تاماً» بالفعل ويثبت افتراضه هذا بالقول الـجازم الـمتقدم، حتى ليتوهم السامع أو القارىء أنّ لبنان قد غدا مستقلاً «استقلالاً تاماً»، أي حائزاً على جميع شروط الاستقلال التام، وهو غير الواقع؛ إذ البلاد لا تزال خاضعة لنظام الانتداب إلى أن تُصدَّق الـمعاهدة. وبعد تصديقها تظل البلاد خاضعة لثلاث سنوات تـجربة ولشروط سياسية وحربية لا تسمح مطلقاً باستعمال تعبير «الاستقلال التام» الذي يستعمله غبطته من غير إحاطة بدقائق الأمر أو تدقيق في القول.

 

وبدلاً من أن نـجد في معالـجة غبطته الاستقلال تشخيص الاستقلال الـحقيقي وأسبابه الأساسية وعوامله الأصلية، كما كان يكون الأمر لو كان الـمتكلم خبيراً بالعلوم الاجتماعية والسياسية، نـجد غبطته يذهب بعيداً جداً عن الأسباب التي تؤمّن الاستقلال وعوامله الرئيسية الـمستمدة من الاجتماع والاقتصاد والسياسة والـحقوق فيدخل قضية الـحكم بدلاً من قضية الاستقلال، إذ يقول:

 

«فكان على الذين استلموا (يريد تسلموا) مقدّرات البلاد بإسم الشعب اللبناني أن يقوموا حق قيام بالـمهمة التي وكلت إليهم ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيل الـمحافظة عليه ويبرهنوا للشعب وللملأ أجمع أنهم كفؤ للحكم وأهل للثقة التي وضعت فيهم.»

 

وغبطته يعني بالذين «تسلموا مقدّرات البلاد» الـحكومة، فما شأن الـحكومة في مقدّرات البلاد أو في «تسلم» هذه الـمقدّرات؟

 

إنّ الـحكومة، في الشعب الـمستقل، لا تتسلم «مقدّرات البلاد»، بل تُختار من قبل أصحاب الشأن في هذه الـمقدّرات لتسير على سياسة ومنهاج يرضى عنهما متسلمو مقدّرات البلاد الذين هم أعضاء الدولة الـممثلون، في الأنظمة الديـموقراطية البرلـمانية، بواسطة البرلـمان. فالذين يتوجب عليهم «بذل الغالي والرخيص» في سبيل حصول «الاستقلال التام» وتأمين هذا الاستقلال هم الأمة، لا الـحكومة. أما الـحكومة فتنشأ من الأمة للأغراض التي تريدها الأمة أو تقبلها الأمة.

 

أما قول غبطته «الذين تسلموا مقدّرات البلاد باسم الشعب اللبناني» فبعيد عن الواقع لأن مقدّرات البلاد لا تزال في عهدة الانتداب، الذي إليه يعود القول الفصل في مصير هذه الـمقدّرات. وإنها لـمسؤولية خطيرة أن يقول ذو مقام عال، كغبطة البطريرك، إنّ لبنان قد نال «الاستقلال التام»، وإنّ هنالك من «تسلموا مقدّرات البلاد باسم الشعب اللبناني.»

 

ثم إنّ غبطة البطريرك، بعد أن يحلّ قضية الـحكم محل قضية الاستقلال، يعطف الكلام على «الـحكام» فيتكلم فيهم بـما لا يتفق مع النظرة العصرية في الـحكومة وبـما يتفق مع صورة «الـحكام» القدماء، أمثال دبشليم الـملك وبكلام يذكرنا كثيراً كلام بيدبا الفيلسوف ونصائحه وإرشاداته التي قالها بنفسه أو أجراها على لسان الـحيوانات. فمن ذلك قوله «وآفة الـحكام حب الاستبداد، الخ.» وقوله «وكم من ملوك أضاعوا عروشهم لقلة اهتمامهم بـمصالح الـجمهور»، وقوله «فالذي يحكم الشعب يجب أن يكون فوق الشعب بصفاته الأدبية، الخ.» فيرينا في مبدأ الـحكومة العصرية صورة الـحكام الأقدمين الذين كانوا يدّعون أنهم فوق الشعب وأنّ سلطتهم مستمدة من الله. ولكنه يعود فيعطينا صورة أخرى من «الـحكام» في باب «توزيع الوظائف والـمنافع» فيقول: «إنّ الـحكام هم مؤتـمنون على مصالح الشعب تـحت أجرة معينة»، فيترك السامع أو القارىء يتخبط في ديجور من الصور الغامضة عما هي الـحكومة وما هم الـحكام، في الوقت الذي يقرّ فيه مبدأ يتضارب مع أساس الـحقوق الدستورية والـمبادىء الأساسية للدولة، هو مبدأ كون الـحكومة حكاماً فوق الشعب وظيفتهم حكم الشعب.

 

ويعود غبطته إلى الاستقلال فيخصص «الاستقلال اللبناني» الـممنوح ويتأسف «أن يتكون فريق من اللبنانيين وأحزاب تـحت سيطرة الأجانب كالـحزب القومي السوري والـحزب الشيوعي ضد الاستقلال اللبناني.» وهذه كل العوامل السلبية الـمقوضة أركان الاستقلال. أما العوامل الإيجابية، التي تعمل على الـمحافظة على الاستقلال الـممنوح فهي «الـمنظمات اللبنانية التي أنشئت بـمعرفة الـحكومة وإجازتها وتنشيطها للدفاع عن استقلال لبنان ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة.»

 

أما قول غبطته «وأحزاب تـحت سيطرة الأجانب كالـحزب القومي السوري والـحزب الشيوعي» ففيه خروج عن الـحقيقة لا نظن إلا أنه من عمل الـمغرضين الـمتحاملين، الذين خلطوا بين الليل والنهار وكان النور في أعينهم ظلاماً، فسمع غبطته صوت الـخورأسقف لويس خليل ولم يبلغ أذنيه صوت الـخوري بولس مسعد[1] لكثرة الأصوات الـمضجة حوله. والـخروج هو فيما يختص بالـحزب السوري القومي الذي اتهمه خصومه بالعمل لإرادة أجنبية، لأن الـحزب الذي قام ينقض الإرادات الأجنبية في تقرير مصيرنا ويعمل لإيجاد الأساس الوحيد لقيام الاستقلال التام الـحقيقي، الـذي هـو وحـدة الأمـة ووحـدة مصـالـحها ووحـدة إرادتها فـوضع

 

الـحزب القومي إلى جانـب الـحـزب الشيوعـي القائم بإرادة أجنبيـة والـمسير برغبات

 

أجنبية، مع أنّ تـاريخ نشـوء الـحزب القومي والعوامـل الأصليـة العاملة فيه تدل دلالة

 

صريحة على أنه الـحزب الوحيد في البلاد الذي أوجد أساس وحدة الأمة ووحدة مصالـحها وعمل على تعيين أسباب الاستقلال التام الـحقيقي وتـحقيقها.

 

ولا بد لنا من القول إنه في كل التحقيقات الـمباشرة والـمداورة التي أجريت مع الـحزب القومي بقصد الوقوف على حقيقة الأمر بصدد الإشاعات الـمختلفة، التي أشاعها عنه عبيد الإرادات الأجنبية، لم يجد الـمحققون العلنيون ولا الـمحققون السريون مثل هذا التصريح الـخطير، الذي يفوه به غبطة البطريرك نفسه لـمصلحة دولة أجنبية «فهذه دولة إيطالية أنـجح دول العالم» في الوقت نفسه الذي يشيد فيه غبطته بفضل «الدولة الكريـمة فرنسة الـمحبوبة.»

 

أما وضع غبطته الـحزب القومي ضد الاستقلال فهو غير مبني على معرفة صحيحة لـحقيقة الـحزب القومي.

 

وأما جعله «الـمنظمات اللبنانية» في جانب العوامل الإيجابية الـمؤيدة الاستقلال وقول غبطته «ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة» فالـجواب عليه هو أنه إذا كانت الانقسامات الطائفية والدينية تكون من عوامل تـحقيق الاستقلال وتثبيته، «فالـمنظمات اللبنانية» تكون من هذه العوامل بدليل حوادث الـخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1936 وحادث بنت جبيل وغيره. وهي هذه الـحوادث ما ينقض عبارة غبطته «ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة.»

 

والـحقيقة أنّ «الـمنظمات اللبنانية» كان يجب أن ترِدَ في خطاب غبطة البطريرك في عداد العوامل، التي تعمل لتفكيك الأمة وإبطال إمكانيات استقلالها التام. فتضاف إلى العوامل الأخرى التي من أهمها مزج الدين بالدولة وتدخّل رجال الدين في شؤون السياسة والقضاء القوميين.

 

وأما شكر غبطته للحكومة مقاومة الـحزب السوري القومي، فإذا كان الباعث عليه مصلحة البطريركية فهو شكرٌ في محله. أما إذا كان الباعث عليه الغيرة على مصلحة الأمة واستقلالها، فهو في غير محله، لأنه يعني تهديـم الـحزب الذي أنشأ عقيدة القومية الصحيحة وحوّل الأمة عن الانقسامات الدينية والطائفية إلى الوحدة القومية التي هي أساس كل استقلال صحيح.

 

 

6 - إقتصاد، إدارة، قضاء

 

يترك غبطة البطريرك ميدان السياسة، تاركاً السامعين والقراء في حيرة بين الاستقلال والـحكم، ويتقدم إلى معالـجة الـمطلب الثاني من الـمطالب التي يتناولها خطابه وهو: الاقتصاد.

 

والعلاج الذي يصفه غبطته في هذا الباب لا يتناول نقطة فنية واحدة، بل كل الكلام في هذا الشأن عمومي معتاد من النوع الذي يتعرض الإنسان العادي لسماعه في أي مجتمع عائلي أو أي ناد عام أو خاص. ومنه ما قد تكرر طرقه الآذان لكثرة ما تردد في الـخطب السياسية وغير السياسية حتى أصبح وقراً في الـمسامع كقوله: «أما تكثير موارد الشعب فيكون بتحسين الزراعة وتنشيط الـمشاريع الوطنية»، وقوله «فتحسين الزراعة يكون باستخدام الـمياه، التي تـجري إلى البحر دون فائدة لري الأراضي البعلية»، وقوله «ويكون بفتح مدارس زراعية، الخ.» وكل الكلام الذي في هذا الباب لا يتناول مسألة اقتصادية واحدة بالـمعنى الصحيح. فتحسين الزراعة مثلاً له علاقة وثيقة بالسياسة الاقتصادية العامة وبـمسائل السياسة القومية العامة، وغبطته لا يبدي ما يدل على الشعور بوجود هذه العلاقة. وفتح مدارس زراعية يتعلق بـموازنة الدولة ونظام الـجباية وتعيين الـموارد والنفقات. فإرشادات غبطته في صدد الأمور الاقتصادية هي من باب الكلام الـجميل السهل، الذي لا ينطوي على درس عميق لأية معضلة اقتصادية وعلى كيفية حلها.

 

ثم ينتقل غبطته إلى موضوع الأمن العام الذي هو من مواضيع الإدارة، فيشير إلى أنّ من واجبات الـحكومة الأولية الـمحافظة على أرواح الشعب وأمواله من الاعتداءات الداخلية والـخارجية «والضرب على أيدي الأشرار والـمقلقين.» وينتهز غبطته هذه الفرصة أيضاً لرمي الـحزب السوري القومي بأشياء كانت يجب أن تترك لأعمال الـمفترين. فإننا نفهم أنّ غبطته يريد تأييد التقاليد الكنسية وتقاليد الـمقام البطريركي الـماروني بالـمحافظة على السلطة الزمنية أو على النفوذ الزمني، وهو أمر يتضارب مع تعاليم الـحزب القومي، وأنه يريد اتباع سياسة الاحتفاظ بالـحالة الراهنة التي كان للمقام البطريركي الـماروني شأن كبير في إقرارها ونفي كل عقيدة وكل أمر يتضارب مع هذه السياسة ومع وجهة نظر الـمقام البطريركي في معالـجة القضية القومية.

 

وكان الأفضل أن يشير غبطته إلى هذا الأمر الواقع ويتناول مسائل الـخلاف بين وجهة نظر الـمقام البطريركي الـماروني الـمستمدة من تقاليده القديـمة والـمبنية على أساس مصلحة هذا الـمقام ومصلحة الـجماعة الدينية السياسية، ووجهة نظر الـحزب القومي الـمستمدة من الـمبادىء القومية والـمبنية على أساس وحدة الأمة وعدم ترجيح وجهة نظر دينية في الـمسائل السياسية على أخرى، ولو أنّ غبطته فعل ذلك لكان ألْيَق به وبالـمقام البطريركي من رمي الـحزب بـما هو براء منه.

 

لا يطيل غبطة البطريرك الكلام على الأمن العام، فما هي إلا لـمحة سريعة حتى ينتقل إلى دائرة القضاء فيتناول الـمحاكم ومدة بقاء بعض الدعاوى نحو ثلاثين أو أربعين سنة قبل البتّ فيها. ويشير على الـحكومة أن تـحتذي في هذا الصدد حذو الكنيسة الكاثوليكية فلا تتجاوز الدعوى الواحدة حد السنتين.

 

ولا يصعب علينا فهم معالـجة غبطته مسألة الـمحاكم القضائية وإغفال مسألة الـمحاكم الشرعية أو الـمذهبية وما فيها من غبن وتسويف وهدر منافع وإساءة حكم، لأنه أيسر جداً أن ينتقد الإنسان أعمال غيره قبل انتقاد نفسه، ولأنه أسهل على الإنسان غير الآخذ بالـحزم أن يعالج القذى الذي في عين أخيه من أن يعالج الـخشبة في عينه.

 

ثم لا يلبث غبطته أن يعود إلى الإدارة تـحت موضع «توزيع الوظائف والـمنافع العامة» فيتكلم في هذا الباب كلاماً عادياً لا يتناول سوى الطلب من «أرباب السلطة»، الذين هم من نتائج الـمدرسة السياسية العتيقة التي لا يرى غبطته وجوب تغييرها، ومن النفسية والعقلية القديـمتين اللتين يؤيد غبطته بقاءهما بـمحاربته الـحزب القومي وتعاليمه، أن يعدلوا في «توزيع الـمنافع والـخدم دون مراعاة الـحزبية أو الطائفية» أي دون تـحيز كل واحد منهم لـحزبيته أو طائفيته، وهو ما لا يتم إلا بنفي الـحزبية الشخصية والطائفية السياسية، ونفيهما لا يتم إلا بواسطة التعاليم القومية التي جاء بها الـحزب القومي.

 

أما قول غبطته: «نظراً للتعصب الديني والطائفي عند أغلب الناس لا يرتاح لبنان إلا إذا أعطيت كل طائفة حقها من الوظائف والـمنافع العامة بـموجب نظام مفصّل»، فإرضاء للتعصب الديني والطائفي لا يؤمّن الإدارة ولا يفيد الشعب.

 

وتـحت باب «توزيع الوظائف والـمنافع العامة» يعرض غبطته لشيء من نظام الدولة الـمالي والضرائب وجبايتها فيقول بتعديل فيه لـمصلحة الفقراء والإيرادات التي لا تتجاوز القيام بأود العائلة. ومحصّل هذا الكلام قليل غير واف.

 

 

7 - الـحقوق الـمدنية والسياسية

 

ينتقل بنا غبطة البطريرك من الـمسائل الإدارية والـمالية الواردة في باب الوظائف والـمنافع إلى باب «الـحرية» الذي يتناول فيـه الـحقـوق الـمدنيـة والسياسيـة وشيئاً من النظـام الاقتصـادي.

 

يبتدىء غبطته الكلام في هذا الباب بالـخروج عن دائرة الدولة إلى فضاء الـمطلقات فيقول «الـحرية هي حق طبيعي للإنسان.» وبعد كلام قليل على هذا الـحق الـمطلق، الذي يتخذ الفرد أساساً له، يعود إلى دائرة الاجتماع والاقتصاد فيقول:

 

«فلكل إنسان أن يختص بثمرة أتعابه وجهوده ويستفيد منها وله حق الاستملاك بـما جنت يداه وأيدي والديه وذوي أقربائه. فعلى الـحكومة أن تـمنع العبودية وتصون الأملاك الـخاصة.»

 

ولسنا ندري تـماماً ما يقصد غبطته بقوله «الأملاك الـخاصة» وهل يدخل في بابها الإقطاع الـمدني، كقرى الأمراء والشيوخ والبكوات، والإقطاع الديني، كالأوقاف الـمترامية الأطراف؟

 

إنّ نظرية أنّ الفرد أساس في الـمجتمع وأنّ النظام الاجتماعي السياسي هو عبارة عن مقاولة أو اتفاقية اجتماعية نظرية عتيقة من التفكير الأولي. ولسنا نريد هنا أن ندخل في موضوع علم اجتماع بحت أو فلسفة اجتماعية عامة، فنقتصر على هذه اللمحة لنتناول الـمسائل القريبة التي عرض لها غبطته في باب الـحرية ولها مساس عظيم بالـمجاري الفكرية السياسية والوضع الراهن الذي يتصدى غبطته لـمعالـجته وبالقضية القومية عامة التي نعمل لها. نبتدىء بقول غبطته: «والإنسان حر أن يعتقد بـما يشاء، ولكن ليس له أن يرغم غيره على اعتناق ما يعتقد به هو ولا أن ينشر مبادىء فاسدة تعود بالضرر على الآخرين.» ونريد أن نأخذ أولاً الـجزء الأول من هذه العبارة الـمتعلق بحرّية الاعتقاد وعدم إرغام الغير على اعتناق الـمعتقدات.

 

بهذا الاعتقاد وهذا القول ينقض غبطته القول بـمحاربة الـحزب القومي من أجل عقيدته، خصوصاً وأنّ مبادىء الـحزب القومي انتشرت بواسطة الاقتناع الفكري الوجداني، لا بواسطة الإرغام. أما الإرغام فيكون بـمحاربة الاعتقادات الفكرية الوجدانية وإرغام أصحابها على تركها واعتناق عقائد أخرى يقول بها الغير، كما جرى في اضطهاد غليليو حين أعلن اقتناعه بكروية الأرض وأنها تدور حول الشمس، لا أنّ الشمس تدور حول الأرض. فإن هذه الـحقيقة، التي أصبحت مسلّماً بها تسليماً عاماً، كانت تخالف في ذلك العصر الـمظلم الاعتقاد بدوران الشمس حول الأرض، وتخالف قصة إيقاف يشوع بن نون الشمس عن دورانها ليتم انتصار بني إسرائيل. وعلى أساس هذه القصة وغيرها قام الاعتقاد الديني التقليدي القديـم يرغم صاحب الاعتقاد الـجديد على ترك اعتقاده الصحيح والعودة إلى اعتناق الاعتقاد القديـم الفاسد.

 

وبعد، فالـمسألة ليست بهذه البساطة العامة، لأنها في موضوعنا الـحاضر، تتعلق بالنظام السياسي الذي نحيا فيه. فيجب أن نـجلبها من هذه البساطة الـمطلقة إلى نطاق الـمجتمع الـمعيّن والـحقوق الأساسية التي تـحفظ نظامه، وهي الـحقوق الـمدنية التي يتمتع بها الفرد بصفة كونه عضواً عاملاً في النظام السياسي الاجتماعي الذي يعيش فيه. ففي نظام ديـموقراطي كالنظام الذي يقال إنه سائد في هذه البقعة أو الـمنطقة الصغيرة، هنالك حقوق مقدسة هي حقوق العضوية التي تبيح لكل عضو من أعضاء هذه الـجمعية، التي هي الدولة اللبنانية حق التفكير وحق الاعتقاد وحق نقل الاعتقاد إلى رفيقه وحق التصريح باعتقاده وآرائه وحق الاجتماع للمداولة في العقائد والآراء وحق تكوين رأي في الـحكومة وفي أشكالها ونقل هذا الرأي إلى عضو أو أعضاء آخرين، فيفسح الـمجال أمام الشعب للتطور نحو أفضل النظم وأقْوَم الـمبادىء وأصلح الـحالات. فإذا جرى تدخّل من قبل فرد أو أفراد بلغوا إلى الـحكم بواسطة أعضاء الدولة الذين انتخبوا هؤلاء الأفراد هيئة إدارية عليا بقصد تعطيل هذه الـحقوق الـمقدسة، كانوا طغاة ظالـمين يدوسون الـحقوق عينها التي أوصلتهم إلى الـحكم. وهو ما يريده ويؤيده غبطته حين يقول بعد ما تقدم في الباب نفسه «ولكنها (الـحكومة) حرة أن تقاوم الـمذاهب السياسية... وكل ما ترى منه ضرراً للشعب.» وهذه العبارة خطرة جداً، لأنها تقول بإطلاق يد الـحكام في مقاومة الـمذاهب السياسية الضرورية لارتقاء الـمجتمع، خصوصاً هذه العبارة الـخطيرة «وكل ما ترى منه ضرراً للشعب.» فمن أين تـجيء حكومة عادية، انتخبت لتسيير النظام الـموضوع ومعالـجة الشؤون العارضة، بالـحكمة الإلهية لـمعرفة ما هي الـمذاهب السياسية التي يجب أن تقاومها وترغمها، وما هي الـمذاهب السياسية التي يجب عليها أن تشجعها؟ وما هي السلطة العليا التي تـمنح الـحكومة حق رؤية ما فيه ضرر للشعب وما ليس فيه ضرر وهي لم تُنتخب من الشعب لتكون حكومة مطلقة تتخذ التدابير التي تراها هي موافقة؟ فإذا سئلت عما تفعل أجابت بعبارة غبطته الكبيرة: «رأيت في هذا ضرراً للشعب. ورأيت في ذاك خيراً له.» وكيف يجوز لغبطة البطريرك بعد إقرار هذا الـمبدأ الـخطر أن يطلب محاسبة الـحكومة أو مؤاخذتها لأنها فعلت حسبما رأت؟

 

قد يعطي الشعب حكومة واحدة معينة انتداباً مطلقاً يسلّم فيه إليها حق فعل ما تراه مناسباً لـخير الأمة وارتقائها، لأنه يثق بها ثقة مطلقة. إذ لا يجوز أن يقوم الـحكم الـمطلق إلا على أساس الثقة الـمطلقة. أما أن تطلق حكومة مقيدة يدها في تدابيرها فمبدأ يعود بنا إلى عبودية العصور الـمظلمة.

 

هل يريد غبطة البطريرك أن يجرّم القوميين اللبنانيين، الذين يعملون بعقيدة يقتنعون اقتناعاً تاماً بأنها تؤدي إلى خير اللبنانيين وارتقائهم، ظلماً وعدواناً من أجل عقيدتهم ومن أجل أنهم استعملوا حقهم في حرية الاعتقاد؟

 

أيريد غبطته من حكومة قائمة على دورة انتخابية لأمد قصير أن تـحتكر الفكر في الدولة، فتمنع أعضاء الدولة من توليد أفكار تعجز الـحكومة عن توليدها، وتـمنع الـحيوية الفكرية ضمن نطاق الدولة؟ وما هو مصير الدولة التي تـمنع حيوية الفكر؟ أفكر غبطته في هذه الـمسائل حين ألقى هذه العبارات الـخطيرة؟

 

أما قوله «وليس للإنسان أن ينشر مبادىء فاسدة تعود بالضرر على الآخرين»، فكلام يخرجنا من دائرة النظام السياسي ويعود بنا إلى العالم الواسع، لأنه في الدولة لا يوجد آخرون إلا في الـحقوق والأحوال الشخصية. أما في الـحقوق الـمدنية والسياسية فهنالك الـمجموع فقط، الأمة التي يجب النظر في سلامتها وفلاحها قبل النظر في سلامة «الآخرين وفلاحهم».

 

وأما قوله «مبادىء فاسدة» فالفاسد من الصالح يتعين بالـحرية، لا بالعبودية.

 

وفي هذا الـمقدار كفاية في هذا الباب، فلا نحتاج إلى دخول نطاق الفلسفة الـحقوقية وتاريخ نشوء الـحقوق وتطورها. وقد كدنا نحتاج لذلك بفضل الـمتناقضات الأساسية في خطاب غبطته.

 

 

8 - الاجتماع

 

يتقدم بنا غبطة البطريرك من باب الـحقوق الـمدنية والسياسية إلى باب الاجتماع فيطرقه بعنوان «البغاء».

 

في هذا الباب يبني لنا غبطته الاجتماع على الدين فيقول: «الزواج هو ترتيب إلهي غـايته إيجـاد ألفة بشرية وحفظ النسل البشري.» ثم يورد غبطته هذه العبارة الـمطلقة: «والإحصاء يثبت لنا أنّ بين الذكور والإناث نسبة تكاد تكون متساوية، لأن الذكور هم أكثر من الإناث بنحو العشر. فيتلخص من ذلك أنّ الذكر من الإنسان لا يكون له إلا امرأة واحدة والأنثى لا يكون لها إلا ذكر واحد»، بصرف النظر عن زيادة العشر من الذكور.

 

في الـمطلقات والعموميات يصبح الكلام سهلاً جداً ويهون إيجاد الـحلول الكلامية وتنعكس الآية متى بدأ الـمرء ينزل من جو الـمطلقات إلى أرض الـحقيقة الواقعة.

 

فإذا سلّمنا بأن الثابت من الإحصاء هو ما ذكره غبطته، وصرفنا النظر عن الإحصاءات الـموضوعة لكل بلاد على حدة في مختلف الظروف، وأخذنا مئة وعشرة رجال لـمئة امرأة وتزوج مئة رجل الـمئة من النساء، فكيف تنحلّ معضلة العشرة من الرجال الذين لا نساء لهم؟

 

ومع أنّ مسألة الزواج لم تعد في عصرنا هذا مسألة مجرّد ذكورة وأنوثة، بل مسألة معقدة تدخل فيها عوامل نفسية واقتصادية واجتماعية عديدة، فإننا نريد جدلاً أن نقتصر على الوجهة العددية من الـموضوع. فالإحصاءات بعد الـحرب تسجل اختلالاً كبيراً في الـموازنات العددية بين الذكور والإناث، فلا يكون لكل رجل امرأة ولا يكون لكل امرأة رجل، فيختل الترتيب الإلهي وتضطرب الألفة البشرية.

 

وما كان أغنى غبطته عن الدخول في باب الإحصاءات لتشجيع الزواج ومقاومة البغاء. فلو اقتصر على بيان مضار البغاء الأخلاقية والنفسية، فضلاً عن الـمضار الـجسدية والـمادية، مع بيان فضائل الزواج والعائلة، لوفى الـموضوع حقه في هذا الباب. ولم يفتح قضية الأحوال الشخصية من أساسها، ومعضلة الاجتماع الكبرى التي نواجهها في بلادنا، وعندنا من أسبابها الشيء الكثير الـمستمد من تقاليدنا الاجتماعية وجمودنا السياسي والاجتماعي وظروفنا الاقتصادية، وما ينطوي تـحت ذلك من أسباب فرعية كالـمهاجرة وتقييد الـحريات الاجتماعية وتقاليد الزواج من صدقة ومهر وما إلى ذلك.

 

إننا نرى رأي غبطته في فساد البغاء ولكننا لا نرى العلاج الذي يصفه كافياً لاستئصال الفساد. فالتطهر من البغاء لا يتم «بالـمنع»، بل بإعادة النظر في الشيء الكثير من أحوالنا الاجتماعية وتعديل شؤوننا الاجتماعية والاقتصادية وإيجاد التربية الصحيحة، خصوصاً التربية القومية التي تغرس الفضائل القومية في النفوس وتهيّىء الأسباب الكافية لرفع الـمجتمع إلى مستوى أفضل من مستواه الـحالي من الوجهة الاجتماعية والـمناقبية. وهذا من جملة الشؤون الهامة التي تعنى بـمعالـجتها الثقافة القومية، التي جاء بها الـحزب القومي.

 

9 - التربية القومية

 

يقول غبطة البطريرك بوجوب العناية بالتربية التي يجعلها موضوعه الثامن بعنوان: «التربية الوطنية». وفي هذا الباب يبتدىء غبطته بقاعدة مطلقة كقوله: «إنّ الطفل يخلق خالي الـمعرفة من كل شيء.» ويأخذ عن مار أفرام السوري شكره لله على ولادته في بيت أهله مسيحيون ليخرج مسيحياً، ليدل على مبلغ تأثير التربية ونتائجها. وقول غبطته إنّ من تربى في وسط مسيحي ينشأ ويبقى مسيحياً، ومن تربى في وسط إسلامي ينشأ ويبقى مسلماً، يوافق قول الشاعر السوري الـخالد الـمعري القائل:

 

ويــنشــأ نـاشـىء الـفـتـيــان مـنــا

                                            عــلـــى مـــا كـــان عـــوّده أبــــوه

وطــفــل الــفـارســــي لـــه ولاة

                                            بــأفـــعـــال الـــتـمــجّــس درّبـــوه

 

 

وغبطته يريد أن تبقى التربية القومية مقسمة بين الأديان الـمتعددة. ويقول إنه لا يجوز للحكومة أن تؤسس أو تشجع تأسيس مدارس لا دينية، أي علمانية. وإنه يجب على الـحكومة أن تكِلَ لرجال الدين التعليم الـمدني أيضاً. فنخرج من نصائح غبطته بتربية دينية، مذهبية، طائفية، لا قومية تزيد مصائب الـميعان القومي النازلة بنا، فلا نكون أمة واحدة مطلقاً، ويظل مصيرنا مربوطاً باستفادة الأجنبي من انقساماتنا الدينية.

 

ثم ينتقل غبطته في الباب نفسه إلى معالـجة مسألة التعليم من وجهة دينية بحتة فيسمح لنفسه أن «يضحك من اعتراض بعضهم على الـمنح الـمدرسية»، ويختم باب «التربية الوطنية» بهذه الصورة الدينية الرائعة:

 

«فالـمسيحيون يجوزون عن الـمنح الـمدرسية إذا كانوا ينصفونهم في غيرها وهم لا يرومون إلا عدلاً في توزيع الـمنافع العامة. وإذا سكتوا وغيرهم ضج فسكوتهم لا يُعدُّ رضى واكتفاء بـما لهم. وضجيج الغير لا يعبّر عن حقوق مبخوسة، بل عن زيادة في الطمع وعن قحة لا تعرف الـخجل.»

 

 

10 - الـختام

 

يختم غبطة البطريرك خطابه بتلخيص الـمطالب التي عرض لها في خطابه وما يعدّه واجبات الـحكومة التي يقتصر على ما ذكره منها ويهمل «واجبات أخرى» لا لسبب جوهري في مثل هذا الـموقف، بل «حذراً من ملل السامعين». ثم يبدي خشية من ذهاب نصائح غبطته في سبيل النصائح السابقة ورجاء أن تكون نصائحه هذه الـمرة ذات فاعلية لدى أرباب الأمر «إذا كانوا يريدون نـجاحهم الـمستمر وخير الشعب.»

 

 

يا صاحب الغبطة

 

ترون من تشريحنا خطابكم مبلغ الفرق العظيم بين معالـجة الشؤون الروحية، التي انحطت كثيراً هذه الأيام من إهمال رجال الدين العمل ضمن نطاق اختصاصهم واهتمامهم بأمور الدولة، ومعالـجة الشؤون الزمنية التي تتطلب اختصاصاً غير اختصاص رجال الدين.

 

وقد رأينا، يا صاحب الغبطة، أنكم دافعتم عن أحزاب، ولدت عند رتاج الـمقام البطريركي، مستعدة لتكون دائماً صنيعة الـمشيئـة الدينيـة في أمـور الدولـة. فهي لا تترك فرصة تـمرّ إلا وأظهرت تـمسكها بـمقامكم. إننا نترك لغبطتكم تقدير مبلغ الرجاء بهـذه الأحـزاب.

 

ثم إنكم، يا صاحب الغبطة، هاجمتم، في خطابكم، حزبين: الواحد منهما حر منذ ولادته لا يخضع ولا يخنع، لأن رسالته هي رسالة القوة والنصر، هو الـحزب السوري القومي، الذي لم تكن حملتكم هذه عليه أول حملة مقدسة تسوقونها ضده، وتشرّف بـمواجهة الاضطهادات من كل لون وصنف في سبيل قضية الأمة والتغلب عليها. والثاني عبد منذ ولادته، لأن رسالته هي رسالة الضعف والاستسلام والانقياد للإرادات الأجنبية.

 

إنّ الـحزب العبد قد أعلن خضوعه بعد حملة غبطتكم عليه[2] ، لأنه لا ثقة له بنفسه، فإذا شئتم أن تضموا بين طيات أثوابكم أفاعٍ سامة لا تدرون متى تنفث سمومها بكم فضموا الشيوعيين إليكم واقبلوا خضوعهم واشملوهم برعايتكم.

 

أما الـحزب الـحر فيظل يناضل في سبيل الـحق حتى يتم له النصر. وبانتصار الـحزب الـحر لا خوف على الذين يعملون الصلاح ولا هم يحزنون.

                                                                                                                      أنطون سعاده

 


[1] مسعد،الـخوري بولس،مؤلف كتاب «سورية ولبنان،قبل الانتداب وبعده» الـمنشور في مصر عام 1929.             

 

[2]  إشارة إلى الـجواب الذي وضعه سكرتير الـحزب الشيوعي في لبنان، وأعلن فيه أنّ الشيوعيين أبناء بررة للبطريرك والـمقام البطريركي.    

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro