مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ملحق رقم 1 مذكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى مؤتمر الإسكندرية المنعقد بتاريخ 1944
 
 
 
مجلة العالم العربي 10/ 5/ 1945
 

مقدمة

 

 

أثناء انعقاد مؤتـمر مشاورات الإسكندرية عام 1944 الذي انبثقت عنه الـجامعة العربية، تقدم الـحزب السوري القومي الاجتماعي من الـمؤتمر بـمذكرة شاملة يعالج فيها القضية العربية ويحدد أسس التعاون العربي على ضوء مفاهيمه ونظرته، وكان بذلك الـحزب الوحيد في العالم العربي كله الذي تقدم بـمذكرة.

 

في هذه الـمذكرة لفت أنظار الـمؤتـمرين إلى أن كون العالم العربي بيئات طبيعية اجتماعية متعددة يحتم على المنظمة العربية المشتركة أن تضع في صلب أهدافها تسهيل تحقيق كل بيئة طبيعية اجتماعية لوحدتها وسيادتها وأن كون العالم العربي عالـماً يشترك في روابط ومصالح أساسية يحتم أن تتركز أسس التعاون العربي على توحيد في شؤون الثقافة والدفاع والـخارجية في ما بين بيآتها الطبيعية، وقد فصل الـحزب في مذكرته القاعدة التي يراها كفيلة بالوصول إلى التوحيد في شؤون الثقافة والاقتصاد والدفاع والـخارجية فيما بين العرب جميعاً وهي شؤون الـحياة الأساسية الهامة.

 

والـحزب السوري القومي الاجتماعي في مذكرته هذه إنـما كان عاملاً بوحي مبادئه وتعاليمه التي أقسم كل قومي اجتماعي أن يتخذها إيـماناً له ولعائلته وشعاراً لبيته.

 

 

فكرة الوحدة العربية

 

عند نشوء جامعة الدول العربية

 

 

 

قبل تتبع سير الـجهود التي أدت إلى تأليف جامعة الدول العربية يجدر بنا أن نقف على اتـجاهات الفكر العربي التي في جوها تـحققت أول خطوة نحو ما يسمونه «الوحدة العربية».

 

«العالم العربي، من الـمحيط الهندي إلى بحر الظلمات، أمة واحدة»

 

«العالم العربي مجموعة أمـم شقيقة»

 

«العالم العربي...قد يكون أمة واحدة أو أمـماً شقيقة، ولكن الـمحقق أن لبنان أمة تامة»

 

إن هذه الـمبادئ الثلاثة تـحدد الـمواقف الثلاثة التي وقفها الفكر العربي ولا يزال، من قضية الوحدة العربية. إذ هي التي توحي وتعين القالب السياسي الذي يرغب كل فريق أن يصب فيه العلاقات التي يجب أن تربط أجزاء العالم العربي.

 

فالقائلون «بالأمة العربية الواحدة» يطمحون إلى إنشاء دولة عربية واحدة، مركزية أو لا مركزية يشمل سلطانها جميع الأقطار العربية، غير أنهم يتساهلون فيقبلون أن تتحقق هذه الوحدة السياسية على مراحل متعددة، تدريجياً.

 

والقائلون «بالأمـم العربية الشقيقة» يطمحون إلى إنشاء دول عربية مستقلة تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً على أن لا يـمس هذا التعاون الاستقلال الداخلي التام الذي يجب أن تتمتع به وتـحافظ عليه كل أمة من هذه الأمـم.

 

والقائلون «بالأمة اللبنانية» يطمحون إلى استقلال لبنان استقلالاً تاماً، داخلياً وخارجياً، ويقبلون بعقد اتفاقات مع البلاد العربية على أن لا تـمس هذه الاتفاقات استقلال لبنان الداخلي والـخارجي.

 

وها أننا نورد بعض النصوص التي تعبر عن هذه الـمواقف الثلاثة وتـمثلها أحسن تـمثيل.

 

الوحدة التامة

 

يـمكننا القول أن هذا الرأي هو الرأي «العام» في أكثرية الأقطار العربية. وقد يكون أصدق تعبير عنه هذا الـمقطع من برنامج الـمؤتـمر الأول للطلاب العرب في أوروبا الـمنعقد في بروكسل سنة 1938:

 

«لا يـمكن أن يكون الـحلف (Entente) أو الائتلاف (Confédération) نظاماً نهائياً نرضى أن تستقر عليه العلائق التي تربط البلاد العربية. ذلك بأننا نعتبر العرب أمة واحدة وقوماً بذاته، أن فرَّقه الاستبداد والإثرة ليسهل ابتلاعه وهضم حقوقه واغتصاب خيراته، فلا تزال عناصر القومية فيه واحدة، ويريد اليوم أن يحيا الـحياة الطيبة التي يختار، وأن ينبعث في العالم من جديد قوماً واحداً، لا شيعاً وقبائل عدداً، وذلك كله يحتم عليه أن يختار أحد النظامين: الوحدة (Etat Unitaire) أو الاتـحاد (Fédération)...غير أن اتساع رقعة البلاد العربية والـخصائص الاجتماعية والطبيعية التي تـميز كل قطر من الآخر، يجعلاننا نفضل الاتـحاد على الوحدة نظاماً نهائياً نرضى أن يحدد علاقات البلاد العربية بعضها ببعض. أما تفصيل القوى التي تعود للسلطة الاتـحادية، والسلطات التي تـمارسها الدول الـمؤلفة للإتـحاد، وأما الـخوض في عاصمة ذلك الاتـحاد، وفي رئاسته، فأمور ثانوية، البحث فيها سابق لأوانه ولا فائدة منه»(كتاب الـمؤتـمر ص 54 و55)

 

الإنعزال

 

 

إن هذا الرأي هو عقيدة فئة كبيرة من اللبنانيين نرى أن الـمقطع التالي من مقال للأستاذ يوسف السودا يعبّر تـماماً عن موقفها:

 

«كل دولة تريد الاحتفاظ باستقلالها وسيادتها غير مجزأة في حدودها ولا في استقلالها تـمتنع عن الدخول في أي شكل من أشكال الوحدة: لا وحدة مطلقة، ولا وحدة ذاتية، ولا وحدة دفاعية، ولا وحدة اندغام، ولا فدراسيون، ولا كونفدراسيون، ولا اتـحاد جمركي، بل هي تقتصر على تصريف شؤونها مع جيرانها باتفاقات تـجري بين دولة سيدة وأخرى لـمدة موقتة، قابلة للتجديد، لا يترتب عليها أي تنقص في السيادة أو تـحويل للسلطة» (مجلة الـمكشوف في 2 يناير 1944).

 

التعاون التام

 

 

يقول بهذا الرأي في بلاد الشام الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي مصر معظم الـمفكرين القوميين، وله أنصار في مختلف الأقطار العربية الأخرى. وهذه الـمذكرة الـمقدمة من قبل الـحزب السوري القومي الاجتماعي إلى مؤتـمر اللجنة التحضيرية للمؤتـمر العربي في الاسكندرية. وفي هذا الـمقال للدكتور طه حسين يدلان على هذا الـموقف الدلالة الكافية:

 

 

مذكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي

 

في هذه الفترة من التاريخ، إذ تتحفز القوى البشرية الكامنة- من روحية رمادية- للتفاعل، وتصطرع الـمجاميع في سبيل تقرير الاتـجاهات، وتـجند الـمصالح والآمال: في هذه الفترة الـحاسمة من موجة الزمن الـحالية، يتوثب العالم العربي بأسره، ليقر حقه في الـحياة وفي التعبير، وليوجد تلك الـحالات والظروف التي تـمكنه من أن يستطيع- دون كبت روحي أو ضغط مادي- من أن يسمع العالم رسالته، ويوضع حجره في بناء الـحضارة.

 

ما هي إذن تلك الـخطة؟ ما هو السبيل؟ وما هو الشكل الذي يتم للعالم العربي بـموجبه أن يقدم رسالته الآن، إذ ينشأ فصل من التاريخ خصب وجبار؟

 

وما هي، بين أمـم العالم العربي، الـمظاهر التي يتوجب تفهمها وتعزيز وزنها قبل استطاعة الوصول إلى موقف اجمالي شامل، يعالج «الكليات» العربية قبل «الـجزئيات»؟ وإذ يتم لنا إلقاء النور على تلك الـخاصيات، الـمميزة والـمشتركة، والتعرف إلى القابليات والنتاج الـمادي والفكري، نستطيع أن نقرر لـماذا وكيف نتقدم إلى تبني شكل أو أشكال، اجتماعية وسياسية، من شأنها أن تؤول إلى تـجسد آمال الأمـم العربية وإنـماء قواها الظاهرة والكامنة.

 

 

العالم العربي في وضعه الراهن

 

 

يواجه العالم العربي مشاكل سياسية، واجتماعية، واقتصادية تنبثق عن الوضع الراهن فيه، ولا يـمكن البحث في هذه الـمشاكل وحلها، إلا على ضوء تـحليل أوضاعه القائمة.

 

 

العالم العربي والأمـم العربية

 

 

العالم العربي هو مجموعة من أمـم «تتميز» من الناحية الواحدة إحداها عن الأخريات، «وتشترك» من الناحية الثانية، في صفات ومصالح. وقضايا العالم العربي ومشاكله منشؤها هذا التميز القائم من ضمن الاشتراك.

 

(1) من الـجهة الواحدة، إن العالم العربي قوامه عدد من الأمـم تتمتع كل منها بكيان منفصل بعض الإنفصال عن الأمـم الأخرى، وتقوم في كل منها دورة اقتصادية خاصة، وذات مستوى رقي خاص، تديرها أجهزة حكومية تتميز عن حكومات الأمـم الشقيقة في شكلها، وفي مدى سيادتها. وهذا الإنفصال، وما ينجم عنه من التميز، الاجتماعي الاقتصادي السياسي، هو حقيقة راهنة وأساسية في وضع العالم العربي الراهن، تشكل عنصراً من العناصر التي تعين نوع الـمشاكل التي يواجهها

 

(2) الـجهة الأخرى، أن أمـم العالم العربي هذه تشترك وترتبط معاً بروابط، فوق انفصالها وتـميزها، تفرض عليها مقداراً من الـمصير الـمشترك وتكسبها صبغة مـميزة إزاء العالم الـخارجي، على الرغم من تباينها الداخلي. لذلك فهذا الاشتراك والارتباط، الاجتماعي الاقتصادي، هو أيضاً حقيقة راهنة وأساسية في وضع العالم العربي، لا يقل أهمية عن عنصر التميز الـمار ذكره.

 

وبين تفاؤل هاتين الـميزتين من مزايا الوضع القائم في العالم العربي- الانفصال والتميز من جهة، والارتباط والاشتراك من جهة أخرى- تنشأ الـمشاكل الـمعقدة التي تواجهها كل أمة من أمـمه على حدة، ويوجهها مجتمعاً.

 

 

التمييز بين الـمشاكل الـمحلية والـمشتركة

 

 

ولهذا نرى أن قضية العالم العربي هي كتلة قضايا- منها ما هو «محلي» خاص بكل أمة من أمـمه، يعنيها ولا يعني سواها، ومنها ما هو مشترك بين سائر الأمـم العربية.

 

و«السوريون القوميون» إذ يفكرون بـمصير أمتهم ومصير العالم العربي عند التصفية الكبرى الـمقبلة حتماً بعد الـحرب، لا تلتبس عليهم مشاكل أمتهم الـمحلية بالـمشاكل الـمشتركة التي تربط مصيرهم بـمصير الأمـم العربية الشقيقة، كما أنه لا يغيب عن بالهم أن بعض مشاكلهم القومية الـخاصة قد تعدت أهميتها نطاق أمتهم، وأصبحت محور اهتمام العالم العربي بأسره، وعلى أساس هذا التمييز بين الـمشاكل، يعيّن السوريون القوميون رأيهم في معالـجتها، وخططهم في العمل لـمجابهتها.

 

 

واجبات الأمـم العربية، مفردة ومجتمعة

 

 

النضال القومي- واجب كل أمة عربية:

 

أمام كل أمة من أمـم العالم العربي شوط طويل من النضال العنيف لاستكمال نضوجها القومي، وتقوية كيانها، وإكسابه ما تصبو إليه من «وحدة» و«سيادة» و«رقي».

 

فأمـم العالم العربي، مهما كان مبلغ تباينها في مقدار ما قد حققته في نفسها من هذه الصفات، تظل كلها بعيدة من الـمرحلة النهائية. ولهذا فعلى كل أمة عربية واجب رئيسي يجب أن توجه إليه جهود رجالها وقواهم، وأن تتركز حوله أعمالهم وآمالهم، هو واجب العمل الـمتواصل لتحقيق هذه الصفات على قياس أوسع- للإستزادة من «وحدتها» وتراصها الداخلي، ولبسط «سيادتها» على مرافقها الـحيوية، ولرفع مستوى «الرقي» في ربوعها.

 

إن أساس العمل الإصلاحي في العالم العربي هو في إصلاح كل أمة من أمـمه لنفسها. وأن البدء بـمعالجة مشاكل العالم العربي الكبرى لا يكون إلا في معالـجة مشاكل كل أمة من أمـمه. وهذه الـمشاكل تنحصر في كل أمة، في ثلاث رئيسية:

 

(1) وحدة الأمة داخلياً. وليست هذه الوحدة شأناً سياسياً فحسب، وتـحقيقها لا يعني إيجاد جهاز حكومي مركزي للأمة فقط. وإنـما هذه الوحدة بالـحري هي، في الـمقام الأول، وحدة الشعب في حياته: تراصه وتـماسكه فوق الـحواجز الـمتحجرة التي تفصل حياته، وتولد الـجفاء بين أبنائه، وعي الشعب لكيانه كشعب، قبل أن يكون طبقات وقبل أن يكون طوائف، وقبل أن يكون مجموعة من عشائر وقبائل. الوحدة التي ينبغي أن تتحقق في كل أمة هي وحدة الـحياة الاجتماعية ووحدة الـحياة الاقتصادية ضمن الأمة، فضلاً عن الوحدة السياسية.

 

(2) ىسيادة الأمة على مرافقها الـحيوية وانبثاق أعمالها الكبرى عن ارادتها هي الـمبتغية مصلحتها، وهذه، شرط أساسي ثان لتحقيق الكيان القومي الذي ينبغي أن تصبو إليه كل أمة.

 

(3) والرقي الشعبي- فضلاً عن الوحدة والسيادة- هو الواجب الثالث الـملقى على عاتق كل أمة. وهو ليس فقط رقياً في مظاهر الـحضارة، بل أنه بالـحري رقي شامل، يستمد من تاريخ الأمة وتاريخ العالم العربي الـمشترك مثله، ويسعى لاقتباس ما ينسجم مع هذه الـمثل من حضارة الغرب. هو رقي في مستوى التعليم، رقي في البناء والعمران، رقي في أساليب الصناعة والزراعة، رقي في تنظيم الـحياة الاقتصادية ومؤسسات التجارة، رقي في تـحسين طرق الـمواصلات، رقي في مستوى الصحة العامة، ورقي في مستوى ثقافة الفرد وتهذيبه، وهو أيضاً نسف للمفاسد القائمة حالياً في الـحياة الاجتماعية، وفي الاقتصاد والصناعة، وفي سائر نواحي الـحياة القومية.

 

هذه هي الأهداف الثلاثة، التي ينبغي أن توجه كل أمة عنايتها الـخاصة إلى تـحقيقها لكيما تغدو بالـحقيقة أمة ذات كيان، ولكيما يغدو العالم العربي بالـحقيقة مجموعة من أمـم حية في عالم حي، تستطيع أن يكون لكلمتها وزن في تقرير مصير نفسها ومصير العالم. ونضال كل أمة لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة يجب أن ينبثق في نوعه وصنفه وشكله، عن وضع تلك الأمة، عن مقدار «وحدتها» الـحالية ومدى «سيادة ومستوى رقيها».

 

 

 

«الـجبهة العربية»واجب الأمـم العربية الـمشترك-

 

 

ولكن، ولئن كان حجر الزاوية في مجابهة مشاكل العالم العربي، نضال كل أمة في سبيل تـحقيق كيانها القومي- وحدته وسيادته ورقيه- حسب وضعها الـخاص ومشاكلها الـمميزة، فإن هذا لا يعني إهمال الأعمال الـمشتركة التي يجب أن تقوم بها الأمـم العربية في سبيل توحيد كلمتها، وتأدية رسالتها في العالم. فنضال الأمـم العربية القومي يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع تكاتفها واشتراكها في العمل. وذلك لأن هذه الأمـم، بالرغم من كون كل منها ذات وجود منفصل، تشترك معاً ضمن العالم العربي اشتراكاً يفرض عليها الـمصير الـمشترك.

 

ولهذا فلقد وضع «السوريون القوميون» نصب أعينهم منذ انبثاق حركتهم وتبلور وعيهم، هدف السعي لإيجاد جبهة من الأمـم العربية «يكون لها وزن كبير في إقرار الـمسائل السياسية الكبرى» واعتبروا هذا الهدف جزءاً متمماً لغايتهم السياسية وبناء على هذا الهدف قال زعيمهم في خطاب أول مارس/آذار سنة 1938 ما يلي.

 

«فإنشاء جبهة عربية هو دعوة الـحزب السوري القومي إلى أمـم العالم العربي التي يهمها الأمر لتأليف جبهة على أساس الـمصالح الـمشتركة الـمعينة فيما بينهن...ويتم تأليف الـجبهة بتفاهم هذه الأمـم بواسطة مؤتـمر تمثل فيه».

 

فلقد جاءت ظروف الـحرب الـحالية ونتائجها مصداقاً لرأيهم هذا، فيما أظهرته من ضرورة تكاتف الأمـم الـمرتبطة معاً بروابط الـمصلحة الـمشتركة، وفيما بينته من استحالة قيام الأمـم الصغيرة ونضالها في معزل عن شقيقاتها أو جاراتها، وافتقارها إلى التعاون معها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. لقد ظهر جلياً، في اختبارات الـحرب الـحالية، إن القوى ذات الوزن كانت جبهات الأمـم، لا الأمـم الـمنعزلة. فمجموعة الأمـم البريطانية، والولايات الـمتحدة الأميركية )ومن ورائها مجموعة الدول الأميركية) واتـحاد الـجمهوريات السوفيتية، ودول أوروبا الـمتمركزة حول دولتي الـمحور- كل هذه إنـما كانت جبهات من الأمـم، متكاتفة ومترابطة على أسس اقتصادية وعسكرية واجتماعية. وما ظهرت قيمته في الـحرب ستظهر  قيمته بصورة أجلى في السلم عندما ينقلب هذا التعاون الـمتين، من حشد القوى في سبيل الصراع والدمار، إلى حشدها في سبيل التعمير والبناء. وإن مدى دوام السلم في العالم سيعتمد حتماً على الدرجة التي يستطيع فيها أن يحافظ على هذه الـجبهات، بعد زوال الـخطر الذي كان يحفزها إلى التعاون زمن الـحرب.

 

إذن- فقول «السوريين القوميين» سابقاً بضرورة الـجبهة العربية (استناداً منهم على اشتراك أمـم العالم العربي بكثير من الصفات والـمصالح التي تـجعل تعاونها مـمكناً بل واجباً، قد أيدته تـجارب العالم واختباراته في الـحرب حالياً، وستؤيده إلى صورة أبعد تـجارب العالم في السلم الـمقبل.

 

«والـجبهة العربية»، كما يراهما السوريون القوميون، هي الـموقف الصائب الذي يلتقي فيه موقفان متطرفان، فتتلاشى أخطاؤهما وينسجم ما بينهما معاً من صواب. إذ إنها من الـجهة الواحدة، تقضي على النزعة الـمتطرفة الإقليمية الإنعزالية، ومن الـجهة الثانية تقضي على النزعة الـخيالية التي تتجاهل الواقع وأحكام الواقع، وتنزع إلى تأسيس دولة عربية مركزية واحدة، لا تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الراهنة في الأمـم العربية الـمختلفة، ولا انفصال هذه الأمـم واختلاف مستوى رقيها وحياتها. النزعة الأولى تنسى الروابط الـمشتركة بين الأمـم العربية، وتنسى أن الأمـم الصغيرة لا أمل لها بالـحياة إلا من ضمن مجاميع الأمـم الـمشتركة، والنزعة الثانية تنسى الواقع، وتنسى أن الـخطط الوحيدة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي الـخطط الـممكنة التحقيق، الـمقيدة بالواقع ومقتضياته. أما موقف «الـجبهة العربية» الذي يقول به «السوريون القوميون». فيجمع الصواب في هاتين النزعتين: لأنه يحفظ لكل أمة عربية كيانها، في نفس الوقت الذي يعترف فيه بعناصر اشتراكها مع الأمـم العربية الأخرى، وبحاجتها الـملحة للتعاون مع هاته الأمـم.

 

ولهذا فإن تأسيس «الـجبهة العربية على أسس الاشتراك الـمفيد في الـحياة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، فضلاً عن النواحي الثقافية والاجتماعية، يجب أن يكون هدفاً تعمل كل أمة من أمـم العالم العربي على تـحقيقه، جنباً إلى جنب، مع عملها لتحقيق كيانها القومي والإستزادة من وحدتها وسيادتها ورقيها.

 

إلا أننا لن ندخل في هذه العجالة، في مقترحات تفصيلية، من حيث ماهية وشكل الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية والثقافية التي يتحتم ويستطاع توحيد موقف جبهة الأمم العربية بشأنها- فهي إجمالاً تشمل:(1) إستنباط مشروع لتطبيق نظام من الضمانة المجموعة، والدفاع المشترك عسكرياً. (2) توحيد التمثيل الخارجي، إذا أمكن، سياسياً. (3) عمل ترتيبات اقتصادية مشتركة، وسياسة اقتصادية ترسمها هيئة اقتصادية مركزية، تضع الخطط الرئيسية للإنتاج والتوزيع في العالم العربي بأسره، تتقيد في ذلك بإمكانيات وحاجات كل قطر- مما يؤدي  إلى تلافي «الإنتاج القسري» الذي تضطر كل أمة أن تلجأ  إليه بالرغم من عدم توفر الإمكانيات والظروف الـملائمة لديها، فيما لو لم تكن ثمة سيطرة مركزية مرشدة كهذه. ومن البديهي أن يكون للهيئة الـمركزية الـمشار إليها سلطة في تقرير السياسة الـجمركية الـمشتركة بين الأمـم العربية مفردة، وبينها والعالم الـخارجي. (4) ومن الناحية الاجتماعية والثقافية تشترك الأمـم العربية الـمنضمة إلى الـجبهة في برامج توجيهية، موحدة في خطوطها الأساسية، على الرغم من اصطباغها بـمميزات مجلية ناتـجة عن التفاوت في الـمستوى.

 

 

مشاكل الأمة السورية التي تعني العالم العربي

 

وحدة الأمة السورية وسيادتها

 

 

نتقدم الآن من بحثنا العام في تـحليل الـحالة الراهنة في العالم العربي، وما يرجى ويستطاع بصدد جبهة الأمـم العربية، إلى تقصي الإمكانيات والعثور على العقبات، فيواجهنا نوعان من الـمعاثر: أولهما تصادم الإرادات الـخارجية بإرادات الأمـم العربية، وثانيهما عدم توفر الوحدة، في الداخلية في الأمة السورية، مـما يكون مشكلة للأمة السورية وعقبة في سبيل تكوين «الـجبهة العربية: عامة.

 

وأما قضية الوحدة السورية هذه فمظهرها الأساسي فقدان السيادة السورية العامة في الوطن السوري، وبالتالي تـجزئة سورية ووجود أجزائها في حالات سياسية مختلفة، من مقدار حرمان السيادة، وما يلي ذلك من كبت روحي ثقافي واجتماعي واقتصادي. وهذا مـما يحرم الأمـم العربية الأخرى مـما كان يتم لسورية تقديـمه للأمـم الشقيقة، من نتاج مادي وروحي، وتعاون سياسي مجدٍ، فيما لو أتيح لقوى ومواهب أبنائها أن تتفاعل بحرية، وتأتي بثمارها خيرة، ذات جودة.

 

وأن قسط سورية من العمل في جبهة الأمـم العربية- ذلك القسط الذي يؤمن «السوريون القوميون»  عن ثقة وحق بأهميته ومداه، والذي يفرضونه على أنفسهم في دستورهم، واجباً يعملون له رغم كل العراقيل- إن هذا القسط لا يـمكن تأديته تـماماً إلا بعد توحيد أجزاء الوطن السوري وسيادة الأمة السورية في وطنها. إن رسالة الأمة السورية في العالم العربي- التي لا يتخلى عنها «السوريون القوميون»- لا يـمكن أن تنبثق إلا عن الأمة السورية متاحاً لها التفاعل الـمطلق في ربوع الوطن السوري. وليس هذا فحسب بل إن «السوريين القوميين» لـمقتنعون أن هذه الرسالة لا يـمكن تأديتها، بنفس الـخصب والغنى والقوة، من قبل أجزاء سورية منفصلة وأن تكن هذه ذات سيادة. فإن فقدان سياسة مركزة في سورية، تنتظم فيها وتنسجم كافة موارد الأمة السورية ومرافقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من شأنه أن يخفض إلى حد ملموس مقدرة سورية على الانتاج الـمعنوي والـمادي واستيعابها لرسالات الأمـم العربية الأخرى، وتفاعل هذه مع رسالة سوريا. وأننا نتيح لأنفسنا أن نفترض أن هذا الرأي العام البديهي لا يسمح بجدل ولا يفتقر لإثبات- بـمقدار ما يستغني البرهان ولنا أن مصر والعراق مثلاً، وكل منها بيئة جغرافية اجتماعية اقتصادية واحدة، تستطيع أن تؤمن موحدة أكثر مـما تستطيع جملة أجزائها.

 

إن «السوريين القوميين» يتمنون على العالم العربي أن يدرك أهمية رسالة سورية، وعدم استطاعة سورية تأديتها، ما لم يتم توحيد سورية، وبسط سيادتها في وطنها، وهم يثقون أن وعي الأمـم العربية، وإخلاصها لـمصالـحها الـمشتركة لن يسمح لها أن تغفل أن نيل سورية السيادة والوحدة شرط أساسي لإمكانية تكوين وبقاء جبهة عربية فعالة.

 

 

قضيتا الشمال والـجنوب في سورية

 

 

ثم إذا أتينا نستقصي الصعوبات القائمة في وجه تـحقيق السيادة والوحدة السورية اصطدمنا بـمشكلتين «جزئيتين» ضمن الوطن السوري، تتنازع في كل منها إرادة خارجية مع الأمة السورية ذات الـحق. ولذا فإن لهاتين القضيتين وزناً دولياً يكسبهما أهمية العالم العربي بأسره:-هما قضية كيليكيا والإسكندرون والـمطامع التركية الكامنة الـمتحفزة في سورية الشمالية، وقضية الصهيونية في سورية الـجنوبية. وقد وطدت الإرادة الـخارجية في كلتا الـحالتين أقدامها في صميم الوطن السوري وأخذت تـحاول توسيع تـمركزها بشكل يكشف النقاب عن مطامع طموحه.

 

أما خطورة هاتين القضيتين بالنسبة لسيادة سورية ووحدتها ورقيها فابلغ وأوضح وأشد من أن تبحث. ولهذا فإن لهاتين القضيتين، بحكم الواقع، أهمية أساسية في عرقلة تكوين وبناء «جبهة عربية» فعالة لا سيما وأنهما تقطعان مجرى تيار الـحياة في العالم العربي لدن مروره بسورية.

 

وقد أخذ الكثيرون على عاتقهم فيما مضى بحث القضيتين الـمشار إليهما في سبيل إيجاد حلول مناسبة. وكانت هذه الأبحاث- مع إخلاصها- لا تخلو- في مقادير وأبعاد متفاوتة، من أخطاء مبدئية أسسية وتفصيلية تطبيقية، يجمعها خطأ مشترك، هو النظر في كل من هاتين القضيتين بصفة مستقلة كقضية قائمة بذاتها، دون وضعها في مركزها الصميم داخل إطار القضية السورية العامة.

 

إن مصلحة الأمة السورية جمعاء،  وحقها في السيادة والوحدة، وإمكانية رقيها، كل هذه تتأثر مباشرة بـمصير الـجزئين السوريين الـمهددين في شمال سورية وجنوبها، وهذا يجعل السوريين القوميين يتشددون في التوكيد على ضرورة النظر في القضيتين الـمشار إليهما على ضوء القضية السورية عامة، ويجعل من القضيتين مسألتين كبيرتين تهمان العالم العربي عامة عن طريق تهديدهما لكيان الأمة السورية.

 

إن مصير شمال سورية وجنوبها جزء لا ينفصل عن مصير الأمة السورية. ولا تسمح الأمة السورية بالتغاضي عنه أو بالـمساومة في حله على حدة على حساب الـمصلحة السورية العليا.

 

 

خاتـمة

 

 

إن السوريين القوميين إذن يرون أن من واجب كل أمة من الأمـم العربية، في هذه الفترة من التاريخ العالـمي، أن تضع نصب أعينها- علاوة على نضالها القومي لاستكمال وحدتها الداخلية، وسيادتها الفعلية، ورقيها، هدف التعاون مع الأمـم العربية الشقيقة في سبيل تكوين «جبهة عربية» فعالة تعالج الـمصالح والشؤون الـمشتركة بينها، وتـجعل في الإمكان تعاونها معاً في النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.

 

وهم يرون أيضاً أن مشكلة وحدة الأمة السورية ونيلها السياة في وطنها- بـما في ذلك حل القضيتين الدوليتين القائمتين في شمال الوطن السوري وجنوبه- هي مشكلة تؤثر تأثيراً مباشراً في مصير الـجبهة العربية الـمنوي تكوينها، وتستحق أن يعيرها العالم العربي بأجمعه اهتماماً خاصاً.

 

وأن السوريين القوميين يأملون أن تتمكن سورية، لدن بعثها أمة موحدة حرة راقية، من أن تؤدي رسالتها وتقوم بقسطها من الـخدمة في العالم العربي، واثقة من واجبها في تقديم الـخدمة ومن حرص العالم العربي على أدائها الرسالة.

 

 

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro