مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
الدين والدولة
 
 
 
جريدة الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 36، 15/1/1942
 

 

رأينا في ما تقدم أنّ القصد من إقامة الدولة الإسلامية الـمحمدية هو إقامة الدين الإلهي في أرض كان أهلها لا يزالون في ضلال مبين عن الله وكلمته، فالدولة أنشئت لغرض الدين وليس الدين هو الذي أنشىء لغرض الدولة. وهذه القاعدة هي أساس كل فكرة دينية في الاجتماع والسياسة. ولا يـمكن أن يكون العكس إلا بهدم الفكرة الدينية الأساسية وإبطال الدين. فاستخدام الدين للدولة معناه أنّ الدين واسطة لا غاية. والواسطة تزول أمّا الغاية فتبقى. فإذا كان الدين واسطة فقد أصبح زائلاً بعد إقامة الدولة، أو على الأقل أصبح آلة ثنوية، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن ننظر إلى الاجتماع كأساس. وبناءً عليه لا يعود من الـممكن الاحتجاج بالآيات الدينية لتسيير الـمجتمع، لأن هذه الآيات تكون قد فقدت صفتها الدينية. وأقلّ نتيجة لهذه الطريقة التفكيرية هي القضاء على الدين. ولـمّا كان قصد رسالة محمد الدين وليس السياسة، أو فلسفة الاجتماع التي ترتقي بالعلوم الاجتماعية، فلا بد من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية، وأنّ قيمتها لا يـمكن أن تكون، من الوجهة الدينية، أكثر من قيمة واسطة. وبناءً عليه تكون الدولة الشيء الثنوي القابل للزوال عندما لا تبقى حاجة إليه شأن كل آلة أو واسطة أدّت الغرض من وجودها. وفي متاحف العالم الآلية قاطرات بخارية ومراكب من كل صنف قد أدّت خدمتها ولم تعد صالـحة للاستخدام لوجود آلات حديثة أحسن منها.

 

وكذلك في متاحف العالم الاجتماعية دول كثيرة معروضة لدرس تطور الاجتماع الإنساني، ولم تعد تصلح لغير ذلك، ومن جملتها الدولة الدينية التي أدّت غرضها من زمان وأصبح يوجد أحسن منها الآن لـخدمة الـمجتمع الإنساني، فلم يبقَ حاجة إليها لغير الدرس ومعرفة التاريخ.

 

الدولة الدينية الـمحمدية كان غرضها الوصول إلى إبادة عبادة الأصنام في العُربة، وإقامة دين الله وقد حققت هذا الغرض فبادت عبادة الأصنام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. والإسلام الـمحمدي هو اليوم دين يعتنقه ملايين الناس، ولا خطر عليه من صناديد قريش أو غيرهم. والإنسانية تسير اليوم على غير طريق التطاحن الديني، ومعظم الناس، وكل الـمتمدنين، يحترمون ويتعلمون احترام عقائد بعضهم البعض الـمتعلقة بالنفس والـخلود والله. والـمسلم الـمحمدي يقدر أن يـمارس دينه في أي قطر نزل فيه وإن يكن غير محمدي. ولولا اضطهاد قريش النبي والصحابة لـما كان هنالك سبب للهجرة إلى الـمدينة واستغلال ميل أهلها إلى منافسة قريش لإنشاء دولة محمدية تـحارب قريشاً وتخضعهم. فلما ثبّتت الدولة الدين تـمّ غرضها، وأصبح على الناس الاهتمام بشؤون دينهم الـجوهرية التي هي عبادة الله والسير حسب وصاياه. فلا قتال مع الذين لا يقاتلون الـمؤمنين، ولا إخراج لـمن لا يريد إخراجهم من ديارهم باسم الدين أو لغاية دينية: «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله»([1]).

 

هذا ما يجب أن يعلمه الـمسلمون الـمحمديون والـمسلمون الـمسيحيون والـمسلمون الدروز. والدروز قد أقفلوا باب الدعوة ليكون لكل إنسان ما اعتقد.

 

بيد أنّ رجال السياسة الشخصية الذين لا يهمّهم دين ولا دنيا إلا ما شاءت أهواؤهم، ورجال العلم القليل، يقولون بالعكس، ويحرّفون الكلم عن مواضعه ويؤوّلون الدين على حسب أهوائهم. وصاحبا مدرسة الرجوع إلى الدولة الدينية الـمحمدية وتلاميذهما أمثال السيد شكيب أرسلان يؤوّلون الآية: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»([2]) على هذه الوجهة السياسية «ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع الـمسلمون تنمية ملّتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» وهذا الاجتهاد باطل فالآية لا تقول «أن لا يدع الـمسلمون تنمية ملّتهم» (بالقتال ضمناً) بل أوجبت مقاتلة «الذين يقاتلونكم في الدين»([3]) وهذا الشرط هو سابق لـجميع آيات القتال، فهو شرط لها كلها. وما جاء بعد يجب فهمه بهذا الشرط وفي ظروفه. ولولا ذلك لأمكن القول إنّ جميع الـمحمديين الذين عاشوا منذ مئات السنين لا يقاتلون جيرانهم ولا يكرهونهم على الإسلام الـمحمدي هم كفار، وبذلك انتفاء وجود الـملّة الـمحمدية، وهو قول باطل لكل متدبر للقرآن، غير آخذ ببعضه دون بعض. وقد قال صاحبا العروة الوثقى هذا القول الباطل بهذا الشكل: «كل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله». فمن هو الذي يهاجم الله اليوم؟ «إنّ الله قد اشترى من الـمؤمنين أنفسهم»([4]) لإقامة الدين والكتاب حيث لا دين ولا كتاب. وفيما سوى ذلك فإن الله «غني عن العالـمين ومن جاهد فإنـما يجاهد لنفسه». أما قولهما «فما لنا نرى الأجانب يصولون البلاد الإسلامية صولة بعد صولة» فهو محال، لأن الأجانب لم يختصوا ولا يختصون بلاد الـمحمديين بالصولة عليها، بل يصولون على كل بلاد أمكنهم إخضاعها، مسيحية كانت أو محمدية أو بوذية أو برهمانية أو غير ذلك. إنهم لا يقاتلون في الدين.

 

إنّ هؤلاء الذين لا يتدبرون الدين ينقضون الدين بتسخيره للدولة، غير مهتمين إلا بالنصوص الدولية التي وجدت لغرض معيّن قد تـمّ. ثم يحتجون بالدين لإقامة سفسطتهم. فكأنهم يريدون من الدين أن يوافقهم على إبطاله، أي أن ينتحر، بينما هم يدّعون أنّ في قتل الدين إحياء الدين! إنهم لا يفتأون يرددون مثل هذه الآية ترديد الببغاوات: «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه»([5]) والآية: «إنّ الدين عند الله الإسلام»([6]) والآية: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الـحق ليظهره على الدين كله»([7]). وقد رأينا في ما تقدم من هذه الـحلقات أنّ الإسلام ليس مختصاً بالـمحمديين، بل شاملاً أهل الكتاب من أيام إبراهيم. فالـموسويون مسلمون [لله] والـمسيحيون مسلمون لله والـمحمديون مسلمون لله. أمّا قوله: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الـحق ليظهره على الدين كله» فجواب على الذين قالوا إنه كذّاب، وتقوية لروح أتباعه وإن كان فيه متابعة لإنـجيل برنابا الذي كان في الـمسيحية أشبه بـمسيلمة في الـمحمدية، فقال إنّ يسـوع ليس الـمسيح ووضعه من الـمسيح، الذي سيأتي بعد، على رأيه، في مقام يوحنا الـمعمدان من الـمسيح وقال إنّ الـمسيح الذي يأتي بعد يسوع يدعى بـما يصح أن يترجم بـمحمد وإنه يكون فوق جميع الرسل. وفي كل حال لا ينقض هذا القول إنّ الله أنزل التوراة والإنـجيل وقوله: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنـجيل وما أُنزل إليكم من ربكم»([8]) وقوله: «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر (أسلم) وعمل صالـحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون»([9]) وقوله: «ولا تـجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»([10]). وهذه الآية الأخيرة هي من أواخر العهد الـمكي، أي بعد نحو ثلاث عشرة سنة من الاستنزال، وفيها نص صريح بأن الإسلام هو لإله واحد للمحمديين والـمسيحيين، فكل من آمن به فهو مسلم سواء أكان مسيحياً أو محمدياً. أمّا إنّ الله وعد بأنه يورث الـمؤمنين الأرض فمختص في هذه الدنيا بأرض الوثنيين، وفيما سوى ذلك فالـمقصود به الـجنة بعد الـموت: «وقالوا الـحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الـجنة حيث نشاء»([11]) فالأرض هي أرض الـجنة، وتأويل الوعد خلافاً لهذا النص الصريح إنـما هو مخالف لغرض الدين وإبعاد للمؤمنين عن طلب رضى الله بإقامة جوهر الدين الذي هو شيء روحي مرتفع عن القتال، وهوس الـحزبيات الـمعكّر على الـمؤمنين سكينتهم وإسلامهم لربهم «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يُجْزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. ومن يعمل من الصالـحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الـجنة ولا يظلمون نقيراً»([12]) فدخول الـجنة، في التعليم الديني، هو للذين اتقوا ربهم وعملوا الصالـحات، وليس للذين يطلبون قتال من لا يقاتلون في الدين بناءً على تأويل فاسد كالذي وجدناه في العروة الوثقى، وهو الذي يجعل الديانة الإسلامية ديانة فتنة واضطهاد وحرب بالقول إنّ أساسها وضع على طلب الغلبة ومنازعة كل ذي شوكة في شوكته، وهو قول فاسد، باطل. فالديانة الإسلامية وضع أساسها على عبادة الله واتقائه واستباق الـخيرات. أمّا الـحرب فقد فُرضت لرفع الاضطهاد ودفع الفتنة وليس لإلقاء الاضطهاد وإثارة الفتنة. هذا هو التأويل الصحيح لقوم يعقلون ولا يريدون إبطال الدين وتضحيته على مذبح السياسة والدولة أو تفكيك وحدة الدين التي لا تقوم ببعض آيات دون بعض. ولكن إذا كانت الدولة غايتهم القصوى، فلماذا يراؤون في الدين ويتظاهرون بالرجوع إلى الدين وكتاب الله؟ إنهم يـموّهون غاياتهم بادعاء أنهم يريدون إقامة دين الله. ألا إنّ دين الله قائم والله في غنى عن مقاصدهم. فبعد فتح مكة وإبادة عبادة الأصنام أصبح دين الله قائماً. وقد قلنا إنه لا خلاف ديني بين الإسلام الـمسيحي والإسلام الـمحمدي إلا في صفة يسوع وصفة محمد، فالـمسيحيون يعتقدون أنّ يسوع هو الـمخلص وأنه كلمة الله وروحه وأنه الله الـمتجسد في الإنسان،ولذلك هو أسمى من هبط من الـمحل الأرفع. والـمحمديون يعتقدون أنّ محمداً هو رسول الله الـمقدم على جميع الرسل ومن ضمنهم يسوع، وأنّ به الـخلاص، وهذا معنى قولهم «خاتـم النبيين»([13]). وهذا الاعتقاد التقليدي مجار لـما ورد في إنـجيل برنابا الذي يعدّ مصدراً لهذا الاعتقاد. فبرنابا يقول إنّ يسوع ليس الـمسيح (مسيا) وإنّ هذا الـموعود سيأتي فيما بعد. قال برنابا: «أجاب يسوع: لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا لأني لست أنا الذي خلقكم بل الله الذي خلقكم يحميكم أمّا من خصوصي فإني قد أتيت لأهيِّىء الطريق لرسول الله الذي سيأتي بخلاص العالم، ولكن احذروا أن تُغَشّوا لأنه سيأتي أنبياء كذبة كثيرون يأخذون كلامي وينجّسون إنـجيلي. حينئذٍ قال أندراوس: يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه، أجاب يسوع: «إنه لا يأتي في زمنكم، بل يأتي بعدكم بعدة سنين حينما يبطل إنـجيلي ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمناً في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم»([14]) وجاء كذلك أنّه عندما خاطب الـمسيح السامرية قال لها بعد أن سألته: لعلك أنت مسيا أيها السيد، أجاب يسوع: «إني حقاً أرسلت إلى بيت إسرائيل نبي خلاص، ولكن سيأتي بعدي مسيا من الله لكل العالم الذي لأجله خلق الله العالم»([15]).

 

(ملاحظة: عندما ذكرنا برنابا وإنـجيله لأول مرة في هذا البحث لم تكن لدينا نسخة منه لنطالعها فاكتفينا بذكر ما كنا قد لاحظناه من قبل من قراءة بضع صفحات من آخره. أما الآن فقد صارت نسخة من الإنـجيل الـمذكور بين أيدينا فطالعناها ووجدنا فيها مستندات ومراجع كثيرة تدل على ارتباط وثيق للتقاليد الـمحمدية بها. وسنعود إلى تفصيل ذلك في محله حين مراجعة هذا البحث لتنقيحه).

 

بناءً على ما تقدم وعلى الاستناد إلى رواية برنابا لإقامة اعتقادات محمدية كثيرة، يكون الـخلاف منحصراً في هل يسوع هو الـمسيح الذي به الـخلاص أو هو محمد. وهذه قضية لا يـمكن أن يبتّ بها إنسان بالـحجة والـمنطق والبراهين. فهي مسألة اعتقاد لا مسألة تقرير أمر تاريخي، والـحكم فيها يجب أن يترك لله كما ورد في القرآن، فهو وحـده يقدر أن ينبىء الـمختلفيـن ما هم فيه يختلفون. ولكن يظهر أنّ تلامـذة الـمدرسة الرجعية لا يريدون أن يتركوا لله شيئاً حتى ولا قوة الـحكم. فهم يريدون إبطال الـحشر لأنهم يريدون أن يحاسبوا الـمؤمنين من مسيحيين ومحمديين على كيفية إسلامهم. ومتى فعلوا ذلك فماذا يبقى لله يوم الدينونة؟ وما الفائدة من حشر النفوس؟ وما هي القيمة التي تبقى للآيات الـمنذرة الناس بعقاب الله؟

 

إنّ دعوة أساتذة «الـجنسية الدينية» إلى إعادة دولة الدين الـمحمدي قد باءت بالـخيبة، كما باءت بالـخيبة دعوة دولة الدين الـمسيحي. فقد دعا صاحبا العروة الوثقى العلماء (علماء الدين) لفعل الـخير الذي هو في عرفهما الـخير كله وهو: «جمع كلمة الـمسلمين». وناديا، في مقالة «التعصب»: «هذه هي روابطكم الدينية لا تغرّنكم الوساوس ولا تستهوينّكم الترّهات ولا تدهشنّكم زخارف الباطل. إرفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والـمصري بالـمغربي»([16])! فلم يكن وهمٌ أعظم من وهم هذه الرابطة الدينية في معترك حياة الأمـم، ولم يكن غرورٌ أسوأ مصيراً من هذا الغرور. فهل اجتمع التركي بالعربي والفارسي بالهندي والـمصري بالـمغربي؟ كلا. ذلك لأن الروابط الـجغرافية والسلالية والاجتماعية والاقتصادية كانت أقوى من الرابطة الدينية في جميع الأديان على السواء. وحين كانت الـخلافة العثمانية قائمة لم يكن للرابطة الدينية من غرض غير تسخير الشعوب الإسـلامية الأخـرى لـخدمة مصلحـة تركية فقط. ولذلك انتفضت الأقطار العربية على تركية محالفةً أمـماً مسيحية ضدها. وفي حين كانت الرابطة الدينية وسيلة لبسط النفوذ التركي كانت في الوقت عينه عبئاً على السلطة العثمانية التي رزحت تـحته إذ لم تستطع أن تكوّن من الـجماعات الإسلامية شعوراً واحداً وفكراً واحداً في الـمسائل السياسية والاقتصادية الإنترناسيونية. فكان ذلك برهاناً قاطعاً يكذّب قول صاحبي العروة الوثقى وهو: «لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني.»

 

الرابطة الدينية لها قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحتة فقط. أمّا في شؤون الـحياة الاجتماعية - الاقتصادية وتقدم الأمـم، فالرابطة القومية، كما هي مشروحة في كتاب نشوء الأمـم بقلم زعيم النهضة السورية القومية، هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية الأمـم وحقوقها، وتـجهّزها بجميع وسائل الفلاح. وحيث تخيب الرابطة القومية لا يـمكن أن تصيب الرابطة الدينية، لأن الرابطة الدينية تهمل الـجغرافية والتاريخ والسلالة والاجتماع والاقتصاد والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه.

 

حبط مشروع الـجنسية الدينية والوحدة الإسلامية الـمحمدية حبوطاً تاماً لأنه مشروع خارج عن الشؤون الدينية البحتة، وداخل في مسائل لا يصلح الدين لـحلها لأنها ليست مسائل دينية. فلم يـمكن التوفيق بين مطامح السوري ومثله العليا ومطامح التركي ومثله العليا، ولم يـمكن توحيد عقليات الـجماعات الإسلامية من هندية وعربية وفارسية وتركية وغيرها، ولا توحيد شعورها وحاجاتها ومشاربها. فكان لا بد من حبوط فكرة العصبية الدينية والدولة الدينية. ولا نقول إنّ فكرة الدولة الدينية لا يـمكن أن تقوم في الإسلام الـمحمدي فقط، بل في الإسلام الـمسيحي أيضاً وفي كل دين على الإطلاق.

 

بعد حبوط دعوة مدرسة الدولة الدينية والـجنسية الدينية إلى «جمع كلمة الـمسلميـن» وتـوحيد السوريين والأتـراك والـمـصريين والفـرس والأفغـانيين والـمغـربيين والهنود، الخ، رأى أتباع هذه الـمدرسة أن يلجأوا إلى مبدأ البدل أو التعويض، فقرروا الـمناداة بجامعة محمدية أقل اتساعاً من مدى الفكرة الأولى. فنادوا بالعروبة على أساس الـمحمدية متخذين من العنصر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم الأولى الدينية الـمعدلة بعد الـخيبة. وهذا التعويض بالـجامعة الدينية اللغوية عن الـجامعة الدينية البحتة لم يكن القصد منه التخلي عن الفكرة الأولى بالكلية، بل القصد منه الاقتناع بالأقل لاستحالة الأكثر. وفي بعض مجادلات أصحاب هذه الـمدرسة لا يندر أن تـجد هذا التعبير «وطن الـمسلمين (الـمحمديين) القرآن». وهم يجدون في «العروبة» بدلاً ظاهرياً لا يبعد عن الفكرة الأساسية. بل صالـحاً كل الصلاح لها، إذ لم يكن للعرب شأن تاريخي إلا بواسطة الدين، ولم تنتشر اللغة العربية إلا بالدين. فالعروبة عندهم لا تعني شيئاً غير الـحركة الدينية التي قام بها محمد. ولذلك لا تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من إيراد الإسلام (الـمحمدي) مقروناً بلفظة العروبة أو العرب إلا في ما ندر. ومع ذلك فأكثرهم يحاولون أن يكونوا دبلوماسيين ماهرين فيقولون إنّ العروبة لا تعني الـمحمدية وإنه لا دخل للدين فيها، أي إنها دعوة يـمكن أن تشترك فيها الأقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون تـمييز بين دين ودين، ظانّين أنّ مثل هذا الكلام البسيط يكفي لـخدع الـجماعات غير الـمحمدية. فهم يجهلون أنّ مثل هذه الـحيلة لا يجوز على الـمحقق في العلوم الاجتماعية والسياسية، وإن جاز على بعض البسطاء. إنّ اتـحاد أقطار لا رابطة بينها في الـجغرافية أو الاجتماع أو الاقتصاد أو النفسية، ولا صلة لها بعضها ببعض إلا صلة الدين الـمدعومة بشيوع اللغة، لا يـمكن أن يكون له غرض آخر غير غرض الدين. وإنّ الـجماعات القليلة التي تنتمي إلى أديان أخرى لا يـمكن أن يكون لها أي شأن أو حقوق في دولة دينية ليست من دينها، خصوصاً وأصحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون أنّ الغرض من دولتهم الدينية هو التغلب على أهل الأديان الأخرى «منازعة كل ذي شوكة في شوكته» «وإنّ الديانة الإسلامية وُضِع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح».

 

ولـمّا لم تكن الدعوة «العروبية» غير بدل من الدعوة إلى الدولة الدينية الـمحمدية، لم تتمكن من تعيين أصول ثابتة لفكرتها الـموهومة. لذلك ترى أصحاب هذه الدعوة يلجأون إلى التعديل والبدل عند كل صعوبة تصطدم بها دعوتهم. فهم تارة يطلقون القول على جميع الشعوب الـمتكلّمة العربية، وطوراً يحصرونه في منطقة وهمية أصغر، فيقولون بتشكيل دولة واحدة من سورية ومصر والعراق والعُربة، أي بإخراج القيروان وطرابلس الغرب وتونس والـجزائر ومراكش. ثم يصغّرون هذه الـمنطقة عند الاضطرار فيجعلونها مقتصرة على سورية والعراق والعُربة. هذا يجري «للعروبيين» في سورية. أمّا في الأقطار الأخرى الـمستقلة فقد تـحولت «العروبة» إلى لفظة يقصد بها الدعاوة للدولة القائمة والتغرير بالسوريين وغيرهم. ففي مصر، مثلاً، العروبة على أنواع. فمنها العروبة الـمصرية الاقتصادية التي تقصد إدخال سورية والعراق وغيرهما تـحت سلطة الرأسمال الـمصري بواسطة الـمصارف الـمصرية وغيرها من الشركات. ومنها العروبة الـمصرية السياسية وغرضها إيجاد خلافة محمدية في مصر تضم إليها ما أمكن من الأقطار الـمجاورة. وقد ذرّ قرن هذه العروبة بطلب إلـحاق فلسطين بـمصر وتفكيك الوحدة السورية. ونكتفي بهذين الـمثلين اللذين يـمكن اتخاذهما قياساً للعروبات في الأقطار الأخرى. وهذه الـحقيقة توضح مقدار التصادم بين الـجنسية الاجتماعية أو العصبية القومية والـجنسية الدينية. ففي مصر توجد دولة محمدية وفي العُربة توجد دولة محمدية وكذلك في العراق. ولا يوجد بين هذه الدول خلاف على الرسول ولا على القرآن. ومع ذلك فإن الدين لم يستطع توحيد هذه الدول. والسبب هو في العوامل الـجغرافية والسلالية والتاريخية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها، وهذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين في الشؤون الدولية لأن الدولة شيء اجتماعي - اقتصادي - سياسي قبل كل شيء.

 

العروبة ليست سوى حلم دولة دينية محمدية محدودة بدلاً من الدولة الدينية الـمحمدية الـمطلقة التي حلم بها أصحاب مدرسة الرجعة. وهذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق والتنافس بين الأقطار العربية، وتـمنع التفكير القومي من النمو وفتح الآفاق للأمـم العربية اللسان هي نكبة أو لعنة لـجميع الأقطار العربية على السواء، كما أنها تغرير بالـمسلمين الـمحمديين ليسيئوا فَهْمَ دينهم ويضحّوا روحية الدين في سبيل أغراض دولة دينية، لا محل لها إلا في الأقوام غير الـمتمدنة التي لا تقوم لها قائمة بغير الدين لانعدام أسباب العمران عندها.

                                                                                                        هاني بعل([17])

                                                                                                    للبحث استئناف

 

 


[1] سورة الشورى رقم 42 الآية  10.                     

[2] سورة الأنفال رقم 8 الآية  39.            

[3] سورة البقرة رقم 2 الآية  190.»الذين يقاتلونكم» أمّا »لم يقاتلوكم في الدين» ففي سورة الممتحنة رقم 60 الآية 8.           

[4] سورة التوبة  رقم 9 الآية  111.            

[5] سورة آل عمران رقم 3 الآية  85.                     

[6] سورة آل عمران رقم 3 الآية  19.                     

[7] سورة التوبة رقم 9 الآية  33.              

[8] سورة المائدة رقم 5 الآية 68.              

[9] سورة المائدة رقم 5 الآية  69.             

[10] سورة العنكبوت رقم 29  الآية  46.                 

[11] سورة الزمر رقم 39 الآية  74.               

[12] سورة النساء رقم 4 الآية  123-124.               

[13] سورة  الأحزاب رقم 33  الآية  40.                 

[14] إنجيل برنابا 8:72-14.  

[15] إنجيل برنابا 15:82-17

[16] العروة الوثقى (1936) ص 112.        

[17] أنطون سعاده.  

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro