مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
ملحق رقم 12 الوحدة...أشكال ومستويات
 
 
 
مجلة اليوم السابع 24 /10 / 1988
 

  لا بد من الاعتراف – في إطار إعادة بناء الفكر القومي العربي- بأن الايديولوجيا الوحدوية، التي عاش عليها الوحدويون العرب في العقود الـماضية، كانت ايديولوجيا طوباوية، حالـمة، إلى أبعد حد. وليس هذا من قبيل القدح فيها، فالنزوع نحو الطوباوية من خصائص الايديولوجيا، خصوصاً عندما كانت الشروط الـموضوعية الضرورية لتحقيق مشروعها لم تتوافر بعد. ولكن عندما تبدو في الأفق إمكانية تـحقيق الشكل العملي من مشروعها ذاك يغدو من الضروري تصفية الـحساب مع الـجانب الطوباوي فيها والانصراف انصرافاً كلياً إلى ما يقدمه الواقع من مـمكنات.


والـجانب الطوباوي الـحالم في الايديولوجيا الوحدوية خلال العقود الـماضية- وخلال الـخمسينات والستينات بصفة خاصة- يتمثل في كونها لم تكن تقبل عن الوحدة الاندماجية الشاملة بديلاً: كانت ترفض الشكل الاتـحادي بدعوى أن هذا الشكل لا يحقق الوحدة بل يكرس القطرية، وكانت ترفض قيام أي نوع من «الوحدة» بين الأنظمة العربية القائمة بدعوى أن وحدة من هذا النوع هي وحدة حكومات وأنظمة ضد الشعوب العربية، وكانت ترفض الوحدة الاقليمية كوحدة الهلال الـخصيب و»وحدة الـمغرب العربي» بدعوى أن من شأن هذه الاتـحادات الاقليمية أن تلغي الوحدة العربية الشاملة... إلخ.


قد نتساءل اليوم بتعجب واستغراب كيث حدث أن فكرنا وفكر «الزعماء» معنا، أو لنا، مثل هذا التفكير، كيف سلكنا هذا الـمسلك غير الـمنطقي الذي يرفض وحدة الهلال الـخصيب ووحدة وادي النيل ووحدة الـمغرب العربي ويرفض الوحدة بين الأنظمة والـحكومات...إلخ؟ ورغم أن هذا السؤال يبدو اليوم ثقيلاً تفضل النفس التملص منه فإنه من الضروري طرحه من أجل تصفية الـحساب مع الهواجس التي حجبت القاءه في وقته، الهواجس التي منعت الـمنطق عن مـمارسة سلطانه يوم كنا نرفض أي شكل آخر للوحدة غير «الوحدة الاندماجية الشاملة» التي تقوم ضد الأنظمة وضد الـحاكمين.


وقد لا يكون من الضروري التذكير هنا بأن التمويه الايديولوجي لا يصدر عن النية وسبق الاصرار: فالـمتبني لفكر الايديولوجيا الـمموهة يتبناها بصدق واخلاص غير شاعر بالزيف الذي يطبع وعيه لأنه منغمس في الايديولوجيا، يرى الواقع بذهن حالم وليس بعقل عالم...بيد أننا نفضل التذكير بهذا حتى لا يفهم من كلامنا أننا نحاكم النوايا أو أننا نـمارس نوعاً من النقد القادح، إلخ. إن كاتب هذه السطور لا يضع نفسه فوق التاريخ، لا يتعالى ولا يتنكر، ولا ينكر أنه وقع هو نفسه تـحت نظر الأعم الأغلب من الـمؤمنين بالوحدة العربية الفكرة السليمة الصائبة الصادقة، في حين أنه يرى فيها اليوم فكرة غير واقعية قوامها تداخل الطموحات الـمتنافسة الـمتنافية داخل الوعي.


بيان ذلك أننا إذا نظرنا إلى الفكر القومي العربي في مرحلة الـخمسينات والستينات وجدناه مليئاً بالطموحات ذات الطابع الاطلاقي الشمولي: فشعار الاستقلال كان شمولياً في مضمونه ايديولوجياً وجغرافياً، إذ يعني من جهة الشغل والـخبز والتعليم والصحة والعدل والـمساواة إلخ، كما يعني من جهة أخرى حق جميع الأقطار العربية في الاستقلال وبالتالي ضرورة تعاون العرب على تـحقيق استقلال الوطن العربي من الـخليج إلى الـمحيط. وقضية فلسطين قضية عربية تخص العرب من الـمحيط إلى الـخليج لأنها قضية عدوان صهيوني على جزء من الشعب العربي والأرض العربية، والاشتراكية مطلب عربي شمولي، فالـمطلوب هو «اشتراكية عربية» وليس اشتراكية سورية أو مصرية...والتنمية كذلك مطلوبة لا كواقعة قطرية بل كمطلب قومي...إذن، الشعارات كانت قومية عربية شمولية، فليس غريباً أن يكون شعار «الوحدة العربية» شعاراً شمولياً بهذا الـمعنى.


لـماذا هذه الشمولية في الشعارات؟ سؤال يطرح طبيعة مرحلة بأكملها، مرحلة من تطور الوعي العربي تشكل بدورها مظهراً من مظاهر التطور على صعيد الفكر العالـمي، مرحلة الـمد التحرري الثوري. لقد كانت مرحلة، ولا بد لكل مرحلة من أن تـمر، وقد مرت بخيرها وشرها ومن دون شك فخيرها كثير، وكثير جداً. ومن جملة الأشياء الـخيرة فيها الطابع الطوباوي الذي ميز طموح الناس خلالها، أن الطوباوية ليست عيباً كلها بل أن لها جانبها الايجابي هو رؤية «الـمستحيل» مـمكناً، وكما قيل «الـمفكر الطوباوي رفيق للمستحيل» رفيق له لأنه يراه مـمكناً بل واقعاً حاصلاً، وبذلك يكون رائداً وهو في الغالب «رائد لا يكذب أهله» وكل ما في الأمر هو أن نبوءته تخبر عن الـمستقبل البعيد...لا القريب.

 

لنقل إذن أن شعار «الوحدة العربية الاندماجية الشاملة» شعار ينتمي إلى مرحلة الحلم: حلم الـماضي، وربـما حلم الـمستقبل أيضاً. أما الواقع العربي الراهن هو لا يتحمل هذا الشعار ولا يقدر على حمله. إن الـممكن اليوم هو أشكال من الوحدة يتداخل فيها ويتكامل، العمل الاقليمي والعمل القومي: إن العالم العربي اليوم أربع مجموعات متميزة مؤهلة لنوع من الوحدة أو الاتـحاد: مجموعة الـجزيرة والـخليج واليمن، مجموعة الهلال الـخصيب (العراق وسوريا والأردن وفلسطين) مجموعة وادي النيل والقرن الأفريقي (مصر والسودان والصومال وجيبوتي) ومجموعة بلدان الـمغرب العربي الـخمسة. والعمل الوحدوي داخل هذه الـمجموعات لا يتعارض مع العمل الوحدوي على الصعيد العربي العام، سواء في صورة تعاون ثنائي أو في صورة تنسيق داخل جامعة الدول العربية.
 
وإلى جانب هذه الأشكال الـممكنة، اليوم من الوحدة العربية هناك مستويات للوحدة قائمة وأخرى مـمكنة. فالوحدة العربية على الـمستوى الثقافي قائمة بصورة طبيعية من خلال اللغة الـمشتركة والتراث الـمشترك والهموم الـمشتركة، وهناك مجال واسع لتعميق الوحدة على هذا الـمستوى. ورغم أن الـمستوى الاقتصادي يبدو وكأنه الـمستوى الأقل حظاً من مظاهر الوحدة القائمة في العالم العربي فإن هذا ليس صحيحاً إلا إذا حصرنا الاقتصاد في الـمبادلات التجارية والـمشاريع الـمشتركة. أما إذا وسعناه ليشمل «الاعانات» التي تتم في إطار قرارات مؤتـمرات القمة أو في إطار العلاقات الثنائية فإننا سنجد أن ربع الدول العربية الريعية يستفيد منه بشكل أو بآخر دول عربية أخرى، وذلك إلى درجة أن بعضها أصبح دولاً شبه ريعية إذ تتوقف آلية الـحياة فيها على ما تتلقاه من إعانات، وأهمها الإعانات العربية. ولو صب هذا «الـمال العربي» الـمتنقل في صورة «إعانات» لو صب في قوالب منظمة تنظيماً عقلانياً وفي مشاريع منتجة لنشأ عنه أساس لقاعدة اقتصادية عربية مشتركة.
 
وبعد، فلم يكن هدفنا تـجميل الواقع العربي الراهن أو تبريره، كلا. كل ما نصبو إليه هو أن ينطلق الفكر القومي العربي من معطيات الواقع القائم، من تـحليلها واستثمار ما هو قابل للاستثمار فيها والعمل على تغيير ما يجب تغييره. إن الوحدة العربية ستبقى مشروعاً قابل للمستقبل لدى أجيال لأنها- حسب ما يبدو الآن على الأقل- لن تتحقق كاملة مرة واحدة بل لا بد من أن تـمر عبر مراحل وأشكال وصيغ. والفكر القومي مطالب برصد هذه الـمراحل والصيغ والأشكال والتبشير بها في حينها والدفع بها نحو التحقيق.
 
              محمد عابد الـجابري                                                          

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro