من مدة وجيزة تقدم رئيس الوزارة الشامية [جميل مردم] إلى مؤسسة الـجامعة العربية باقتـراح مشـروع خطير يلزم الدول السوريـة والعربية الـمشتركة في مؤسسة الـجامعة الامتـناع عن مباشرة مفاوضات وتوقيع اتفاقـات إنترناسيونية الصفة إلا بعد أن تنال موافقة مؤسسة الـجامعة العربية على ذلك. ونص الاقتراح الـمذكور منشور في مكان آخر من هذا العدد ننشره كي لا يفوت القراء نصه.
تستهل الـحكومة الشامية مشروعها بالقول: «إنّ جامعة الدول العربية قائمة على أساس وحدة مصالح الدول العربية في دعم استقلالها، إلخ». إنّ هذه العبارة التي تـجعل الـمصالح واحدة لا متبادلة تُخْرج مؤسسة الـجامعة العربية عن كونها مؤسسة لتنظيم جبهة مصالح أمـم العالم العربي، وتـجعلها مؤسسة تشريعية وتنفيذية مركزية لـجميع دول العالم العربي التي تصبح في حكم «ولايات» متَّحدة في دولة واحدة.
أما القرار الذي تقترح حكومة الدولة الشامية اتخاذه في مجلس مؤسسة الـجامعة العربية فهو كما يلي:
«لا يجوز لدولة من دول الـجامعة أن تدخل في مفاوضات مع دولة أجنبية تستهدف قبولها التزامات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية مالية إلا بعد إعلام الـجامعة رسمياً، برغبتها هذه. وليس لها أن توقّع اتفاقية من هذا النوع إلا بعد أن يقرر مجلس الـجامعة أنّ الالتزامات التي تـحويها الاتفاقية لا تتعارض مع مصالح الـجامعة أو مصالح أحد أعضائها».
يتضح من هذا الاقتراح، الذي أصبح اليوم موضع بحث في مؤسسة الـجامعة العربية، ما يأتي: أولاً ـ قبول الأمر الـمفعول الـحاصل قبل اتخاذ قرار في مؤسسة الـجامعة العربية بجميع التزاماته. فجميع دول العالم العربي التي عقدت معاهدات واتفاقات تكون قد أمّنت مصالـحها وعقودها مع الـخارج، فلا يبقى إلا الدول التي نشأت حديثاً كلبنان والشام وشرق الأردن تبتدىء حياتها السياسية من الآن فتحرم هذه الدول من الـمساواة مع الدول الأخرى الـمرتبطة بـمعاهدات واتفاقات إنترناسيونية بغير واسطة مؤسسة الـجامعة العربية. ولو أنّ الاقتراح اشتمل على نقض دول العالم العربي جميع العهـود والالتزامـات وجعل العلاقات الإنترناسيونية بواسطة مجلس الـجامعة العربية لكان الاقتراح قريباً إلى العدل بقدر ما يكون قريباً إلى الوهم.
ثانياً ـ تعطيل السيادة القومية في جميع أمـم العالم العربي ونقلها الفعلي إلى الـمجلس الإنترناسيوني في العالم العربي الـمسمى «مجلس الـجامعة العربية». فتتحول برلـمانات دول العالم العربي إلى مجالس ولايات للنظر في بعض الـمسائل الداخلية لا فيها كلها، وتصبح الوزارات مجالس إدارية فقط أو في هذه الـمنزلة.
تقول مذكرة الـحكومة الشامية في مقدمتها للاقتراح الـمذكور، إنه «ليس في ذلك ما يـمس بوجه من الوجوه مبدأي سيادة الدول واستقلالها. فمعاهدات التحالف الـمعقودة أو التي يطلب عقدها مع الدول الأجنبية (أي الأجنبية عن دول العالم العربي) تتضمن من القيود الـمحددة لـحرية العمل أكثر ما يحويه قبول الـمبدأين الـمذكورين أعلاه».
إنّ القول الـمتقدم يحوي كل السطحية التي عولـجت بها الـمسائل القومية في الدول السورية وفي دولة الشام بصورة خاصة. إنّ هنالك فرقاً عظيماً بين العقود التي لها دائماً شروط ومدّات محدودة وتعقد بحريّة تامة مطلقة، وبين التنازل عن حق عقد العقود وحرية التعاقد لهيئة تتخذ شكل دولة منتدبة لتسيير سياسة الدول الواقعة تـحت انتدابها.
يقال إنّ اقتراح حكومة الشام ناشىء عن أسباب في مقدمتها الـمعاهدة العراقية ـ البريطانية التي أثارت ضجة ولم تصدق. إنّ حادث الـمعاهدة الـمذكورة لا يـمكن أن يكون سبباً صحيحاً لاقتراح خطر من هذا النوع. وإنّ دولة ما بين النهرين لم تصدق الـمعاهدة الـمذكورة ليس بسبب ضغط مجلس الـجامعة العربية، بل بسبب رفض الشعب العراقي نفسه نصَّها وبسبب تأثير الرأي العام السوري في جميع الدول والـمناطق السورية التي أصبحت تدرك أنّ مصير ما بين النهرين لا ينفصل عن مصيرها العام الـموحد الذي يختلف شأنه عن شأن مصير كل أمة أخرى من أمـم العالم العربي في القارتين الآسيوية والأفريقية.
إنّ الـخطر الذي تريد الـحكومة الشامية أن تتجنبه بواسطة مؤسسة الـجامعة العربية تتجنبه الأمـم بنهضاتها ووعيها القومي.
وإنّ التضامن في العالم العربي يجب أن يخضع لتبادل الـمصالح بين أمـمه لا لتوحيد هذه الـمصالح توحيداً استبدادياً اعتباطياً يفيد بعض هذه الأمـم ويضرّ البعض الآخر، وتستفيد بعض الأمـم فيه من أضرار البعض.
لا يـمكن قبول نظرية الـحكومة الشامية القائلة إنّ التنازل عن حق التعاقد يوازي حق التعاقد نفسه إلا بقلب الـمنطق رأساً على عقب. فالاقتراح يعطِّل مبدأ السيادة القومية لأمـم العالم العربي. ولا وجه لأخذ قول مذكرة الـحكومة الشامية إنّ الاقتراح لا يـمس مبدأي السيادة والاستقلال والاعتراض على الـمعاهدة العراقية ـ البريطانية التي لم تبرم، بعين الاعتبار إلا على أساس الشك في صحة إرادة الأمـم، أي في صحة تعبير العقود عن الإرادة القومية. وجواباً على هذه الـحجَّة نقول: إما أنّ الـحكومات تـمثّل إرادة أمـم العالم العربي تـمثيلاً صحيحاً وإما أنها لا تـمثلها. فإذا كان الأول وأرادت إحدى الدول عقد محالفة أو معاهدة فيها مصالـحها الرئيسية، كان الوقوف في وجه إرادتها حداً لسيادتها وتعطيلاً لإرادتها. وإذا كان الثاني فإن إلزام الأمـم ارتباطات بواسطة حكومات لا تـمثلها تـمثيلاً صحيحاً هو تكبيل لها، سواء أكان هذا التكبيل لـمصلحة الـجامعة العربية أو لـمصلحة أية دولة من خارج العالم العربي. وهذا يعني تقرير مصير الأمة من الـخارج.
لا يـمكن التسليم بأنَّ مؤسسة الـجامعة العربية أدرى بحاجة كل أمة مـمثلة فيها من الأمة نفسها، إلا على أساس اعتبار الـمؤسسة الـمذكورة الـممثلة الصحيحة الكلية لـجميع الدول الـمشتركة فيها. وهذا يعني نزع السيادة القومية فعلياً من كل أمة من أمـم العالم العربي، ووضعها في مؤسسة الـجامعة العربية التي يسيطر فيها في الوقت الـحاضر نفوذ السياسة الـمصرية وأغراضها.
الـمصيبة في اقتراح الـحكومة الشامية هي في أنه لا يـميّز بين الـمصالح الـمتبادلة والـمصالح الـموحدة. إنّ مؤسسة العالم العربي تضم اليوم مصالح متبادلة، لا مصالح موحدة. ويجب أن ننتظر الوقت الذي تصير فيه الـمصالح موحدة، إذا أمكن أن تصير، لقبول اقتراح مثل اقتراح الـحكومة الشامية.
نعتقد أنه يحسن بحكومة الشام إعادة النظر في اقتراحها وموقفها. ويحسن بالـحكومة اللبنانية والـحكومة العراقية والـحكومة الأردنية درس الـموضوع مليّاً من الوجهة القومية وحق السيادة قبل الإقدام على وضع إمضاءات تلزم شعوبها بـما يعطل حرية تطورها ونـموها.