مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
تجديد الأدب وتجديد الحياة
 
 
 
الزوبعة، بوينُس آيرس،العام الثالث، العدد 52 (15/9/1942) ص 4 - 5
 

الفكـرة البـارزة في جميع الأمثلة الـمتقدمة من تفكير نفر من أشهر أدباء اللغة العربيـة في العصـر الـحاضر هي: ترك البكاء التقليدي والتحسر والتلهف والنواح والندب التي أغرقت الشعر العربي القديـم في عبابها وتغرق الشعر السوري والـمصري الـحديث في ذاك العباب عينه، أللهم إلا بعض استثناءات نادرة تطمو عليها الصفات الـمذكورة ويحتاج محب الاطلاع لـمجهود كبير في الغوص عليها. هذه الفكرة هي فكرة سلبية، يدفع إليها الـملل من الـجمود والضرب على وتيرة واحدة. ولكنها ليست بالفكرة الـجديدة في أدب اللغة العربية. فقديـماً أظهرها الشاعر الفارسي المزيج، السوري البيئة والـحضارة أبو نواس بأسلوبه الـمجوني البديع:


قــل لمــن يبكــي علــى رســم درس
                                                واقفــاً مــا ضــرّ لــو كــان جلـــس
وقال أيضاً:
عــاج الشقــي علــى رســم يسائلــه
                                                وعجــت أســأل عــن خمّــارة البلد


فـأبو نواس تهكمـ على الوقـوف على الطلـول والبكاء والعويل، لأنه إبن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء، ولأنه متحدر من شعب خَبِرَ من الـحياة ألواناً غير ألوان حياة الصحراء. وقد استيقظ أبو نواس لهذه الـحقيقة ووجد في البكاء والندب وسؤال الطلول عجزاً مضحكاً. فقال قوله الذي سبق به جميع دعاة «التجديد» من أدباء اليوم. وأدباء العصر الـحاضر، مع كل اجتهادهم، لم يتجاوزوا موقف أبي نواس من العويل والانتحاب على الطلول وعلى العهود إلا قليلاً.


كل اجتهاد أمين الريحاني بلغ إلى القول إنّ الشاعر يجب أن يكون «مرآة الـجماعـات»، ومبلغ اجتهاد حسين هيكل هو أنّ التجديد في الشعر «هو أن يشعر الشـاعر أو الكـاتب بشعور العصر الذي هو فيه ويعبّر عن ذلك تعبيراً صادقاً مـمثلاً لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير»، وكل اجتهاد خليل مطران بلغ إلى قوله «أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيِّه.» وهذا الرأي هو أرقى ما وصل إليه تفكير أدباء سورية ومصر حتى اليوم. فإذا كان هذا هو غاية الشعر والشاعر فلا حاجة لكل ذاك الكلام الكثير على التجديد وترك التقليد، الذي هو من قبيل تـحصيل الـحاصل.


إنّ أدباء العصر الذي نعيش فيه يـمثلون بأدبهم عصرهم أصدق تـمثيل. إنهم لا يحتـاجون إلى تغيير أسلوبهم ليمثّلوا عصرهم، كما يتوهم حسين هيكل في تخبط فكري للخروج بالأدب والفنون الـجميلة من الـحالة التي هي فيها، أو كما يظن خليل مطران. أليس العصر في سورية، إلى أن بزغت أنوار النهضة القومية الاجتماعية، عصر جمـود وذهـول وتقليـد واستكانة؟ أليس العصر في مصر عصر تقليد شرقي ومسخ غربي؟ بلى، إنّ العصر في سورية لكذلك وإنّ العصر في مصر لكذاك، إذن فالأدباء في سورية وفي مصر هم «مرآة جماعاتهم» تـماماً ومـمثلو عصرهم تـمثيلاً صادقاً، والـمطـلوب من كـل الكـلام الـذي ملأ به طالبو التجديد صفحات ومجلدات هو حاصل. ومع ذلك فالـحاجة إلى التجديد أو التغيير باقية، وهي على ازدياد، والتوق إلى حالة جديدة يقوى يوماً بعد يوم. فأين السر في هذا التناقض وهذا التباين؟ هو في بُعد الأدباء الذين عالـجوا الـموضوع عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحتة.


خـذ مثلاً كلام حسين هيكل على «العصر» الذي يعيش فيه الشاعر. فكأني بحسين هيكل يفهم العصر من خلال مطالعاته في الأدب الفرنسي وليس من درسه وضعية مصر. وكأني بأمين الريحاني يرى أنّ عكس نفسية الـجماعة هو شيء اصطناعي أساسه الغش أو الرياء كأن يـمثّل الشاعر السوري نفسية شعبه وحالته الروحية بالاقتباس أو الإكتساب من أدب شكسبير وأدب غوته اللذين يـمثلان أدب شعبين آخرين فيظهر شعبه بغير مظهره الـحقيقي. وهذا ما يفعله كثير من الأدباء في مصر وبعض الأدباء في سورية فيمسخون نفسية شعبيهما مسخاً. وكأني بخليل مطران الذي اطّلع كثيراً في الأدب الفرنسي يجهل أنّ العصر الـحاضر في أوروبة شيء وفي سورية ومصر شيء آخر. إنه يعمى عن الـحالة التي عليها الشعب السوري، والـحالة التي عليها الشعب الـمصري، فيحسب أنهما في حالة الشعوب الأوروبية عينها، ويبدو لقارىء عبارته أنّ الأدباء وحدهم في سورية ومصر بقوا متأخرين عن حالة العصر وهو غير الـحقيقة.


ماذا ينتظر من الشاعر الذي وُلِدَ في بيئة يغشاها الـجهل ويغمرها الذل والـخنوع، ولم يفتح عينيـه إلا ليرى ظلمـة الفـوضى والبلبلـة والتسكـع في الـماديـة، وربيت نفسه على تـأوهـات العجـز وحسرات الفوات ومُثُل الشهوات وأمثلة الـجمال الـمادي وميول الغرائز البيولوجية، خصوصاً الشاعر الذي يجب أن يكون، في عرف كتّاب «التجديد» مرآة الـجماعـات أو مـرآة عصـره؟ أينتظر منه غيـر اتّباع ما شب عليه ووعاه من أمثلة الأدب الذي وصل إليه؟ كلا. كلا.


إنّ الأدب، كله، من نثر ونظم، من حيث هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الـجمال، لا يـمكنه أن يُحدث تـجديداً من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. ولذلك أقول إنّ التجديد في الأدب هو مسبب لا سبب - هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور - في الـحياة وفي النظرة إلى الـحياة، هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية سياسية تغيّر حياة شعب بأسره وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه.


يلاحظ مؤرّخو الأدب ودارسو عناصره وعوامله، أنّ التغيّرات أو الانقلابات السياسية يعقبها تغيّر في الأدب وأساليبه. ويذهب جمهورهم، إلى أنّ النهضات أو التغيّرات السياسية هي سبب نهضة الأدب والفنون الـجميلة. والذي أراه أنّ التغيّرات السياسية ليست هي في ذاتها الـمؤثّر أو الفاعل الأساسي في تغيير مجرى الأدب، لأني أرى الأحداث السياسية نتيجة لابتداء تغيّر النظرة إلى الـحياة أو لـحصول اعتقادات ومثل عليا روحية - مادية جديدة في شعب من الشعوب، فتدفعه النظرة الـجديدة أو التعاليم الـجديدة إلى استنباط الوسائل التي تتحقق بها مطالبه. ومن هذه الوسائل أساليب السياسة وأشكالها وخططها وأهدافها. فالسياسة، في حد ذاتها، شبيهة بـما حددت به الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسية، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الـحياة لا يـمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية.


يذكّرني بحث وسائل إنهاض الأدب السوري والأدب الـمصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية. فقد سألني أحد هواة هذا الفن، منذ عدة سنين، عن كيفية ترقية تـمثيل الروايات في سورية. فقلت إنّ الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب السوري نفسه. فإن تـمثيل أدوار الـحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الـممثل بهذه الصفات شعوراً راقياً. والذين لم يتعودوا من الـحب غير اتـجاهاته الفيزيائية لا يـمكنهم أن يـمثّلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تـمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبه في قلبها ويقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيداً جداً عن إعطاء النتيجة الـمرغوبة على مستوى راق من الشعور والتصرف. وواحد آخر كان من نصيبه أن يـمثّل دور الوالد الذي نأَت به الأقدار عن ابنته، وحسب في عداد الأموات، ثم عاد سالـماً موفقاً ليضم ابنته إليه. فلما جـاء حين الـمقابلـة مع ابنتـه وظهـرت الفتـاة التي تـمثل دور الإبنة حبطت جميع الـمحاولات لـجعل ذراعي الوالد تـمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيراً على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تـمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تـمثيل دوره.
الأديب والشاعر والـممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها تأثّراً كبيراً ويتأثرون كثيراً بالـحالة الراهنة الاجتماعية - الاقتصادية - الروحية. والفنان الـمبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والـمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حدّ الأدب والصور الـجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو «مرآة الـجماعات» أو «مرآة عصره» لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأن هذا النهوض يعني ضمناً: النهوض بالـحياة وبالنظر إلى الـحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالـمرآة ليس بالـمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره. فهذا شأن الـمعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخاً جديداً لأمته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديباً شاعراً إذا شاء. وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلماً فيلسوفاً فناناً قائداً إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك.


إنّ من الظلـم للشـاعر أن يُطلـب منه تـمثيل عصره أو جماعته تـمثيل الـمؤرخ والعالم الاجتماعي. فكلام الريحاني وخليل مطران وحسين هيكل هو ظلم للشعراء وتكليف لهم أن يكونوا غير ما هم. قد يكون في شعر الشعراء ما يستدل به على حالة عصورهم والأفكار والاعتقادات الشائعة فيها، ولكنه ليس حتمياً أن يدرس الشاعر عصره حين يحاول نظم قصيدة في فكرة أو عاطفة أو منقبة أو حادثة. إنّ قصائد الشاعر التي ينظمها غير مفكر بعصره أو بغيره من العصور هي التي يغلب أن تـجيء أكثر انطباقاً على حالة عصره وأدبه، ولذلك قلت إنّ شعراءنا يـمثّلون عصرنا تـمثيلاً صادقاً. وأعني بعصرنا العصر الذي تعيش فيه سورية وليس العصر الذي تعيش فيه بريطانية أو ألـمانية أو فرنسـة أو روسية. وفي رأيي إنّ عصر سورية الـحاضر هو غير عصر هذه الأمـم الـحاضر وإن كان الزمان واحداً. فحالة سورية الاجتماعية - الاقتصادية - السياسية - النفسية تختلف عن حالة الأمـم الـمذكورة. فكأنها تعيش في عصر غير عصر تلك الأمـم. ولذلك لم يـمكن أن يكون نتاج شعرائها مطابقاً لعصر أرقى الأمـم الأوروبية، التي خلفـت وراءهـا ثـورات عظيمـة في الاجتمـاع والاقتصاد والسياسة وفي العلم والفلسفة، بينما سورية تتخبط في دياجير تاريخها الأخير الفاجع، وقد نسيت فلسفات أساطيرها وثوراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغابرة التي أضاء نورها أرجاء العالم الـمعروف آنئذٍ، وكانت إصلاحاتها مثالاً لأثينة ورومة.


سبق لي القول، في مكان آخر: إنّ الشاعر، في عرفي، هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيّز من فكر أو شعور أو مادة. وأزيد هنا إني أرى أنّ من أهم خصائص الشعر: إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صوراً مجازية أو خيالية، عناصرها القوة والـجمال والسمو مع عدم مفارقة الـحقيقة والغرض الإنساني، وأكرر القول إنّ الشعر ليس الفكر بعينه، من غير حرمان الشاعر حق إبداء الأفكار الكلية أو الـجزئية كلما شاء وأمكنه ذلك.


ليس الشعر(1)، في عرفي، مجرد شعور كما عبّر عنه شفيق معلوف في كتابه إلى عمه، وبشارة الـخوري في رده على الريحاني. إني أرى الشعر، أو، على الأقل، الشعر الـمثالي الأسمى شديد الاتصال بالفكر وإن يكن الشعور عامله الأساسي أو غرضه، لأن الشعور الإنساني ذاته متصل بالفكر اتصالاً وثيقاً في الـمركّب العجيب الذي نسميه النفس. وأعتقد أنه يصح في الشعر، إلى حدٍّ ما، ما قلته في الـموسيقى وأجريته على لسان بطل قصة ألّفتها سنة 1931 بعنوان فاجعة حب وطبعتها في بيروت مع قصة عيد سيدة صيدنايا سنة 1932، وهو يختلف عن نوع الـمشابهة بين الشعر والـموسيقى الذي أورده شفيـق معلوف في كتابه إلى عمه. إليك القول الـمذكور وهو بشكل حوار ومداولة ووصف روائي:


«كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب، فأخذنا نتحدث في كل علم وفن حتى تطرقنا أخيراً إلى الـموسيقى. وكان بيننا من شبّ ولم يسمع سوى الألـحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ «الألـحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها. وكان آخرون مـمن سمعوا الألـحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الـموسيقى من فن وافتنان. فقدّم هؤلاء الأنغام الغربية على الألـحان الشرقية لرقي تلك وغناها في التعبير عن الـحياة العاطفية ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حدّ التعبير عن الـحالات الأولية. وتعصب أولئك، ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج والتمسك بـمبدأ الـمحافظة، للألـحان الشرقية. وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لـحناً موسيقياً واحداً فقط يفضلونه على كل لـحن ونغم غيره.


«وكان من وراء ذلك أنّ الـجدل في هذا الـموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره، حتى خشيت أن يؤول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلاً ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في الـمعرفة والفهم، وتبيّن وجه الصواب ووجه الـخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الـحد في هذه الـمرة لأن الفريقين الـمتجادلين قررا أن يستفتيا سليماً في الأمر بصفة كونه خبيراً في نوعي الـموسيقى الشرقي والغربي، ومحباً للإنصاف والـحقيقة. فسأل سليم أحد الـمتشبثين بأفضلية الـموسيقى الشرقية الـمحافظة، واسمه بهيج، قائلاً:


«أتدري، يا صاحبي، لـماذا وجدت الـموسيقى؟»
«فأجابه بهيج بلهجة الـموقن: أجل وجدت الـموسيقى لتكون لغة العواطف.»
«قال سليم - «لو كنت خبيراً بالـموسيقى لـما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل.»
«فهتف الأربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!»
«سليم: «نعم، ثلثي مزاياها.»
«بهيج: «إذن، كيف تـحددها أنت؟»


«سليم: «إني أحددها بإطلاقها من كل تـحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الـموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الـموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها. وإن شئت فقل إنّ الـموسيقى تتناول الـميول الأولية والعواطف والـحالات النفسية على أنواعها والأصوات على اختلافها والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يـمكنك أن تقسم الـموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنـما يـمكنك أن تـميّز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن الـمعاني النفسية الـمقصودة من الـموسيقى، وبين أصناف هذه الـمعاني، عينها. فمتى كانت الـموسيقى الغربية تعبّر عن العواطف والـحالات النفسية التي تعبّر عنها الـموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مـما تقدم، أنّ وجـه الفـرق في ما تسمونـه الـموسيقـى الشرقيـة أو العربية والـموسيقى الغربية ليس في أساس الـموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في الـمعاني التي يقصـد التعبير عنهـا عند الشـرقيين وعند الغـربيين وفي الأسـاليب الـمتخـذة لبلـوغ هذا الغـرض، وأنّ الفـرق الذي تـجده بين أساليب الـموسيقى الشرقية ونظـائرهـا الغربيـة ليـس إلا مجرد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويـمكنك أن تـجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بـما لا يقبل الرد أنّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة. إنّ عواطف الـحب والبغض والرقة والقسوة والسرور والـحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية تقصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمـم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بـمقدار تنبّه النفوس وإرتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزاً عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتـجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم ابتدائية أيضاً. وهي في هذه الـحال لا تعبّر عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والـحيوان، كالشهوات الـجنسية التي تـمثّل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك، القوم الذين تـحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبّر عن عواطف تسمو على الشهوات الـجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الـحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصراً على «وصال الـحبيب» بل أصبح مطلباً أعلى يرفع الـحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه من همّه وصال الـحبيب وعلى الدنيا السلام. هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبّر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الـموسيقي حد الألوهية، لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الـحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الـموسيقي النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبّر عنه معزوفات هذا الـموسيقي الـخالد. خذ مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تـحوّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الـحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى (كسيمفونيته الـخامسة الـمعبّرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء - بين الـموت والـحياة، وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه) ومعزوفات غيره من الـموسيقيين الـخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً. لا، يا صاحبي، لم توجد الـموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الـموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار.»
«بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء. فقد كانت هذه الـمرة الأولى التي يسمعون فيها حديثاً من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أنّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم ويحاولون إدراك الـمدى البعيد الذي بلغه قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟»


«سليم: «الـحقيقة يا صديقي، أنه ليس لنا موسيقى تعدّ نتاج نفسيتنا نحن السوريين من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألـحان الشائعة بيننا فليست مـما نشأ من نفسيتنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبّر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصيراً كبيراً عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إنّ الألـحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا بل هي مـما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب.»
«بهيج: «إذن أنت تفضل الـموسيقى الغربية؟»


سليم: «قلت إنه لا تفضيل في الـموسيقى. إنـما إذا كنت تريد معرفة رأيي في الفرق بين موقفنا من الـموسيقى وموقف أهل الغرب منها فإني أصارحك أنّ شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون شرقيين، قد عدلوا عن الأسس الـموسيقية إلى الألـحان الـموضوعة، أو هم قد اقتصروا في الـموسيقى على طائفة من الألـحان لا يجدون عنها محيداً. وهذا كان شأن الغرب أيضاً، إلا أنه لـمّا ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الـموسيقى إلى مجـاراة هـذا الإرتقاء لكي تعطي الـمثل الصحيح للعواطف والأفكار الـجديدة التي لم تعد الألـحان الـموضوعة تكفي للتعبير عنها. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك، فأحدثوا في الـموسيقى تطوراً خطيراً، إذ إنهم عدلوا عن الألـحان إلى الأصوات الـمفردة التي هي أساس الـموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الـموسيقى الأدب والفلسفة، فضلاً عن الشعر، وهكذا استتبّ لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. إنّ التقاليد القديـمة الـمستعارة قيدت نفوسنا بألـحان محدودة إبتدائية قد أصبحت حائلاً بيننا وبين الارتقاء النفسي. إنّ في فطرتنا ونفوسنا شيئاً أسمى مـما تعبّر عنه هذه الألـحان الـجامدة، شيئاً أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إنّ في أنفسنا فكراً عاطفياً وفهماً عاطفياً يتناولان التأملات العميقة في الـحياة والرغبة الشديدة في تـحسينها من وجوه متعددة: إجتماعي، قومي، روحي، إنساني ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تـحقيقه إلى أنواع من الـموسيقى غير الألـحان الـمستعارة الـموضوعة لـحالة أو حالات نفسية محدودة معينة كحالة الـحزن أو حالة التدله في الغرام، فإن نغماً وضع لـحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم أو حالة الـجذل والابتهاج أو حالة التأمل. بل إنّ لـحناً وضع لـحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يـمكنه أن يعبّر عن هذه الـحالة بعد مرور زمن طويل إكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقى شعورها وأكسب الـحالة النفسية الـمقصودة معانٍ جديدة تـحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تـحيا نفسيتنا حياة راقية تقربنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألـحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا وأفكارنا وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها.»
«لـمّا أتـم سليم عبارته إلتفتُّ إلى الرفقاء فوجدتُّ بهيجاً وأصحابه قد وقفوا على أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل. ثم إنّ أحدهم نظر إليّ وخاطبني قائلاً: «ما رأيك يا سيد، في ما يقوله السيد سليم؟»


قلت: «إني أوافق على جميع ما قال وأتّخذُ من حكمه في الـموسيقى حكماً في الأدب. أنظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلِّدين، لأن حدي العيس ليس من شؤون شعبهم ولا من مظاهر تـمدنهم، وإلى كتَّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية وسهلية خضراء. إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الـحقيقة، وأني لأعتقد أنه لا بد من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير الروحية والعقلية السوريتان، الغنيتان بـمواهبهما الطبيعية، معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري.»
«وبعد صمت قصير انصرفنا وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تـزده الأيــام إلا رسوخـاً.


«إنّ الـحديث الـمتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمة. والذي أعلمه أنّ سليماً كان قد ابتدأ ينظم سيمفونية في انتهاء عهد الـخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب عليّ أن أروي أنّ سليماً كان يعتقد أنّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان موقناً من مزايا الـحرية والسلام والـمحبة الـمتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي، من وراء ذلك، إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء كان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حيّ وفن موسيقي يوحّد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيـمان اجتماعي واحد قائم على الـمحبة، الـمحبة التي إذا وجدت في نفوس 

شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يـملأ الـحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذٍ يصبح الـجهاد السياسي شيئاً قابل الإنتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الـحرية السياسية.»


أَنظر الآن، بعد مرور إحدى عشرة سنة، في هذا الاستعراض لـحالة فن الـموسيقى وحالة الأدب في بيئتنا ونوع النفسية الـمسيطرة على مجموعنا، الـموروثة من أزمنة السقوط تـحت مطارق الفتوحات البربرية وأمواج النفسية الشرقية، فأرى أني قد صورت حالة التخبط في الـمواضيع الفنية والأدبية السائدة في أوساط متنورينا وأوضحت طريقة الـخروج من تلك الـحالة. وإني أوافق الآن على ما صورت في القصة وأرى أنه ينطبق على ما أتناوله في البحث الـحاضر من التخبط الأدبي والصراع الفكري في الأدب، وعلى ما أصف به الآن الأدب عامة والشعر خاصة. وأرى فيه، عدا ما تقدم، صلب الـموضوع.


قلت إنّ الـمشابهة بين ما قلته في الـموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر تختلف عن الـمشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه حيث يقول:
«إنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو، في عرفي، ذلك الشعور النابض يصوّر للناس نفوس الناس. ولا تتعدى فائدته - في أحايين كثيرة - منفعة يصيبها الـمرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية»


فهذه الـمشابهة بين الشعر والـموسيقى لا ترفع الشعر ولا الـموسيقى ولا تعطيهما الـمنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها وانفلتت من الـحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديـمة إلى الـحياة والفن ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة اللذين حددا للشاعر الـمذكور الشعر والـموسيقى تـحديداً مضنكاً.


أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيي هناك مقتضباً لم أحلل فيه غير قوله «يصوّر للناس نفوس الناس.» ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى. وأتناول «تصوير النفوس» فأقول إنّ هذا التصوير لا يـمكن أن يحدث بواسطة «الشعور النابض». وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور الـمذكور جاء تصويراً مشوهاً أو ناقصاً. والأرجح أن يكون حينئذٍ تصويراً لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس وما يراه في نفوس الناس. وقد يكون وعي الشاعر كاملاً وقد يكون ناقصاً. وفي كل حال فالوجهة الوصفية بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحتة (سبيكتيف) وضيقة جـداً، لأنهـا تكـون منحصـرة فـي نفـس الشـاعـر وغيـر متنـاولـة نفـوس النـاس كما هي نفوس الناس، ولا أشواقها إلى ما تـحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي، فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس وعلم الاجتماع والفكر الذي يجب أن يلازم الشعور أو يتقدم عليه أو يقوده في هذا الـمسلك الوعر. فتخصيص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي الاندفاع مع السجية أكثر مـما يوحي التمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصاً موفقاً، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعراً. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة أو بعضها أو مظهراً من الـمظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعراً. أما الشاعر الذي «يصوّر نفوس الناس» ويُعنى بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر أو كل شاعر، بل شاعراً ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة. وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.


إنّ خليل مطران شاعر شاعر من غير أن يدخل الـمسائل النفسية. ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه الـمسائل. فقصيدة «نيرون» قطعة شعرية خالدة، سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة، ما تعلق منها بالـمسائل النفسية. وشفيق معلوف شاعر شاعر في الأحلام ولم يصوّر فيها نفوس الناس وفي عبقر وفيها قليل من القضايا النفسية وصورها وأوصافها أو هي معدمة من هذا القبيل. ولا نـجد في عبقر «الشعور النابض» الذي نـجده في الأحلام إلا في مقاطع خاصة تدل ميولها البيولوجية على عدم النضج النفسي.


ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر حدد له إدراك سمو الـموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها «لا تتعدى» فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة «مطربة كانت أم مشجية» جعله لا يرى للموسيقى غير ناحيتي الطرب والشجا. وهذه هي الـموسيقى الـمحدودة، الضيقة، الأولية. هذه هي الـموسيقى في نظرة إلى الـحياة ساذجة، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد الـمثال الأعلى الـخالد.


الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الـحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن والـمناحي الروحية. وقد رأى القارىء مـما قدمت نقلاً عن قصة فاجعة حب أنّ فائدة الـموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجا، إلا حيث جمدت الـموسيقى عند حدّ هذين الشعورين الأوليين، بجمود حياة البيئة روحياً وماديّاً. فالـموسيقى الراقية تـحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلاً عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الـحياة البيولوجية أو الـجنسية. ولكن هذه الـموسيقى الراقية هي وليـدة عصر راق أو نتاج مخيلة مبدعة، قدرت بذاتها أن تتصور عالـماً من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألـحان تـحتاج بدورها إلى عصر يفهمها. وهذه الـمخيلة الـمبدعة يجب أن تكون متأثرة بإحساس بقضايا الـحياة، عال جداً لا يكون، في الغالب، أو لا يجب أن يكون، إبداعاً خاصاً بالـموسيقي الـمبدع.
لأشرح هذه النظرية: إنّ واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الـموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس الـحياة الـمستمد من الأساطير الـجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفية الـمنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألـمانية إلى الـحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الألـمانية إلى الـحياة ولا واضعاً للأساطير الـجرمانية. ولكنه مبدع للموحيات والأمواج الـموسيقية الـمعبرة عن النظرة الـمذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه الـمزايا القومية أو الـجنسية الـجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك الـمثل العليا الفلسفية التي نراها تـمثيلاً ونسمعها ألـحاناً وأناشيد في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها. فكان واغنر شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الـموسيقية، وكان موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألـحان وأنغام تلك الروايات الـخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية الـمعبرة عن نظرة إلى الـحياة عالية جداً. ويصعب على الدارس الـمفكر تصوّر وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألـمانية وتأثره بنظرة إلى الـحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألـمانية اتـجاهها الصعودي.


وإذا ذهب أحـد من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة» وسمع ألـحان واغنر أفيسرّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الـموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلاً، وأكثر وأهم ما فيها، تأملات فكرية واتـجاهات فلسفية لا يقدر على تتبُّعها مَن غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الـموسيقى إلا تعبيراً عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الـحياة تغلب فيه النزعةُ البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل أو انبساط أو شجا فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركّبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومُثُل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الـخفي أو الـمعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل.


لا يكون موقف أديب الـجمود والـخمول السوري تـجاه موسيقى بيتهوفن أو باخ أو موسرقسكي أو ويبر أو بروكنر أو تشايكوسكي أو بُرُدين أو رمسكي - كرزاكف أو ستراونسكي أو شوفين أو برليوز أو دبوسي أو سباليوس أو دوُرياك أو شوبرت أو غيرهم، غير موقف الـمستغرب أو الـمستهجن.


فمنذ سنين سمعت كاتباً صحفياً سورياً في سان باولو، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول إنه دخل مرسح «الـمونيسيفال» في الـمدينة الـمذكورة ليسمع إحدى سيمفونيات بيتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به الـمقام حتى عاف السماع وخرج من الـمكان، وهو في حيرة من بلاهة الناس، الذين يطيقون الـجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد، لسماع موسيقى لا طرب فيها «لطيب العناق على الهوى» ولا شجا فيها «لطول ليل الصب»؛ ولشدة سأم «الأديب الكبير» الـمذكور مـما سمع من هزيز ودوي وزمزمة وحفيف وكشيش وقرع، وليفرج كربه، طلب من صاحب الـمكتبة السورية التي كان يروي فيها قصته، أن يسمعه بعض أناشيد الـمغنية الـمصرية أُم كلثوم الـمطربة، الـمشجية! ولم يكتفِ بذلك بل صار ينادي صديقاً له ماراً بالـمكان ويقول له: «تعال لنموت بهذا الغناء» وهو لا يدري أنه يقول الـحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لـمعنى آخر!


مع أنّ الشعر أضيق مجالاً من الـموسيقى للتعبير عما تشمله النفس الإنسانية من فكر وتصورات وشعور ومنازع، فإن ما حدد به شفيق معلوف الـموسيقى وفائدتها جعل الشعر نفسه بالـمشابهة، أضيق مجالاً وأقرب قعراً مـما هو أو مـما يـمكن أن يكون بعد أن تنجلي لنفس الشاعر نظرة أعلى في الـحياة الفردية والـحياة الاجتماعية ومطالب أسمى للجمال النفسي وإحساس أدق بأغراض الوجود وجوهره الـمستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله. فإني أعتقد، بطبيعتي السورية، أنّ كيان النفس هو في الوجود ولأجل الوجود، مهما كانت طبيعة هذا الوجود في ذاته، ومهما كانت علته، وليس لأجل «الفناء» في «وحدة الوجود».


لا أعتقد أنّ بلوغ هذه المرتبة يتم للشاعر السوري أو غيره بقراءة سفر أشعيا من التوراة اليهودية ولا بتقوية الاتصال «بالأدب القديـم» الذي هو تعبير غامض في ذاته، ولا بإحسان الآداب الأجنبية القديـمة التي أوجدت الأدب الأجنبي الـحديث ولا بتوشية الكتب وإتقان الطباعة، بل بالاتصال بـمجرى حياة يجد فيه الشاعر نفسه ونفس أمته ومجتمعه وحقيقة طبيعته وطبيعة جنسه ومواهبهما، وبإدراك عمق النظرة إلى الـحياة والكون والفن الـملازمة لهذا الـمجرى الذي يزداد قوة مع الأيام.

 

 

(1) الزوبعة، بوينُس آيرس، العام الثالث، العدد 53، (1/10/1942) ص 4 - 5

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro