مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​من الظلمة إلى النور
 
 
 
الزوبعة، بوينُس آيرس،العام الثالث، العدد 54 (15/10/1942) ص 4 - 5
 

بعد ظهور أمر الـحزب السوري القومي الاجتماعي وحصول الاختبارات الواسعة لأهمية عقيدته وتعاليمه القومية الاجتماعية، التي تفتح عهداً وتاريخاً جديدين وتـجلو نظرة إلى الـحياة والكون والفن جديدة، ووضوح عظم الـمهمة التي يقوم بها هذا الـحزب قال لي الأمين جورج عبدالـمسيح، وهو من رجال الـمجلس الأعلى ومن أشد رجال الـحزب إخلاصاً وإقداماً ومن خطباء الـحركة القومية الاجتماعية وكتّابها وإدارييها:


«لو كنت قومياً قبل ابتدائي دروسي النهائية، إذن لكنت استفدت من دروسي أكثر كثيراً مـما استفدت، إذ كنت عرفت كيف يجب أن أدرس - وأظن أني أعبّر عن رأي غيري أيضاً.»
الأمين عبدالـمسيح كان طالباً في الدائرة الاقتصادية في الـجامعة الأميركانية. وكان في السنة النهائية حين قبل فكرة القومية الاجتماعية. ولم يستوعب أهميتها ويفهـم خطـرها وبُعد مراميها وقضاياها إلا بعد أن اجتازت هذه الفكرة مرحلة واختمرت بالاختبار والشروح ومعالـجة الـمسائل التي اعترضت نشوءها ونـموها. وكان لدروسه الـمدرسية نصيب في شغله عن درس موضوع التعاليم الـجديدة. فأنهى دروسه على أساس النظرة الفردية اللاقومية الرامية إلى النجاح الفردي البحت بلا مبالاة بشيء آخر. ولكنه بعد أن سار شوطاً في الـحركة القومية الاجتماعية أخذ يستعيد بعض النظرات ويدقق فيها وصار يفهمها فهماً جديداً.


لم يكن الأمين عبدالـمسيح وحيداً في هذا الشعور. فالأمين فخري معلوف ترك الاشتغال في بواطن النجوم بعد أن صحت به: «أتشتغل بفحص بواطن النجوم وأنت لا تدري لـمن تكون الأرض التي تـحت قدميك غداً؟» وبعد أن استوعب الفكرة القومية الاجتماعية قال لي مرة «الآن صرنا نفهم مقالاتك في الـمجلة»، وهي المقالات التي كتبتها لأعداد الـمجلة التي استأنفت إصدارها في بيروت سنة 1933 ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد، إذ اضطررت لإيقافها من أجل صرف كل عنايتي إلى تنظيم الـحركة القومية التي كانت تـحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها، إذ لم يكن قبلها شيء إداري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو دستوري أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الـحركة الـجديدة.


مثل قوليْ الأمين عبدالـمسيح والأمين معلوف سمعت من غيرهما. والأمين فخري معلوف غيّر اتـجاه دروسه فدرس بعض الاقتصاديات والسياسة وهو يعلّم في الـجامعة، ثم انتقل إلى الفلسفة فتخصص فيها وقد عرف، على ضوء النهضة القومية الاجتماعية، ما يدرس وكيف يدرس (من الـمؤسف أن يكون حدث لفخري معلوف مؤخراً إنحراف نفسي ظاهر نحو القضايا الغيبية واللاهوتية) والذين أدركوا خطورة هذه النهضة وشعروا بعظم حقيقتها وهم بعد في بدء دروسهم النهائية أو قبل بلوغها ظهرت فاعلية مبادىء النهضة في دراستهم. وجميع هؤلاء والذين صقلت التعاليم القومية الاجتماعية ثقافتهم وجلت وعيهم وأيقظت مواهبهم هم الآن قوى روحية كبيرة في هذه الـحركة الباعثة أمة عظيمة من مرقدها.


في أواسط سنة 1935، قبل اعتقالي ومعاوني في إدارة الـحركة السورية القومية الاجتماعية ببضعة أشهر، إنضم إلى هذه الـحركة شاعر كان اسمه قد ابتدأ يدور على الألسنة في أوساط سورية الأدبية وخصوصاً في لبنان. هو سعيد عقل ناظم ملحمة بنت يفتاح. وقعت في يدي نسخة من هذه الرواية الشعرية فقرأت بضعة مقاطع منها فأحسست فيها شاعرية مـمتازة جديرة بتناول قضايا الـحياة والنفس. ولكنني لم أطق قراءتها كلها لأني وجدتها تخدم موضوعاً غريباً عن الـمواضيع السورية، مختصاً باليهود أعداء سورية. رأيت موهبة شاعر سوري جدير بالتعبير عن النفس السورية، ولكنها موهبة خارجة عن الـمواضيع السورية وعن خطط النفس السورية. وهي تخدم اتـجاهات ومثلاً في انتصارها انكسار لسورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها. ومع كل الشاعرية الـجيدة الظاهرة في الـملحمة لم أجد فيها ما يـمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلاً جديداً وأن يحدث فيه تغييراً أو تـجديداً، على الأقل التغيير أو التجديد الـمنتظر أن يجعل سورية في مصاف الأمـم التي لها أدب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالـمي.


رأيت في بنت يفتاح مظهراً من مظاهر «أدب الكتب» الذي عرضت له في مقال نشرته في الـمجلة في بيروت باسم مستعار وبعنوان «أدب الكتب وأدب الـحياة» (أنظر ج  1ص 436) وقصدت أن ألفت فيه النظر إلى أنّ ما نحتاج إليه هو أدب الـحياة، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوّرنا ويعبّر عن مثلنا العليا وأمانينا الـمستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته وهي من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكيري في البعث القومي وأسبابه، ورأيت أنّ تركيز الأدب عليها غير مـمكن إلا بالاتصال بنظرة إلى الـحياة والكون والفن جديدة تـجسّم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى الـمادية - الروحيـة من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية. وقد عبّرت عن هذا الرأي، بطريقة أخرى، في ختام شرح مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي بقولي:


«إنّ غاية الـحزب السوري القومي هي فكرة شاملة تتناول الـحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها. فهي تـحيط بالـمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تـحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبي جديد.»


بهذه النظرة رأيت إمكان إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد ودوافع البعث. فالأدب الذي يخدم هذه الغاية، أو أية غاية مـماثلة لها، هو «أدب الـحياة» الذي عنيته. هو الأدب الذي يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها. هو الأدب الذي مهمته أن يكون «منارة للجماعات» وليس «مرآة لها». إنه أدب النوابغ والعباقرة الذين إذا فات بعضهم أن يكونوا مؤسسين للفلسفة والنظرة إلى الـحياة الـجديدتين، فلا يفوتهم إدراك الـمثال الأعلى، الذي تشتملان عليه والنفسية الـجديدة التي تقتضيانها فيحملون النظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن ويقيمون بها أدباً جميلاً خالداً، لأنه يحمل عوامل حياة جديدة بنظرتها وفلسفتها ورغباتها، فيكون بذلك النهوض الأدبي الـمساوق للنهوض السياسي الـمبني بدوره على وجود النظرة الفلسفية الـجديدة في الـحياة الإنسانية وعواملها وأغراضها الأخيرة.


لم تكن بنت يفتاح تنطبق على مرمى التجدد الروحي في سورية وعلى ما يرجى من الأدب الـجديد الذي كانت سورية تتوق إليه توقاً داخلياً، لأنها كانت بعيدة عن مواضيع الـحياة السورية وغير متصلة بنظرة فلسفية يـمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية. فلم يستهوني موضوعها. وصور الـجمال التي فيها بقيت غريبة وجامدة، مع أنها صور إحساس سوري ضمن حوادث موضوع غريب معاكس لاتـجاه الشعور السوري، فرأيت أن ألفت نظر الشاعر إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب، فانتهزت فرصة زيارة قمت بها لـمنفذية الـحزب السوري القومي الاجتماعي للبقاع الشمالي في زحلة، بعد خروجي من السجن الـمرة الثانية سنة 1936، لتنفيذ عزيـمتي. كانت الدعاوات الـمفسدة قد لعبت دوراً هاماً في مديرية زحلة، في أثناء غيابي الطويل في السجن مرتين متواليتين مع فترة قصيرة بينهما. وكانت الإذاعة الشيوعية قد أخذت تعبث ببعض الرفقاء ومنهم سعيد عقل الذي وجدته شبه مقتنع بأنه لا حاجة لنهضة قومية اجتماعية في سورية، إذ العالم كما قال له بعض الشيوعيين، على أبواب صراع بين الشيوعية والرأسمالية وأيهما انتصر قضى على كل أمل لسورية بتحقيق بعثها. فأوضحت للمتزعزعين مقدار الـخطر على مجتمعهم وعلى أنفسهم من تقلّبهم في العقائد تقلّب الأوراق تلعب بها الريح. وفي نهاية حديثي إليهم وجهت خطابي إلى سعيد عقل خصيصاً ومدحت شاعريته الـممتازة ولـمته لعدم اهتمامه بالـمواضيع التي هي من صميم الشعب السوري وتاريخه. وسألته هل لم يجد في تاريخ سورية من روائع الـمظاهر والـمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويه لاستخراج كنوزها واستئناف مجرى خططها السامية؟ فلم يحر جواباً فأشرت عليه بقراءة كيفية بناء قرطاضة العظيمة وتـحويلها إلى قاعدة إمبراطورية فسيحة الأرجاء شديدة السطوة وحوادث تاريخها الـموقظة الشعور والـمنبهة الفكر، أو قراءة شيء من أي دور من أدوار تاريخ سورية القديـم فيتمكن، بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديـمة بقضاياها الـجديدة وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديـم السوري والـجديد السوري القومي الاجتماعي واستخراج الـمثل العليا الفرعية والتفصيلية الـجوهرية في الأخلاق والـمناقب، وإبراز أجمل الـمظاهر النفسية وأسنى الـمواقف الـمناقبية حسب الإحساس والتصور الـملازمين لـخصائص النفسية السورية. تركت هذا الـمعنى في ذهن سعيد عقل وخرجت من الـمكان غير منتظر جواباً.


بعد سجني الـمرة الثالثة وفي أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938، أوصل إليّ الأمين فخري معلوف نبأ جعلني أشعر بـموجة حرارة تـجري في جسمي كله. قال لي الأمين معلوف إنّ سعيد عقل يشتغل في قصيدة أو ملحمة عنوانها قدموس السوري التاريخي الذي علّم اليونان الأحرف الهجائية والكتابة وله قصص بطولة أسطورية جميلة، وإنه قد أنـجز قسماً منها، أسمعه بعض مقاطعه، وإنه يود أن يجتمع بي ليُسمعني ما قد نظم. لم يـمكني دور الـجهاد العنيف الذي كنت فيه من تـحقيق رغبة الرفيق سعيد عقل ولكني شعرت برغبة شديدة في الالتقاء به ليقرأ في ناظري تقديري العظيم وشكري (وإني آسف، بعد وقوفي على رواية قدموس من نظم سعيد عقل لأني لم أجد فيها ما كنت أتوقعه. فقد حاول الـمؤلف أن يصبغ الـحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي).


سردت هذه الـحوادث كما حدثت، مفضّلاً أخذ الـمثل من الـحاضر ومن شؤون تاريخ نهضتنا التي في مقدور كل مؤرخ ومحقق تـمحيصها وسؤال أفرادها الذين هم أحياء وفي فتوة الـحياة، ليسهل إدراك نظريتي في كيفية نشوء أدب جديد حي بنشوء نظرة فلسفية اجتماعية جديدة صدرت عنها حركة سياسية واسعة تناولت حياة أمة بأسرها وامتد تأثيرها إلى الأمـم الـمجاورة وامتزجت أنغام موسيقاها الـخاصة بالأنغام الـخاصة الصادرة عن أمـم أخرى تشترك في الإرتقاء النفسي على ألـحان الـمجد الـمكتسب بانتصار الأفضل والأنبل والأعز على الأسوأ والأرذل والأذل، ولفهم ضرورة النظرة الفلسفية الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن للتجديد الأدبي أو الفني.
ويصعب عليّ كثيراً أن أتصوّر أنّ مجرد قراءة تواريخ قديـمة والإطلاع في الأدب العربي القديـم ودرس الأدب الإنترناسيوني الـحديث، يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصلية جديدة في سورية ومصر أو في أية أمة من أمـم العالم، على وجه القياس. كل ذلك يحتاج إلى الـحافز الروحي الـمستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الـحياة وقضاياها. وبدون هذا الـحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقي، لا وهمي، لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها ولا رونق ولا شخصية. فلا هو شيء جديد من الوجهة النفسية يطبع خصائصه على الـحقب والأجيال ولا هو شيء قديم أصلي محتفظ بخطوط شخصية صحيحة تظهر قوتها في ملامحها الصريحة، التي لا يتمالك الناظر إليها من الشعور بحقيقتها والإعجاب بـمقدرتها على البقاء وبجاذبية مزاياها الأصلية الـخاصة.


لو كان الـحافز الروحي الـمستمد من فلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية اتصل بجميع رجال العلم والأدب الذين انضموا إلى هذه العقيدة، قبيل ابتداء دروسهم الشبه اختصاصية لـما كانت تلك الدروس، ظلت هياكل عارية، ميتة لا حياة لها ولا حراك بها، حتى جاءت النهضة القومية الاجتماعية بـمبادئها وصيّرت العلوم الـميتة علوماً حية، فاكتست العظام لـحماً ونبضت عروقها بدم الـحياة الـحار. وبدون الـحافز الروحي الواعي لا تفيد كثيراً قراءة شكسبير وغوته ولا العودة إلى سفر أشعيا ولا زيادة العلم ولا التعمق في الأدب القديـم.


إنّ العراك السياسي العنيف الذي اضطرت النهضة السورية القومية الاجتماعية للدخول فيه في جبهتين داخلية وخارجية، قبل اكتمال نـموها الطبيعي وقوتها، حال دون حصول نتاج أدبي كبير، واسع، شامل. ولكن الـحافز الروحي الذي ولدته هذه النهضة الـحقيقية قد حرك عوامل الـحياة والارتقاء في جماعات كثيرة وأيقظ وجدان ألوف الأحداث والطلبة في طول البلاد وعرضها. والعقيدة آخذة في الاختمار، والفكر قد ابتـدأ يتبلـور، وسيجيء دور الإنتـاج الأدبـي والفنـي الـواسع، الـذي ينهض بالعصر الذي ابتدأ تاركاً في الـحضيض العصر الذي أخذته حشرجة النزع (وقد جاء بالفعل هذا الدور وقد بدت طلائعه في عدة مؤلفات ذات قيمة).
إنّ(1) من نتائج حصول نظرة فلسفية جديدة إلى الـحياة والكون والفن، حدوث تغيير في مجرى الـحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة، قبل كل شيء. وهذا ما حـدث في سورية بوجود النظرة الفلسفية السورية القومية الاجتماعية، ليس فقط في ما  تعلق بالأدب والفن، بل في ما اختص بالأعمال والأخلاق والـمناقب.
إتّفق لي أكثر من مرة أن سمعت هذا القول من منضمين إلى الـحركة السورية القومية الاجتماعية مدركين:


«لم نكن نعلم أي درك من الانحطاط الأخلاقي وضعف الـمناقب بلغ شعبنا، إلى أن دخلنا في الـحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد الـمتفشي في أمتنا وخطره على حياتها.»
حصول النظرة الفلسفية الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور كما قلت آنفاً. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدب والفن لا يـمكن أن يتغيرا أو يتجددا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الـحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة.
قد يسـأل سائـل: «هل من الضروري أن يكون التجديد الأدبي خاصاً بـمواضيع أمة معينة فإذا تناول غيرها بَطُلَ أن يكون تـجديداً وفقد قيمته الأدبية؟»

جوابي: كلا، ليس من الضروري. فالقيمة الأدبية أو الفنية ليست في هوية أو «جنسية» الـموضوع، بل في القضايا التي ينطوي عليها الـموضوع وفي كيفية معالـجة القضايا وفي النتائج الروحية الـحاصلة من هذه الـمعالـجة. أما ذاتية الـموضوع وزمانه ومكانه فلها ناحية شعورية خاصة وتقل أهميتها، أو تعظم، على نسبة الغرض الـخفي أو الـمعلن الذي يسوق الـموضوع إليه. على أنّ الاتـجاهات الفكرية والشعورية تتأثر بالـموضوع، الذي إذا كان خاصاً كـ بنت يفتاح تعرّض لفقد كل مبرر عام ولأن يكون مخـالفاً أو منـاقضاً للمثل العليا التي يبغيها الشعب الـمكتوب له الـموضوع وللخطط النفسية التي تبرز بها مواهبه الـجديرة بالإعجاب والبقاء. فـ بنت يفتاح مثلاً، تدخل في الأدب اليهودي الـخاص أكثر مـما تدخل في الأدب السوري، لأنها تتناول موضوعاً يهـوديـاً بحـتاً تبقى أسبـابه ونتـائجه ضمن إطـار الـمظـاهر اليهوديـة وكذلك موحياته وجواذبه، خصوصاً والشاعر قد نظم القصة ولم يحصل له الوعي القومي ولم يدرك النظرة الـجديدة إلى الـحياة.


إنّ الاعتماد على الـمواضيع الغريبة لا ينشىء أدباً شخصياً لـمجتمع له خصائصه التي يـمكن أن تضاف إلى مجموعـة الآداب العالـمية ووحـدات خصـائصها. إنه ليبرر تناول بعض الـمواضيع الأجنبية، بعد نشوء الأدب القومي أو الـخاص على نظرة إلى الـحياة والكون والفن واضحة. فيكون تناول تلك الـمواضيع بهذه النظرة أو بهذا الوعي الذي له خصائصه فيكسبها من خصائصه ما يضيف إليه ألواناً وأشكالاً متميزة. وفي هذه الـحالـة يجب أن تكون تلك الـمواضيع ذات أهمية خارقة، تاريخية أو حقوقية أو إنسانية، قابلة الاشتراك بين الشعوب أو بين بعضها. فشلر ألّف عذراء أرليانس (أرليان) في جان درك. ولكن ليست هذه الرواية الإنتاج الذي أعطى شلر مقامه الأدبي. وهي ليست سوى جزء يسير مـما كتب شلر. وأهم ما كتب شلر، على رأي جمهور نقّاده، هو حرب الثلاثين سنة في الـحرب الشديدة التي جرت في ألـمانية بين الكاثوليك والبروتستانت. فالـموضوع ألـماني صميم وقد كتب فيه شلر نثراً، ونظم فيه قصيدتين أو ملحمتين عاليتين جداً، الواحدة في بطل الكاثوليك ولنشتين، والثاني في بطل البروتستانت غستاف أدلف. ومع أنّ هذا الأخير هو ملك أسوج فقد تدخّل في شؤون النزاع الديني الألـماني ودخل في تاريخ ألـمانية. والـموضوع وسياقه أبرزا شاعرية مـمتازة وجدت نفسها في بيئتها وفي بيتها فوافق ذلك الـمثل البسيط «رب البيت أدرى بالذي فيه.» ففي وصف ولنشتين، مثلاً، تظهر صورة حية ذات رواء نادر. وأتـمنى

أن تكون صورة أبطال سورية في قصائد شعرائها أبهى سناءً من قصيدة شلر في ولنشتين وجديرة مثلها باحتلال مركز عالـمي مـمتاز.
وهذه عبقر(2) لشفيق معلوف. هي أيضاً قصيدة سورية في موضوع غريب. وسأتناولها بتشريح لم يـمكن أن أتناول به بنت يفتاح لأن تلك قد أصبحت أمامي بفضل أحد الـمعارف.


لا شك عندي في أنّ عباس محمود العقاد لا يجد سبباً للتذمر من مظهر الكتاب الذي طبعت فيه القصيدة. فورقه صقيل وأصفر يريح العينين. وصفحاته كلها ذات طراز ولكل نشيد من أناشيد القصيدة صورة رمزية من رسم فنان إيطالي.
موضوع القصيدة عبقر العربية التقليدية وهي «قرية تسكنها الـجن ينسب إليها كل فائق جليل.» وقد أراد الشاعر أن يقوم بسفرة معراجية أو معرية أو دانتية إلى عبقر. وكما سار محمد بصحبة جبريل إلى الـجحيم والسماء فتعرّف إليهما، وكما فعل الشاعر السوري الـخالد أبو العلاء الـمعري، وكما فعل شبه فعله دانتي ألغياري في ديوينه كميديه [Divine Comedy]، كذلك سار شفيق معلوف صحبة شيطان شعره إلى عبقر.


لـماذا اختـار شفيق معلوف «عبقر» موضوعاً لشعره؟ لا أظن إلا أنه حب «الإبتكار» ودافع أن يقلَّد من غيره ضمن نطاق أدب اللغة العربية، إذ ليس لـموضوع القصيدة، أي لعبقر، أية قضية نفسية أو فلسفية عامة كالتي للجحيم والسماء. وهذا الـموضوع مجهول في سورية إلا عند الذين أكبوا على دراسة التقاليد والـخرافات العربية كالـمستشرقين ومن جرى مجراهم. وصوره الأصلية هي صور خرافات وأوهام تلازم الـجماعات البشرية الـمكتنفة نفوسها ظلمة الـجهل والغفلة والوحشة. فخيالاتها غرائب لا منطقية ولا تسلسل فلسفي لها، كظهور الـجن وركوبها الأرنب والظبي واليربوع والـحية وغيرها، وكمخاطبة الـجن وغير ذلك، وكعجائب الكهان الذين يولد بعضهم بلا عظام وبعضهم نصف إنسان. وهذا النوع من الـخرافات لا مغزى له غير ما يدل عليه من حالة الأقوام التي تـمارسه. وعلى عكس ذلك الأساطير الراقية ذات الصبغة الفلسفية الـمتناولة قضايا الـحياة الروحية والـمادية، الـملازمة للجماعات البشرية التي أظهرت استعداداً نفسياً عالياً وجعلت أساطيرها ذات مغزى في الـحياة وفي الـممات، كالأساطير السورية التي أثّرت تأثيراً كبيراً في الأساطير الإغريقية وساعدت على نشوء أبدع الشعر الكلاسيكي وأسمى التفكير الفلسفي. ولا بد هنا من تصحيح الاعتقاد الشائع أنّ الشعر الكلاسيكي يبتدىء بهوميرس. إنه يبتدىء، مئات من السنين قبل إلياذة هوميرس، بقصيدة «طافون» في سورية، في رأس شمرا، التي يرجّح أنها «أوغاريت» القديـمة، كما أظهرت التنقيبات الـجديدة بين سنة 1929 وسنة 1932.


لم يتناول ناظم عبقر هذا الـموضوع العربي بقصد تصوير حالة العرب النفسية في خرافاتها وتخيلاتها وهي تغدو وتروح بين كثبان الرمال وفي مفاوز الصحراء وسباسبها ووسط أنـجادها ووهادها، بل كان قصده أن يجد في تلك الصور الأولية، التي منشأها مخاوف الـجهل وهواجس الاضطراب تـجاه الـخفاء، مغازي الأساطير العليا، الراسمة لقضايا الـحياة الإنسانية ومسائلها النفسية الكبرى رموزاً فلسفية في غاية الدقة من التمعن وقوة الـملاحظة الـمتنبهة بالاستعداد الذاتي والاتـجاه الدال على طموح نفسي عظيم إلى إدراك كنه الـحياة والوجود والبقاء والفناء والأغراض العظمى من الوجود الإنساني، مـما هو من شأن الـجماعات الآخذة بأسباب الرقي الفكري. فكان قصد الشاعر أعظم وأعلى من الأسباب التي أراد بلوغه بها، والنتيجة الأخيرة التي وصل إليها ناظم عبقر ليست من النتائج الـمسعدة التي يرغب فيها الإدراك العالي. حاول الشاعر أن يرقى بالـخرافات العربية إلى مرتبة الأساطير الفلسفية فنزل بفلسفة الأساطير إلى حالة لا منطقية.


لعل أعظم مدح لشاعرية شفيق معلوف أنه حاول أن يربط جميع الأوهام العربية التقليدية في عبقر والـجن والكهانة بخيط من الفكر والشعور يتعلق بـموضوع من أهم الـمواضيع الإنسانية: الـحب. لا أظن أحداً سبق شفيق معلوف إلى هذه الـمحاولة، ولا أعتقد أنّ أحداً سيدركه في مثلها. إنها ابتكار ولكني لا أتـمنى أن يجد مقلدين كثيرين في سورية.


لم يكن شفيق معلوف محتاجاً إلى هذه السياحة الطويلة إلى عبقر ليظهر أنه شاعر في الوصف الروائي. ولم يكن محتاجاً إليها عبّارة ليصل إلى تـمجيد الـحب الفاني الذي يتغذى بدم شرايين الشباب وينمو بحرارة أجساد الفتوة، ثم يجف مع جفاف الشرايين ويتقلص بتناقص الـحرارة ويفنى بفناء الأجساد.


تـمتاز عبقر على بنت يفتاح وعلى كل ما وقع عليه نظري في الشعر السوري والـمصري والعربي القديـم والـحديث، باستثناء إنتاج الشاعر السوري الكبير أبي العلاء الـمعري، بأنها شيء مركّب بإبداع الـمخيلة التي أنشأت فصوله و«مؤلف» بعناية اشترك في تأليفه الفكر أو العقل مع الشعور، وبأنها محاولة مركّبة تدل على مؤهلات الناظم للصعود فوق العواطف والانفعالات العارضة أو الفطرية ولتناول الـمواضيع الإنسانية الـمتعلقة بصفات الإنسان الـجوهرية الباقية. تـمتاز بأنها خيالية وبأن الـخيال فيها مربوط بالعقل، وبأنّ الفكر لم يهمل فيها لتترك العاطفة على سجيتها.


هذه حقائق الشاعرية الكبرى في عبقر. ولكن يلاحظ في هذه الشاعرية الـخلو من النظرة الفلسفية إلى الـحياة والكون والفن القادرة على التأسيس أو البناء لـحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً. وأعتقد أنّ الـخلو من هذه النظرة هو السبب الذي حمل الشاعر على دفن شاعريته في تتبُّع الـخيالات والـخرافات العربية الـخالية من الـمغزى الفلسفي أو من سحر الـجمال، ومعاناة استخراج بعض الرموز والـمغازي من جميع تلك الاستعراضات الغريبة، من ركوب ظهر الشيطان إلى ذكر عرافة عبقر إلى عبقر بذاتها، كما يتصورها الشاعر، إلى «مراكب الـجن»، إلى الـجن، إلى الكاهنين سطيح وشق وغير ذلك من أضغاث الأوهام التي لا تـجد فيها أي تعبير أو مغزى فلسفي يصلح لتوسيع أفق النفس في الـحياة ومراميها. ولذلك أجد عبقر خالية إلا من استعراض الـخرافات الشبحية واعتقادات أولية بالية في «حديث العرافة» وتـمجيد للحب الـمتلظي في الشفاه، وكل ذلك بأسلوب شعري جميل جزلت «معانيه» ولطفت ديباجته وحلت رقّته، ولكنه لا يوجـد في النـفس غير لذة تشبه اللذة التي تورثها خمر جيدة تسعد باحتسائها وتثمل بدبيبها وتلتذ بذكراها ولا شيء وراء ذلك. ومع هذا ففي عبقر أبيات فيها لـمحات أو لـمعات نفسية تكاد تصل إلى الثورة الروحية كقوله:


مـا الفـرق فـي نـومـي وفـي يقـظتـي
                                               وكـل مـا فـي يقظـاتي رؤى (ص 146)


في «نشيد الكاهن سطيح» وفي «حديث الكاهن شق» يجد الباحث محاولة للاقتراب من الفلسفة والفلسفة الاجتماعية. ولكن ليس في هذا الاقتراب غير مجاراة الاعتقادات القديـمة كقوله على لسان سطيح:


                    والــخــلـــق مــن حــمــقـــى ومــن أغــبـــيـــاء
                    وكـــــل مــــن فـــي الأرض مــــن أغـــبـــيـــاء
                    يـــجـــرون كـــالــعــمـيــان خــلــف الـــقـــدر
                    وفــــوقــــهــم يـــلــمـــع ســيـــف الــقــضـــاء
                    وتــحـتــهـم تــفــغــر فـــاهـا الـحفر (ص 238)


وكقوله على لسان شق:
                  مــــا ضــــرنــــي والــــواحــــد الســـرمــــد
                  لــــم يــحــب جــسمــي بيــديـــن اثـنـتـيــن
                  مـــــا زال لــــلـــقــضــــاء فــــوقـــــي يــــد
                  فــلـيـس بــي مـن حـاجة لليديـن (ص 242)

 

ولكنه في «حديث شق» يخرج إلى تأملات اجتماعية بعضها ذات صبغة مناقبية متفقة مع خطط التفكير السوري كقوله:


شـــذب مــنــي الأغــصــن الـفـاسـدة
                                                  فــصــلــحـت بـقـيــتــي الــبـاقـيــة
هــل تــنــفــع الــيـــدان والـــواحـــدة
                                                  تهـدم مــا تشيده الثانية (ص 242)


وكقوله:
                  وإنّ قـــــلـــــبـــــاً بــــعـــضــــه يــــشــعــــر
                  وبـــعــــضـــــه كـــأنّــــه الـــــجـــلــــمــــد
                  حـــسبـــــي مــــنـــه نِـــصـــفــــه الـــنـــيـــر
                  لا كـــان قــلــب نـصفـه أسـود! (ص 244)


فالبيتان الأخيران والبيت السابق لهما هما من أجمل وأسمى التعابير الشعرية في حيّز من الفكر صالح لتثبيت قواعد الاجتماع والعمران ولتقوية الـمناقب الضعيفة.
أتناول أخيراً الغاية الأخيرة من عبقر - الـحب:


الصورة التي يرسمها شفيق معلوف للحب ليست في عبقر أرقى منها في الأحلام إلا قليلاً. إنه الـحب الـجاهلي أو البربري أو الفطري. إنه الـحب الذي لم يروضه التمدن ولم تقوّمه الثقافة ولم ترتفع به النفس. في «أغنية الـجنية» يظن الـمدقق، بادىء بدء، أنّ الشاعر يحاول تصوير ميول الـجن وشهواتها ليخرج من ذلك إلى فكرة فلسفية في الـحب ومغزاه، ولكن ختام القصيدة، «همس الـجماجم» العبقرية، يثبت أنّ صورة الـحب التي يراها الشاعر هي صورة الضم والتقبيل وارتـجاف الأضلع وطلب الأجساد الأجساد. والشاعر يتدرج منذ البدء نحو هذه الغاية أو هذا الـمثال. ففي تصويره «أميرة الـجن» يكني عن الـحب الذي يرمي إليه بقوله:

 

     مسـت بـــــروح لــيــس مــن عــبـــقـــر
                        غــادرهـا غـرقـى ببـحـرانهـا (ص 170)


فكأنـه يريـد أن يقول إنّ روح الإنس دخل في جسم أميرة الـجن فجلب إليها أماني الإنسان وتصوراته فإذا هي الشهوات الـجسدية الـملحة:
                        ويــحـــي! مــن يــشـبــع فــيَّ الـنـهــم؟
                        أكُـلـمــا اسـتَــلْــقَـــتْ عـلـى مِـعـصـمي
                        روح، فــــقـــربـــت إلـــيـهــا فــمِــــي
                        تــمــلــصــت... فــلـم أُقــبِّــل ولـــم
                        أضـم إلا عـدمــاً فـي عدم؟ (ص 173)


ويستطرد الشاعر، مصوراً عالم الإنس، فيقول:
                        فـــي الــعــالــمِ الآخـــر حـيـــث الأرج
                        يــــجــــاذب الأنـــفـــس أهـــــواءهــــا
                        مـتــى تــلــظـــت شــهــوة فــي الـمهج
                        لـــم تـــعــدمِ الأجــســاد إِطـــفــاءهـــا
                        مـــا فــيــه غــيــر الــحـب مـلء الفضـاء
                        مــلء الـثــرى، فــِي الـغـاب فـي ظـلــه
                        فـــوق الـــجـبــال الــنـاطـحـات السماء
                        فـي الـمـاء، في كـيانه كله (ص 174)


هذه هي صورة الـحب التي يراها الشاعر في عالم الإنس فيرسمها في «أغنية الـجنية». وانظر كيف يتابع الشاعر في هذا النشيد وصف الـحب:
                        مـــن لــــي بـــحــب نــــوره يـنـبــلـــج
                        مـــن شـــرر مـحـتـــدمٍ فـي الــمقــــل؟
                        مـــن لـــي بــثــغــر لاهـــب تــنـفــــرج
                        ثــغــرتـــه عـــن شـــعــــلات الــقبـــل؟
                        مــن لـي بــذي صــدرٍ(3) خــفـوق ألــج
                        فـــي صـــدره وإن يــكـــن يـخـتـــلـــج

                  لِــــعـــاصـــف الـــمــــوت اخـــتــــلاج الـشـعـــل
                 مــــا نـــفـــــع روح خــــالــــد عـــشــــت فـــيـــه
                 ما زلت لم أحضن ولم أُحتضن (ص  177 - 178)


ينتقل الشاعر من الـجن إلى «العبقريين»، ويعني بهم الشعراء فيرى مثاويهم ويسمع همس جماجمهم، فلا ترى فرقاً بين ذكرياتهم وأماني الـجنيات، وهاك ختام الرواية وفيه غايتها الأخيرة ومثالها الأعلى:
                 تــــالــــلــــه لا الأصــــنــــام ولا الــــخـــرافــــات
                 تـــهــــز مــنـــــا الــعــــظــــام ونــحـــن أمـــــوات
                                تـــــلاشــــــت الأوهــــــــام
                                وأهـــــلــــهــــا مــــاتـــــــوا
          لـــكــــن مــــن يــهـز منا الرفات
          فــهــو الــذي كــل أمـاني الحياة
                                يــــفـــــــتــــر فـــي ثــغــــره
          وكل ما في الأرض من ذكريات
                                يـــغـــفـــو عـــلــى صــــدره

                 لا تســـتــطـــيـب الــنــجــوم غـيــر تــهــالــيـلــــــه
                 ولـــيــس تـــبــكــي الــغيـــوم فــي غــيـر مــنديلـــه

          ذاك هـــو الـــحــب لصيق الثرى
          مــا لــجـنــاحـي عــزمــه نــهض
          خــــصـــوا بـه الـجنة وهـو الذي
          مــضــجـعــه الـقـتــاد والــقــض
          والــحــب في الــجنــة مــا شـأنه
          ولا أذى فـــيـهـــا ولا بـــغـــض
          ألـقــوه لـلــنـــار وإِن أرمــضــت
          أقــدامـــه الـمـواطــىء الـرمــض
          ولـيـتــلـقــفــه شــواظ الــلــظــى

ولــيتــلــهـم بـعـضـه الـبعـض
فالأرض إن كانت جحيماً له
وكـــــان فيهــــا تهنـــــأ الأرض (ص 318 - 321)


هذا هو كل مرمى القصيدة. الصورة الشعرية رائعة، ولكن التصور الـمثالي فطري ساذج. ويـمكن أن ينعت بالـجاهلي أو الوحشي. فالـحب، كما يصوره الشاعر، هو نزعة بيولوجية بكل ما فيها من ميول وأشواق جسدية، لا غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلّماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى، حيث تنعتق النفس من قيود حاجة بقاء النوع ولذائذ أغراضه ويشاد بناء نفسي شامخ لـحياة أجود، وحيث يصير مطلب الـحب السعادة الإنسانية الاجتماعية الكبرى. فيكون الـحب اتـحاد نفوس. ولا يكون اعتناق الأجساد غير واسطة لتعانق النفوس الـمصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً من أجل تـحقيق الـمطلب الأعلى، في جهاد ضد الفساد والرذائل، ولنصرة الـحق الكلي والعدل الكلي والـجمال الكلي والـحب الكلي، ولرفض اللذات الـجسدية غاية في ذاتها، التي هي أعظم مصدر للأذى والبغض والعداوات الصغيرة، اللئيمة، الـحقيرة، التي لا ترى في الكون غير صغرها ولؤمها وحقارتها.

 

(1) الزوبعة، بوينُس آيرس، العام الثالث، العدد 55، (1/11/1942) ص 4 - 5

(2) شفيق المعلوف. عبقر، سان باولو، العصبة الأندلسية، طبعة ثالثة، 1949.

(3)  وردت "قلبٍ" ص 177.

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro