مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
إعتزال موسوليني
 
 
 
الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد 64، 1/8/1943
 

في الـخامس والعشرين من شهر يوليو/تـموز الـمنتهي، وبينما الزوبعة تستعد لطبع صفحاتها الأخيرة، وردت برقيات عند الأصيل تذيع أنّ دوتشي إيطالية، الـمسيطر الفاشستي، قدّم استعفاءه إلى الـملك الذي قبل الاستعفاء وانتدب الـمارشال بدوليو لرئاسة الوزارة الـجديدة.

 

الـحادث ليس قليل الـخطورة من الوجهة السياسية. وليس في الإمكان الآن التكهن بـمدى التغيير الذي يجلبه على إيطالية وإتـجاهها السياسي. أما من الوجهة الـحربية فالأرجح أنه لا يتناولها، لأن هذه الوجهة أصبحت خارجة عن متناوله. وأول بلاغات الـملك والـحاكم الـجديد تـجزم بـمتابعة الـحرب إلى النهاية.

 

وقد تسرعت صحف كبرى في هذه العاصمة وبعض الشركات البرقية في حسبان اعتزال موسوليني قيادة إيطالية إنتهاءً للنظام الفاشستي كله. وهذا الـحسبان ليس موافقاً للواقع. فالذي جرى حتى الآن هو قيام رئيس حكومة جديد مقام رئيس حكومة سابق، أما النظام الفاشستي الإداري والاقتصادي فلم يُلغَ ولم يُتخذ تدبير يدل على طلب إلغائه.

 

نريد، بـمناسبة استعفاء موسوليني واعتزاله العمل السياسي الرسمي وقيادة إيطالية في إبّان الـحرب التي كان له شأن كبير في تكوين أسبابها وحمل إيطالية عليها، أن نُظهر لـمحة من حياة هذا الرجل وعمله الـخطير.

 

كان موسوليني قبل الـحرب العالـمية الـماضية، وحتى نشوبها، إشتراكياً وأحد الـمتطرفين من أعضاء الـحزب الاشتراكي الإيطالي. ولـما نشبت حرب طرابلس الغرب التي أعلنتها إيطالية سنة 1910 على تركية واستولت بها على ليبية سنة 1911 كان موسوليني أحد الذين نددوا بسياسة الـحكومة الإيطالية الإستعمارية، وأوقف وسجن من أجل ذلك.

 

والظاهر أنّ الرجل لم يكن اشتراكياً إلا بقدر حاجته إلى عقيدة يقف عليها فاعليته. فملّ الـمنازعات الطبقية والسعي وراء غاية بقي شيء كثير منها غامضاً. وجاءت الـحرب الـماضية تزيد في تنبهه لـمشاكل إيطالية الـخاصة. وقد دخل الـجندية وشهد بعض الوقائع في تلك الـحرب وخَبِرَ بنفسه سوء حالة الإدارة الإيطالية، وجُرح وأُرجع من الـجبهة.

 

في هذه الأثناء عاد مفكر اشتراكي إيطالي من جولة له في الأقطار الأميركية إسمه رسوني. وقد حمل هذا الـمفكر، في جملة تأثيرات سياحته في تفكيره، الإقتناع بأن الـمسألة الاشتراكية ليست ذات وحدة روحية فكرية في العالم، وأنّ الـمسائل الـجنسية والقومية تتغلب، في كثير من ظروف تطبيق النظريات الاشتراكية، على الـمسائل الاقتصادية الاجتماعية. فأخذ هذا الـمفكر يبشر بوجوب الاهتمام بالعامل الإيطالي قبل الاهتمام بعمال العالم، وصار في مقدمة دعاة الانتقاض على الـمبادىء الاشتراكية الصميمة في إيطالية.

 

إنفصل موسوليني عن الـحزب الاشتراكي معلناً عدم موافقته على شؤون كثيرة من نظريات ذاك الـحزب وأعماله وأنشأ جريدة الشعب الإيطالي في ميلان. ولكنه لم يعلن تخلّيه عن العقيدة الاشتراكية. فكان يضع تـحت إسم جريدته وصفاً لها يعني أنها «جريدة اشتراكية». ولكنه أخذ يبعد بها عن النظريات الاشتراكية التقليدية ويحضّ على الـمسائل الإيطالية.

 

ساعدت عودة رسوني الـمذكور، وتبشيره الـمشار إليه، وسوء حالة إيطالية ووجود عدد من العاطلين ومن الـجنود الـمشوّهين الضيّقة في وجوههم أسباب العيش على تولّد شعور مضطرب ينزع إلى وجوب تغيير الـحالة الراهنة في إيطالية. ونشأت من هذا الشعور فكرة تشكيل «الفاشيو» وهي لفظة تعني العصابة أو الـحزمة. فشكّل موسوليني »فاشيو مقاتل« في ميلان وأخذ غيره يشكل فاشيو في مدن أخرى وكان كل فاشيـو ينشـأ في البدء مستقلاً عن الآخر بلا هدف موحد ولا عقيدة واضحة من أي نوع. ونشوء الفاشستية، على هذا الشكل، يختلف اختلافاً كلياً جوهرياً عن نشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس منذ البدء على مبادىء أساسية ومبادىء إصلاحية واضحة وعلى غاية مقررة.

 

ظلّت حركة الفاشيو فوضى وكل عصابة تعمل مستبدة بـما يعنّ لرؤسائها، حتى كانت سنة 1915 حين شعر الفاشستيون بوجوب توحيد حركتهم وجعلها قوة واحدة، فعقدوا مؤتـمراً قرروا فيه اعتبار حركتهم واحدة وسمّوا أنفسهم »إتـحاد الفاشي الربلوتسيوناري« ومعناها العصابات الثوروية. وفاشي، بالإيطالية، جمع فاشيو وكان من عادتهم الرجوع إلى رأي موسوليني من غير أن يكون هنالك تقرير رسمي لزعامته الـمطلقة. فكانوا ينظرون إليه نظرهم إلى قائد روحي لهم.

 

ولكن موسوليني لم يكن على هداية من التخطيط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يجب أن يتبعه فكان ينتقد الـحالة الإدارية والسياسية في إيطالية ويدعو إلى تغييرها »والعمل لعظمة إيطالية«. وساعد دعوته كثيراً عبث الشيوعيين الذي أوجد اضطراباً عظيماً، وزاد الفوضى في إيطالية. وقد حاول موسوليني، عند رؤيته نـمو الـحركة الفاشستية، أن يخطط لها منهاجاً. فوضع مساقاً في غاية الـحركة ومطالبها وأعلنه في أحد الـمؤتـمرات الكبرى نحو سنة  1919. ولكن الـمنهاج لم يكن صالـحاً لإنشاء عقيدة جديدة، ولم يفز بإثارة اهتمام الشعب، ولم يعط الـحركة الفاشستية قوة روحية أو فكرية. فعاد موسوليني في السنة التالية فعدل عن الـمنهاج وقال إنه لا يهم أن يكون للفاشستيين منهاج، وأعلن أنّ أحسن تعريف لهم هو نعتهم »بنور السياسة الإيطالية«، أي أنهم في السياسة كالنور في الاجتماع.

 

ظلّت الـحركة الفاشستية بلا عقيدة غير عقيدة »عظمة إيطالية« التي لا تعيّن منهجاً ولا خططاً ولا فلسفة اجتماعية اقتصادية من أي شكل ولا تفكيراً سياسياً، لا تـجمعها غير العقيدة الـمذكورة، إلى ما بعد تسلّم الـحكم بسنوات. فقد زحفت قوات العصابات الثوروية على رومة في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1922 ودعا الـملك موسوليني ليتسلم الـحكم. وبقيت الـحركة الفاشستية في تصادم داخلي بين مختلف النظريات التنظيمية. ومنذ سنة 1925 أو 1926 ابتدأت الدولة الإيطالية الفاشستية تتجه نحو قواعد الدولة التجمعية التي عرفت باسم »الكرفرتيبية« وظلت نظرياتها تتطور بعدئذٍ حتى بلغت ما هي عليه الآن.

 

بعد تسلّم موسوليني الـحكم وتـمكن الـحركة الفاشستية من السلطة، وبعد تعطيل صلاحيات البرلـمان الإيطالي، واتخاذ موسوليني لقب »دوتشي« جنح هذا الزعيم الإيطالي إلى إعادة عهد القياصرة الروم وفتوحات رومة، وبناء إمبراطورية إيطالية تضم جميع أجزاء الإمبراطورية الرومانية القديـمة في أوسع حدودها. فصار يتمثل بالقياصرة القدماء في مواقفهم ومعارضهم، وأخذ يشجع توليد أفكار الفتح. فرسمت خرائط تـمثل عصور رومة من مدينة رومة إلى الإمبراطورية في معظم اتساعها ورسمت خريطة تـمثّل عهد الفاشستية وفتوحاتها الـجديدة (الـحبشة)، وهي إمبراطورية موسوليني وعلقت هذه الـخرائط في »طريق الإمبراطورية« (بيادل أمفارو) فوق ساحة ونتسيا التي كان يطل عليها موسوليني حين يريد مخاطبة الشعب.

 

عندما تـمكنت الـحركة الاشتراكية القومية في ألـمانية من الـحكم كان موسوليني مقاوماً لـخططها السياسية ومرامي توسعها حتى أنه وقّع معاهدة لـحماية النمسة من ألـمانية، وتوصّل إلى أن يرسل أربعين ألف جندي إيطالي إلى الـحدود النمساوية في سنة 1934 ليعترض أية محاولة يقصد منها ضم النمسة إلى ألـمانية. ولكن جرى بعد ذلك تفاهم الـحركتين في ألـمانية وإيطالية على تبادل الـمصالح السياسية في خطة مشتركة. فعقد الاتفاق ضد الشيوعية ثم جرت »الـمعاهدة الفولاذية« بين ألـمانية وإيطالية. ثم لـما نشبت الـحرب مع بولونية بسبب رفض هذه الدولة مطاليب ألـمانية الرامية إلى استعادة دنتزغ وإيجاد مـمر ألـماني يربط بروسية الشرقية ببروسية الغربية وبقية ألـمانية وكان من ورائها سحق ألـمانية بولونية في مدة قصيرة ثم سحق هولندة وبلجيكة وفرنسة بعد الاستيلاء على نروج ودانـمرك، رأى موسوليني الفرصة سانحة لـخوض الـحرب ليكون لإيطالية نصيب من الغنيمة. فأعلن الـحرب على فرنسة وبريطانية في يونيو/حزيران سنة 1940 بعد انسحاق القوات الفرنسية وخرق الألـمان خط ماجينو الشهير. وحاول موسوليني في أحد خطبه سنة 1941 أن يعزو الفضل في انسحاق القوة الفرنسية الـحربية إلى دخول الـجيش الإيطالي الـحرب وهو مخالف للواقع.

 

مـما لا شك فيه أنّ موسوليني رفع الـمعنويات الإيطالية، ومنزلة إيطالية الإنترناسيونية وأنقذها من الأعمال الفوضوية وتـمكن من توجيه السياسة الإيطالية الداخلية نحو ما هو أحسن وأفضل. ولكنه تهوّر في مطامحه وكلّف إيطالية حمل عبء لا قبل لها به. فمع كل التحسين الذي أوجدته الفاشستية في إيطالية لم تبرهن إيطالية في هذه الـحرب أنها قادرة على القيام بالدور الذي أراده لها موسوليني. فانكسار الـجيش الإيطالي الأول على الـحدود الـمصرية واندحار الـمارشال قرتساني أمام قوات ويبل وبانكسار الـجيوش الإيطالية في الصومال والـحبشة واضطرار ألـمانية لنجدة إيطالية في أفريقية، واضطرارها لإنـجادها ضد اليونان التي استظهرت جيوشها على جيوش إيطالية الـمهاجمة وردّتها وأخذت تضغطها في ألبانية - كل ذلك أوجد هوة سحيقة بين مرامي موسوليني الـمتطرفة ومقدرة إيطالية.

 

إنّ الإمبراطوريات لا تبنى بحرب واحدة كلية. فلذلك طريق طويلة يجب سلوكها بحكمة وصبر. كم هي أغلاط موسوليني في هذه التقديرات؟ هذا سؤال لا تتسع له هذه العجالة.

 

إنّ أغلاط موسوليني السياسية وأغلاط تطرّف السياسة الفاشستية تـحتاج لبحث على حدة فنترك ذلك لفرصة أخرى.

 

هل يعني انسحاب موسوليني أنّ الـمثلث الألـماني - الإيطالي - الياباني قد خسر الـحرب.

 

لا نظن ذلك. فقد يخسر الـمثلث الـمذكور الـحرب، ولكن مسألة اعتزال موسوليني تتعلق بسياسة إيطالية الـخاصة، والـحالة التي وصلت إليها أكثر مـما تتعلق بـمصير الـحرب الأخيرة.

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro