مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
​لمحة من حياة طاغور
 
 
 
الـمجلة، بيروت، المجلد 8، العدد ،2 1933/4/1
 

لم يبقَ في مشارق الأرض ومغاربها من لم يسمع بذكر الشاعر الـخالد والـحكيم الهنـدي رابنـدرانات طاغور. ولكن الأدوار والأطوار الشائقة التي مرّ بها هذا النابغة الشرقي لا تزال محتاجة إلى الدرس والنشر لكي يتمكن العالم من فهمه بصورة أوضح. وإننا نقتصر هنا على ذكر لـمحة صغيرة من بعض أدواره السالفة التي لا يذكرها إلا القليلون، وهي على صغرها لا تقلّ معلوماتها أهمية عن الـمعلومات الكثيرة الشائعة عن أيامه الأخيرة.


ظهر طاغور في أول عهده شاباً وطنياً قومياً يتوقد غيرة وحماسة، ولكنه ما عتم أن اتصل بأوروبة عموماً وإنكلترة خصوصاً، ومال أخيراً إلى محاسن وعظمة هذه الدولة التي ترجم إلى لغتها معظم أو كل مؤلفاته، ومنها نقلت إلى سائر لغات العالم. في هذا الدور ظهر طاغور بـمظهر البطل الشرقي الفاتـح، فلهجت بذكره الألسن وتـحدث في الـمجالس بنبوغه الفكري وفنه الأدبي الشعري، وفي هذا الدور وضح ميله إلى صداقة إنكلترة الذي جلب عليه نقمة الوطنييـن الهنود وحملهم على محاولة اغتياله في سان فرنسيسكو سنة 1912، أي قبل نيله جائزة نوبل بسنة واحدة. كانت تلك الـمحاولة التي كادت تقضي على أبعد أدباء الشرق صيتاً، الدليل الـجدي الأول الذي نبّه الغرب إلى مبلغ الروح الآسيوية الـجديدة، وإلى فكرة التعاون الآسيوي التي أصبحت مطمح أبصار الأمـم الشرقية الـمهضومة الـحقوق.


أخذت نقمة القومييـن الهنود على طاغور تشتد أثناء الدور الـمشار إليه، إلى أن بلغت حداً اتُّهم عنده الشاعر بالـمروق من الوطنية وعدَّ فاتراً، وألـحق الناقمون عليه هذه الوصمة الأخيرة بأدبه حتى شاع حينئذٍ أنّ في أدبه ضعفاً واضحاً من جهة الروح الباطنية، هو نتيجة فقده حرارة الروح القومية وانفصاله السياسي عن الفكرة الوطنية.
أدرك رابندرانات طاغور، في أواخر الدور الـمتقدم، أنّ صداقته لبريطانية قد تعود عليه بالفائدة الشخصية، ولكنها لا تعود بالفائدة على الـمبادىء والنظريات السامية التي كانت تـحوم حولها أفكاره، فأخذ يفتر في علاقاته معها خصوصاً ومع أوروبة عموماً. وجاءت على الأثر الـحرب الكبرى التي كانت شهاباً ثاقباً أنار بصيرته وجعله يدرك أنه ليس من الـحكمة في شيء أن يرقد نصف العالم غير الـمسلح إلى جانب النصف الآخر الـمسلح الـمتيقظ. فما أن وضعت الـحرب أوزارها حتى أعاد سنة 1919 إلى نائب الـملك في الهند كتاب إنعام إنكلترة عليه بلقب نبيل، مع كتاب آخر وجّهه إلى النائب الـمشار إليه يقول فيه «لقد جاء الوقت الذي تعدّ فيه ألقاب الشرف الإنكليزية عاراً علينا.» فطارت هذه العبارة الـخالدة في جميع أنحاء العالم صوتاً صارخاً مغزاه «أعدّوا طريق الـجبار الآسيوي الآتي!» منذ ذلك الوقت تـحوَّل طاغور عن خشبة الزخرف الأوروبي الطافية إلى حقيقته الآسيوية البعيدة الغور ووجّه سياحاته إلى الشرق، فزار سيام والصيـن واليابان وخطب في معابدها خطباً كان لها تأثير عظيم. والـحقيقة أنّ طاغور سيكون للوحدة الهندية ما كان غويتي للوحدة الألـمانية، وسيسجل التاريخ اسمه في عداد النوابغ الذين نفخوا روح الـحياة في الأمـم الآسيوية وسائر الشرق، وإننا نفتخر أن يكون بيـن هؤلاء عدد من السورييـن، وأن تكون سورية الصغيرة بـمساحتها العظيمة بروحها والـمواهب الطبيعية الكامنة فيها، عاملة بالاشتراك مع الهند العظيمة، في مساحتها العظيمة، بروحها على إنهاض آسية والشرق كله.


لا يـمكن فهم طاغور في نفسه وفي مؤلفاته إلا بتكملة درس الأدوار التي مرّ بها في حياته بدرس منشأه وتقاليد بيئته العريقة في القدم، وهو ما ننتظر أن يحلّله لنا الاختصاصيون في الأدب الهندي ونوابغ الهنود. بيد أننا نريد هنا أن نشير إلى أنّ طاغور سليل بيت نبيل قد تعلَّم وتهذب وبلغ من العلوم مبلغاً نادراً، وبرع في اللغة الإنكليزية وبواسطتها تـمكن من أن يـملي على أوروبة آيات سحره، وأن يتملص من حدود بيئته ويصبح أحد الآسيوييـن القلائل الذين يحتلون مراكز عالـمية.


وإننا نأسف جداً أن لا تكون مؤلفات هذا الشاعر الذي سحرت رنات شعره ورموز آياته العالم، معروفة الـمعرفة التامة في محيطنا الأدبي والاجتماعي، بحيث نتمكن من فهم الـحكمة الـمتولدة من الوجهتيـن الفكريتيـن الباديتيـن في كتاباته: محبة الـجمال والشعور الذي لا علاقة له بقوى الـحياة الـمادية، والتوقد الأدبي القومي.


.... ومن نكد الدنيا أن لا يتاح لطاغور، كما لا يتاح لغاندي، أن يرى مثاله الأعلى يتحقق.

 

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro