مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
سيرة انطون سعاده 1904- 1949

سيرة انطون سعاده 1904- 1949
 

 

النشأة:

 

ولد أنطون سعاده في الأول من آذار عام 1904 في بلدة الشوير في جبل لبنان لعائلة رفيعة الثقافة. كان والده الدكتور خليل سعاده طبيباً بارعاً مارس مهنته في لبنان وفلسطين ومصر. وقد كان كذلك لغوياً خبيراً فهو أول من ألف قاموساً إنكليزياً – عربياً، ومترجماً بارعاً نقل الى العربية بعض الآثار العلمية والأدبية الغربية، وروائياً يؤلف بالعربية كما بالانكليزية. وقد ساهم الدكتور سعاده مع غيره من أعيان جيل النهضة حيثما وُجدوا في العالم العربي وفي المهاجر في إعلاء شأن العلم والأدب والفلسفة الاجتماعية.

 

كانت والدة انطون سعاده السيدة نايفة نصير أيضاً من مواليد الشوير لكنها نشأت في الولايات المتحدة الاميركية حيث هاجرت عائلتها في أواخر القرن التاسع عشر، وقد سنحت لها الفرصة حيازة الشهادة الثانوية في شيكاغو مما ميّزها عن بنات جيلها في الوطن. في زيارة لها الى لبنان تعّرفت الى الدكتور سعاده وكان زفافهما. وأمضت العائلة معظم ايامها في الشوير بينما كان الدكتور سعاده يعمل في فلسطين ومصر ويمضي فصل الصيف في مسقط رأسه الشوير مع عائلته.

 

وفي الشوير نشأ انطون سعاده في رعاية والدته حتى كان أصيل العقد الاول من القرن العشرين حين انتقلت العائلة الى مصر حيث دخل أنطون سعاده الى إحدى مدارس الجالية السورية في القاهرة لسنوات قليلة اضطر بعدها للعودة الى الوطن عام 1913 إثر وفاة والدته. في ذلك العام سافر الدكتور سعاده الى الأرجنتين بعد أن كان أولاده الكبار أرنست وأرثور وشارلي قد التحقوا بخالهم في الولايات المتحدة لمتابعة علومهم. أما أنطون وأخوته الثلاثة الصغار سليم وإدوار وغريس (عايده). فعادوا الى الشوير تحت رعاية جدتهم لأبيهم وأحد أعمامهم، على ان تجتمع العائلة فيما بعد.

 

لكن الحرب العالمية الأولى (1914) دهمت العائلة وهي مشتتة بين القارات وانقطعت المواصلات المباشرة بين أنطون وأبيه. وسرعان ما تتابعت الويلات على الفتى أنطون بوفاة جدته ثم عمه ثم بمرض أخته الصغرى. وكان على ابن العاشرة ان يتدبر وحيداً أمره وأمر أخوته الذين في عهدته. ومع اشتداد المجاعة في جبل لبنان الذي كان خاضعاً للإحتلال العثماني تسنى له ولأخوته الإلتحاق بمأوى برمانا للأطفال والنساء حيث أمضى أمّر سني الحرب لامساً الويل الذي أصاب شعبه.

 

 

 

في المهجر:

 

مع انتهاء الحرب كان الفتى أنطون قد اكتسب صلابة من تجربة السنين العجاف ووعياً مميزاً لحالة شعبه وبلاده ومع عودة الاتصال بأبيه، سافر أنطون بحراً بمرافقة أخوته الثلاثة الى الولايات المتحدة مروراً بمرسيليا حيث التقى بأخوته الكبار وعمل لبضعة أشهر في محطة لسكك الحديد. في هذه الأثناء كان الدكتور سعاده قد غادر الأرجنتين في طريقه للقاء أولاده. وعند توقفه في البرازيل وجد فرصة لممارسة التوعية الصحفية والأدبية وتوجيه العمل السياسي التحريري في الجالية السورية، فقرر البقاء فيها، وكتب الى أولاده لملاقاته. وهكذا انتقل أنطون وأخوته الصغار الى البرازيل، أما أخوته الأكبر منه سناً فبقوا في الولايات المتحدة لمتابعة علومهم ولم يتسنّ للعائلة ان تجتمع بعد ذلك.

 

في البرازيل اختار أنطون أن لا يلتحق بمدارس الجالية مع أخوته بل ان يدرس على أبيه وأن يشاركه في إدارة وإصدار جريدة الجريدة. وكان دور أنطون في البداية يقتصر على بعض الأعمال الإدارية والمالية والطباعة. ومع اتساع خبرته وثقافته في ظل عناية والده بدأ يساهم بالكتابة في الجريدة (1920-1922). خلال عامي 1922 و 1923 نشر عدة مقالات في شأن استقلال سورية وبعض المواضيع الاجتماعية. لكن متطلبات الجريدة التي كانت أسبوعية اولاً ثم يومية كانت أكبر مما أراد الدكتور سعاده، ضمن حدود إمكانيات الجالية فرأى أن يوقف الجريدة ويعيد إصدار مجلة المجلة التي كان قد أصدرها خلال سني الحرب في الأرجنتين. وكان أنطون سعاده يقوم بإدراة المجلة ويساهم في كتابة مواضيعها ولا سيما في مسائل السياسة الخارجية التي استحوذت على اهتمامه منذ ذلك الوقت. وفي  المجلة بدأت اتجاهات أنطون سعاده النهضوية التحررية بالظهور، وفيها أيضا برزت همومه القومية ونزعته التجديدية . واذا كان في بداية نتاجه الفكري قد نسج على منوال أبيه فإنه تدريجياً بدأ بتنمية أفكاره الخاصة وصقل معرفته.

 

وخلال عمله في الجريدة اولاً ثم في المجلة انكبّ أنطون على الدراسة والقراءة . فدرس البرتغالية والألمانية والروسية وتوسع في علوم التاريخ والاجتماع والسياسة. ولم يقتصر نشاطه التحريري على الكتابة الصحفية بل أمتد الى محاولة التنظيم السياسي، فانخرط عام 1925 في مجمع ماسوني سوري يرأسه والده، وحاول الإثنان توجيه أعمال المحفل باتجاه الالتزام السياسي بمشاكل وهموم الوطن لكنهما لم يوفقا فآثرا  الإستقالة عام 1926[i]. وأسس في نفس العام "الرابطة الوطنية السورية" في سان باولو وأرادها جمعية تنمو سراً وتمتد الى الوطن وتجمع عناصر الشباب وتتجه الى الأعمال الجدية والثورة، وبناء على اقتراح أحد ملبي الدعوة في اجتماعها الأول سميت في طورها الأول " جمعية الشبيبة السورية الفدائية" وقد وضع سعاده نفسه مبادئها وقانونها الأساسي، ثم غلبت محبة الظهور والتبجح بالأعمال السخيفة التي تخدع الناس، على معظم أعضائها فتركها سعاده ثم حصل انشقاق في أعضائها فانسحب معظمهم ولم يبق أعضاء فيها سوى نحو عشرين شخصاً وانتهت لمصيرها المحتوم. ولكن تركه "الرابطة الوطنية السورية" لم يكن ليعني ترك موضوع إنشاء الجمعيات او تأليف الأحزاب ولذلك نراه يؤسس عام 1927 " حزب الأحرار السوريين". لكن مصير هذا الحزب لم يكن بأفضل من مصير "الرابطة". وكانت المجلة قد توقفت مع بداية العام 1926، فانصرف أنطون الى التعليم في بعض المعاهد السورية في سان باولو واشترك في بعض اللجان التربوية التي أقامتها الحكومة البرازيلية للإشراف على البرامج التعليمية. وخلال السنين الأخيرة من إقامته في البرازيل تابع الى جانب التعليم كتابة بعض المقالات المتفرقة كما كتب رواية في ذكرى أخيه سليم الذي توفي شاباً. وهي الرواية التي نشرها في بيروت عام 1933 تحت عنوان " فاجعة حب ".

 

 

 

العودة إلى الوطن:

 

في العام 1930 أنهى أنطون سعاده جميع ارتباطاته في البرازيل وعاد الى الوطن، فوصل الى بيروت في تموز 1930. بعد إمضاء صيف ذلك العام في الشوير، انتقل أنطون الى دمشق لدراسة إمكانية العمل السياسي فيها كونها العاصمة التاريخية التقليدية لسورية ومركز المعارضة السياسية في وجه الإنتداب الفرنسي. ابتدأ عمل أنطون في دمشق بصورة متواضعة عبر إقامة اتصالات سياسية بسيطة وممارسة العمل الصحافي، فكتب عدة مقالات في السياسة الخارجية حمّلها أفكاره القومية وكتب في الفنون وغير ذلك من المواضيع على صفحات اليوم، القبس، الف باء والأيام خلال العام 1931 . الى جانب هذه الكتابات مارس سعاده التعليم لاكتساب رزقه فيما كان يتابع اتصالاته السياسية، لكنه سرعان ما اصطدم بعقلية السياسيين التقليديين والوجهاء. ومن بين وجوه هذه الصدامات عدم السماح له بإلقاء محاضرة في" المجمع العلمي" في دمشق بعد اطلاع رئيس المجمع على محتواها. أمام تشابك هذه العوائق السياسية، رأى أنطون أن ينتقل الى بيروت ويدرس إمكانية العمل السياسي الحزبي فيها. وعن فترة عمله في دمشق صودرت وثيقة في الإعتقال الثاني عام 1936 كتب فيها انطباعه عن تلك الفترة: "وجدت في دمشق هواء عليلاً ومناخاً حسناً وأزهاراً جميلة ونساء جميلات، ووجدت غنىً كثيراً وكبرياء عظيمة ولطفاً متناهياً ولكن بحثت كثيراً عن الأخلاق الحية فلم أجدها". وقد أطلق على رجال الكتلة الوطنية الحاكمة "صبيان السياسة".

 

في بيروت عام 1931 بدأ أنطون سعاده محاولاته لتشكيل حزب جديد مستفيداً من تجاربه في البرازيل ودمشق. وركز أنطون عمله في بيروت على مستويين: المستوى الأول هو في انتقاء الشباب المثقف البعيد عن الحزبيات التقليدية لتكوين نواة الحزب الجديد. كان معظم هؤلاء الأفراد من طلاب الجامعة الاميركية في بيروت حيث كان أنطون سعاده يعطي دروساً خاصة في اللغة الألمانية خارج ملاك الجامعة. فكانت هذه فرصة له للإلتقاء بطلبة الجامعة وأساتذتها. وكان سعاده يقيم في رأس بيروت على مقربة من الجامعة، فتوطدت عرى الصداقة بينه وبين الطلاب وعائلاتهم.

 

أما المستوى الثاني لعمله فكان في إيجاد المنابر الصالحة لبثّ الأسس العامة لدعوته. لذا كان يحاضر في تجمعات عديدة وجمعيات طلابية مثل "العروة الوثقى" و"جمعية الإجتهاد الروحي للشبيبة" و"النادي الفلسطيني". وكانت نصوص هذه المحاضرات تحمل أسس الدعوة بخطوطها العامة لتهيئة الجو الثقافي – السياسي العام من دون الإعلان عن الجسم السياسي الحزبي الذي كان قيد التكوين.

 

 

 

تأسيس الحزب:

 

وفي خريف 1932، أسس سعاده " الحزب السوري القومي " بصورة سرية من عدد محدود من الأعضاء بعد محاولة أولى لم تنجح بسبب مساوىء عديدة. وكانت المواد الثقافية التي قامت عليها الدعوة في أول عهدها قليلة تقتصر على نصوص المبادىء (دون الشرح الذي أتى لاحقا) ونصوص محاضرات سعاده القليلة وفي هذه الفترة نشر سعاده في بيروت كتابه " قصتان" (عام 1933) ونما الحزب تدريجياً في ظل عاملي الإعتناق التتابعي والإدخال السري البطيء. وفي عام 1933 أعاد أنطون سعاده إصدار " المجلة" في بيروت لتساهم في نشر وتوضيح أسس النهضة التي يسعى اليها الحزب. وعلى صفحات المجلة ظهرت للمرة الأولى في الوطن دراسات تحليلية لمعنى الأمة أصبحت فيما بعد نواة كتاب أنطون سعاده العلمي نشوء الأمم . وعلى صفحات المجلة ظهرت أيضاً نصوص محاضراته في الأندية الثقافية الطلابية ومقالات نقدية وتوجيهية في الأدب والثقافة القومية.

 

في هذه المرحلة التأسيسية جرت اختبارات سياسية وإدارية عديدة ساهمت في دفع الجسم الحزبي في الاتجاه السليم. وكان أنطون سعاده حريصاً أشد الحرص على تفادي الأخطاء الماضية وعلى حماية الحزب من مساوىء الفردية والتسرع والإرتجال. وترافق النمو العددي والإنتشار الجغرافي للحزب مع نمو هيكليته الإدراية ووضوح تفاصيل تنظيمه وصياغة دستوره. وبعد ثلاث سنوات من تأسيسه، بات الحزب يضم أكثر من ألف عضو من نخبة الشباب المثقف في البلاد من محامين وأدباء وشعراء ومؤرخين وعلماء اقتصاد وطلاب فلسفة وكانت موارد سعاده المالية ضحلة اذ كان يكسب القليل من مهنة التعليم حيث كان يعطي بالإضافة الى دروس اللغة الألمانية دروس في اللغة العربية لبعض الدبلوماسيين البريطانيين، ويسكن في غرفة متواضعة جداً في شارع صغير في رأس بيروت. لكنه رغم ذلك كان لا يكف عن العمل والنضال، قاطعاً مسافات طويلة لتنمية نشاط الحزب في مناطق الجبل والبقاع والداخل الشامي وطول الساحل السوري حتى شماله.

 

 

 

خطاب الأول من حزيران:

 

في الأول من حزيران سنة 1935، أقام الحزب اجتماعه المركزي العام الأول في بيروت في منزل أحد مسؤوليه، نعمة ثابت. والجدير بالملاحظة أن سرية الحزب لم تتعرض لأي خطر من جراء هذا الإجتماع العام للمسؤولين نتيجة النظامية الدقيقة والتحضير المتين. في هذا الإجتماع تعرّف الأعضاء الى سعاده كزعيم للحزب في موقع رسمي بعد ان كانت ظروف العمل الحزبي السري وطبيعة الإعتناق التتابعي لا تسمح بظهور هذه العلاقة المميزة الى العلن الحزبي. في هذا الإجتماع ألقى سعاده خطاباً مكتوباً هو من أهم الوثائق الفكرية – الثقافية التي تشرح العقيدة القومية السورية وطبيعة النهضة الإصلاحية التي يهدف اليها الحزب.

 

 

 

الإعتقال الأول:

 

بعد نجاح هذا الإجتماع وصلت الى مسامع سعاده معلومات تفيد ان سلطات الإنتداب تشك في وجود الحزب. وقد تبين فيما بعد ان رئيس الجامعة الأميركية في بيروت كان من بين الذين نبهوا سلطات الإحتلال الفرنسي الى نشاط سعاده ولعل سعاده شعر بعد نجاح الاجتماع الاول ان الحزب قد اجتاز مرحلة الاختبارات السرية وان اضطراد نموه يحتاج الى الظهور العلني. فبدأ يفكر بجدية في أسلوب الإعلان عن وجود الحزب لكن سلطات الإحتلال كانت الأسبق الى العمل وقامت قواتها باعتقال سعاده وعدد من معاونيه يوم السادس عشر من تشرين الثاني 1935، بتهمة " تشكيل جميعة سرية هدفها الإخلال بالأمن العام والإضرار بأراضي الدولة وتغيير شكل الحكم".

 

كان الإعتقال الأول امتحاناً لأهلية الحزب الجديد للبقاء والاستمرار وامتحاناً لأهلية سعاده للقيادة والمواجهة العلنية الصريحة مع القوى المناهضة للحزب. وظهرت خلال مراحل السجن الأولى ثم المحاكمة مميزات عدة من شخصية سعاده، إذ أعلن لمعتقليه عن مسؤوليته الكاملة عن تأسيس الحزب، شفوياً وخطياً، وآزر معاونيه على تحمّل أعباء الأسر، وحافظ خلال مراحل التحقيق على أولوية استمرار الحزب، فكان امتحان الإعتقال دليلاً جديداً على فرادة هذا الحزب وأظهر سعاده شجاعة نادرة وحكمة هادئة وتحدياً مبدئياً للإنتداب خلال المحاكمة وما بعدها. وصدر حكم المحكمة المختلطة (فرنسية – لبنانية) بسجنه ستة أشهر استفاد منها لإتمام مؤلفه العلمي نشوء الأمم.

 

عند خروجه من السجن يوم 12 أيار 1936، وجد سعاده نفسه أمام عدة متناقضات على الساحة السياسية والحزبية. لقد أثار انكشاف الحزب الكثير من الإهتمام والإقبال على الإنتماء من بعض الأوساط، لكنه في الوقت ذاته دفع بالقوى المناوئة الى الإستعداد لمحاربته. علنية الحزب جعلته هدفاً واضحاً للقوى المعادية وتحولت المقاومة لإمتداد الحزب من مستوى الأفراد الى مستوى العمل الواسع من قبل المؤسسات الدينية والسياسيين التقلديين. ثم ان العمل العلني أوجد ضرورات لتغيير أسلوب العمل وجعل سعاده يتحمل أعباء دور القيادة السياسية والزعامة الحزبية بشكل أكثر كثافة من ذي قبل. فتحول "الأستاذ" والمفكر العائد من المهجر والقائد السري الى زعيم سياسي من نوع جديد.

 

هذا الواقع المستجد جعل سعاده يجيب على اقتراحات عبدالله النعواس من فلسطين بشأن العمل هناك والثورة قد اشتعلت فيقول بتاريخ 25/6/1936: " أن مركز الحزب اليوم في حالة لا يتمكن البعيد من تقديرها. فنحن في معركة شديدة، وإن تكن صامتة مع قوى الحكومة والقوى الرجعية التي ترى في حركة الحزب السوري القومي خطراً على كيانها، وهذا الضغط في مركز العمل يجعل اشتراك المركز في حوادث سورية الجنوبية غير ممكن من الوجهة العملية، لذلك اعتمدنا على مجهودات أعضائنا في تلك المناطق للقيام بواجبهم في هذه الظروف.

 

كذلك فنحن لا نرى في هذه الثورة التي تدل على يقظة الشعب وعلى تألمه من الحالة الحاضرة، ولكنها لا تدل مطلقاً على تنظيم للقوى ومقدرة رشيدة في القيادة. أقول نحن لا نرى في هذه الثورة معركة فاصلة بيننا وبين أعدائنا...".

 

" إن وصيتي اليوم إليكم والى جميع السوريين القوميين في الجنوب هي أن يقوم كل فرد بما يدعوه إليه الواجب القومي في الظروف العصيبة الحاضرة، وأن لا يسمح أحدكم باليأس يتسرب الى قلبه عند مشاهدة الفوضى في العمل وما تؤدي اليه من نتائج، بل أن يظل كلكم مؤمناً بأمته التي لن تموت، وبحزبه الذي يسير دائماً إلى الأمام".

 

 

 

الإعتقال الثاني:

 

كان همّ سعاده في هذه الفترة إعادة تحصين الحزب وإصلاح ما تداعى من بنيانه خلال الإعتقال الأول، لكن الأحداث السياسية تسارعت وأدت بعض التعقيدات الى سجنه للمرة الثانية في 26 حزيران 1936، أي بعد أقل من ستة أسابيع من انتهاء فترة سجنه الأول. وأستمر سجنه الثاني حتى 12 تشرين الثاني 1936.

 

خلال سجنه الثاني عمل سعاده كعادته على الإستفادة من عزلة الأسر للتأليف وأنجز خلالها كتابه شرح مبادىء الحزب وغايته والملاحظات الأولى للكتاب الثاني من نشوء الأمم المختص بنشوء الأمة السورية. وفي هذا الصدد يقول في توطئة الطبعة الرابعة في كتاب التعاليم " المضبوطة والكاملة" في أيلول 1947 : ...الحاجة الملحة جعلتني أهتم، في السجن، بإكمال الكتاب الأول من نشوء الأمم، الذي كنت بدأته قبل الإعتقال. والسجن ليس المكان الصالح لمتابعة التحقيقات الإتنية والجغرافية والتاريخية. إنه لا يُمكّن من زيارة المكتبات العلمية والوقوف على المكتشفات الأخيرة واكتشاف حقائق ضائعة. فاضطررت للإقتصار على ما كنت بلغته قبل السجن فاستعنت به لإنجاز الكتاب الأول من نشوء الأمم في مدة نحو شهرين ونصف. وقد دفعت المخطوطة. كما ذكرت في مقدمة الكتاب، الى الطبع من غير إعادة نظر وتنقيح، إذ لم يتسن لي ذلك. فبقيت بعض النقاط، من جراء ذلك غير كاملة التحقيق، خصوصاً ما تعلق بالدولة السورية البرية البابلية والأشورية والحثية، وبالوضع الأرضي في تجويف الهلال السوري الخصيب وأسباب عمق التجويف في الأزمنة الإنحطاطية، الأمر الذي تداركته في ما كنت أعددته للكتاب الثاني من نشؤء الأمم المختص بنشوء الأمة السورية. ولكن سرقت الملاحظات الأولى من دار القضاء من جراء الإعتقال الثاني، فأعود الآن إلى الإهتمام بإعداده.

 

 

 

الإعتقال الثالث:

 

عند خروجه من الإعتقال وجد سعاده ان نشاط القوى المعادية قد أخذ أشكالاً تنظيمية جديدة إذ أخذت تظهر على الساحة السياسية عدة أحزاب طائفية مذهبية. وبعد عمل دؤوب على حل المشاكل الحزبية التي طرأت أثناء سجنه، وضع سعاده الحزب على مسار المشاركة الفعلية الكثيفة في الحياة السياسية والثقافية في البلاد. وتمثلت هذه المشاركة عبر الإتصالات السياسية الواسعة وإصدار البيانات والمذكرات في شؤون الإنتداب، ومسألة الإسكندرونة، والعلاقات بين الكيانات السياسية السورية، والإشتراك في المؤتمرات وإقامة الاجتماعات الحزبية العلنية في المناطق. وأثار هذا النشاط الباهر مخاوف السلطات المناوئة فاستفادت من حادث بسيط خلال احتفال حزبي (في أول آذار 1937) في بلدة بكفيا لشنّ حملة على الحزب واعتقال زعيمه. فدخل سعاده السجن للمرة الثالثة في 10 آذار  1937 ولم يخرج منه حتى 15 أيار 1937.

 

تنبه سعاده الى مخاطر السجن المتكرر على سلامة الحزب وفرص نجاح العمل السياسي، فكان خروجه من السجن الثالث نتيجة "هدنة" بين الحزب والحكومة اللبنانية. وقد استفاد سعاده من ظروف هذه الهدنة لإصدار جريدة حزبية يومية هي جريدة النهضة التي ظهر عددها الأول يوم 14 تشرين الأول 1937. أما على الصعيد الشخصي فقد نشأت علاقة عاطفية بين أنطون سعاده وادفيك جريديني خلال صيف 1937 في ضهور الشوير واستمرت حتى شتاء 1938.

 

على صفحات النهضة ظهرت مواهب النخبة الثقافية الشابة التي كان سعاده قد اهتم باستقطابها الى الحزب. وكان سعاده يكتب بشكل يومي ويتناول مسائل السياسة الخارجية، ومسائل الأمور الفكرية العامة، ونقد القوى السياسية المناوئة، لا سيما مقالاته في الردّ على البطريرك الماروني انطوان عريضة، والأحزاب اللبنانية ، ومقالاته حول الكتلة الوطنية الشامية.

 

وفّرت النهضة لسعاده وحزبه منبراً واسعاً في المسائل السياسية والفكرية ووجوداً مميزاً على الساحة القومية. لكن هذا النجاح كان دائماً عرضة لحملات قوى الحكومة وقوى الإنتداب. وفي تلك الأثناء كان سعاده يعمل على تأمين دعم مادي ثابت وقوي يحلّ الأزمة المادية المستمرة في الحزب، ودعم سياسي انترناسيوني بفعل التفاف الجاليات السورية حول قضية الحزب. وفي خريف 1937 بدأ سعاده ومعاونيه بالتحضير لجولة على مراكز الإغتراب السوري لتوفير سبل الإنتقال بالحزب الى مرحلة القدرة على تحقيق أهدافه وقد فاتح سعاده الآنسة جريديني حول موضوع الزواج والإشتراك معه في هذه الرحلة الهامة. الا ان الآنسة جريديني آثرت الإبتعاد وانتهت العلاقة عند هذا الحد وفي هذه الأثناء أصدر سعاده في بيروت اوائل 1938 الطبعة الأولى من كتاب نشوء الامم.

 

في الأشهر القليلة قبل مغادرته بيروت وضع سعاده مع معاونيه العديد من الخطط الهادفة الى الإستفادة من الفرص السياسية، حين توافرها، للقيام بعمل حاسم في سبيل التحرر من الإنتداب. ومن بين هذه الخطط كان التمرد المسلح أحوجها الى الدعم المادي والسياسي الذي أمل القوميون بالحصول عليه من الجاليات السورية في المهجر.

 

 

 

مغادرة بيروت:

 

مع حلول ربيع 1938 بدأت العلاقات بين الحزب وسلطات الإنتداب تتأزم وشعر سعاده والمسؤولون في الحزب بقرب عودة حالة الإضطهاد، فسارع الى مغادرة بيروت ومنطقة الإنتداب الفرنسي قبل ان تكتمل مراحل التحضير لرحلته. سافر سعاده الى الأردن بجواز سفر يحمل اسم "أنطون خليل مجاعص" مما مكنه من اجتياز مراكز الحدود دون ان تتنبه السلطات إلى سفره إلا بعد حين. ما ان غادر سعاده بيروت حتى قامت سلطات الإنتداب بمداهمة مراكز الحزب بقصد اعتقال سعاده وعطّلت (بتاريخ 18 أيار 1938) صحيفة النهضة ومنعت العمل الحزبي بشتى الوسائل. في الأردن زار سعاده الملك عبد الله لكن هذه الزيارة لم تسفر عن أي تقارب إيجابي بل بالعكس أثارت ردة فعل سلبية عند العاهل الأردني فسارع سعاده الى فلسطين، حيث تفقد فروع الحزب في مدن الساحل الفلسطيني، ثم انتقل الى قبرص في  انتظار اكتمال التحضيرات لرحلته الى المهاجر السورية.

 

أمضى سعاده بضعة أسابيع في قبرص غادر بعدها الى رومة (أيلول 1938) حيث اتصل بالصحافة الإيطالية وبدأت تظهر في هذه الصحف المقالات الإنتقادية لسياسة فرنسة في الشرق الأوسط. ومن رومة انتقل سعاده الى برلين (تشرين الأول 1938)، بدعوة من فرع الحزب هناك وخلال تواجده في العاصمة الألمانية، لاحظ سعاده ان مسؤول الفرع الحزبي قد تهاون في أمر الإستقلال السياسي عن العوامل الخارجية فأنبه وعزله. وألقى سعاده محاضرة بالإلمانية في نادي هامبلت في برلين حضرها عدد من المثقفين الألمان ومسؤولين من الوزارات المختصة بشوؤن الشرق الأدنى. وفي هذه المحاضرة ظهرت للعلن للمرة الأولى أفكار سعاده حول الحدود الشرقية للوطن السوري وموقع جنوب العراق في هذا الوطن، إذ كانت النصوص الأولى للمبادىء تشير الى ضفاف دجلة فقط. وقد كان هذا الموضوع محور مباحثات علمية داخل الحزب قبل رحلة سعاده ولكن محاضرته في برلين هي أول مظهر واضح لهذه الأفكار.

 

كانت خطة سعاده أن ينتقل من أوروبة الى أميركة الشمالية اولاً ثم البرازيل وبقية أميركة الجنوبية بعد أن يكون قد مر بالمكسيك. لكن انتظار الحصول على تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة طال فرأى سعاده أن يسير الى البرازيل اولاً لسهولة السفر إذ أنه كان من سكان البرازيل سابقاً. وهكذا كان ولم يتسن له فيما بعد زيارة الولايات المتحدة أبداً. ولم يعرج سعاده في طريقه الى البرازيل على فرنسة ليقينه من عدم الفائدة في محاولة التقرب السياسي من دولة الإنتداب.

 

 

 

الوصول إلى البرازيل:

 

غادرت الباخرة المانية وعرجّت على الشاطىء الغربي لأفريقية حيث إنضم الى سعاده رفيق منتدب لمعاونته في رحلته. وصل سعاده الى البرازيل في كانون الأول 1938 واستقر في سان باولو مدينة صباه. وكانت بداية زيارته تحمل بوادر النجاح السريع فهو هنا بين أهله وأصدقاء صباه وجهاده الأول. وكانت الصحف السورية في البرازيل قد رافقت ظهور الحزب في الوطن بالكثير من الإهتمام والتقدير.

 

وخلال الأسابيع الأولى من زيارته التقى سعاده العديد من أعيان الجالية وأبنائها وأصحاب الصحف والمثقفين والأدباء. لكن هذه الحفاوة تبددت حين تبيّن لأعيان الجالية التقليديين أن اتجاهاً جديداً في العمل السياسي وقيادة جديدة في السياسة والأدب والثقافة آخذة في توطين أسسها في المهجر مع دخول الحزب السوري القومي. وتبيّن سريعاً لأعيان الجالية التقليديين أن زيارة سعاده ليست زيارة عادية عارضة بل زيارة هادفة مصممة على توجيه جهود الجالية في خطة سياسية دقيقة. فبدأت تظهر من أعيان الجالية التقليديين مظاهر المقاومة لسعاده.

 

 

 

إعتقاله في البرازيل:

 

تزامنت هذه التحولات مع تداخل جهود محازبي فرنسة وعملائها وسعيهم مع السلطات البرازيلية لتعطيل عمل سعاده في البرازيل. في هذه الأثناء كان سعاده يعدّ لإصدار صحيفة في البرازيل تحمل صوت النهضة تحت اسم سورية الجديدة. وصدر العدد الأول من هذه الجريدة الأسبوعية في 11 آذار 1939. وفي 23 آذار 1939 أقدمت قوات الأمن البرازيلي على اعتقال سعاده واثنين من معاونيه بتهمة الدعاية للسياسة الفاشستية والمسّ بسلامة العلاقات الإنترناسيونية للدولة البرازيلية. وسارعت الجهات المثقفة الى الدفاع عن سعاده فأرسل رئيس جمعية الصحافة في سان باولو رسالة استفهام الى دائرة الأمن العام. وخلال فترة الإعتقال تقدم قنصل فرنسة بطلب تسليم سعاده لتحاكمه سلطة الإنتداب، لكن السلطات البرازيلية رفضت الطلب. وبعد تحقيق قضائي دقيق، تبيّن للمحكمة براءة سعاده من التهم الموجهة اليه، وأفرجت عنه وعن معاونيه في 30 نيسان 1939.

 

 

 

الإنتقال إلى الأرجنتين:

 

إثر خروجه من السجن اهتم سعاده بتنظيم العمل الحزبي والصحفي في سان باولو، ثم غادرها بعد أسبوعين الى الأرجنتين. وهناك بدأ الإتصال بالصحافة الأرجنتينية والصحافة السورية وإلقاء المحاضرات والأحاديث في اجتماعات الجالية. وتابع في هذه الأثناء اهتمامه بجريدة سورية الجديدة وأعمال الحزب في الوطن والمهجر. وتدريجياً بدأت جهوده تتكلل بالنجاح فأجل موعد سفره من الأرجنتين الذي كان متوقعاً في ايلول 1939 للإتجاه الى المكسيك وآثر ان يهتم بتقوية أعمال الحزب في الأرجنتين قبل متابعة سفره.

 

طال بقاء سعاده في الأرجنتين . ومع حلول أيار 1940 حاول تجديد جواز سفره عبر السفارة الفرنسية هناك، لكن السفارة رفضت ذلك.

 

وفي حزيران 1940 أصدرت سلطات الإنتداب في لبنان حكماً غيابياً قضى بسجنه عشرين سنة وإقصائه عشرين سنة أخرى، فأصبح سعاده نتيجة ذلك شبه أسير ضمن حدود الجمهورية الأرجنتينية لا يستطيع مغادرتها ويكاد إذن البقاء فيها ان ينفذ، فسارع الى التقدم بطلب إقامة رسمية، وقد استجيب طلبه في آب 1941. بسبب هذه التعقيدات الإدارية القانونية اضطر سعاده ان يلزم الأرجنتين حتى عام 1947 .

 

وفي عام 1941 حاول ان يجد مخرجاً للعودة الى الوطن عبر مناطق الإنتداب البريطاني، وجرت مباحثات في هذا الصدد مع الحكومة البريطانية لكن هذه المحاولات لم تصل الى نتيجتها المنشودة.

 

مع انقطاع الاتصال بمركز الحزب في الوطن واضطرار سعاده الى البقاء القسري في الأرجنتين، تحولت رحلته من جولة منظمة في المهاجر السورية لا تتعدى السنتين الى اغتراب قسري يشبه النفي القضائي الذي كانت سلطات الإنتداب قد حكمت به عليه عام 1940.

 

 

 

إصدار "الزوبعة":

 

ومع اضطراره للبقاء في الأرجنتين وضرورات العمل الحزبي فيها، رأى سعاده أن يصدر جريدة فيها أسماها الزوبعة، ذلك ان سورية الجديدة في البرازيل كانت عرضة لمشاكل إدارية وسياسية مستعصية بسبب شراكة في ملكيتها حالت دون التزامها دائماً سياسة الحزب، ولا سيما اعتماد موقف اللاانحياز في الصراع الدائر بين دول المحور والحلفاء. مع اصدار الزوبعة وجد سعاده منبراً جديداً لآراء الحزب، وعلى صفحات هذه الجريدة الأسبوعية ظهرت أهم كتاباته الفكرية والسياسية. صدر العدد الأول من الزوبعة في اول آب 1940، وسرعان ما تحولت النشرة الى منبر للأبحاث الفكرية العالية، ففي تشرين الأول 1940 نشر المقال الأول من سلسلة "جنون الخلود" التي استمرت حتى أيار 1942 وفيها تناول مسائل الأدب والدين والفلسفة والعروبة بتفصيل وعمق فريدين وأتبع ذلك في صيف 1942 بسلسلة مقالات حول الأدب جمعها في كانون الأول عام 1942 في كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري.

 

 

 

الزواج من جولييت المير:

 

خلال هذه الفترة تعرّف سعاده بالآنسة جولييت المير، وهي من عائلة طرابلسية كانت قد هاجرت الى الأرجنتين يوم كان عمرها لا يتجاوز العشر سنوات. وكانت جولييت وأخوها قد انتميا الى الحزب في الأرجنتين وأظهرا تفانياً ونشاطاً كبيرين في صفوفه مما قّرب العائلة بأسرها من سعاده. ثم نمت عواطف الحب بين سعاده وجولييت واتفقا على الزواج، وتم ذلك في نيسان 1941 ورزقا ثلاث بنات، اثنتان منهن ولدن في المهجر (صفية وإليسار) والثالثة بعد العودة الى الوطن (راغدة).

 

مع وجود صحيفتين للحزب في أميركا الجنوبية، وتأسيس فروع جديدة له أخذ الحزب يتحول من حركة جديدة في الوطن يمكن التواصل معها عن بعد، الى حركة حقيقية في المهجر تواجه القيادات السياسية والفكرية التقليدية في الجاليات السورية. وهكذا ظهر الى العيان صراع بين سعاده وأقطاب هذه المواقع التقليدية من مثل الشاعر القروي رشيد سليم الخوري والشاعر إلياس فرحات وزكي قنصل وإيليا أبو ماضي وغيرهم. وأفردت الزوبعة صفحات عديدة بقلم سعاده للرد على هجمات هؤلاء على سعاده والحزب.

 

 

 

 

 

معاناة سعاده في المهجر:

 

الى جانب هذا النشاط الإذاعي – السياسي – الفكري، كان على سعاده ان يهتم بالشؤون التنظيمية للعمل الحزبي في المغترب. وخلافاً للحالة في الوطن، لم يكن الى جانب سعاده مجموع من الشباب المثقف الذي كان قد درس عنه العقيدة والنظام. وفي المغترب كان على سعاده أن يقوم بمعظم الأمور بمفرده مما أرهقه حتى كاد ينفد صبره. ورغم أنه وجد بين المغتربين السوريين بعض الأعضاء من ذوي الثقافة العالية والاخلاص الفريد، الا ان الكثيرين كانوا إما ضعيفي الثقافة أو ضعيفي الإيمان او من متربصي الفرص.

 

ولم تنحصر معاناة سعاده من هؤلاء على الصعيد الحزبي فقط بل طاولت الأمور الخاصة. فمع انقطاع اتصاله بالوطن واتساع مسؤولياته العائلية وضعف وتقطع الإعانات الحزبية لمكتبه، بدأت الضائقة المالية تهدد مقام الزعامة الحزبية ومصير سعاده وعائلته . فاستدان مبلغاً من المال من حميه ودخل في شراكة صناعية – تجارية مع رفيقين في الحزب هما إبراهيم الكردي وجبران مسّوح لأجل إنتاج وتسويق اختراع صناعي للرفيق الكردي. لكن سعاده بعدما دخل في درس تقني دقيق للمسألة وتباحث مع أهل الإختصاص الصناعي أدرك أن " الإختراغ" غير صالح. ولما فاتح سعاده رفيقه الكردي بذلك حاول هذا الأخير الإعتداء على زعيمه لفشل مسعاه في سرقته.

 

بعد هذه التجربة، رأى سعاده ان عليه أن يقوم بمفرده في العمل، فانتقل الى منطقة توكومان في الأرجنتين وبدأ العمل في تجارة الورق. وكان جبران مسّوح أحد الأدباء المهجريين الذين انضموا الى سعاده في أوائل الأربعينات وكتب في " الزوبعة" وتقرّب من سعاده. وكان جبران يشكو الى سعاده عسر حاله فقبل سعاده ان يشاركه جبران في محله التجاري على ان يضع سعاده الرأسمال المادي ويضع جبران خبرته. وكان سعاده وزوجته يهتمان بأمر جبران ويعتنيان به. ابتدأ العمل في المحل حوالي نيسان – أيار 1944 وانصب جهد سعاده لإنجاح هذا العمل فتنقل يبحث عن فرص البيع وكاتب وخابر الكثيرين . وسارت أعمال المحل ظاهراً باتجاه سليم لكن مع حلول ايلول 1944 بدأ سعاده يلاحظ خللاً في الحسابات فاستفاد من فرصة انتقال زوجته الى جانبه وقام وإياها بتقويم لأموال المحل التجاري تبين بنتيجتها ان الأرباح والكثير من رأس المال قد فقدت بعامل السرقة. فاضطر سعاده الى البدء من جديد وبعد جهد مضني عاونته فيه زوجته تمكن من قلب حالة الخسارة الى نجاح واستمر في عمله التجاري هذا حتى تاريخ مغادرته البرازيل عام 1947 حين تمكن من تسديد المال الذي  استدانه من حميه.

 

تضافرت الصعاب على عرقلة العمل الحزبي وأرهقت سعاده وأنقصت نتاجه الفكري وتأخرت الزوبعة عن الصدور. لكنه لم يتوقف عن حض رفقائه على العمل والنضال. ومن بين أقرب الرفقاء الى سعاده كان فخري معلوف الذي كانت خسارته عام 1945 من أمر المحن التي واجهها سعاده في اغترابه القسري.

 

كان فخري معلوف من أكثر القياديين الحزبيين قدرة على فهم فلسفة سعاده ومعانيها العميقة. وشكلت كتاباته أفضل ما ظهر في تلك الفترة حول النواحي الفلسفية للعقيدة القومية. انتقل فخري معلوف الى الولايات المتحدة في بداية الحرب العالمية الثانية لمتابعة دراسته الفلسفية واستمر يراسل سعاده ويعمل بنشاط في سبيل القضية. ولكن، مع اتصال فخري معلوف من خلال دراسته وعلمه بالجهات اللاهوتية الكاثوليكية، بدأ يتأثر بها. فما أن صدرت مقالة سعاده في أيلول 1944 " نفوذ اليهود في الفاتيكان" حتى كتب فخري الى زعيمه رسالة يدافع فيها عن المؤسسة الكنسية ويثير مسائل تعارض مزعوم بين القضية القومية والكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها.

 

راسل سعاده فخري معلوف حول مسائل التمييز بين الإيمان الديني وفلسفة النهضة وعدم تعارضهما، وكان يتعامل معه بصبر طويل علّه ينجح في استرداد هذا المفكر البارز الى صفوف النهضة. واستمرت هذه  المحاولات دون نتيجة حتى 1946 حين أصدر سعاده مرسوماُ بفصل فخري معلوف عن جسم الحركة القومية.

 

وكانت  الزوبعة قد توقفت عن الصدور في عام 1943، وبذل سعاده جهوداً عديدة لإعادة إصدارها لكن ذلك بقي متقطعاً لأسباب مادية في أكثر الأحيان. وفي أوائل 1946 وصل الى الولايات المتحدة غسان تويني مفوضاً من قبل إدارة الحزب في الوطن للإتصال بالزعيم. وكانت مراسلات الزعيم مع رفيقه الشاب فرصة للإطلاع منه على حالة الحزب والوطن وفرصة ليوضح له مسائل في تاريخ الحزب وفلسفته. وخلال 1946 بعدما تأمن الإتصال المباشر بين سعاده ومركز الحزب وبدأت ترده نشرات الحزب ومطبوعاته، أخذ يلحظ فيها بعض الأمور الشاذة عن سياسة النهضة وفلسفتها، ومن هذه الأمور المواقف السياسية في خطب رئيس المجلس الأعلى الأمين نعمة ثابت ومقالات عميد الثقافة فايز صايغ. ومع أن سعاده كتب الى الأمين ثابت في هذه الأمور، إلا انه رأى تأجيل البحث التام في هذه المسائل حتى العودة الى الوطن.

 

 

 

العودة إلى الوطن:

 

لم تكن عودة سعاده الى الوطن سهلة فقد كان عليه التغلب على العديد من المصاعب العملية والإدارية والسياسية وفي طليعتها عدم رغبة الحكومة اللبنانية السماح له بالعودة. كان سعاده لا يحمل أي جواز يسمح له بالسفر خارج حدود الأرجنتين، ولم تكن الدولة اللبنانية الحديثة الإستقلال قد استكملت جهازها الدبلوماسي في مختلف دول العالم وسفير لبنان في البرازيل من أشد أعداء الحزب وسعاده شخصياً لكن سعاده تمكن من الحصول على جواز موقت من السفارة الفرنسية في الأرجنتين سمح له بالسفر الى البرازيل. وهناك تمكن بمساعدة رفقائه من الحصول على جواز سفر لبناني.

 

في أواخر 1946 أنهى سعاده أعماله التجارية وقرر السفر جواً الى الوطن بمفرده على ان تلحق به عائلته فيما بعد عن طريق البحر. وبعد زيارة قصيرة للبرازيل سافر عن طريق البرتغال وأفريقية الشمالية ووصل الى القاهرة في 18 شباط 1947.هناك التقى برئيس المجلس الأعلى في الحزب الأمين نعمة ثابت وبأسد الأشقر وتباحث معهما في أمر العودة الى الوطن والموقف السياسي المتوجب اتخاذه في هذا المجال.

 

في لقاء القاهرة مع نعمة ثابت وأسد الأشقر تبين لسعاده مدى التغيير السياسي الذي طرأ على أعمال حزبه، اذ اتخذت إدارة الحزب العليا قراراً بحصر عمل الحزب ومهمته في الداخل اللبناني، وبنت على هذا القرار تحالفاتها السياسية.

 

 

 

الإستقبال التاريخي الكبير:

 

وفي 2 آذار 1947 وصلت طائرة سعاده الى بيروت، وكان في استقباله حشد شعبي كبير لم يعرفه لبنان من قبل قدّر بين 40 و50 ألفاً. خلال ذلك الإستقبال التاريخي القى سعاده خطاباً حدد فيه بوضوح موقفه من الإستقلال اللبناني وقضايا الوطن ومستقبل الحزب. وأمام هذا التحديد الواضح لم يكن من المستغرب اندفاع أعداء الحزب في حملة سريعة لتعطيل النتائج المتوقعة لعمل الحزب بعد عودة سعاده. وقد توجهت جهود هؤلاء الى سعاده نفسه – كما ايام الإنتداب – عبر عرقلة تقدم الحزب بإعتقال قائده.

 

 

 

 

مذكرة توقيف:

 

وكانت الحكومة اللبنانية قد منعت القوميين من عبور وسط العاصمة بيروت يوم الاستقبال، كما بعث الأمن العام بطلب حضور سعاده ليلاً للتحقيق. ورأى سعاده ان وراء هذه التدابير خطة عدائية، فرفض الإذعان لطلب الأمن العام واعتصم في الجبل في منطقة المتن. فأصدرت الحكومة مذكرة توقيف بحقه وسيّرت الحملات الى الجبل بهدف القبض عليه. وهكذا بدأت معركة "مذكرة التوقيف" التي استمرت من آذار 1947 حتى تشرين الاول 1947 ولم تنته إلا مع استرداد الحكومة مذكرتها.

 

كانت غاية الحكومة آنذاك واضحة: إبعاد سعاده عن ساحة العمل السياسي خلال الإنتخابات النيابية في أيار 1947، واذا أمكن لفترة أطول. وكذلك مضايقة الحزب بهدف عرقلة نشاطاته السياسية والإعلامية عن طريق حملات الإعتقال وتعطيل الصحافة الحزبية. فقد أصدرت الحكومة قراراً بتعطيل جريدة صدى النهضة (نيسان 1947) الناطقة بإسم الحزب فاستعاض عنها في أواخر عام 1947 بجريدة الشمس ومجلة الكوكب حتى آذار 1948 حين أصدر جريدته الجيل الجديد.

 

 

خلال أشهر الملاحقة المتكررة أتبع سعاده خطة سياسية هجومية على الحكومة والأحزاب الرجعية الموالية لها. فقرر خوض الحزب المعركة الإنتخابية، وأرفق ذلك بإصدار سلسلة بيانات سياسية الى الشعب يشرح فيها برنامج الحزب الإنتخابي وحقيقة صراعه مع الحكومة. كما قابل في مراكز اعتصامه عدداً كبيراً من الصحفيين من كافة أرجاء الشرق الأدنى وممثلي الوكالات الصحفية العالمية، واتصل به العديد من سياسيي المعارضة. وبالرغم من الملاحقة تنقّل سعاده شخصياً في مدن وقرى الجبل اللبناني متحدثاً الى المواطنين ومجتمعاً الى أعضاء الحزب. وأمام صلابة موقف سعاده والإلتفاف الشعبي حوله والإهتمام الاعلامي الواسع بالمواجهة بينه وبين الحكومة، تراجعت هذه الأخيرة عن موقفها الأول وتمت اتصالات ومفاوضات سياسية كان من نتيجتها ان سحبت الحكومة مذكرة التوقيف وأعلن سعاده انتصار الحزب على القمع السياسي الحكومي.

 

 

 

 

مواجهة داخل الحزب:

 

لم تكن المعركة الخارجية مع الحكومة اللبنانية الأزمة الوحيدة التي واجهها سعاده، بل تزامنت مع مواجهة داخلية مع بعض أعضاء الإدراة العليا في الحزب مثل نعمة ثابت ومأمون أياس وأسد الأشقر وكريم عزقول. فقد رأى هؤلاء أن عودة سعاده وموقفه الصارم يتعارض وسياستهم في التوافق مع القوى الحاكمة في لبنان. ولما وقعت المواجهة بين سعاده والحكومة، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: الإذعان للمسار التصحيحي الذي يدعو الى العودة الى ساحة الجهاد القومية الكبرى، أو محاولة إضعاف سلطة الزعامة. فطالبوا بتعديل الدستور للحد من سلطة الزعيم وعارضوا موقف سعاده من الحكومة والخلاف معها واتهموه بالعناد السياسي ودسّوا الشائعات المغرضة ضده داخل الحزب. فوجد سعاده نفسه في صراع خارجي مع الحكومة، وصراع داخلي مع القوى المسيطرة على الإدارة الحزبية العليا. وبقدر ما كان تعامله مع القوى الخارجية حاسماً بقدر ما كانت معالجته للمعركة الداخلية تعّرض مصير الحزب الى خطر خسارة المعركة الخارجية فقام بحّل الإدراة العليا في الحزب، ثم مع استفحال المعركة الداخلية وخروج أخصامه الى العلن، قام بطرد القياديين المنحرفين. واستمرت المعركة الداخلية لأشهر عديدة متزامنة مع المعركة الخارجية لتنتهي مع استرداد مذكرة التوقيف.

 

ما ان انتهت مسألة الإنحراف السياسي في الحزب حتى وجد سعاده نفسه أمام مسألة انحراف فكري – عقدي تمثل في مواقف عميد الإذاعة فايز صايغ. كان سعاده قد لاحظ في نشرات العمدة التي وصلته وهو في المغترب اتجاهاً فكرياً مناقضاً لعقيدة الحزب وفلسفته وكان قد كتب في هذا الصدد إلى رئيس المجلس الأعلى وتباحث في هذا الأمر مطولاً في مراسلات مع الرفيق غسان تويني وهو بعد في مغتربه القسري. ومع انخفاض ضغط الصراع السياسي الخارجي والداخلي وجه سعاده اهتمامه الى الناحية الفكرية في الأوساط الحزبية العليا فوجد ان الاتجاهات المغيّرة للعقيدة متمكنة في كتابات الرفيق فايز صايغ. فتباحث مع هذا الرفيق مطولاً في الأمور الفلسفية وأسس التفكير العقدي. لكن هذه المحاولات لم تنجح في تعديل مواقف الرفيق صايغ. ولما كان سعاده يرى ان التبلبل الفكري يشكل خطراً شديداً على سلامة الحزب الخارج من أزمة سياسية – قيادية شديدة، كان لا بد له من اتخاذ إجراءات إدارية تحمي  الفكر الحزبي من ملابسات الأفكار المناقضة للعقيدة. فتمرد الرفيق صايغ وتبعه في تمرده عدد قليل من الحزبيين لكن المسألة انتهت سريعاً بتثبيت الأصول العقدية.

 

 

 

العمل العلني:

 

بانتهاء معركة "مذكرة التوقيف" ومع حسم الخلافات الداخلية في الحزب اصبح بإمكان سعاده العمل العلني لمواجهة الأوضاع القومية المصيرية، وبخاصة في فلسطين. وكان في ربيع 1947 وهو بعد ملاحق قد أرسل مبعوثيه الى جبل العرب لتلافي أزمة سياسية مدنية في الجبل كادت تؤدي الى عراك أهلي بالغ.

 

ولما كانت القضية قد أصبحت تقتضي إكتمال كليتها بسرعة كي لا تبقى أية ناحية من نواحيها ناقصة او غير واضحة كل الوضوح انتهز سعاده سانحة إعادة طبع التعاليم    " المبادىء وشرحها"  للمرة الرابعة ونقحّها وأكملها في أيلول 1947. وقد اشتمل التنقيح على :

 

 

1 - إكمال توضيح الحدود الشرقية الشمالية للوطن السوري،التي كانت متروكة مفتوحة في طرفها الشرقي .

 

2 - إكمال توضيح الحدود الشمالية الغربية التي تشمل جزيرة قبرص التي هي جزء من الأرض السورية .

 

3 - تصحيح النظرة الى تجويف الهلال السوري الخصيب وأسباب عمقه.

 

4 - تعديل النظر الى الحروب السورية الداخلية بين الدول الجزئية التي رمت كل دولة منها الى توحيد البلاد تحت سيادتها كالدولة البابلية الأولى والثانية، والدولة الآشورية خاصة، والدولة الحثية.

 

 

 

 مسألة فلسطين:

 

ومع اقتراب ذكرى وعد بلفور في تشرين الثاني  1948، وترافقها مع اجتماع منظمة الأمم المتحدة للنظر في مسألة فلسطين ، دعا سعاده الى مهرجان شعبي كبير يقام في بيروت لإظهار الرفض والمقاومة لما يجري في فلسطين، لكن الحكومة اللبنانية رفضت السماح للحزب بإقامة المهرجان فاستعاض عنه ببيان (8/11/1948) حول مسِألة فلسطين أعطى فيه حلولاً عملية لمواجهة الكارثة القادمة. وبحلول آخر تشرين الثاني/ نوفمبر أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين. وعبثاً حاول الحزب الإشتراك الواسع في الأعمال العسكرية الدائرة في فلسطين إزاء رفض الحكومة تسليح القوميين حتى في أشد فترات القتال. لكن القوميين شاركوا في المعارك كلما سنحت لهم الفرصة وسقط من بينهم عدد من الشهداء. وعملوا بدون تلكوء لتأمين المساعدات للمواطنين المنكوبين بخسارة أرضهم وأرزاقهم ومع وقوع النكبة وقيام الدولة اليهودية في جزء من فلسطين رأى سعاده أن الإعتماد على القوى السياسية الحاكمة لإنقاذ فلسطين أمر دون جدوى، وبدأ العمل بهدوء لتشكيل جهاز قيادي حربي من بين أعضاء الحزب يشكل نواة عمل تحريري مقبل ولا شك أن هذا الاتجاه قد أثار قلق القوى الحاكمة إذ لم يخف عليها خطر الإستعداد النظامي لخصمها السياسي فبدأت تعمل وتخطط للقضاء عليه.

 

 

 

الندوة الثقافية:

بموازاة هذه الأحداث وتسارعها وجد سعاده نفسه امام مهمة إعادة بناء الحزب فكرياً وإعادة تثبيت مواقعه السياسية الشعبية وتوسيعها. فأعاد نشاط "الندوة الثقافية" وفتح أبوابها للطلبة الجامعيين والمثقفين عامة من حزبيين وغير حزبيين وألقى سعاده بين كانون الثاني 1948 وأوائل نيسان من العام ذاته عشر محاضرات تضمنت شرحاً موسعاً للعقيدة القومية وعملها الإصلاحي النهضوي وقد أصبحت نصوص هذه المحاضرات من أهم مصادر دراسة فكر سعاده وأسس النهضة – الإصلاحية.

 

وكان سعاده قد حوّل نشرة عمدة الاذاعة الى نشرة رسمية (10/11/1947) فيها مقالات فكرية وفلسفية وحزبية نظامية، لكنه رأى ضرورة إفراد نشرة خاصة للأعمال الفكرية فصدرت خلال آذار عام 1948 الأعداد الأولى لمجلة النظام الجديد التي تضمنت نصوص المحاضرات الخمس الأولى من محاضرات الندوة  الثقافية، والعديد من الكتابات الفكرية والتاريخية والفلسىفية بقلم سعاده وعدد من المفكرين الشباب الملتفين حوله وقد اعتنى سعاده بصقل مدارك وتفكير مجموعة من الشباب الحزبي  المثقف في اجتماعات فكرية – فلسفية لم يدون منها سوى القليل.

 

 

 

جولات في المناطق:

 

الى جانب البناء الفكري العقائدي، قام سعاده خلال العام 1948 بعدة جولات في المناطق اللبنانية، وراح يخطب في الحشود المجتمعة لُلقياه ويحثها على الإنخراط في صفوف العمل القومي. ثم أخذ بتوجيه اهتمامه السياسي الى الداخل السوري فزار دمشق مراراً مجتمعاً بالطلبة والهيئات السياسية فيها. وفي خريف 1948 قام بجولة امتدت من دمشق الى حمص وحماه وحلب والساحل السوري الشمالي. وكانت جولات سعاده السياسية الحزبية تثير الإهتمام الواسع في اوساط الشعب. وكان بروز الحزب بهذا  الشكل الباهر على ساحة العمل السياسي الشعبي يثير حفيظة أهل الحكم، خصوصاً في الكيان اللبناني. فعندما أصدر الحزب جريدة يومية تحت اسم الجيل الجديد عمدت الحكومة الى تعطيلها في نيسان 1948، بعد صدور خمسة أعداد منها فقط.

 

 

 

بعد تعطيل الجيل الجديد، بدأ سعاده نشر مقالاته في جريدة كل شيء وقد بلغ عددها ثمانية عشر مقالاً ما بين شهري كانون الثاني  وآذار 1949. وقد تضمنت هذه المقالات نقداً شديداً للمرجعيات السياسية الفكرية، وتحليلاً دقيقاً لأسباب إفلاس النزعات الإنعزالية والإنفلاشية الوهمية. واستمرت مقالات سعاده بعد ذلك على صفحات الجيل الجديد التي عادت الى الصدور في نيسان 1949.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإتصال بحسني الزعيم:

 

أمام نجاح الأعمال السياسية الإعلامية بقيادة سعاده ازداد الضغط بإنقلاب عسكري  في دمشق (آذار 1949) بدا في حينه وكأنه رد على نكبة فلسطين إلا ان سعاده بدا متحفظاً ودعا الى الصبر والترقب " لأنه لم يسبق للشعب ان سمع من هؤلاء الذين أحدثوا الإنقلاب أية فكرة او عقيدة او رأي واضح يدل على الإتجاه الذي يتجهونه في حياتهم ولا عن المقاصد التي يقصدونها. فنحن في ابهام، وفي غموض. وتغيير التاريخ لا يكون بالإبهام والغموض". الا ان حملة التنكيل والإرهاب من قبل الحكومة اللبنانية مستهدفة القضاء على الحزب سرّعت في اتصال سعاده بحاكم دمشق الجديد. لكن هذه الإتصالات لم تؤد عملياً الا الى وعود مخادعة، كما انها عجّلت في تحرك الحكومة اللبنانية لمباشرة تنفيذ مخططها للقضاء على سعاده والحزب، بالتواطؤ مع حسني الزعيم وجهات خارجية.

 

 

 

حادثة الجميزة:

 

وفيما كانت الحكومة بحاجة الى مأخذ يسّهل لها علنياً وإعلامياً المباشرة بتنفيذ خطة تصفية الحزب، توفر لها هذا المأخذ في حادث افتعلته الدولة بواسطة حزب "الكتائب اللبنانية"، إذ هاجمت عناصر منه مطبعة جريدة الجيل الجديد (في 9/6/1949) واحرقتها. استفادت الحكومة اللبنانية من هذا الحادث وبدأت قواها فوراً بمداهمة مراكز "الحزب السوري القومي الاجتماعي" ومنازل قيادييه وأعضاءه، وألقت القبض عليهم. وبعد أيام قليلة كان ما يقارب الثلاثة الآف من أعضاء الحزب في السجن، وقسم كبير من القياديين قيد الملاحقة. وبالفعل تمكنت قوى الحكومة من مباغتة قيادة الحزب، ونجحت حملة الإعتقالات الواسعة في إضعاف القدرة التنظيمية واستعدادت المقاومة المنظمة السريعة. لكن قوى الحكومة لم تنجح في اعتقال سعاده الذي وصل بعد أيام قليلة الى دمشق بشكل سري، وبدأ يعمل في التحضير لعمل منظم يحمي الحزب من الإندثار أمام الهجوم الحكومي الشرس في لبنان. وكانت مقاومة سعاده للحكومة اللبنانية تتطلب ان يكون للحزب شيء من حرية العمل السياسي والعسكري ضمن أراضي الجمهورية السورية كمركز انطلاق . فاجتمع مجدداً بحسني الزعيم من أجل هذا  الغرض، ولقي منه استعداداً ظاهراً للمساعدة المعنوية عبر السماح بالعمل السياسي المحدود. عندئذ باشر سعاده وأعوانه بالتحضير للمقاومة الشعبية في لبنان بجمع القوى الحزبية الباقية والتخطيط للثورة الشعبية المسلحة.

 

 

 

إعلان الثورة القومية الإجتماعية الأولى:

 

لم يتلقّ الحزب أية مساعدة عملية تذكر من حكومة حسني الزعيم. وحتى الوعد بتسهيل العمل لم يتحقق كما هو متوقع، فسار الحزب في عملية الثورة الشعبية في لبنان معتمداً على قواه الذاتية فيما كانت الإتصالات بين بيروت ودمشق والقاهرة تسير باتجاه التقريب بين الحكومتين اللبنانية والشامية. فما أن أعلن الحزب الثورة في الرابع من تموز 1949 حتى وجدت قواته  المتوجهة الى داخل الحدود اللبنانية نفسها وقد وقعت ضحية خيانة حكومة حسني الزعيم لها، اذ مهّد لإنهزامها امام قوى الحكومة اللبنانية بإعلام هذه الأخيرة بخطط القوميين وأماكن تجمعهم.

 

 

 

إعتقال سعاده ومحاكمته وإعدامه:

 

وفي السادس من تموز اعتقلت قوى الأمن في دمشق انطون سعاده، وسلمته الى قوى الأمن اللبناني التي كانت مكلفة بتصفيته خلال الرحلة القصيرة من دمشق الى بيروت. لكن يقظة الضمير لدى احد المكلفين بهذه المهمة منعت من حدوث هذا الأمر ووصل سعاده الى بيروت صباح السابع من تموز. واستمر التحقيق معه حتى الظهر، وانعقدت محمكمة عسكرية للنظر في قضية الحزب مباشرة في اليوم ذاته. رفضت الحكومة إعطاء محامي الدفاع أية مهلة للتحضير، فتولى سعاده الدفاع عن نفسه. واستمرت المحكمة حتى مساء السابع من تموز، واصدرت مباشرة الحكم المحضّر سلفاً بإعدام سعاده على الفور. ورفضت الحكومة طلب لجنة العفو القضائية إعطاءها مهلة للنظر في الحكم، فجرى إعدام سعاده في الساعة الثالثة والثلث من صباح الثامن من تموز دون السماح له بمشاهدة زوجته وبناته للمرة الأخيرة.

 

جرت محاكمة سعاده المختصرة وتمّ إعدامه بسرية تامة وفي ظل أشد الإحتياطات الأمنية. لكن وقائع المحاكمة المغلقة السرية ولحظات حياته الأخيرة قبل الإعدام تسّربت سريعاً، ورأى الشعب في هذه الوقائع ما عهده من شجاعة انطون سعاده وثباته وتفانيه. وهكذا أصبحت لحظات حياته الأخيرة أمثولة ومنارة مشرقة في التاريخ السوري الحديث.

 


[i] في العام 1949 اصدر انطون سعاده بلاغاً منع فيه القوميين من الانتساب الى الماسونية.

 

 

 

 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro